وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الحج - تفسير الآيات 1 - 6 يا أيها الناس اتقوا ربكم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


  معنى الربوبية ولوازمها :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الأول من سورة الحج .

بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾ .

أيها الإخوة الأكارم ؛ يوجِّه ربنا سبحانه وتعالى الخطاب إلى الناس كافَّة ، لأن الناس جميعاً مدعوُّون إلى الإيمان به ، ومعرفته ، والاستقامة على أمره ، والدين الإسلامي رحمةٌ للعالمين ، وهو دين البشريَّة ، لذلك تكثُرُ كلمة يا أيها الناس. 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) ﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾

أمّا كلمة " ربّكم " فهذا اسم من أسماء الله ، الربُّ ، وفي معنى الرب تتلخَّص الربوبيَّة ، والرب هو الذي يُمِدُّ المخلوق بما يحتاج من أشياء مادية تعينه على حياته ، ومن تربيةٍ نفسية ، فإذا قُلت :

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)﴾

[ سورة الفاتحة  ]

أي أن هذه العوالم جميعاً ربُّها الله الذي يمدُّها ، هذا الهواء الذي نستنشقه هو من عند ربِّ العالمين ، هذا الماء الذي نشربه ، هذا الماء العَذْبُ الذي صفَّاه الله لنا عن طريق الشمس ، والسحب ، والأمطار ، والينابيع ، هو من عند الله رب العالمين ، هذا القمح الذي نأكله ، وهذه الخضراوات التي نأكلها ، وتلك الفواكه التي نأكلها ، وهذه الحاجات ، هذه المعادن التي أودعها الله في الأرض ، وهذه المخلوقات التي سُخِّرَت لنا ، إنها كلّها من عند الله رب العالمين ، لذلك أوَّل آيات الفاتحة .. ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، المُربي الذي يربِّي أجسادنا ، والذي يربي مشاعرنا ، والذي يربي عقولنا ، والذي يربي نفوسنا ، والذي يؤهِّلنا كي نسعد في الدنيا والآخرة ، إن معنى التربية واضحٌ في كلمة الرب. 

 

تعريف التقوى :


﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ الذي خلقكم ، والذي ربَّاكم ، والذي يسيِّركم .. ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ ما معنى اتقوا ؟ اتقوا مِن فعل وَقَى ، أي قوا أنفسكم عذابه بطاعته ، قوا أنفسكم شقاء الدنيا بالاستقامة على أمره ، قوا أنفسكم نار جهنَّم بالإيمان به ، فهذه التقوى بعض العلماء عبَّروا عنها تعبيراً لطيفاً فقالوا : " هو أن يُذْكَر فلا يُنْسَى ، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر ، وأن يُطَاع فلا يُعصَى " . 

ولها تعريفٌ آخر : الإنسان متى يتقي الخطر ؟ إذا رآه ، كيف نتقي الأخطار ؟ إنسان يمشي في غابة في ظلامٍ دامس ، فيها حفر ، وفيها أكمات ، وفيها حشرات ، وفيها أفاعٍ ، وفيها ثمرات ، كيف يتَّقي الخطر؟ كيف يتقي الوقوع في الحفر ؟ كيف يتقي الأكمات ؟ كيف ينجو من الأفاعي والحشرات ؟ هذا يكون بمصباحٍ كشَّاف يرى به الحفرة فيحيد عنها ، يرى بهذا المصباح الحشرة فيقتُلها ، يرى الثمرة فيأكلها ، فأصل التقوى أن تقي نفسك الخطر بطاعة ربِّك ، هذا الأصل.

ولكن السؤال الآخر : كيف تتقي هذا الخطر ؟ أن تستنير بنوره ، بنور الله ترى الخير خيراً والشر شراً ، بنور الله ترى الحقَّ حقَّاً والباطل باطلاً ، بنور الله ترى ما يجوز ، وما لا يجوز ، ما يُسعدك ، وما يشقيك ، بنور الله تهتدي ، بنور الله تُبْصِر . 

كيف أن العين على عظمتها ، وعلى دقَّة تكوينها لا قيمة لها من دون أنوار ، لو أن الإنسان يملك عينين حادَّتين ، أعلى درجة في الرؤية ، وجلس في بيتٍ مظلم ما قيمة العَينين ؟ لا قيمة لهما إلا بضياء الشمس ، أو بضياءٍ آخر ، قيمة العين بالنور الذي يسقط على الأشياء فتراه العين ، وقيمة العقل بنور الله عزَّ وجل ، العقل من دون نور الله عزَّ وجل يتيهُ ، ويضلُّ ، ويكفر . 

﴿  إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)  ﴾

[  سورة المدثر  ]

فلذلك : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ أي اتقوا عذابه في الدنيا ، اتقوا علاجه ، اتقوا ناره ، اتقوا غضبه ، اتقوا معصيته ، مُطْلَقَة ، الفعل إذا لم يُذْكَر مفعوله أُطْلِقَ معناه ، اتقوا ماذا ؟ اتقوا معصيته ، اتقوا البعد عنه ، اتقوا عذابه في الدنيا ، واتقوا عذابه في الآخرة ، كيف ؟ بمعرفته ، بمعرفة أمره ، بطاعته ، بالتقرُّب إليه ، باستغفاره ، بالتوبة إليه ، بالإنابة إليه ، ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ .

 

معرفة الله لا تكون إلا بالاستقامة على أمره :


الآن السؤال اللاحق : كيف نعرفه ؟ لابدَّ أن تستقيم على أمره ، إذا استقمت على أمره تُقْبِلُ عليه ، فإذا أقبلت عليه ألقى الله في قلبك نوراً يهديك إلى سواء السبيل . 

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)﴾

[ سورة النور ]

بنور الله عزَّ وجل تهتدي .. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ أي ليس العاقل هو الذي يعرف الحقيقة بعد فوات الأوان ، والله الذي لا إله إلا هو لابدَّ من أن نعرف الحقيقة جميعاً ، ولكنَّ البطل منَّا من يعرفُها في الوقت المناسب ، والخاسر مَن يعرفها بعد فوات الأوان ، ألم يعرف فرعونُ الحقيقة ؟ نعم عرفها ، ولكن بعد أن أدركه الغرق قال :

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس  ]

هل نفعه إسلامُهُ ؟ لم ينفعه إسلامه ، هل نفعته معرفته ؟ لم تنفعه معرفته ، فلذلك : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ وأنتم في الدنيا ، وأنتم أصحَّاء ، وأنتم أشدَّاء ، وأنتم في أَوْجِ نشاطكم اتقوا ربكم ، أي اعرفوا أمره أولاً كي تطيعوه ثانياً ، كي تنجوا من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، ولا يكون معرفة أمر الله عزَّ وجل إلا بمعرفة كتابه وبالإقبال عليه .

 

حقيقة الزلزلة العظمى :


الله سبحانه وتعالى بعد هذا الأمر يأتي بالمؤيِّد القانوني ، ما من نظامٍ ، ولا قرارٍ ، ولا مرسومٍ إلا ويُذَيَّل بالعقوبات التي تنزل بساحة المُخالِف ، فربنا سبحانه وتعالى يبيِّن أنكم إذا لم تتقوا الله عزَّ وجل ، إذا لم تتقوا ربكم فإن : ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ إذا كان العظيم يقول عن هذه الزلزلة : ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ فما هي هذه الزلزلة ؟ العظيم يقول لك : عظيم ، لو قال لك طفلٌ صغير : معي مبلغٌ كبير ، قد يكون هذا المبلغ صغيراً جداً ، ولكن بالنسبة إليه رآه كبيراً ، ولكن إذا قال لك رجلٌ من أغنى أغنياء العالَم : معي مبلغٌ كبير ، فكلمة كبير إذا لفظ بها إنسانٌ غني جداً فلها معنىً كبير ، فإذا قال الله عزَّ وجل - ولله المثل الأعلى - إذا قال : ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ ونحن في الدنيا نستمع إلى بعض الكوارث ، بعض الفيضانات ، بعض البراكين ، بعض الزلازل ، الأخبار التي نستمع إليها لشدَّة هولها لا تُصَدَّق ، ونحن في الدنيا نسمع هذه الأنباء ، فما بالك بالأخبار التي يخبرنا الله عنها يوم تقوم الساعة ؟! ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ ﴾ الزلزلة : الاهتزاز الشديد الذي يغيِّر كل شيءٍ عن موقعه ، فعل زَلَّ فعل ثلاثي مضعَّف ، أما فعل زَلْزَلَ ففيه مبالغة ، وفيه تكرار ، قلَّ وقلقل ، دمَّ ودمدم ، جرَّ وجرجر ، عسَّ وعسعس ، هذا الثنائي المُضَعَّف فيه معنى المبالغة ، طبعاً زلَّ الشيء عن مكانه أيْ ابتعد عن مكانه ، أما زلزله لمرَّاتٍ كثيرة .. ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ يبدو أن هناك زلزلة تهزُّ أركان الدنيا ؛ تهزُّ الجبال ، تهزُّ الأبنية ، تهزَّ كل شيء ، تَهُزُّ النفوس ، ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا ﴾ جميعاً .. 

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)  ﴾

[ سورة يونس ]

ليلاً على أناس ، ونهاراً على أناس ، أي أن هذا الأمر يَعُمُّ الكرة الأرضيَّة ، وهذه إشارةٌ لطيفة إلى كرويَّة الأرض ، ليلاً أو نهاراً .. ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ ..

السؤال الآن : لِمَ لَمْ يقل الله عزَّ وجل : يوم ترونها تذهل كل مرضعٍ ؟ لأن الصفات الخاصَّة بالنساء لا تؤَنَّث ، تقول : امرأةٌ طالق ، وامرأةٌ ثيِّب ، وامرأةٌ بِكر ، وامرأةٌ مُرضع ، وامرأةٌ حامل ، أما إذا قلت : امرأةٌ حاملةٌ أي على ظهرها ، إذا قلت : امرأةٌ حامل أي في بطنها ، إذا قلت : امرأةٌ مُرضع أي أنها في طور الإرضاع ، ولو أنها الآن لا ترضع طفلها ، هذه امرأةٌ مرضع ، أي منذ فترةٍ قد ولَدَتْ ، وهي في طور إرضاع صغيرها ، أما إذا قلت : امرأةٌ مرضعةٌ أي أنها تضع صغيرها على ثديها ، هذه أبلغ ، كل امرأةٍ في طور الإرضاع اسمها : مرضع ، أما المرأة التي تضع صغيرها على ثديها ، وهو يرضع من ثديها ، يقال لهذه المرأة الآن : امرأةٌ مرضعةٌ ، هذا هو الفرق بين مُرضع ومرضعة ، فــ ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ أيها الناس ترونها جميعاً . .﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ تنصرف عنه ، وليس من دافعٍ على وجه الأرض أقوى من دافع الأمومة ، هناك دافعُ الطعام والشراب ، هذا الدافع الأوَّل ، هناك دافع الجنس ، وهناك دافع الأمومة ، أقوى الدوافع التي خلقها الله في الجِنْسِ البشري هو دافع الأمومة ، ومع ذلك : ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ تذهل عن وليدها ، تلقيه جانباً لهول ما ترى ، وفي الآية لفتةٌ لطيفة : ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ﴾ هنا ترونها ، وهنا ترى ، هؤلاء الناس رأوا زلزلة الساعة ، ثم أغمي عليهم جميعاً ، والخطاب الآن للمؤمن ، يوم ترونها أيها الناس جميعاً ، حينما تبدأ جميع الناس يرونها ، ولكن بعد قليل : ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ في هذه الآية لفتةٌ بلاغيَّة ، كونُ فعل ترونها بالجَمْعِ ، ثم أن يأتي هذا الفعل بالمُفرد ، فهذه المرضعة والرضيع على ثديها تلقيه جانباً لهول ما ترى .. ﴿ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ .. الحِمْل الشيء المادي ، وأما الحَمْل فهو الشيء الذي في بطن المرأة ، أو الثمرُ الذي على رؤوس الأشجار ، يقال له : حَمْل ، أيضاً لشدَّة الهول ربما يحدث الإسقاط ، وهذا معروف في الطب ، أن هَزَّةً عنيفةً جداً تودي بالجنين ، ويصبح سِقطاً ، ويسقط لهول الفاجعة ، وبعضهم يفسِّر هذه الآية أن كل نفسٍ تحمل شيئاً من الشهوات ، فإذا رأت هذا الفزع الأكبر ألقت ما فيها من شهواتٍ ، ومطامح ، وآمال ؛ والتفتت تبحثُ عن طريقٍ للنجاةِ من هذا الخطر .. ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ لذلك يا أيها الناس اتقوا ربَّكم ، هذا هو المؤيِّد القانوني ، اتقوا ربكم لئلا تقعوا في هذه الورطة ، لئلا تصيبكم هذه الزلزلة التي ﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾  حقيقةً أم مجازاً ؟ ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ ..

من علامات المَجاز أنه يَصْدُقُ عليه ضِدُّه ، فلانٌ بهيمةٌ ، وليس بهيمةً ، أي فلانٌ في تفكيره كالبهيمة ، هذا مجاز وليس حقيقة ، لو قلنا : هذه بهيمةٌ ، وأشرنا إلى دابَّة ، فهذه حقيقة ، أما إذا أشرنا إلى إنسان بأنه بهيمة ، ثم قلنا : وليس ببهيمة ، أي أنه يفكِّر ، ويتصرَّف كما لو أنه بهيمة ، لذلك : ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ ليسوا سُكارى ، ولكنَّ هول الفاجعة ، وهول الزلزلة جعلتهم كالسكارى ، وقلت لكم مرَّةً : إن طائرةً كانت على وَشَكِ الوقوع ، وكان احتمال سقوطها تسعين في المئة ، أراد قائد هذه الطائرة أن يُبَلِّغ الركَّاب بضرورة وضع الأحزمة ، كلَّف أحد المضيفين أن يبلغ الركَّاب ، لا أحد يستمع ، هؤلاء الذين أمامه كأنهم لا آذان لهم ، خاطبهم أول مرَّة ، ثاني مرَّة ، ثالث مرَّة ، لا أحد يستمع إلى قوله ، إنهم غارقون في همومهم ، هذا يتصوَّر نفسه وقد خلَّف أولاداً أيتاماً ، وهذا يذكر امرأته ، وهذا يذكر ثروته ، وهذا يندب حظَّه ، وهذا يلطِمُ وجهه ، وهذا ، وهذا ، هذا المضيف توسَّم خيراً في أحد الركَّاب الهادئين قال : هذا الراكب لعلَّه بإمكانه أن يقنع الركَّاب بوضع الأحزمة ، فتوجَّه إليه فإذا هو مُغْمَى عليه .. ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ هذا في الدنيا ، رُكَّاب سفينة إذا هاج البحر ، ركَّاب طائرة إذا واجهت مَطَبَّاتٍ في الجو ، سُكَّان بناء إذا احترق البناء ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ فيكف بهذه الزلزلة التي لابدَّ واقعة ؟! فيا أيها الناس اتقوا ربكم ، أي هذا الفكر لا ينبغي أن يُعطَّل ، أثمن هديةٍ أهدانا الله إيَّاها ، يجب أن يعمل ، إذا أعملنا فكرنا عرفنا ربنا ، واستقمنا على أمره ، وسعدنا في الدنيا والآخرة . .﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ أيْ اتقوا غضبه ، اتقوا معصيته ، اتقوا عذابه ، اتقوا هذه الزلزلة بطاعته ، بمعرفته ، بالاستقامة على أمره ، بالائتمار بما أمر ، بترك ما نهى عنه .. ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ وقوله تعالى : وترى ، وكأن المؤمن ينجو من هذا العذاب ، يُخَاطَب الآن : يا أيها المؤمن .. ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ أي أنت في صحو ، ولست في سُكر ، أنت مخَاطَب . 

 

عذاب الله عذاب شديد في الدنيا والآخرة :


﴿ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ .. إذا أخذ ربنا عزَّ وجل القرى وهي ظالمة فإنَّ أخذه أليمٌ شديد ، أي هذه الآية لا تحتاج إلى برهان ، أخبار الفيضانات ، والزلازل ، والبراكين ، والأوبئة ، هذا المرض الذي انخلعت له القلوب في أوروبا وأمريكا .. مرض الإيدز ، صار هناك شبحٌ مخيف ، هذا عذاب الله في الدنيا ، وعذاب الله في الآخرة أشد ، فإذا عرفنا شِدَّة العذاب التجأنا إليه من عذابه ، لأنه لا ملجأ منه إلا إليه . 


  الباطل باطل وهو زاهق لا محالة :


﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ﴾ .. الإنسان أحياناً يُقْحِم نفسه في موضوعات لا علم له بها ، يتحدَّث عن ذات الله ، وعن أفعاله ، وكأنَّه هو نِدٌّ له ، يتحدث عن ذات الله ، وعن أفعاله ، وهو ليس أهلاً أن يعرف بُنْيَة جسمه .. ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾ يقول : لا بعث بعد الموت ، تقول هذا الكلام ، ما الدليل ؟ من قال لك : إنه لا بعث بعد الموت ؟ يقول لك : إن الله لا يحاسب الناس كما تقول ، هل معك دليل ؟ أنا أقول لك آية قرآنيَّة ، هذا الكتاب قَطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، أنا آتيك ببرهان ، ببرهان عقلي ، وواقعي ، ونقلي ، أنت تقول : الله لا يحاسب الناس أين الدليل ؟ قال أحدهم : إن الله لم يُحَرِّم الخَمْرَ ، كيف ؟ قال : لأن الله عزَّ وجل قال : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾

[  سورة المائدة  ]

لم يقل : هو محرَّمٌ ، قال : فاجتنبوه ، أي اجتنابهُ خيرٌ لكم ، أي لم يحرِّم الخمر ، الاجتناب أشدُّ أنواع التحريم ، لأنك إذا أُمِرْتَ أن تجتنب شيئاً يجب أن تبقي بينك وبينه هامشَ أمان ، هذا الاجتناب ، وربنا عزَّ وجل في آيةٍ أخرى تحدَّث عن الأصنام فأمرنا أن نجتنب عبادتها ، فالأمر بالاجتناب من أعلى درجات النَهْي ، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ، لا يوجد معه علمٌ ، ما تعلَّم حقائق ، يناقش بالهوى ، يناقش ليُثْبِت للناس أنه على حق  وهو على باطل ، يناقش بمنطق تبريري لا بمنطق تقريري ، بالتبرير ، يريد أن يؤكِّد لك أنه ليس مخطئاً ، هذا هو الأمر ، هو يدافع عن نفسه فقط ، يريد أن يجعل للباطل أرجلاً يقف عليها ، والباطل باطل ، زاهق لا محالة .. ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ﴾ .

 

من نتائج موالاة الشيطان الضلال في الدنيا والجحيم في الآخرة :


هذا الشيطان الذي يتبعه تَمَرَّد على الله عزَّ وجل ، وهذا الشيطان الذي يتبعه ﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ أي من الحقائق الثابتة القَطْعِيَّة أنَّ كل من تولى شيطاناً ، وسار بتوجيهه ، واتبعه ، فإن هذا الشيطان سيهدي صاحبه إلى العذاب في الدنيا والآخرة ، ﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ ﴾ كلمة " كُتِبَ " في القرآن الكريم تعني الحقيقة الثابتة ، السمة الرئيسة ، القانون الذي لا يتبدَّل ، ولا يتغيَّر ، ولا يتحوَّل .. ﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ هذا الشيطان إذا اتبعه الإنسان يضلُّه عن هدفه ، يضله عن ربه ، يضله عن سعادته ، ويهديه لا إلى الجنَّة ، لا إلى السعادة ، يهديه إلى عذاب السعير ..

 

الإيمان بالبعث بعد الموت :


﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ .. أي الإيمان بالبعث بعد الموت ، أي أن الإيمان باليوم الآخر من لوازم الإيمان ، بل من أركان الإيمان ، بل هو الركن الأول الذي يأتي بعد الإيمان بالله عزَّ وجل ، لأنك إن لم تؤمن أن هناك حياةً أبديَّة ، وأن فيها حساباً دقيقاً لكل ما يجري على وجه الأرض إنك لن تستقيم على أمر الله ، لن تستقيم على أمر الله إلا إذا آمنت بحياةٍ بعد هذه الحياة ، تُوفَّى فيها كل نفسٍ ما عَمِلَت ، يُعطى كل ذي حقٍّ حقَّه ، يُؤخذ على يد الظالم ، ويُعطى المظلوم حقَّه من الظالم ، إن لم تؤمن بهذا اليوم بعد الموت فالإيمان باطل ، لأن أركان الإيمان أن تؤمن بالله ، وباليوم الآخر ، وبملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر خيره وشرِّه من الله تعالى .. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ﴾ أيْ في حالة شك ، في حالة ليس فيها تصديق كافِ .. ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ .. كل واحد له وزن ، ستون ، سبعون ، خمسة وسبعون ، ثمانون ، حينما وُلِد كان يزن ثلاثة كيلو ، من أين جاء بهذا الوزن ؟ من الطعام والشراب ، وهذا الطعام والشراب من أين جاء ؟ من التراب ، يُسقى بماءٍ واحد ، هذه المحاصيل ، هذه الخضار ، هذه الفواكه ، هذا العُشب والكلأ الذي تأكله الأغنام فتُصبح سمينةً ، إن كل المخلوقات من بشرٍ ومن غير البشر أصلها من تراب ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ هذا بعض التفاسير .

تفسيرٌ آخر ، سيدنا آدم الذي هو أبو البشر خُلِقَ من تراب ، ثم نفخ الله فيه من روحه فجعله بشراً سويًّا ، إذاً إمّا أنّ سيدنا آدم وهو أبو البشر خُلِقَ من تراب ، وإما أن هذا الماء الذي يُقْذَفُ في رحِم المرأة أصله من تراب ، وإما أن هذا الجسم الذي نما أصله من ترابٍ بمعنى أن الغذاء أصله من تراب ، وان الغذاء أصل هذا الجسم ، فالإنسان أصله من تراب ، كل هذه المعاني صالحة وجيِّدة .

 

مراحل الجنين في بطن أمه :

 

1 ـ النطفة :

 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ .. هذه النطفة ، هذا الماء الذي يُخَلَّق في الخصيتين ، وهناك حكمةٌ بالغة من كون هاتين الخِصيتين خارج الجسم ، لأن حرارة الجسم تُفْسِدُ تصنيع هذه الحيوانات المنويَّة ، لو أن الحرارة في الخصيتين كانت كما هي في الجسم لما خُلِّقَت هذه الحوينات المنويَّة ، على كل هناك حكمةٌ بالغة في هذا الخلق .

شيءٌ آخر ؛ أن الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات يزيد عددها في اللقاء الواحد عن ثلاثمئة مليون حيوان منوي ، لا يصل منها إلى البويضة التي سوف تلقَّح بأحدها إلا خمسمئة حيوان ، وأن هذه الحيوانات المنويَّة تمتحن ، تُخْتَبَرُ قوَّتها في أثناء الطريق إلى لقاء البويضة ، البويضة تخرج من المبيض في أحد الأنبوبين اللذين يؤديان إلى الرحم ، هنا يتم اللقاء بين الحيوانات المنوية وبين البويضة ، من ثلاثمئة مليون حُوين منوي لا يصل إلى البويضة إلا خمسمئة ، وهذه الخمسمئة تختار البويضة واحداً منها هو أقواها .

 لذلك في رأس هذا الحُوين المنوي مادّة ، حينما يتجه نحو البويضة تنفجر قلنسوة في رأسِهِ فيخرج منها سائلٌ يذيب جدار البويضة ، والبويضة تستجيب لهذا الدخول ، وبعد أن يدخل هذا الحيوان المنوي إلى البويضة تُغْلِق الطريق على جميع من كان حولها من هذه الحوينات الخمسمئة ، فهذه النطفة المكوَّنة من ثلاثمئة مليون تختار البويضة أقواها للتلقيح.

أما مبيض المرأة فالله سبحانه وتعالى يخلق فيه ستة ملايين بويضة ، أيْ في مبيض الفتاة الصغيرة ما يزيد عن ستة ملايين بويضة فإذا بَلَغَت هذه الفتاة سنَّ المحيض لا يبقى في مبيضها إلا ثلاثون ألف بويضة ، والله سبحانه وتعالى لا يُنْضِجُ من هذه الثلاثين ألفاً إلا أربعمئة بويضة فقط ، وسبعٌ وثمانون بالمئة من هذه البويضات تَسْقُطُ في أثناء الدورة من دون أن تعلم المرأة أن هذه البويضة قد لُقِّحَت ، وقد أُشير إلى هذا في بعض الآيات القرآنيَّة وبعض الأحاديث النبويَّة ، حين الحديث عن المضغة المخلَّقة وغير المخلَّقة ، يقول عليه الصلاة والسلام مشيراً إلى الحقيقة العلمية الكُبرى ، أن هذه الحوينات البالغة ثلاثمئة مليون ، الجنين يُخْلَقُ من بويضةٍ ملقَّحةٍ بحوينٍ منويٍّ واحد ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام مسلم : عن أبي سعيد الخدري  :

(( سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، عَنِ العَزْلِ ، فَقالَ : ما مِن كُلِّ المَاءِ يَكونُ الوَلَدُ ، وإذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ شيءٍ ، لَمْ يَمْنَعْهُ شيءٌ . ))

[ صحيح مسلم ]

هذه الحقيقة لم يُتح من قبل أن تُكشَف بالمخابر ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام:

﴿  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)  ﴾

[  سورة النجم  ]

(( مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ )) ،  من بعضه القليل ، من أقلَّ من بعضه ، ويقول عليه الصلاة والسلام مشيراً إلى الحقيقة الثانية : 

(( عن علقمة بن قيس  عنِ ابنِ مسعودٍ قالَ : إذا وقعتِ النُّطفةُ في الرَّحِمِ بعثَ اللَّهُ ملَكًا فقالَ  : يا ربِّ مُخلَّقةٌ أو غيرُ مخلَّقةٍ ؟ فإن قالَ غيرُ مخلَّقةٍ مَجَّها الرَّحِمُ دمًا – فكان المحيض -  وإن قالَ مُخلَّقةٌ قالَ  : يا ربِّ فما صِفةُ هذِهِ النُّطفةِ ؟ ))

[ ابن حجر العسقلاني  :فتح الباري لابن حجر  : حكم المحدث :إسناده صحيح ]

أيْ هذا الحيض هو مضغةٌ غير مخلَّقة ، الشيء الذي يلفت النظر أن المجرى بحسب التحاليل الطبيَّة حامضي القِوام ، والمجرى الحامضي هدفه أن يقتُل كل جرثوم ، بينما الحوين المنوي يسبح في سائلٍ قلوي ، والقلوي لا يتأثَّر بالحامضي ، وهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى ، لو أن المجرى حامضي ، والماء الذي تسبح فيه الحوينات حامضي لهلَكَت هذه الحوينات ، ولكنَّ السائل الحامضي يتناسب مع السائل القُلوي ..

 شيءٌ آخر عجيبٌ جداً ؛ هو أن كل خليةٍ في الإنسان في نواتها ستة وأربعون موَرِّثًا صبغيًا ، كل خليَّةٍ ؛ خلايا العظام ، وخلايا الشعر ، وخلايا النسيج ، وخلايا الجلد ، أية خليَّةٍ على الإطلاق مؤلَّفة من غشاء خارجي ، ومن هيولى ، ومن نُويَّة ، والنوية فيها مورِّثات ، كروموزومات ، إلا المبيض والحُوين المنوي ، هاتان خليَّتان ، بل إن البويضة أكبر خليَّةٍ في الجنس البشري ، البويضة فيها ثلاثة وعشرون مورِّثاً بدل ستة وأربعين ، وكذلك الحُوين فيه ثلاثة وعشرون مورِّثًا ، فإذا التقت البويضة بالحوين ، واتحدا أصبحت خليةً فيها ستة وأربعون مورِّثاً ، قاعدة لا تشُذ أبداً إلا في البويضة وفي الحوين ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ أساساً في الخصية مجرى يزيد طوله على نصف كيلو متر تُصَنَّع فيه الحوينات ، وهذه الحوينات يجري تصنيعها في ثماني عشرة مرحلةً ، فهذا الماء الذي يُقْذَف كان قد صُنِّعَ قبل ثماني عشرة مرحلةً حتى أصبح جاهزاً للقذف ، شيءٌ يأخذ بالألباب ، شيءٌ لا يُصَدَّق .. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ فنطفة الذكَر الحيوان المنوي ، ونطفة المرأة البويضة . وأما النطفة الأمشاج فقد قال تعالى :

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)  ﴾

[  سورة الإنسان  ]

قال العلماء : " النطفة الأمشاج هي البويضة الملقَّحة " ، أي مورِّثات الحيوان المنوي التقت مع مورِّثات البويضة فشكَّلت ستةً وأربعين زوجاً ، لذلك عُقِدَ في دمشق قبل سنواتٍ عدَّةٍ أسبوعٌ للعلم ، وقد أُلْقِيَت فيه محاضراتٌ من شَتَّى أنحاء العالم حول تحسين النسل ، فما كان من أحد الأطبَّاء - رحمه الله - إلا أن وقف وقال : إنَّ فحوى كل هذه المحاضرات ما ورد في كلمات : اغتربوا ولا تضووا  .

أي هذه المورِّثات إذا كان هناك قرابة فالضعف يُكَرَّس ، أما إذا كان هناك تباعد فالصفات الأقوى تغلب الصفات الأضعف ، فدائماً كلَّما تباعد الزوجان جاء النسلُ قوياً ، وكلَّما اقترب الزوجان جاء ضعيفاً ، فإذا كان هناك رضاعة جاء النسل مشوَّهاً ، لذلك .. 

(( عَنْ عَائِشَةَ ، أنَّهَا أَخْبَرَتْهُ : أنَّ عَمَّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ يُسَمَّى أَفْلَحَ . اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا فَحَجَبَتْهُ ، فأخْبَرَتْ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ . فَقالَ لَهَا : لا تَحْتَجِبِي منه ، فإنَّه يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ . ))

[ صحيح مسلم ]

فلذلك حكمةٌ بالغة أن البويضة وحدها ، والحوين المنوي وحده فيه من المورِّثات ما يساوي نصف كل خليَّة ، بحيث لو اتحدا لأصبحا خليَّةً كاملة ، هذه أوَّل مرحلة : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾ .  

2 ـ العلقة :

قال العلماء : هذه البويضة الملقَّحة – وهذه حقائق مذهلة - بعد أربعين ساعة تصبح أربع خلايا ، وبعد ثمانين ساعة تصبح اثنتين وثلاثين خليَّة ، وبعد خمسة أيَّام تصبح كالتوتة تماماً ، تُسمَّى عند العلماء التوتة لشدَّة انقسامها ، أيْ تنقسم إلى عشرة آلاف خليَّة ، من خليَّةٍ واحدة خلال خمسة أيَّام تنقسم إلى عشرة آلاف خليَّة ، يُسميها العلماء : التوتة ، هذا الانقسام يجري في القناة ما بين المبيَض وبين الرحم ، والشيء العجيب أن هذا الانقسام لو رافقه تَضخم لعلق في الطريق ، لأن هذه القناة كالأنبوب ، لو كَبُرت هذه البويضة أثناء انقسامها لما أمكن أن تتابع سيرها ، لذلك يجري هذا الانقسام الشديد إلى عشرة آلاف خليَّة دون أن يزداد الحجم من أجل أن تصل هذه البويضة إلى الرحم .

الآن ربنا عزَّ وجل سمَّاها علقة ، العُلماء القُدامى فسَّروا العلقة بأنه دمٌ مُتَجَمِّد ، ولكن البحوث الحديثة تثبت أن التسمية لها علاقةٌ وشيجة بطبيعة العلقة ، إنها من التعَلُّق .

أولاً : هذه البويضة في سطحها الخارجي لها خمائل ، كيف الآن بعض المحافظ بدل القفل يوجد قطعة من القِماش فيها خملات وخَملات أخرى تعلق عليها ، كذلك هذه البويضة لها خمائل ، لمجرَّد أن تصل إلى جدار الرحم ، وفي منطقةٍ خاصَّةٍ من جدار الرحم فإنها تَعْلَق ، وأما خلايا التوتة أو هذه البويضة الملقَّحة فيها خلايا آكلة تأكل من جدار الرحم حتى تنغرس فيه ، وبعد ذلك تأتي المَشيمة ، وتُساعد على لصوق هذه البويضة في جدار الرحم ، وبعدها يأتي المِعْلاق ، وهو غشاءٌ يربط هذه البويضة بالرحم ربطاً كلياً .

أربعة أنواع من التعْلِيق ، تعليق خميلة البويضة ، وتعليق خميلة المشيمة ، والخلايا الآكلة ، والمِعلاق ، هذه كلُّها من أجل أن تلتصق البويضة بجدار الرحم ، وجدار الرحم كأنه عاقل يعرف أن هناك ضيفاً عزيزاً ، طبيعة الجسم البشري تلفظ كل شيء إلا الرحم فإنه يستقبل هذه البويضة مع الترحيب ، ومع الضيافة ، فإن الدماء في هذه المنطقة التي تعلق فيها البويضة تزداد بشكلٍ غريب ، وما الدورة الشهريَّة إلا هذه الدماء التي أُعِدَّت لاستقبال البويضة فلمَّا سقطت البويضة نزلت معها هذه الدماء ، شيءٌ لا يُصَدَّق في هذه العلقة .. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾ من خمسة إلى سبعة أيَّام هذه العلقة تصبح كُرَةً مجوَّفة ، ويتشكَّل لها طبقة خارجيَّة وطبقة داخليَّة ، الطبقة الخارجيَّة تُسهم بأخذ الغذاء ، والطبقة الداخلية تسهم بتشكيل الجنين ، هذه علقة منظرها من بعيد قطعة من الدم المتجمِّد . 

بالمناسبة لا تزيد ثخانتها على ربع ميليمتر ، الحديث لا يزال عن هذه البويضة الملقَّحة التي أصبحت كرةً مجوَّفة ، وقد انقسمت إلى عشرة آلاف خليَّة ، ولصقت بجدار الرحم ، ولا يزيد حجمها عن ربع ميليمتر ، لا تزال . 

3 ـ المضغة المخلقة وغير المخلقة :

ثُمَّ يقول الله عزَّ وجل : ﴿ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ .. في اليوم العشرين ، وبعد عشرين يوماً تنقلب هذه العلقة إلى مضغة ، مضغة أي قطعةٌ فيها ملامح ، فيها خطوط ، أو فيها كُتَل ، أو فيها نتوءات - مضغة مخلَّقة - يسميها العلماء : الكتل البَدَنِيَّة ، يقولون : هذا الرأس ، سهم ، وهذا الجذع ، وهذه الأطراف ، شيءٌ غريب ، كتلة لحم تشبه المُضغة ، أيضاً حجمها صغير جداً ، حجمها صغير لكن فيها بعض المَلامح ، فيها كتل ، فيها نتوءات ، فيها خطوط ، فيها أقواس ، هذه المضغة . 

المخلَّقة وغير المخلَّقة ، المخلَّقة تبدو ملامح الأعضاء ؛ ملامح الرأس ، ملامح الجذع ، ملامح الأطراف ، غير المخلَّقة قطعة من اللحم أي مضغة بشكل موحَّد ، وبعضهم قال : " غير المُخلَّقة التي تسقط ، والمُخلَّقة التي يستمرُّ بناؤها " ، هذا تفسيرٌ آخر ، كل هذا في الأسبوع الرابع ، ولكن في الأسبوع الخامس والسادس تتحوَّل هذه المُضغة التي يسميها العلماء  الكتل البدنيَّة إلى عظام ، وفي الأسبوع السادس والسابع تُكْسَى هذه العظام بالعضلات ،

ويقول عليه الصلاة والسلام في حديثٍ شريفٍ يُعَدُّ من معجزات النبوَّة ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم : عن عامر بن واثلة أبو الطفيل  :

(( أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ يقولُ : الشَّقِيُّ مَن شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ ، وَالسَّعِيدُ مَن وُعِظَ بغَيْرِهِ ، فأتَى رَجُلًا مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يُقَالُ له : حُذَيْفَةُ بنُ أَسِيدٍ الغِفَارِيُّ ، فَحَدَّثَهُ بذلكَ مِن قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَقالَ : وَكيفَ يَشْقَى رَجُلٌ بغيرِ عَمَلٍ؟ فَقالَ له الرَّجُلُ : أَتَعْجَبُ مِن ذلكَ؟! فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ : إذَا مَرَّ بالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً ، بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكًا ، فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ، ثُمَّ قالَ : يا رَبِّ ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شَاءَ ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ ، ثُمَّ يقولُ : يا رَبِّ ، أَجَلُهُ؟ فيَقولُ رَبُّكَ ما شَاءَ ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ ، ثُمَّ يقولُ : يا رَبِّ ، رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شَاءَ ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ المَلَكُ بالصَّحِيفَةِ في يَدِهِ ، فلا يَزِيدُ علَى ما أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ . ))

[ صحيح مسلم ]

(( إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ أي ستَّة أسابيع بالضبط ، أي ستَّة في سبعة يساوي اثنين وأربعين .. إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا ، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَىُ .. وليس في الإمكان لو شققنا بطن المرأة وأخذنا هذه المضغة ، ليس في الإمكان أن نعرف جنسها قبل مرور اثنتين وأربعين ليلةً .. ثُمَّ قَالَ : يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ))

هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم يُعدُّ من معجزات النبوَّة ، أي في الأسبوع السادس مع بداية الأسبوع السابع تنقلب المُضغة المُخَلَّقة إلى عظام ثمَّ تُكسى هذه العظام عضلاتٍ أي لحماً ، وعندها تتحدد الأعضاء ويُعرف ما إذا كان ذكراً أو أنثى بنصِّ الحديث الشريف . ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ لو وازنت بين صورة الطفل المولود حديثاً بما حباه الله من جمال وتناسق ، وإلى منظر الجنين في بطن الأم لهالك المنظر ، منظرٌ مخيف ، الجنين وهو مُضغة ، وهو علقة ، وهو في أطوار خلقه منظر غير مألوفٍ إطلاقاً ، ولكن الله الجميل يُسْبِغُ على هذا المخلوق بعد الولادة جمالاً ، وتناسقاً ، ونضرةً . 

 

علة خلق الإنسان في المراحل السابقة بيان لعظمة الله :


﴿ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ .. نحن جميعاً كنَّا كذلك ، كنَّا حيواناً منوياً دخل إلى بويضة ، وانقسمت هذه البويضة إلى أربع خلايا ، ثم إلى اثتنين وثلاثين خليَّة ، ثم إلى عشرة آلاف خليَّة ، وهذه البويضة سارت في القناة إلى الرحم وانغرست ، وتمَّت بأشكال تأخذ بالألباب . 

الآن توصَّل العلماء إلى إدخال مناظير إلى الرحم ، وتصوير الجنين ، عندي صور حول هذا الموضوع لا تصدَّق ، لِما تسبِّب لدى الإنسان من دهشة ، هكذا يتمُّ الخلق ؟ كيف هذا الجنين الصغير يسبح في سائل حوله غشاء ، وغشاء ، وغشاء ، شيءٌ يدعو إلى العجب ، وإلى تسبيح الله وتعظيمه . 

 

تقدير ما يستقر في الأرحام من الأجنة :


﴿ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ﴾ .. فهناك الجنين الذي يَسْقُط يسمى السِّقط ، وهناك الجنين الذي ينمو ويولد ، أما الحكمة البالغة فهي أن كل جنينٍ مشوَّهٍ يسقط ، هذا هو الأصل ، رحمةً بالأم والأب ، رحمةً بالإنسان أن كل جنينٍ مشوَّهٍ يسقط ، وهذه الأجنَّة التي تولَد مشوَّهةً نادرة جداً ، وهذه الندرة لها حكمةٌ بالغة من أجل أن يبقى الأب والأم متعلِّقين بفضل الله عزَّ وجل ، يرجوان من الله السلامة لهذا المولود ، أمَّا هو في الأصل كل جنينٍ فيه خَلَلٌ في بنيته فإنه يسقط ، وهذا مصداق قوله تعالى : ﴿ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ والأجل محدَّد بالساعات والدقائق ، ولكن لصعوبة الحساب لا يدري الزوج ولا الزوجة متى بالضبط تمَّ التلقيح ، لكن لو عَرَفَ الزوج أو الزوجة متى تمَّ التلقيح لعرفا بالضبط متى الولادة ، لأن هذا الأجل مسمَّى لا ينقص ولا يزيد .  


مراحل الإنسان بعد خروجه إلى الدنيا :

 

1 ـ مرحلة الطفولة :

﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ لو أحدنا اطَّلع على علم الأجنَّة ، كيف بدأ هذا الطفل في هذه الأشهر التسع من نطفة وبويضة وعلقة ومضغة مخلقة وغير مخلقة ثم أصبح الهيكل العَظمي ، ثم كُسيت العظام لحماً ، ثم جاء المَلَك ، ثم توضحت معالم الأطراف ، ثم ، ثم ، إلى أن أصبح هذا الجنين طفلاً شيء لا يصدق ، هذه آية أيها الإخوة تحت سمعنا وبصرنا ، هذه آيات الله . 

﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) ﴾

[ سورة لقمان ]

ماذا فعلوا ؟ 

﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)﴾

[ سورة الطور  ]

هذا الطفل يحتاج إلى طعام خاص ، إلى حليب ، يحتاج إلى عناية فائقة ، إلى تنظيف ، لا يُمسك أمعاءه ، هذا الطفل يحتاج إلى من يعلِّمه القراءة والكتابة ، والنطق والمشي ، والحركة ، إلى أن يصبح هذا الطفل الصغير شابَّاً يافعاً يبلغ أشدَّه ، وقال بعض العلماء : " أشدُّ الإنسان في الأربعين " ، أصبح عاقلاً ، قوي البنية ، مُتَّزِن العاطفة ، بعيد النظر ، يحسن التكلُّم ، يحسن التَصَرُّف .  

2 ـ مرحلة الشدة والقوة :

﴿ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ﴾ فهذا الذي بلغ أشدَّه من العلم ، والاكتمال الجسمي ، والاتزان العاطفي ، وبُعد النظر ، قد ينسى أنه كان طفلاً صغيراً ، يضحكه كل شي ، يبكيه كل شيء ، ينسيه كل شيء ، يرضى بأتفه شيء ، ينفعل لأتفه سبب ، يبكي لأتفه سبب ، يرضى سريعاً ، يغضب سريعاً ، ذاتي ، سويعاتي ، هذا الذي بلغ أشدَّه نسي يوم كان طفلاً؟  

3 ـ الوفاة للبعض :

﴿ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى﴾ في الأربعين يتوفَّى ، بأوج نشاطه ، بأوج صحَّته ، باكتماله .  

4 ـ الرد إلى أرذل العمر : 

﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ ضَعُفَت قوَّته ، وانحنى ظهره ، وضعف عقله ، وضعفت ذاكرته ، وكثر نسيانه ، وأصبحت له أخلاق ذميمة ، أصبح حشَري المزاج ، يسأل كثيراً ، يعلِّق كثيراً ، ينتقد كثيراً ، يعيد القصَّة آلاف المرَّات ، يكرهه من حوله ، ينسى ، يضيّع ، يفضح أهله .. ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ .. نعوذ بالله من أرذل العمر ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن أنس بن مالك  :

(( من جمع  القرآنَ متَّعَه اللهُ بعقلِه حتى يموتَ . ))

[ محمد جار الله الصعدي : النوافح العطرة : حكم المحدث : ضعيف ]

هذه ضمانة أيها الإخوة ؛ (( من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت )) تعلَّموا القرآن كي يُنْعِمَ الله علينا بشيخوخةٍ وقورة ، هناك من يتقدَّم به العمر فيُهان ، يُهان من أولاده ، يُهان من زوجته ، يُهان من قِبَلِ أقرب الناس إليه ، يصبح منبوذاً ، يكره الناس الجلوس معه ، يبتعدون عنه ، يتحاشونه ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ لكنَّ المؤمن معافى من هذا ﴿ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ سمعت عن رجلٍ بلغ قمَّة المَجْدِ في اختصاصه العلمي ، صار أستاذاً في الجامعة ، وصار وزير العدل - القصَّة قديمة جداً - وله مؤلَّفات ضخمة ، في أرذل العمر خرج من البيت ولم يعد ، بحثوا عنه ساعاتٍ طويلة وجدوه في أحد أطراف المدينة لا يعرف كيف يعود إلى بيته ﴿ ثمَّ يُردُّ إلى أرذل العمر ﴾ أحياناً يفقد الإنسان إمكانية ضبط نفسه ، يضطر أهله إلى تغيير ملاءات الفراش مرَّات عديدة ، تغضب زوجته عليه ، وتسبَّه أحياناً ، وتنعره أحياناً ، وتقول له : الآن نظَّفتك .. ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ التقوى أقوى أيُّها الإخوة ، من عاش تقياً عاش قوياً ، فالإنسان العاقل هو الذي يتقي الله في شبابه ..

(( عن عبد الله بن عباس قال  : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه  : اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ : شبابَك قبل هَرَمِك ، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك ، وغناك قبل فقرِك ، وفراغَك قبل شُغلِك ، وحياتَك قبل موتِك .  ))

[ أخرجه المنذري الترغيب والترهيب إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما  ]

﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ لو وازنت بين شيخوخة مؤمن وشيخوخة إنسان عاصٍ لوجدت البَوْنَ شاسعاً ، هذا كلَّما امتدَّ به العمر يزداد قيمةً ، ورفعةً ، وشأناً ، ووقاراً ، وعلماً ، وفهماً ، وذكاءً ، ومحبَّةً ، والناس يتعلَّقون به ؛ وهذا كلَّما امتدَّ به العمر يزداد إهمالاً ، وازوراراً ، يبتعد الناس عنه ، يتفكَّهون بقصصه ، والذي يريد أن يعرف فليبحث ..

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)  ﴾

[ سورة الأنعام  ]

هناك رجل حَصَّل أموالاً طائلة ، استغل علمه ، وكان قاسياً في معاملته للمرضى ، قاسياً جداً ، لا يعرف أن المريض قد يكون فقيراً أبداً ، لا يخرج إلا بليرة ذهبية - قصَّة قديمة جداً - في آخر حياته رُدَّ إلى أرذل العمر ، أخرجوه من بيته ، وضعوه في القبو ، رائحته غير المقبولة فاحت أو انتشرت ، نُقِلَ إلى بيتٍ بعيد ، تُلْقِي إليه الخادمة بالطعام إلقاءً ، وتذهب ، يسأل عن زوجته فتقول له : مشغولة ، ثمانية أعوام قضَّاها في بيت أرضي ، أو قبو يلاقي أشدَّ أنواع الإهانة والعذاب ، لكن .. ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ أين ذكاؤه ؟ أين جبروته ؟ أين عقله ؟ أين قوَّته ؟

 

الاستدلال على البعث بإحياء الأرض بعد موتها :

 

شيءٌ آخر ؛ ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ .. انظر إلى الأشجار في الشتاء تجد أنها خشب ، والأرض تراب ، في الربيع هذه الأشجار اكتست حلَّةً قشيبة ، من أين جاءت هذه الحُلَّة البيضاء ثم حلَّة خضراء ؟ وهذه الأرض من أين جاءها الربيع ؟ ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ﴾ أي إذا قال الله عزَّ وجل : إنكم سوف تُبْعَثون بعد الموت لحياةٍ أبديَّة يجب أن نُصَدِّقَهُ ، والدليل هذه الآيات ، كيف مررنا من حالةٍ إلى حالة ؟ ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور