وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة القصص - تفسير الآيات 47 - 54 أسباب المصيبة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

المصيبة لها أسباب مِن عمل الإنسان:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن من سورة القصص.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(47)فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ(48)﴾ .. 

أيها الإخوة؛ كلمة (وَلَوْلا) يعربها علماء اللغة حرف امتناعٍ لوجود، (ولو) حرف امتناع لامتناع، تقول: لولا المطر لهلك الزرع، أي امتنع هلاك الزرع لوجود المطر، فهذه لولا: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ ..

إذاً المصائب في نص هذه الآية، وفي صريح هذه الآية، وفي الدلالة القطعية لهذه الآية لها أسبابٌ مِن عمل الإنسان ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ .

 

الفائدة مِن تنكير كلمة (مصيبة):


كلمة مصيبة هنا جاءت نكرة، أيْ أيَّةُ مصيبة، هذا تنكير شمول، مصيبة في المال، مصيبة في النفس، مصيبةٌ في الهمِّ والحزن، فقدُ بعض الأولاد مصيبة، أن يكون مُهاناً مصيبة، أن يكون خائفاً مصيبة، أن يكون مريضاً مصيبة ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ في الدنيا وفي الآخرة، الموت مصيبة إذا أفضى إلى عذاب جهنَّم، بل إنه مصيبة المصائب: "يا بني، ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌ بعده الجنة بشر، وكلُّ نعيمٍ دون الجنة محقور، وكلُّ بلاءٍ دون النار عافية" .  


مصائب الدنيا أهون من مصائب الآخرة:


مصائب الدنيا أهون بكثير من مصائب الآخرة، والله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾

[  سورة السجدة  ]

هناك عذابٌ أدنى، وهناك عذابٌ أكبر، كل أنواع العذاب في الدنيا تنتهي بالموت، والموت نهاية كل حيّ، لكن عذاب جهنم أبدي سرمدي، المصيبة مهما كانت كبيرةً يُنهيها الموت، لكن مصائب الدار الآخرة مصائب أبدية، يقول ربنا سبحانه وتعالى:

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)﴾

[ سورة البقرة ]

شيءٌ لا يحتمل:

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾

[ سورة الزخرف ]

فإذا جَمَّد الإنسانُ عقلَه، عَطَّل عقله، وعاش لحظته كما يعيش عامَّة الناس  إنسان فَقَدَ عقله، إنسانٌ مغبون، ربنا سبحانه وتعالى سمَّى يوم القيامة بيوم التغابُن، الإنسان يظن نفسه في الدنيا قد تفوق، وقد حَصَّل، وقد جمع، وقد استعلى، وقد أخذ، فإذا به يوم القيامة بالنظر لمقياس الله عزَّ وجل، لمقاييس الدار الآخرة مغبون، ضَيَّع كل شيء، ولم يأخذ شيئاً، لذلك البطولة أن تأتي مقاييسُك في الدنيا وَفق مقاييس القرآن.

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

موضوع المصائب موضوعٌ طويل، على كل في هذه الآية تقريرٌ من قِبل الله عزَّ وجل، وتوضيحٌ إلى أن كلَّ مصيبةٍ مهما دقت، ومهما كَبُرَت، نفسية كانت أم مادية، في الجسم أم في المال، في الروح أم في النفس، في الدنيا أم في الآخرة، في الأهل أم في الولد ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ .

 

القصاص من مقتضيات العقل السليم:


استنبط علماء التوحيد من هذه الآية أن العقل وحده يوجب القصاص، لأن الإنسان فُطِرَ فطرةً يعرف بها دائماً ما إذا كان على حق أو على باطل، والإنسان لو لم يأته من يبلغِّه، لو لم يأته من يعظه، لو لم يأته من يبيِّن له، فإنه يعرف بفطرته أنه على حق أو على باطل.

﴿  بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾

[  سورة القيامة  ]

الله سبحانه وتعالى يحاسبك على ما فطرك عليه، إذا أخذت شيئاً ليس لك ألا تعرف ذلك؟ إذا اعتديت على إنسانٍ ما ألا تعرف ذلك؟ إذاً قال علماء التوحيد: إن العقل وحده يوجب القصاص، أَوَصَلتك حقيقةٌ أم لم تصلك، لأنك مكلَّف، أنت مكلف، معنى مكلف أنت إنسان مخلوق متمَيِّز، الكون كلُّه مخلوقات.

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 

الإنسان كائنٌ مخلوقٌ متمَيِّز بالتكليف:


الجبال مخلوقات، نفوس، والسماوات نفوس، والأرض نفوس، والملائكة نفوس، والحيوانات نفوس، ولكن الإنسان كائنٌ مخلوقٌ متمَيِّز، متميز بالتكليف ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ ، الإنسان حمل الأمانة، ما الأمانة؟ نفسه التي بين جنبيه، الدليل:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾

[  سورة الشمس  ]

الله سبحانه وتعالى جاء بك إلى الدنيا، وجعل نفسك التي بين جنبيك، والتي هي أثمن شيء، والتي لا تفنى، خالدة إلى ما شاء الله، هذه النفس إما أن تسعد بها إلى الأبد، وإما أن تشقى بها إلى الأبد، أوكلها إليك، جعلها بين يديك، جعل أمر سموِّها أو انحطاطها بيدك، والدليل:

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾

[  سورة البقرة  ]

والدليل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ إذاً أنت إنسان متمَيِّز، مخلوق متميز، بل إنَّك المخلوق الأول، بل إنَّك المخلوق المُكَرَّم، الذي حملت الأمانة، وقبِلت التكليف. 

والتكليف أن تزكِّي نفسك في الدنيا حتى تكون هذه النفس مؤهلةً للسعادة الأبدية، أنت كُلّفت أن تعبد الله، وعبادة الله عزَّ وجل تعني غاية الخضوع لله، غاية الانصياع له، غاية الحبِّ له، غاية الطواعية له، غاية الشوق إليه، لن تحبه، ولن تطيعه، ولن تشتاق إليه، ولن تؤْثِرَهُ على ما سواه، إلا إذا عرفته، إذاً العبادة طاعة، غاية الطاعة غاية الخضوع مع غاية الحب، طاعةٌ بلا حب طاعة، وحبٌّ بلا طاعة كلامٌ فارغ.  

 

العبودية هي غاية الطاعة مع غاية الحب:


في أدقِّ تعاريف العبودية غاية الطاعة مع غاية الحب، لن تكون هذه الطاعة، ولن يكون هذا الحب إلا إذا عرفت الله عزَّ وجل، فإذا عرفت الله عزَّ وجل أحببته غاية الحب، وأطعته غاية الطاعة، إذاً: تسعد بقربه إلى الأبد، هذا ملخص الملخص، هذا هو التكليف: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ العبادة طاعةٌ طوعية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أو غاية الطاعة مع غاية الحب، أساسها معرفةٌ يقينية، تفضي إلى سعادةٍ أبدية، فأن تعرف الله عزَّ وجل هذا أخطر عملٍ تفعله في الدنيا، قبل الطعام والشراب، قبل اختيار المهنة، قبل الزواج، قبل أي شيء، لأنك إذا شَكَّلت حياتك بعد معرفة الله، شكلتها وفق المنهج الصحيح، شكلت عملك، زواجك، علاقاتك؛ أما إذا شكلّت حياتك قبل معرفة الله عزَّ وجل، شكلتها على نمطٍ مغلوط، عندئذٍ تدفع الثمن باهظاً بعد معرفة الله عزَّ وجل. أي إذا أردتُّم تلخيص الدين كلِّه بكلمات: حبٌ في القلب، وخدمةٌ للخلق، يؤكِّد خدمة الخلق، يؤكد حبَّ الله في قلبك، خدمتك للخلق، وتعبِّر خدمتك للخلق عن حبِّك للرب، حبّ في الداخل، وعملٌ في الخارج، يقول الله سبحنه وتعالى: 

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)﴾

[  سورة الزمر  ]

من الداخل إخلاص أي حبّ، من الخارج طاعة لله عزَّ وجل. 

 

مقوِّمات التكليف:

 

1 ـ العقل:

إذاً: أنت مكلَّف، وحينما كلفك الله عزَّ وجل أعطاك مقوِّمات التكليف، أعطاك العقل، وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبَّ إليَّ منك أيُّها العقل، بك أُعطي وبك آخذ، بك أعطي الإنسان كل شيء، وبك آخذ منه كل شيء، أيْ بعقله. 

إنما الدين هو العقل ومن لا عقل له لا دين له.

أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حباً.

 الآيات التي تبيِّن قيمة العقل في القرآن تزيد عن ألف آية، القرآن ستة آلاف آية تقريباً، سُدُسُ القرآن يتحدَّث عن العقل، تبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتاً، وإن الرجلين ليستوي عملهما وبرُّهما وصومهما وصلاتهما، ويختلفان في العقل كالذرة جنب أُحُد، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفر من العقل واليقين. أنت المخلوق الأول، المخلوق المكرَّم، المخلوق الذي قبِل حمل الأمانة، المخلوق المكلَّف، كلِّفت أن تسمو بنفسك في الدنيا حتى تسعد بها إلى أبد الآبدين، هذا التكليف له مقومات أحدها العقل.  

2 ـ الكون:

ثانيها الكون، الكون سخَّره الله لك تسخير تعريفٍ وتكريم، تعرف هذا بعقلك، عقلك والكون يتكاملان، وبِنية العقل مطابقةٌ تماماً لقوانين الكون، بعقلك تعرف الله من خلال الكون، الكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى، العقل مُقَوِّم، الكون مقوِّم.  

3 ـ الفطرة: 

فطرك الله فطرةً عالية، إذا خرجت عنها قيد أَنْمُلة عرفت ذلك، الضيق، الانقباض، تعذيب الضمير، وخز الضمير، اختلال التوازن، الشعور بالقلق، التبرُّم، الضجر، كلُّها عقابٌ نفسيٌّ عاجل، هذه الفطرة في خدمتك من أجل أن تبقى على الطريق، العقل والكون والفطرة.   

4 ـ الاختيار:

أعطاك حرية الاختيار، لك أن تفعل هذا أو ذاك: 

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾

[  سورة الإنسان  ]

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ ..  

5 ـ الشهوة:

أودع فيك الشهوات لترقى بها صابراً أو شاكراً إلى رَبِّ الأرض والسماوات، العقل والكون والفطرة وحرية الاختيار والكسب والشهوة، هذه كلها من مقوِّمات التكليف، هذا حقك.  

6 ـ الشرع الإلهي:

مثلاً كلَّفْنا إنساناً بعمل، قال: إنه يحتاج إلى مركبة، نقول له: هذه مركبة، يحتاج إلى دليل، هذا الدليل، يحتاج إلى خارطة، هذه خارطة، يحتاج إلى مبلغ من المال للإنفاق، هذا هو المبلغ، كلَّفناه، وأعطيناه كل ما يحتاج، لابدّ من أن نحاسبه على تقصيره، الآن إذا راقبناه، ورأيناه قد انحرف، وذَكَّرْناه بالخطة المتفق عليها، هذا التذكير فضلٌ من المكلِّف، وليس حقاً للمكلَّف: 

﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)﴾

[  سورة آل عمران ]

الآن يأتي الرُسل والأنبياء والدعاة والكتب، هذه من باب التذكير، إنك بالفطرة تعرف الحق من الباطل، لذلك هذا الكلام كله استنباطٌ من قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي الإنسان حينما يفعل شيئاً مخالفاً لفطرته لابدّ من أن يُعاقب على ذلك، العقل، لأن الله عزّ وجل أودع في الإنسان عقلاً يوجب التكليف، ويوجب الطاعة لله عزّ وجل. 

نعيد عليكم سريعاً: العقل، والكون، والفطرة، والاختيار، والشهوة، والشرع، هذه مقومات التكليف. أما إرسال الأنبياء النبي تلوَ النبي، والرسول تلوَ الرسول، فهذا من باب التذكير:

﴿ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)﴾

[  سورة المدثر  ]

تذكيرٌ لهذا المكلَف ببنود الاتفاق، حيثما وردت في القرآن الكريم كلمة تذكرة فإنما تعني أن هذا القرآن جاء ليذَكِّر الإنسان بما عاهد عليه الله سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)﴾ .

 

الحكمة مِن تخصيص الأيدي في قوله: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ:


الآية: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ .. لماذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ ؟ الإنسان له أرجل أيضاً، له لسان، لأن أكثر الأعمال يقوم بها الإنسان بيديه، هذا في البلاغة اسمه: ذكر الجزء وقصد الكُل، أي كل أعماله، أعمال اللسان هي كلامه، وهو محاسب عليها، أفكاره السيِّئة، حركاته بأرجله، لكن الله سبحانه وتعالى ذكر: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ وقصد كل أعمال الإنسان الكسبية الاختيارية، الإنسان على ماذا يحاسب؟ الفعل فعل الله عزّ وجل، يحاسب على انبعاثه إلى هذا العمل، أضرب لكم مثلاً لطيفاً: الفعل هو فعل الله عزّ وجل، أي لا يقع شيء في الكون إلا بفعل الله عزّ وجل، ولكن الإنسان على ماذا يحاسب؟ حينما ينبعث ليطيع أو ليعصي هذا الانبعاث للطاعة أو للمعصية هو الكسب الذي عَبَّر عنه القرآن بقوله تعالى:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

أي هذا الضوء مفتاحه عندي، وله مفتاح خُلَّبي لا يعني شيئاً، لا يتصل به، موضوع على الجدار، فإذا أمرتُ ابني أن يطفئ هذا الضوء فذهب ليطفئه، فلما وضع يده عليه أطفأته أنا، ماذا عرفت من هذا التصرُّف؟ أن هذا الابن أراد أن يُطيعني، فإذا أبى عرفت ذلك، الفعل فعل الله عزّ وجل، والإنسان يحاسب على انبعاثه، وعلى كسبه للعمل ليس غير.

 

لا حجة للإنسان بعد البيان الإلهي الشافي:


﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا﴾ .. هنا العلماء قالوا: "لو أن الله عزّ وجل أصاب الإنسان بما يستحق في الدنيا، أو في الآخرة، لو أنه عصاه في الدنيا، ومات على معصيته، وعلى كفره، واستحق جهنم، يقول له الله عزَّ وجل في جهنم: لقد أعطيتك كل المقومات، أعطيتك العقل فلم تعمل له، خلقت لك الكون فلم تفكِّر فيه، جعلت لك فطرةً فلم تصغِ إليها، منحتك حرية الاختيار فلم تستخدم هذا الاختيار فيما يُرضيني، أعطيتك شهوةً لترقى بها إليّ هويت بها إلى جهنم، فماذا تريد مني؟ يقول هذا العبد: يا رب، هذا كلام صحيح، لولا أرسلت إليّ رسولاً وأنا في الدنيا لكي يذكرني. حتى هذا الطلب لئلا يطلبه الإنسان في الآخرة، لئلا يقول الإنسان الذي أخذ كل مقوِّمات التكليف، لئلا يقول يوم القيامة وهو في جهنم: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ ، لذلك أرسل الله للبشر رُسُلاً:

﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)﴾

[  سورة النساء ]

فالتركيب صار: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ في الدنيا أو في الآخرة، وأغلب الظن المعنى هنا في الآخرة، لولا أنه إذا دخل جهنم جزاء عمله السيئ، وقال وهو في جهنم: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ .. الجواب محذوف، تقديره: لما أرسلناك يا محمد، الجواب: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أين جواب الشرط؟ جواب الشرط محذوف تقديره: لما أرسلناك، لولا أن الإنسان إذا عصى ربَّه في الدنيا، وعطَّل عقله، وطمس فطرته، ولم يفَكِّر في الكون، واختار الشر على الخير، وفعل كل المعاصي، ومات على كفره، وعلى معصيته فاستحقَّ النار، وفي النار عاتب الله عزّ وجل، قال له: يا رب، أنا أخذت حقِّي كاملاً، ولكن لو ذكَّرتني في الدنيا؟ لو أرسلت إليّ رسولاً فيذكرني؟ لولا أن الإنسان الذي سوف يحاسَب على عمله جزاءً وفاقاً بالعدل التَّام يقول هذا الكلام لما أرسلناك يا محمد، إذاً إرسال الرسل منّةٌ وفضلٌ من الله عزّ وجل. 

أحياناً الإنسان يُعطي ابنه كل ما يحتاج، المنهج الدراسي، أحسن مدرسة، أحسن أساتذة، أحسن برنامج، غرفة خاصة، إعفاءّ من الأعمال ليدرس، فالتكليف انتهى، لكن حرص الأبِ الشديد موجود يراقبه في أداء مهمَّته، فيذكِّره بالامتحان، يذكره بالعهد، يذكره بالتكليف، الآية إذاً دقيقة جداً، من أدق الآيات، أي لولا أن الإنسان على الرغم من أنَّه أخذ من الله كل ما يستحق، وخالف ما عاهد الله عليه، واستحق دخول النار، لولا أنه يقول في النار:﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ لمَا أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء، أرسلناك لئلا يقولوا وهم في النار: ﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، أعتقد أن تفسيرها واضح. 

 

حال العرب قبل الإسلام:


﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾ .. جاء النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء بالقرآن الكريم، الكتاب المُعْجِز على فترةٍ من الرسل، والعرب في جزيرتهم في جاهليةٍ جَهْلاء، في فوضى، يعبدون الأصنام، يئدون بناتهم، يسيئون الجِوار، يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، يكذبون، جاهلية، حسبك قول الله عزّ وجل: جاهلية، ماذا قال الإمام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه؟ قال للنجاشي: 

(( كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء . ))

[ إسناده صحيح أخرجه أحمد  ]

هذه هي الجاهلية، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام يعرفون نسبه وأمانته، وصدقه وعفافه، دعاهم إلى الله عزّ وجل، وجاءهم بهذا الكتاب، ذهبوا إلى اليهود وقالوا: يَزْعُم محمدٌ أنه نبي فهل عندكم في كتبكم أنه سيبعث نبيٌّ في هذه الجزيرة؟ ماذا قال أهل الكتاب؟ قالوا: نعم، في كتابنا ما يؤكِّد بعثته، وما يؤكِّد أوصافه، وقد آن أوان ظهوره، وحين سمع العرب من اليهود أو من أهل الكتاب هذا التأييد وهذا التصديق برسالة النبي: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ لو أنه نبيٌّ حقاً لجعل العصا ثعباناً مبيناً، لو أنه نبيٌّ حقاً لأصبحت يده بيضاء للناظرين، لو أنه نبيٌّ حقاً لأُنزِل عليه القرآن جملةً واحدة كما أنزلت التوراة: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ لولا أوتي محمد عليه الصلاة والسلام بمثل ما أوتي موسى، إن أمرهم عجيب، بماذا جاء موسى؟ جاء بالتوراة، ماذا في التوراة؟

﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)﴾

[ سورة الصف ]

في الإنجيل والتوراة. إذاً: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ ..

لماذا عندما قال لهم أهل الكتاب: عندنا في التوراة ما يؤكِّد دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لماذا كفرتم بهذا الكلام وقلتم: ﴿قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ ؟ أي إذا جاءت الأخبار على ما يُخَالف هواهم رفضوها، فإذا جاءتهم على ما يوافق هواهم قبلوها، جاءتهم الأخبار بأن موسى عليه السلام جعل العصا ثعباناً مبيناً، وصارت يده بيضاء للناظرين، قبلوها، وطالبوا بها النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قال لهم أهل الكتاب: إن في كُتبنا ما يؤكد بعثة النبي رفضوا هذا القول، مناقشةٌ منطقيةٌ جداً: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ إذا كنتم أيُّها العرب، أيها المشركون الذين عاصرتم النبي عليه الصلاة والسلام إذا كنتم مؤمنين إيماناً حقيقياً قطعياً بما أوتي موسى من قبل، وما عند هذا النبي الكريم من بشارةٍ بظهور النبي محمد عليه الصلاة والسلام، إذاً يجب أن تؤمنوا به أيضاً: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ .. أي هم يكفرون بأصل الرسالة السماوية، لن نؤمن لا بموسى ولا بمحمد: ﴿إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ الله سبحانه وتعالى يقول: إذا كان القرآن والتوراة سِحرين، وإذا كان الله سبحانه وتعالى لابدّ من أن يرسل لخلقه رسولاً وكتاباً: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ..

 

المنطق الإسلامي يقوم على المناقشة والمحاورة:


الحقيقة الفكر سلطان، حينما يستجيب للحق يستجيب لفطرته، ويستجيب لعقله، فإذا أراد أن يَتَّبع الهوى بدا على عقله الخلل، وبدت على فطرته الانحراف. مثلاً:

(( عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي بالزِّنا فأقبل القومُ عليه فزجَروه وقالوا: مَهْ مَهْ فقال: ادنُهْ فدنا منه قريبًا قال: فجلس قال:  أَتُحبُّه لِأُمِّكَ؟ قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال: ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم قال : أفتُحبُّه لابنتِك قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال : ولا الناسُ يُحبونَه لبناتِهم قال: أفتُحبُّه لأُختِك قال : لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال : ولا الناسُ يُحبونَه لأَخَواتِهم قال : أَفتُحبُّه لعمَّتِك قال : لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَكَ قال : ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لعمَّاتِهم قال : أفتُحبُّه لخالتِك قال : لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَكَ قال : ولا النَّاسُ يحبونَه لخالاتِهم قال : فوضع يدَه عليه وقال : اللهمَّ اغفرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّنْ فرْجَهُ فلم يكن بعد ذلك يلتفتُ إلى شيءٍ. ))

[ السلسلة الصحيحة : حكم المحدث: إسناده صحيح ]

فناقشه بهدوءٍ كبير نِقاشاً منطقياً، انظر العقل سلطان. 

الآن لدينا مناقشة منطقية، إذا كان لله كتابٌ في أرضه، وأنتم تدَّعون أن القرآن والتوراة سحران تظاهرا، تعاونا، وأنتم بكل كافرون، ائتونا أنتم بكتاب الله، بكتاب أهدى منهما نتبعه، دائماً أنت حينما تناقش إنساناً رفض شيئاً فقل له: ما البديل؟ إذا كنت لا ترى في هذا الدين النظام الأمثل، فأيّ نظامٍ أمثل يحلُّ محلَّه؟ ما البديل؟ إذا رفضت هذا ماذا عندك؟ الرفض شيء سلبي، أما البطولة فأن تأتي بالإيجابيات، إذا كنت ترى أن قطع يد السارق عمل ليس مدنياً، كم سرقة في الغرب حدثت في عام واحد؟ ستة عشر مليون سرقة، وفي كل ثلاثين ثانية ترتكب جريمة قتلٍ، أو سرقةٍ، أو اغتصاب، هذا هو البديل؟ إذا رأيت في قطع اليدِ عملاً غير حضاري فهل ترى أن يموت آلاف الأشخاص كل عام بجرائم سرقة وقتل واغتصاب؟ ما البديل؟  

يدٌ بعشر مئين عسجدٍ وُدِيَتْ               ما بالها قطعت في ربع دينارٍ

* * *

أجاب الإمام الشافعي:  

عِزُ الأمانة أغلاها وأرخصها               ذُل الخيانة فافهم حكمة الباري

* * *

لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. فربنا عزَّ وجل هذا نقاش قرآني، إذا رفضت هذا فما البديل؟ ما الحل عندك إذاً؟ إذا رفضت أمر الله عزّ وجل، إذا رأيت في شرع الله شيئاً قديماً لا يصْلُح لهذا الزمان، ما الذي يصلح لهذا الزمان؟ ائت بكتابٍ آخر، بمنهجٍ آخر، بدستورٍ آخر، بنظامٍ آخر، بتشريعٍ آخر متماسك لا يُعَدَّل ولا يُبَدَّل. 

 

اتباع الهوى سبب عدم الاستجابة للشرع:


الآية الدقيقة جداً: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ .. التوراة سحر، لابأس، والقرآن سحر، لابأس، تضافرا، تظاهرا، لا بأس، ولكن ما البديل؟ ائتنا أيها المنتقد بكتابٍ أهدى منهما نتبعه، إذا لم يأتِ بالكتاب الذي هو البديل فربنا سبحانه وتعالى وَصَمَهُ بأنه من أهل الأهواء، يتبع الهوى، والإنسان إما أن يتَّبع العقل، وإما أن يتبع الهوى، الهوى أي يتبع شهواته، فالزاني لماذا يزني؟ لأنه يتبع الهوى، لو أنه سار على منهج الله لتزوَّج، والذي يكسب مالاً حراماً يتبع الهوى، والذي يعتدي على أموال الناس وعلى أعراضهم يتبع الهوى، والذي يغتصب ما ليس له، يتبع الهوى، إذا كنت صادقاً فيما تقول ما البديل؟ وما النظام؟ وما المنهج؟ وما القانون؟ وما الدستور؟ وما الخطاب الذي نتبعه؟ ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ ، ربنا عزّ وجل يقول في بعض الآيات القرآنية قال:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)﴾

[  سورة العلق  ]

إذا دعاك إنسانٌ لترك الصلاة، ودعاك إلى أن تعيش كما تحب، دعاك إلى أن تتبع الهوى، دعاك إلى الشهوة، دعاك إلى الدنيا، دعاك إلى الانحراف، قبْلَ أن تستمع إلى كلامه، قبل أن تدقق في كلامه، قبل أن تقف عند كلامه، راقب أعماله، انظر إلى دناءته، انظر إلى حقارته، انظر إلى شهوانيته، انظر إلى أنانيته، انظر إلى كسبه للمال، انظر إلى إنفاقه للمال، انظر إلى ذمته، انظر إلى لسانه: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)﴾ أي أرأيت إلى أعماله المنحطة؟ أرأيت إلى نفسه الخسيسة؟ أرأيت إلى دناءته؟ أرأيت إلى أنانيته؟ أرأيت إلى حبِّه لذاته؟ أرأيت إلى أنه إنسان هبط إلى مستوى الحيوان؟ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)﴾ انظر إلى أمانته، إلى عفَّته، إلى استقامته، إلى نظافته، إلى صدقه، إلى لطفه، إلى رحمته، يكفينا من المؤمن قبل أن يقنعنا استقامتُه، ويكفينا من الكافر قبل أن يقنعنا انحرافُه.

جرت مناقشة بين عالمين، قال أحدُهُما: "إن الإنجيل طَهَّر روحي".. بعد فترة ضبط متلبساً بجريمة زنا قذرة، فأية روحٍ طهَّرها؟ أي العمل دائماً هو الأبلغ، الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، المؤمن الذي يؤكد أنه على حق استقامتُه وخوفُه من الله عزّ وجل، إنَّك ترتاح للمؤمن، تطمئن له، لا تخاف أن يأكل ما ليس له: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ لذلك اتباع الهوى مشكلة كبيرة جداً، ومن الصعوبة بمكان أن تناقش إنساناً يتبع الهوى، لذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ما ناقشني عالمٌ إلا غلبته، ولا ناقشني جاهلٌ إلا غلبني". المتبع للهوى لا يرضى بالحق، إذا كان الإنسان مُصِرًّا على أكل الربا فمهما جئته بالأدلة والبراهين والآيات والأحاديث والآثار والقصص يَقُلْ لك: لا، لا يقنع، لأنه لا يريد أن يَقْنع.. 

 

مصطلحان دقيقان؛ الفهمُ والتفهُّمُ:


هناك مصطلحان دقيقان: عندنا فهمٌ، وعندنا تَفَهُّم. الإنسان قد لا يفهم لماذا؟ لأنه يريد ألا يفهم، لأنه إذا فهِم يُحْرَج، أما المُتَفَهِّم فهو الذي عنده قابلية الفهم، أحياناً تناقش إنساناً فتجده يردّ عليك رداً مزعجاً، رداً سخيفاً، يرد رداً غير معقول، هذا يدافع عن شهوته، وعن هواه الذي يتبعه: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ ، من علامات المؤمن:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)﴾

[ سورة النازعات  ]

 

الإنسان بين شهوات الطبع وأوامر التكليف:


قلت لكم سابقاً: أنت مكلَّف، ومعنى مكلف أي أنت مكلف بأعمال ذات كلفة، تحتاج إلى جهد، طبْعك يدعوك إلى النوم، والله كلَّفك بالصلاة فجراً، طبعك يدعوك إلى قبض المال من أية جهةٍ كانت، بأية طريقة، والله عزّ وجل كلَّفك أن تنفقه، ألا تأخذه إلا من حلال، أحياناً يأتيك عرضٌ مغرٍ فيه شُبُهَة، الله عزّ وجل كلفك ألا تأخذه إلا من حلال، وألا تنفقه إلا في حلال، هذا تكليف، طبعك يدعوك أن تنظر إلى النساء، لكن الله كلفك أن تغض البصر، طبْعك يأمرك أن تنفجر على الناس لكي تشفي غليلك، والله أمرك أن تكظم غيظك، هذا تكليف، طبْعك أمرك أن تتندر بقصص الناس في مجالسك، شيء ممتع، فضيحة في بيت، خلاف زوجي، خيانة زوجية، قضية مثيرة، تتحَدَّث عنها والناس تشرَئِبُّ لك بأعناقها، هذا هو الطبع، بينما التكليف أن تَكْتُمَ هذا السر، ألا تغتاب أحداً في مجلسك، هكذا التكليف: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ ، قد تهوى المال غير المشروع، نهى النفس عن الهوى، قد تهوى التمَتُّعَ بشيءٍ لا يحل لك، ونهى النفس عن الهوى، قد تهوى النوم، والله أمرك بالصلاة فجراً، قد تهوى أن تُظْهِر ما عندك من حقد، والله أمرك أن تكظم غيظك، إذاً: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ .. هذه الآية فيها معنى دقيق جداً، معناها أن الإنسان إما أن يستجيب لهوى نفسه، وإما أن يستجيب لأمر ربه، والدليل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[  سورة الأنفال ]

أنت أحد رجلين؛ إما أن تستجيب لهوى نفسك فتَهلَك وتُهْلِك، وإما أن تستجيب لنداء ربِّك، فإذا استجبت لله عزّ وجل دعاك لما يُحيْيِك، واعلمْ أن اتباع الهوى هوان، من هوى فقد هوى، أي من اتبع الهوى فقد هوى، أي سقط. ألا يَا رُبّ شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً ، ألا يا رب نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رُبّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة.

 

المؤمن يسير على منهج سليم:


المؤمن عنده منهج وكتاب، الحلال حلال، والحرام حرام، يجوز، ولا يجوز، مسموح، وغير مسموح، حلال وحرام، جائز وغير جائز، في كل موضوع ماذا قال الله عزّ وجل؟ هذا الموضوع ما حكم الشرع فيه؟ حلال، لابأس، مباح، لابأس، مكروه تنزيهاً، مكروه تحريماً، محرَّم، فرض، مندوب، مستحسن، سنة، واجب، المؤمن الصادق في أية حركةٍ من حركاته، في أية سكنةٍ من سكناته، في بيته، في عمله، في الطريق، في نزهته، كل موقف له حكم شرعي، لذلك لو سألنا معظم الناس: أتحبون الله؟ يقولون: نعم نحب الله، شيء جميل، فما علامة هذا الحب؟

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾

[  سورة آل عمران ]

اتبعوني، لا تكون محباً لله عزّ وجل إلا إذا كنت متبعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم، لسنته، هذا المقياس الواحد، قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: "عين طاعة النبي صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله عزّ وجل، وحبّ النبي حبّ الله عزّ وجل"، لماذا؟ لأنه ليس للنبي عليه الصلاة والسلام أغراضٌ خاصة، ولا مطلبٌ خاص، ولا رغبةٌ خاصَّة، ولا حظوظٌ خاصة، مطلبه، وهمُّه، وهدفه أن يعرِّف الناس بالله عزّ وجل، لذلك: حبُّ النبي هو حبٌ لله عزَّ وجل: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ .

 

وجوبُ موافقة الهوى للشرع فقط:


ورد: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" ، يجب أن تهوى القرآن، أن تهوى الإنفاق، أن تهوى العفَّة، أن تهوى الورع، أن تهوى كلمة الحق، أن تكره الباطل، أن تكره المُزاح الرخيص، أن تكره الغيبة، إن لم يكن هواك تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام فهذه علامةٌ خطيرة لأنه: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، انظر ماذا تهوى؟ أتهوى أهل الحق أم أهل الباطل؟ من تحب؟ هل تحبُّ أهل الدنيا الأثرياء الأغنياء؟ تحب أن تكون معهم؟ أن تكون في معيَّتهم؟ أم تحب أن تكون مع أهل الحق؟ أتحب الأسواق أم المساجد؟ أتحب أن تعطي أم تأخذ؟ من أجل أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة فانظر ما الذي يرضيك؛ أن تعطي أم أن تأخذ؟ المؤمن يحب أن يُعْطي، وهذه كلها علامات دقيقة جداً.

 

اتباع سنة النبي وعدم الحياد عنها:


إذاً: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ﴾ .. (أَضَلّ) اسم تفضيل، الله عزّ وجل يُعَبِّر عن ضلال هذا الذي اتبع هواه بعبارةٍ فيها تعجب.. ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى﴾ هناك تحفظ لطيف جداً، لقد أودع الله في قلب الإنسان حبَّ المال، فإذا كسب المال، وفرح بكسب المال، من طريقٍ حلالٍ مشروع هذا اتبع الهوى ولكن بهدى من الله عزّ وجل، تاقت نفسه إلى النساء فتزوَّج، هذا اتبع الهوى، ولكن بهدى من الله عزّ وجل، أي الشهوات التي أودعها الله في الإنسان لها قنواتٌ نظيفةٌ مسموحٌ بها، هذه القنوات النظيفة هي اتباع الهوى بالهدى، أما إذا اتبع الهوى من دون هدى من الله عزَّ وجل يزني، يُطْلِقُ بصره في الحرام، يأكل مالاً حراماً، وكلام الناس: "حلال على الشاطر"، بالحق، بالباطل، باحتيال، بألاعيب، لذلك يقول ربنا عزّ وجل: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ أي إذا بقي الإنسان في المنهج الإلهي، وتاقت نفسه إلى شيء ولم يفعله إلا وفق المنهج الإلهي فهذا لا غُبار عليه، النبي عليه الصلاة والسلام بلغه أن بعض أصحابه أراد أن يصوم الدهر، وآخر أراد أن يمتنع عن النساء، وآخر أن يترك الطعام والشراب، فقام فيهم خطيباً وقال: عن أنس:

أنَّ نفَرًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

(( قال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساءَ، وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ، وقال بعضُهم: أصومُ فلا أُفطِرُ، فبلَغ ذلكَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحمِد اللهَ وأثنى عليه، ثمَّ قال: ما بالُ أقوامٍ يقولونَ كذا وكذا، لكنِّي أُصلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفطِرُ، وأتزوَّجُ النِّساءَ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس منِّي. ))

[ صحيح النسائي  ]

إذاً: ما أودعه الله في الإنسان هذا الشيء إذا كُبِتَ له مضاعفات خطيرة: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾ ، بدعة..

﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)﴾  

[ سورة الحديد ]

هم حينما ابتدعوها توهموا أنهم بهذا يرضون الله عزّ وجل، قال تعالى: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ أي أخلُّوا بهذه البدعة، إذاً الأفضل أن تتبع السنة، النبي عليه الصلاة والسلام تزوج، تزوَّج أنت، له عمل، اشتغل راعي غنم، اشتغل تاجراً، ليكن لك عملٌ ترتزق منه، هكذا السنة، أي لا تَحِد عن السنة.

 

المتّبع للهوى ظالمٌ لنفسه: 


﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ .. هذا الذي يتبع الهوى يظلم نفسه، وظلم النفس أشدُّ أنواع الظلم، ظلم النفس أن تحرمها السعادة الأبدية، هل هناك ظلمٌ أشد من هذا الظلم؟ ظلم النفس أن تحرم نفسك تلك السعادة الأبدية التي أعدَّك الله لها، هذا أشدُّ أنواع الظلم، لذلك طلب العلم فريضة، معرفة أركان الإيمان فريضة، معرفة أركان الإسلام فريضة، معرفة حقيقة الدين فريضة، طاعة الله فريضة، فعلُ المعروف فريضة، هذا كلُّه من أجل تحقيق الهدف الذي خلقت من أجله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ الذي يتبع الهوى يظلم نفسه، عندئذٍ ينحاز إلى هواه، يرفض الحق، دائماً الذي يُعاند هو الذي يتبع الهوى، جرِّب في أي مناقشة الذي لا يقبل شرع الله عزّ وجل تجده متبعًا للهوى، هذه قاعدة إلهية في القرآن: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ ، لذلك: ﴿اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ .

 

القرآن توصيلٌ للقول والسنة توضيحٌ له:


  ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ .. (وصَّلْنا) :  وصَّلَ على وزن فعَّل، تقول: قَطَعَ وقطّع، كَسَرَ وكسّر، وزن فعَّل فيه مبالغة، أي قد توصل له رسالة أوصلتها له، أما وصَّلتها له، أي رسالة وتأكيد، وتأكدت بالهاتف أنها وصلت، بذلت المستحيل كي تصل هذه الرسالة، أول نسخة، وثاني نسخة، وبعثتها مع إنسان مخلص وأمين، واطمأننت بالهاتف، فوصل لها معنى، ووصَّل لها معنى، ربنا عزّ وجل يقول: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ .. أيْ آيّةً تلوَ آية، سورةً تلوَ سورة، كتاب تلوَ كتاب، قصة تلو قصة، حكم تلوَ حكمٍ، وعدً، وعيد، بشارة، إنذار، حكم، آية كونية، قصةً قرآنية، مثل قرآني، مشهد من يوم القيامة، ذكر للتاريخ، أخبار من مضى، القرآن منوَّع، قوانين، حِكم، قواعد، آيات كونية، إشارات، سنن، هكذا توصيل القول: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ العهد، حمل الأمانة، التكليف، المقومات، كما قلت في مطلع الدرس، ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ هذا القرآن توصيلٌ للقول، السنة توضيحٌ لهذا القول، العلماء عَبْرَ الحِقَبِ والقرون الذين سخَّرَهم الله عزّ وجل لبيان ما في هذا الكتاب الكريم، وما في السنة المطهرة من باب توصيل القول.. أحياناً إنسان ينصحك، أحياناً واقعة تقع أمامك، كلمة تقال أمامك، هذا كلُّه بتقدير عزيزٍ حكيم: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)﴾


سببُ نزول الآيات التالية:


﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)﴾ .. هذه الآيات نزلت في طائفةٍ من أهل الكتاب وفدوا على النبي عليه الصلاة والسلام، أغلب الروايات تقول: إنهم وفدوا من عند النجاشي، بعثهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، التقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقرأ عليهم سورة يس، فبكوا وأبكوا وأسلموا، هؤلاء من أهل الكتاب، الله سبحانه وتعالى وصفهم بهذه الآيات: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي من قبل القرآن.. ﴿هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53)﴾ ..

 

معاني كلمة مسلمين في القرآن:


 إن كلمة (مسلمين) في القرآن تستعمل لكلِّ من آمن بالله عزّ وجل، وأسلم نفسه له، فسيدنا عيسى وردت آية أنه من المسلمين، سيدنا موسى من المسلمين، وفرعون حينما أدركه الغرق قال: وأنا من المسلمين، أي الإنسان حينما يعرف الحقيقة ويستسلم لها فهو مسلم، هذا المعنى الواسع للإسلام. 

له معنى آخر: الدين الذي جاء به النبي محمد عليه الصلاة والسلام، هذا هو الإسلام، أما لها في القرآن معنى واسع جداً، أيّ إنسان عرف الله عزّ وجل، واستسلم إليه فهو مسلم، لذلك تقول الآية: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53)﴾ أي هم حينما كانوا أهل كتاب كانوا أيضاً مسلمين: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور