وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة القصص - تفسير الآيتان 60 - 61 حجّةُ المشركين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الترابط والتسلسل بين آيات القرآن الكريم:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الحادي عشر من سورة القصص.

أيها الإخوة الأكارم؛ في القرآن الكريم ترابطٌ وتسلسل بين آياته، وقد لا يبدو هذا لأوَّل وهلة، فمثلاً ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ هذه مقولة مشركي مكة. 

بماذا ردَّ الله عليهم؟ ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ هذا هو الرد الأول.

الرد الثاني: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ ..

الرد الثالث: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ ..

الرد الرابع: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾ ..

الرد الخامس: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ .

لو قُرِئت هذه الآيات قراءةً سريعة، ولم يتعمَّق في فهمها المؤمن لظنّ أن هذه الآيات تعالج موضوعاتٍ متفاوتة لا رابط بينها، ولكن إن شاء الله تعالى في هذا الدرس، وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى سوف ترون كيف أن كل هذه الآيات تتمحور حول محورٍ واحد، ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ وقد ردَّ الله عليهم بموضوعاتٍ شتَّى، وبأساليب شتَّى، قبل كل شيء عودةٌ إلى الآية الأولى. 

 

أوامر الدين ضمان للسلامة وليست تقييداً للحريات:


الإنسان أيها الإخوة إذا فَهِمَ أن أوامر الله عزَّ وجل تقييدٌ لحريته فهو جاهلٌ جهلاً مطبقاً، أما إذا رأى أوامر الله عزَّ وجل ضمانًا لسلامته فقد فَقُهَ في دينه، أضرب على هذا أمثلة كثيرة كنت قد ضربتها سابقاً: إذا رأينا عمودَ كهرباء عليه خط توتر عالٍ، وقد كتب في أسفل العمود: "لا تقترب، خطر الموت"، هل ترى أن هذا المنع تقييدٌ لحريَّتك أم ضمانٌ لسلامتك؟ لو أن إنساناً قال: لو أنني صعدت إلى أعلى هذا العمود، وأمسكتُ بهذا التيار ذي التوتر العالي يا ترى أكون مخالفًا؟ أأُسجَن؟ أأدفع غرامة؟ ما المحذور؟ هل هناك من يراقبني؟ هل هناك شرطي أو موظف كهرباء؟ ما أسخف هذا الإنسان ! إن التيار ذا التوتر العالي وحده يعاقبك، ولن يعاقبك أحد، بمجرد أن يلمس الإنسان هذا التيار يصبح قطعةً من الفحم، فإذا قال: يا ترى أنا إذا صعدت وأمسكت بهذا التيار أأعاقب؟ أأسجن؟ أأكتب مخالفة؟ ماذا؟ هل هناك من يراقبني؟ القضية أعمق من ذلك، إن في هذا المنع نتائج مُقارفته، إذا فهمت أوامر الدين هذا الفهم الصحيح أصبحت فقيهاً، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الأعرابي الذي قال: عظني وأوجز فقال:

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7)﴾

[ سورة الزلزلة ]

إلى آخر الآية، فقال: قد كُفيت؟ فقال : فَقُهَ الرجل..

 

طاعة الله هي الباب الوحيد للسعادة ومعصية الله طريق كلّ شر وكل ضيق:


ما دمت ترى الدين عبئًا عليك، وأن أوامره ثقيلة، وأنها تُقَيِّدُك من حركتك الحرة، وأن الدَّيِّن إنسان متقوقع، وأنه حبيس هذه الأوامر والنواهي، وأن الحياة تحتاج إلى انطلاق، وإلى تحرر، وإلى حرية، وإلى أن يفعل الإنسان ما يشاء، إذا فهمت هذا الفهم فأنت لا تعرف في الدين شيئاً. 

في الدرس الماضي قلت لكم: لو أنّ إنساناً يدّعي أنه طبيب، وقال: كلما ارتفع ضغط الإنسان فهذا دليل صحَّته الجيدة، تحكم على هذا المُدَّعي أنه جاهل، لا طبيب، ولا معاون طبيب، ولا ممرض، ولا مثقف، لأن هذا شيء بديهي، إذا قال لك إنسان يدَّعي أنه مهندس: أنا بإمكاني أن أُنْشئ بناءً ارتفاعه مئة متر بلا حديد، تحكم عليه أنه جاهل، وعلى هذا فقس. 

في مجال الدين لمجرَّد أن ترى أن أوامر الله عزَّ وجل عبءٌ عليك، أنها ثقيلة، أنها قيدٌ لحرَّيتك، أنها تحجزك عن مُتع الحياة، عن مباهج الحياة، أن رجل الدين رجل مسكين محروم، لم يذق مباهج الحياة، إذا فهمت الدين هكذا فاحكم على نفسك - ولا أظن أن أحدًا من الإخوة الحاضرين هو كذلك - فاحكم على نفسك بالجهل المطبق، لذلك هذه الآية: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ أي لمجرد أن تتوهم أن أمر الله يضرُّك، وأنَّ معصيته تنفعك، إنْ في كسب المال، أو في إنفاق المال، إنْ في إطلاق البصر، أو في غض البصر، إنْ في ضبط النفس، إنْ في ضبط الحواس، إنْ في ضبط الحركة في الحياة، لمجرَّد أن تتوهم، أو أن يأتي على خاطرك وهمٌ بأن طاعة الله تضرك، ومعصيته تنفعك، الكذب يُريحك، وينجِّيك، ويسعدك، ويربحك، ويجلب لك المال الوفير، وأنَّ الصدق يحرجك، ويتعبك، ويكثر أعداءك، إذا فهمت هكذا فاحكم على نفسك بالجهل المطبق، لذلك ورد: "من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا، وأقرب ممن اتقى"، إذا توَسَّلت إلى هدفٍ مشروع بوسيلةٍ غير مشروعة فهذا الهدف بعُدَ عنك، وإذا توسَّلت إلى الهدف المشروع بوسيلةٍ مشروعة هذا الهدف اقترب منك، كلُّ هذه الدروس، وكل هذه الخطب، وكلُّ تفسير القرآن وتفسير السنة النبوية، من أجل أن توقن أن طاعة الله هي بابك الوحيد إلى سعادتك، وأن معصية الله عزَّ وجل طريق كلّ شر وكل ضيق. 

 

منطق الأحداث اليومية:


قلت لكم في الدرس الماضي أيضاً: إن الله عزَّ وجل جعل للأحداث اليومية منطقاً، وجعل للإيمان منطقاً آخر، فقد يبدو لك أنك إذا أنفقت زكاة مالك نقص مالك، إنّ هذا المبلغ خمسون ألفاً الذي استحق عليك زكاةً لمالك هذا المبلغ إذا أنفقته حُرِمْتَ منه، هذا منطق الناس، هذا منطق الدنيا، هذا المنطق المادِّي، هذا المنطق الظاهر، ولكن الله عزَّ وجل له سنن أخرى، إذا أنفقت هذا المال كزكاةٍ لمالك فهناك إجراءاتٌ يجريها الله عزَّ وجل تضاعف من مالك، في كلّ شيء؛ لو أنك غَضَضت البصر عن هذه المرأة الجميلة يبدو لك وبمنطق الناس أنك محروم، ولكن الله عزَّ وجل إذا رآك عند طاعته يورثك حلاوةً في قلبك لا تنساها إلى يوم تلقاه، من غضَّ بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوةً في قلبه، إذاً: هناك منطقان، هناك مقياسان، هناك طريقتان في مُناقشة الأمور، طريقة أهل الدنيا، طريقة الماديين، طريقة الذين هم في قطيعةٍ مع الله عزَّ وجل، هؤلاء لهم منطقٌ خاص، ويجعل الله تدميرهم في تدبيرهم، وفقرهم في كنز مالهم، وشقاءهم في متعهم، أما أولئك الذين عبدوا الله عزَّ وجل فيخلق الله لهم من كل ضيقٍ فرجاً، ومن كلِّ هم مخرجاً، ومن كل عسرٍ يسرًا. 

 

الآية التالية مركز الثقل في السورة:


فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أقف عند هذه الآية لأنني أشعر أنها مركز الثقل في هذه الصفحة، لأن الآيات كلها تردُّ على قول هؤلاء: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ قد يبدو لك أن هذا السلوك الإسلامي يُخَسِّرُك، وهذه المخالفة تربحك، قد يبدو لك أنك إذا أرضيت زيداً وعصيت الله يقوى مركزك، وما دريت أن هذا التصرُّف إسفينٌ في مركزك، قد يبدو لك أنك إذا طَبَّقت الشريعة الإسلامية في إنفاق المال فإنك سوف تُحرم من بعض مباهج الحياة، والعكس هو الصحيح، قد يبدو لك أنك إذا عزفت عن سماع الأغاني فقد حرمت نفسك شيئاً ثميناً جداً في الحياة، وما تدري أنك إذا عزفت عن سماع الأغاني، واستمعت إلى كتاب الله تجلَّى الله على قلبك بطريقةٍ لا يستطيع ذَوَّاقو الغناء في العالم أن يطربوا طربك، هنا المشكلة، إما أن تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لشهوتك، إما أن تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم، إما أن تستوحي مبادئ العقل، وإما أن تستوحي دوافع الشهوة، إما أن تعمل للآخرة، وإما أن تعمل للدنيا، هؤلاء كفار مكة: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ .

 

الإجابة المنطقية الواقعية لكلام كفار أهل مكة:


أول جواب: أنتم يا أهل مكة حينما كنتم مشركين أنعمت عليكم ببلدٍ آمن، وفوق أنَّه آمن تُجْبَى إليه ثمرات كل شيء، ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾

[  سورة قريش  ]

ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

ربنا ذكر الأمن والرزق، أحياناً الإنسان معه مالٌ وفير، ولكنه خائف، قد يكون مطمئناً، ولكنه فقير، إذا جمعت بين الأمن وبين الرزق فقد جمعت الدنيا من طرفيها ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ الإجابة يا كُفَّار مكة، يا مشركي مكة، يوم كنتم تعبدون الأصنام حباكم الله عزَّ وجل بلدًا آمنًا فيها خيراتٌ وفيرة، فإذا آمنتم بالذي خلقكم، إذا آمنتم بالمنعم، إذا آمنتم بالإله الواحد، إذا آمنتم بربِّكم، إذا أطعتموه تخافون؟ أو تفتقرون؟ أهذا هو المنطق؟! أهذا هو المنطق السليم؟ أي يوم كنت تائهاً شارداً الله عزَّ وجل وفَّرَ لك صحةً طيبة، وأولاداً، وزوجةً، ورزقك من رزقه الطيِّب، فإذا عرفت الحق وأردت أن تطيعه، وأن تدَع هذه المعصية، وأن تقطع علاقتك بزيد وبعبيد، الآن تأتي المشكلات، بعد أن تبت إلى الله تأتي المشكلات؟! أهكذا الله عزَّ وجل؟ أهكذا يعامل عباده المؤمنين؟ يوم كنت شارداً كان يحفظُك، يوم كنت منحرفاً كان يرعاك، فإذا رجعت إليه، وتبت إليه، وأنبت إليه، واستقمت على أمره عندئذٍ تأتي المشكلات؟ ويأتي الفقر؟ ويتضعضع مركزك في المجتمع؟ وتخاف على سمعتك؟ أهذا منطقك؟ ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا﴾ .

 

الرزق كله مِن عند الله عز وجل:


يا الله.. هذا الذي يكسب المال يظنُّ أنه ذكي، وأنه تاجرٌ ماهر، أو صانعٌ مُتْقِن، أو طبيبٌ ماهر، أو مهندسٌ بارع، أو محامٍ ضليع، وأنه لولا جدُّه واجتهاده لما كان هذا المال الوفير، هذا هو الشرك بعينه، ماذا قال قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ، هذا هو الشرك، أنا، ونحن، ولي، وعندي، قال إبليس: 

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾

[ سورة الأعراف ]

فأهلكه الله عزَّ وجل. وقال قوم الملكة بلقيس: 

﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾

[ سورة النمل ]

 فدمَّرهم الله عزَّ وجل. وقال قارون:

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾

[ سورة القصص ]

فخسف الله به الأرض. وقال فرعون: 

﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾

[ سورة الزخرف ]

فإذا دخل الإنسان إلى بيته لا يتوَهَّم بأنه هو الذي اشتراه بكدِّه، وعرق جبينه، هو حَصَّل شهادة عُليا، وله منصب مرموق، أو اشتغل بمحل تجاري منذ أمدٍ طويل، هو بذكاء بارع وجهد كبير جاءه هذا المال فاشترى هذا البيت، لا..﴿رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا﴾

 

الله عزَّ وجل من رحمته أنه لا يدع الناس سدىً:


يجب أن ترى رزق الله عزَّ وجل، أي امتحن نفسك بهذه المشكلة، قد تقرأ في الجريدة أن منخفضاً جوياً قادماً إلى الشرق الأوسط متمركزاً فوق قبرص، ماذا ترى؟ هل ترى أنه منخفض جوي أم ترى أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين؟ هل ترى يد الله فوق أيديهم؟ فيما تستمع من أحداث، إذا استمعت إلى بعض الأخبار هل ترى أن يد الله فوق أيديهم؟ أن الإنسان إذا طغى وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وغرق في النعيم، ونسي الجَبَّار الأعلى، ونسي المبتدى والمنتهى، هناك هزاتٌ عنيفة، الله عزَّ وجل من رحمته لا يدع الناس سدىً، قد يكون الرفاه والنعيم حجاباً بين العبد وربّه، فقد يزول هذا النعيم فجأةً، قد تنقلب الأمور، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ بالله من فجأة النقمة:

ما بَينَ غَمضَةِ عَينٍ وَاِنتِباهَتها                يَغيرُ اللَهُ مِنْ حالٍ إِلَى حالِ

* * *

ثانية، ست ساعات، ساعة، انتهى كل شيء، إذا قرأت، أو سمعت، أو تداولت فلا تنس أن الله هو كل شيء، وأن يد الله فوق كل شيء، لا ترى الأحداث منعزلة عن فعل الله عزَّ وجل فتقع في متاهة كبيرة.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[ سورة الفتح ]

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾

[ سورة الأنفال ]

أول جواب: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً﴾ والقصة التي قلتها لكم في الدرس الماضي أن سيدنا موسى في المناجاة قال: "يا رب ارزقنا، أمطرنا، أغثنا، فقال الله له: يا موسى، إن فيكم عاصياً، فالتفت إلى أصحابه وقال: من كان عاصياً لله فليُغَادرنا، بعد قليل انهمرت الأمطار، فناجى سيدنا موسى رَبَّه فقال: يا رب، من هو هذا الذي يعصيك؟ فقال: عجبت لك يا موسى، أأستره وهو عاصٍ، وأفضحه وهو تائب"؟! أنت عندما كنت في الجاهلية قبل أن تعرف الله كنت في رعاية الله، وفي حفظه، والله ربَّاك، ونقلك من حال إلى حال، وهداك إليه، فإذا عرفت الله، واستقمت على أمره، وغَضَضت بصرك تخاف على سمعتك؟ يقول لك: لا أستطيع ألا أصافح، أحرج،، ويتهمونني أنني دَيِّن، لماذا؟ هل الدين تهمة؟ ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ هذا هو الرد الأول.

 

الموت نهاية كل شيء:


الرد الثاني؛ إذا خفت على مركزك الاجتماعي وعصيت الله، أو خفت على ثروتك الطائلة من هذا المشروع، وتابعتها مع أن فيها معصيةً كبيرة، إذا خفت أن هذا المطعم الذي يبيع الخمر، إذا بعت حصتك منه بعد أن عرفت الله، إذا ظننت أنك إذا فعلت هذا تفتقر، إذاً تابعت العمل، دائماً أيها الإخوة راقبوا هذا السؤال: ثم ماذا؟ عصينا الله، وتابعنا العمل في هذا المشروع الذي لا يرضي الله، ثم ماذا؟ وحَصَّلت منه أرباحاً طائلة، وحصّلت منه رزقاً وفيراً؟ هناك شخص له بعض المشاريع التي بُنِيَت على معصية الله، على فراش الموت ترك ثمانمئة مليون، فسأل أحد العلماء: ماذا أفعل كي يتوب الله عليّ؟ فقال هذا العالم – وكان والله جريئًا - قال له: والله لو أنفقت هذه المبالغ كلها - ثمانمئة مليون - في سبيل الله لما قبلها الله منك، لأنها كلَّها مال حرام. السؤال: ثم ماذا؟ عصينا الله، وقوي مركزنا، شيء جميل، عصينا الله، وازدادت ثروتنا، شيء جميل، عصينا الله، وسكنا في هذا البيت الفخم، شيء جميل، عصينا الله، وركبنا هذه السيارة، شيء جميل، عصينا الله، واشترينا هذه المزرعة، ثم ماذا؟ لا يوجد إلا الموت بعد ذلك، والموت خسارة كل شيء في ثانيةٍ واحدة، فربنا عزَّ وجل قال: أيها الكفار لو أنَّكم توهَّمتم أنكم إذا اتبعتم الهدى مع رسولي فسوف تتخطفون من أرضكم، إذاً يقول لكم منطقكم: ابقوا على كفركم، وعلى شرككم من أجل أن تكونوا زعماء في الجزيرة، سادة هذه الجزيرة، من أجل تبقوا في مركزكم الكبير وفي دخلكم الوفير، شيء جميل، ثم ماذا؟ قال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ﴾ بعد هذا الطغيان لابد من الهلاك.

 

الله عز وجل هو مالك كل شيء:


﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ .. ما معنى بطرت؟ معنى بطرت بالضبط طغت في معيشتها، إنْ في كسب المال، أو في إنفاقه، إذا طغيتَ في كسب المال أخذت ما ليس لك، أو ضَيَّعت حقوق الناس، أو استغللت ضعفهم وفقرهم وحاجتهم، أعطيتهم دون ما يستحقون ونمت ثروتك، نما غناك على فقرهم، أو اغتصبت أموالهم، أو استخدمت قوَّتك في كسب المال، أو استخدمت حيلك وذكاءك في كسب المال الحرام، أو غششت المسلمين في بضاعتهم، طغيت في كسب المال، ثم طغيت في إنفاقه، أترفت نفسك بحيث إذا دخل عليك إنسان تضاءل أمامك، رأى نفسه صغيراً، ليس عنده شيء، عندك كل شيء، يقول لك: مساحة بيتي أربعمئة وثمانون متراً، يتكلمها ويقبض وجهه أيضاً، خير إن شاء الله، هذا البلاط من إيطاليا، خير إن شاء الله، أي إذا طغيت في كسب المال فأكلته حراماً، ثم طغيت في إنفاقه فأحزنت كلَّ من حولك، ثم ماذا؟ ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ .. هل تعلم من هو المالك الحقيقي؟ هو الله عزَّ وجل، والدليل:

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران  ]

عينك لا تملكها، أنت تستمتع بهذا البصر مادام الله قد سمح لك بذلك، فإذا شاءت مشيئته أن يفقد الإنسان بصره لسببٍ تافهٍ جداً ينتهي، أنت تستمتع بقوتك وحركتك مادام الله قد شاء لك ذلك، فهو المالك لقوتك، حتى الحياة، حتى القوة، حتى السمع، حتى البصر، حتى العقل، قد يأخذ الإنسان أعلى شهادة علمية في العالم، ثم يختل عقله، فإذا هو في الطرقات يزعج الناس، ويخافه الناس، وإذا تمكَّن أهله بوساطةٍ كبيرة أن يدخلوه مستشفى الأمراض العقلية يفعلون ذلك، فلا عقلك أنت مالكه، ولا سمعك، ولا بصرك، ولا صحتك، ولا قوتك، ولا صمَّام القلب، ولا الكبد، ولا عمل الكليتين، إلى الآن أمراض كثيرة جداً بلا سبب، فقر دم لا مُصَنِّع، ما هذا؟ فقر الدم اللامصنع، أي معامل كريات الدم في نقي العظام توقَّفت فجأةً عن التصنيع من دون أن نعرف السبب، هذا يحتاج كل يومين لترين من الدم أو ثلاثة إلى أن يموت، فقر الدم اللامصنع، هبوطٌ مفاجئ في وظائف الكليتين، ما هو السبب؟ لا نعرف، إذا وقفت الكلى يحتاج كل أسبوع مرتين إلى غسيل، أو يحتاج إلى إجراء عملية تكلف مليون ليرة، والنجاح ثلاثون بالمئة، ضيق في صمام القلب، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ مالِك القلب والشرايين، والدَسَّامات، ومالِك العضلات والرئتين، أحياناً حبة تظهر فتحكها هكذا فتكبر، بعد شهرين كان تحت التراب، حبة صغيرة كبرت سرطان، لا تملك شيئاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ يقول: عن حذيفة بن اليمان:

(( كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا أوَى إلى فِراشِهِ، قالَ: باسْمِكَ أمُوتُ وأَحْيا وإذا قامَ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيانا بَعْدَ ما أماتَنا وإلَيْهِ النُّشُورُ. ))

[ صحيح البخاري ]

 

الاعتماد على فضل الله عز وجل فقط:


أنا أريد أن أقول: لا تعتمد على شيء، اعتمد على فضل الله عزَّ وجل، هذه الحركة بيد الله عزَّ وجل، لك بصر حاد، التهاب بالعصب السمعي، لي قريب بأول حياته سمع تشويشاً في أذنه ذهب إلى الطبيب، قال له: والله هذا مرض يأتي في مئة ألف حالة حالةٌ واحدة، التهاب بالعصب السمعي ينتهي بالصمم، يا ترى أنا مالك لسمعي؟ مالك لبصري، مالك لعقلي، مالك لأعصابي، فقرة تنزلق نصف ميلي تسبب آلامًا لا تحتمل، يقول لك: معه ديسك، شيء لا يحتمل، أو العرق الأنسر، إذا انسدت القناة الدمعية تصبح الحياة صعبة، تحتاج دائماً إلى منديل لكي تمسح السيلان الدائم بالعين أو الأنف، لو أن المستقيم أصيب بالشلل، هل تحتمل الحياة؟ هذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أنت لا تملك شيئاً، لو أن ذكاءك كلُّه موظف في كسب الرزق، لو أن هذا العقل سلبه الله عزَّ وجل، أين بقي مكتبك التجاري ومراسلاتك ومركزك القوي مع الشركات؟ كله صفر، لا يبقى لك مكان إلا بالقُصَير. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ يجب أن ترى يد الله عزَّ وجل دائماً.

 

عاقبة من عصى الله عز وجل:


﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً﴾ اذهب إلى تدمر وانظر، أكبر دولة في عصرها كانت، كان الطريق من دمشق إلى تدمر مظللاً بالأشجار كله، انظر إلى دولة الأنباط، بيوت، وحمامات، وأماكن للحفلات، كلها محفورة في الصخر، شيء لا يصدق، بيت محفور من الصخر له أربعة جدران، وجداران للتهوية، وحمامات، وقصور ملكية، ومكاتب، وقاعات للمحاكمات، لو أن معك دليلاً حتى أريك وظيفة كل مكان، الأهرامات، الهرم فيه نافذة مفتوحة بطريقة رائعة جداً، بحيث لا تدخل الشمس منها إلى هذا الهرم إلا يوماً واحداً في العام، أنت كمهندس هل تستطيع أن تدرس حركة الشمس، وتعمل نافذة ضيقة وعميقة بحيث تأتي أشعة الشمس على امتداد هذا الشق إلى داخل الهرم يومًا واحدًا فقط؟ شيء لا يصدَّق، ليس في مصر أحجار، من أين أتوا بهذه الأحجار؟ قال: ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً﴾ إما أنه بعد أن دمَّرهم الله بقي كم بيت من دون دمار استُعمل، أو معنى آخر، على كل: ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً﴾ ، (قَلِيلاً): إما أنه استثناء في الزمن أو في المكان، إما بعض المساكن سُكِنَت، أو سكنت فترة قليلة. 

 

ملكية الإنسان ملكيةٌ شكلية:


﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ .. ملكية الإنسان ملكيةٌ شكلية، لذلك سُئِل بدوي عن قطيع إبل يملكه، قيل له: لمن هذا القطيع؟ قال: "لله في يدي"، هذه اجعلها في بالك، لمن هذا البيت؟ والله لله في يدي، الله سمح لي أن أسكنه، لمن هذه المركبة؟ لله في يدي، لمن هذا المعمل؟ لله في يدي، لمن هذه المزرعة؟ لله في يدي، هكذا أجب، لمن هذه الدكان؟ لله في يدي، ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ .


  الردُّ الثالث لله عز وجل على كفار قريش:


ربنا عزَّ وجل رد رداً رابعاً، أول رد: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً﴾ ، الرد الثاني: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا﴾ ..

الرد الثالث: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ أي في المركز، في العاصمة..﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ .. ولكن ما علاقة هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ما علاقتها؟ العلاقة: أن يا كفار مكة هذا النبي قد جاءكم من عندي ليبلِّغكم، فإن كذبتموه تستحقون الهلاك والتدمير النهائيين، فآمنوا قبل أن تهلكوا.

 

الفرق بين هلاك الاستئصال وهلاك الضعف والهوان: 


﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً﴾ .. وها قد بعث في أمِّها رسولاً، وها قد أرسل النبي محمداً لأم القُرى ولمن حولها، فالخيار أمامكم، إما أن تؤمنوا، وإما أن تستحقوا الهلاك، والهلاك هنا ليس هلاك ضعف، لأن من علامات قيام الساعة هلاك العرب، أي هلاك ضعف، هلاك تشتت، تشرذُم، تبعثر، ضعف، هناك هلاك الاستئصال، كما أهلك الله قوم نوحٍ، وقوم عادٍ، وثمود، وقوم فرعون، هذا هلاك استئصال، فربنا عزّ وجل فال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ انظر هذه: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ .. تعبير فيه قَصْر وحصر، أي قطعاً الهلاك أساسه الظلم، فإذا سمعت عن نبأ هلاك أمة بزلزال، بفيضان، ببركان، بتسليط الناس بعضهم على بعض، فهكذا ربنا عزّ وجل قال:

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾

[ سورة الأنعام  ]

البراكين، الحمم، أو الصواعق..﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ الزلازل..﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ هذا أيضاً نوع من الهلاك.

 

الهلاك سببُه ظلمُ العباد:


لذلك ربنا عزّ وجل قال: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ .. فَسِّر الأحداث ما شئت، هذا التفسير الإلهي، يا أخي هنا منطقة براكين، شيء جميل، هنا حدثَ منخفض فتفاعل مع مرتفع جاء من أواسط آسيا، فنزلت أمطار غزيرة جداً، هناك أمطار موسمية جرّت سيولاً، جرفت المحاصيل، هلكت القرى: ﴿إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ هكذا الآية، فَسِّرها ما شئت، فَسِّر تفسيراً جغرافياً، وجيولوجياً: ﴿إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ ، هذا هو التفسير الحقيقي، هذا التفسير القرآني، عندما ربنا يريد أن يهلك القرى يجعل لها أسبابًا مادية، يجعل زلزالَاً، بركانًا، فيضانًا، أمطارًا، رياحًا عاتية، يأتي إعصار على بعض المقاطعات في أمريكا يُدَمِّر كل شيء، لا يبقي ولا يذر، تفسر الإعصار بأنه حركة رياح استثنائية، تفاوت في الحرارة، تفسر الإعصار خلخلة بالأوزون، فسر ما شئت، هذا هو التفسير الإلهي: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ هذا الرد الثالث. 

 

متاع الدنيا قليل:


الرد الرابع؛ لو أنكم آمنتم بالله وبرسوله، واتبعتم كتاب الله وسنة رسوله، ومن أجل هذا الإيمان خسرتم حياتكم ماذا يكون؟ أنتم الرابحون، الرد الرابع: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ كما تدّعون فرضاً، إذا آمنتم برسولي وبكتابي واتبعتم هذا الدين الحنيف، وكان من نتيجة ذلك أنكم خسرتم مركزكم، أو مالكم، أو شأنكم، أو أرضكم، أو حياتكم، أكنتم رابحين أم خاسرين؟ 

اسمع الجواب: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ شيء.. أقل كلمةٍ في اللغة تعَبِّر عن أدنى شيء هي كلمة شيء، النملة شيء، والقَشَّة شيء، ونقطة الماء شيء، نقطة الماء ما قيمتها؟ هل تروي إنسانًا ظمآنَ؟ نقطة الماء شيء، الثانية، قل: ضاع مني ثانية، شيء: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ ليته قال: شيء، بل إنه قال: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ و(مِن) للتبعيض أيضاً، أيّ إنسان الله آتاه الله بيتًا، إنسان آتاه متجرًا، إنسان آتاه معملاً، هذا آتاه وظيفة، هذا آتاه ذكاءً، هذا قلمه سيَّال، هذا طليق اللسان، هذا عنده قدرات فنية عالية، قدرات في التأليف: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ شكل، هيئة، طول، لون: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾  عنده قدرة لغوية، عنده قدرة رياضية، وَرِث أموالاً طائلة، ملاَّك مثلاً... إلخ. 

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعة مؤَقَّتة، متعة لا ثمرة لها:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[  سورة النساء ]

أنت تقول: صدق الله العظيم، فهل ترى أن متاع الدنيا كبير؟ عظيم؟ جليل؟ خطير أم قليل؟ الله يقول: قليل، هل لك رؤية خاصة غير مقياس الله عزّ وجل؟ ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ إما أن تستمتع به مباشرةً، وإما أن تفتخر به، الإنسان أحياناً يضع ثُرَيَّا في بيته، إذا كنت تريد الإضاءة فضع بلورتين من مئتي شمعة، نفس الشيء، ثمنها ثلاثون ليرة، أو أربعون، لكن الثريا ثمنها ثلاثة عشر ألفاً، ما الهدف؟ الهدف هو الزينة، أحياناً الإنسان يعمل في بيته ورقًا، ويعمل أقواسًا، زينة، الهدف هو الزينة، يرتب نفسه، يُدهِّن، يعتني، الهدف هو الزينة، الحياة متعة أو زينة، إما متعة شيء يمتع، تأكل، تستمتع، تقبع في مكان بارد فتستمتع بهذه البرودة في الصيف، تقبع في مكان دافئ فتستمتع بهذا الدفء في الشتاء مثلاً، تأكل الفاكهة الطيبة فتستمتع بها، تجلس في بيتك مشرفًا على مناظر جميلة فتستمتع بهذه المناظر، هذه هي المتعة، أو الزينة لا يوجد فيها متعة لكن فيها افتخار، فربنا عزّ وجل قال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ لذلك النبي الكريم كلما رأى شيئاً أعجبه كان له هذا الدعاء: عن أنس بن مالك :

(( اللَّهُمَّ  لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ، فأصْلِحِ الأنْصارَ والمُهاجِرَهْ. ))

[ صحيح البخاري ]

كذلك: "إياك وفضول النظر، فإنه يبذر في النفس الهوى"، قال لي أحدهم: رأيت سيارة، والله قالها ولا أدري أهو جاد أم غير جاد، قال لي: والله اشتهيت أن تدهسني من كثرة حبي لها، إياك وفضول النظر، فإنه يبذر في النفس الهوى، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَة)) ، ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ ، في اللغة العامية أحياناً يقول شخص لآخر: (خذها وانمحق) ، خذها وخلصنا، يأخذها ويفرح بها.

 

الرابح من خسر الدنيا وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم:


لذلك:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾  

[ سورة الأنعام ]

فجأةً من كل شيء إلى لا شيء، الآية الكريمة: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ أي لو آمنتم بمحمد، وخسرتم هذه الدنيا، خير إن شاء الله أنتم الرابحون، لو أنكم آمنتم بمحمد، وخُطِفْتُم من أرضكم، أو خسرتم مكانتكم، أو دخلكم، أو تجارتكم، أو محبَّة الناس لكم، لو أن الدنيا كلها ذهبت من بين أيديكم لأنكم آمنتم فأنتم الرابحون، لأن هذا الذي أنتم تخافون عليه لا قيمة له عند الله عزّ وجل، شيء تافه: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ تحرصون عليه، وتخافون عليه، وتعصون الله من أجله، وتكفرون بمحمد من أجل أن يبقى هذا الشيء بأيديكم: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .

﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)  ﴾

[  سورة آل عمران ]

 

رحمة الله خير من الدنيا وما عليها:


﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[  سورة الزخرف  ]

أحياناً يكسب الإنسان رزقه، وأحياناً يكون رزقه مؤمَّنًا لمئة سنة قادمة، عنده أموال طائلة، هوايته لم تعد كسب الرزق، بل الجمع، يقول لك: أنا كوّنت هذه السنة عاموداً، أو عامودين، أي مليونين، الهدف كان كسب الرزق، أصبح هناك هدف ثانٍ، وهو الجمع، هنا المشكلة: ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ هناك شركة أعطاه المحاسب في أول العام  طبعاً بعد شهرين من الجرد رقم الأرباح النهائي - هذه قصة في أول السبعينيات ثمانية ملايين، وهذا رقم كبير في السبعينات، والآن قد يكون الرقم قليلاً، أما في السبعينات فإنه كان رقماً كبيراً جداً - تَلَقَّى النبأ الساعة العاشرة صباحاً، الساعة الثالثة كان قد توفّي.. وإذا أحد حصَّل أموالاً طائلة، هذه الآية دقيقة كثير، وجميلة. 

لكن الآية في السياق لها معنى آخر، أنتم إذا آمنتم تخسرون الدنيا، ولو فرضاً خسرتموها ماذا خسرتم؟ خسرتم شيئًا تافهًا جداً، الصحابة حينما قُتلوا في بدر وأُحد هل خسروا؟ سيدنا حمزة أين قتل؟ قُتِل في أُحد، وبُقِر بطنه، ولاكت هِنْدٌ كبده، هل خسر؟ أين الله عز وجل؟ الدنيا شيء تافه ليس له قيمة.


  الحياة قصيرة والعاقل من يستغلها بالأعمال الصالحة:


﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .. أين عقلك يا أخي؟ قلت اليوم في الخطبة: إن الجماد شيء يشغل حيزاً، له وزن وطول، وعرض، وارتفاع، وزن أي كثافة، هذا هو الجماد، صخرة أو إسمنت كثيف، يمكن أن تحمل قارورة فيها سائل ثلاثة سنتيمتر تقع من يدك، ويكون في القارورة زئبق له وزن، فالجماد يشغل حيِّزًا؛ طول وعرض وارتفاع، أما النبات فيشغل حيزًا وينمو، والحيوان يشغل حيزاً وينمو ويتحرك، والإنسان يشغل حيزًا وينمو ويتحرك ويفَكِّر:

﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم  ]

﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ ، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ المشكلة في نقطتين، خيرٌ نوعاً، وأبقى أمداً، العوام لهم رأي: "ساقية جارية ولا نهر مقطوع"، كيف إذا كان هناك نهر جارٍ وساقية مقطوعة؟ بالعكس أتوازن؟ أي الحياة الدنيا حياةٌ قصيرةٌ مشحونةٌ بالهموم والآلام، من أجل صحن سلطة تشتغل نصف ساعة، هذه الطبخة اليبرق مثلاً يلفونه طوال الليل ويُؤكل في خمس دقائق، لكي تأكل يجب أن تشتغل، من أجل شراء هذا البيت تجمع ثمنه ثماني عشرة سنة، وتحتاج لفرشه ثماني سنوات أخرى، هكذا طبيعة الحياة:

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾

[ سورة البلد  ]

هكذا سنة الله في الخلق، فهذه الحياة القصيرة كي يقف الإنسان على قدميه بالأربعين، أربعون سنة إعداد، محل اشتغل فيه، أو أصبح موظفًا أو طبيبًا، سكن في بيت رتَّبه ونظَّمه، أمَّن له سيارة صغيرة لكي يصل فيها إلى عمله، يصل عمره للأربعين أو الخامسة والأربعين، بالخمسين أصبح معه مرض أسيد أوريك، بالخامسة والخمسين انزلاق فقرات، بالستين نعوته على الطرقات، وانتهى كل شيء، كلها على اثنتي عشرة سنة، حتى ينظم وضعه بالأربعين، والمنايا بين الستين والسبعين، كلما يموت ميت أسأل: كم عمره؟ أرى أن العمر يهبط معدَّله، يقول لك: ثمان وأربعون، اثنان وخمسون، واحد وخمسون، ثمان وثلاثون بالجلطة، لأن هذه الحياة قصيرة.

 

الجنة خير وأبقى:


﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ .. أي أن حياة الجنة في نعيم كبير وأبقى أي إلى أبد الآبدين، فالإنسان في الدنيا لو كانت أموره كما يريد لكن عنده قلق عميق وهو قلق الموت، كلما كبر سنه قرَّب، قرّب من النهاية، عنده قلق عميق المغادرة، أما في الآخرة:

﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)﴾

[  سورة الحجر  ]

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّه ِ﴾ لو آمنتم بمحمد يا كفار مكة، وخسرتم دنياكم، خسرتم دخلكم، مالكم، شأنكم، غناكم، بلدكم، حياتكم، أنتم الرابحون لأن: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ ، ماذا رأى سحرة فرعون ومضى أمامهم الحق؟

﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)﴾

[ سورة طه ]

اسمعوا الجواب، سحرة فرعون جاؤوا لتعزيز الباطل:

﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)﴾

[  سورة الشعراء  ]

﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)﴾

[  سورة طه  ]

كل ما تملك أن تنهي حياتنا..

﴿ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)﴾

[ سورة طه  ]

الآية الكريمة:

﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)﴾

[  سورة الأعلى  ]

أي أجمل بكثير وأطول إلى الأبد، والدنيا ضيقة وقليلة وأقصر: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .

 

سبب سعادة المؤمن في الدنيا أنه موعودٌ من الله بوعدٍ حسن:


 ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ .. أيتوازنون؟ واحد موعود من الله عزّ وجل بوعدٍ حسن: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ .. الحقيقة أنّ سبب سعادة المؤمن في الدنيا أنه موعودٌ من الله بوعدٍ حسن، هذا الوعد الحسن الذي وعده الله له يمْتَصُّ كل مشكلةٍ، كل ضيقٍ، كل فقرٍ، كل مرضٍ، كل خوفٍ، كل قلقٍ. 

مثل بسيط أضربه دائماً أن إنسانًا فقيرًا جداً، ودخله ألف ليرة، عنده ثمانِية أولاد، بيته بالأجرة، مريض، أي مصائب الدنيا كلها اصطلحت عليه، إذا كان له قريب شاب يملك مئتي مليون، عم وليس له أبناء، ومات بحادث، أليست كل هذه الثروة له؟ إلى أن يقبضها لابدّ من مرور سنة، لماذا هو في هذا العام من أسعد الناس مع أنه لم يقبض درهماً واحداً؟ لكن كل هذه الثروة تحوَّلت له، لكن هناك إجراءات، وحصر إرث، وضريبة تركات، ومشكلات، حتى يقبض أول مبلغ، حتى يبيع البيوت، لماذا هو في هذا العام لم يأكل طعاماً غير طعامه السابق، ولم يرتدِ ثيابًا جديدة، لم يقدر أن يضيف إلى حياته شيئاً، لكنه دخل في وعدٍ محقق، هذه هي المشكلة.

 

الوعدُ الحسنُ يمتصُّ الهموم:


المؤمن قد يبتليه الله بالفقر أو بالمرض، أو بزوجة سيئة، أو بأولاد متعبين، يمكن أن يكون هذا ابتلاء، قد يكون الإنسان مغموراً بمرتبة عادية في المجتمع، قد يكون له مشكلة مع أهله، على كل، هذا كله ابتلاء، لكن ما الذي يمتصُّ كل هذه الهموم؟ أن الله جلَّ في علاه وعده وعداً حسناً. إذا وعدتَ صانعاً أن يكون شريكاً، أصبح إنساناً آخر على الوعد، يُسر، ترتفع معنوياته، لذلك المؤمن له معنويات عالية، لأن الله وعده وعداً حسناً، بيته صغير، كبير، مظلم، مشرق، عال، منخفض، أجرة، ملك، كل ذلك سواء، صحته، شكله، زوجته درجة أولى، ثانية، ثالثة، خامسة، هذه كلها فترة مؤقتة: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ﴾ قطعاً إن وعد الله حق، معنى حق أي لابدّ من أن يتحقق: ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ خذها، خذ الدنيا كقارون: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ إلى آخر الآيات ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ .

إن شاء الله في الدرس القادم نتابع ردود الله عزّ وجل على قولهم: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ .. إنه قول قالوه، لكنه قول خطير جداً ينبئ عن جهلهم، الرد الأول، الرد الثاني، الثالث، الرابع، وهناك ردود أخرى تأتي إن شاء الله في الدروس القادمة، هذه الردود تؤكَّد أن هذه الآيات ليست مفككة، بل إنها مترابطة، وأن كلمة سورة تعني مجموعة ذات وحدة موضوعِيَّة، فالسورة شيء مترابط، لكن إذا قرأ إنسان القرآن قراءة عابرة يراها مفككة، وأن كل آية لها معنى، أما إذا رأيت أن القرآن الكريم كلام خالق الكون ففيه تسلسل وترابط.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور