وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الحج - تفسير الآيات 6 - 15 الإيمان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


من معاني أن الله سبحانه وتعالى هو الحق :

 

 1 ـ الله سبحانه وتعالى واجب الوجود ووجود الأشياء ليس بذاتها بل بقدرة الله :

أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثاني من سورة الحج ، يقول الله سبحانه وتعالى بعد قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾  .

ما معنى أن الله سبحانه وتعالى هو الحق ؟ أي أن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود ، بينما ما سواه من المخلوقات فممكن الوجود ، أيّ شيءٍ غير الله سبحانه وتعالى يمكن أن يوجد ، ويمكن ألا يوجد ، هذا من جهة ، ومن جهةٍ ثانية وجود الأشياء ليس بذاتها ، بل بقدرة الله . .

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)  ﴾ 

[ سورة البقرة ] 

أيّ شيءٍ قائمٌ به ، فوجود الأشياء ليس ذاتياً ، إنما الوجود وجود الموجودات مستمدٌ من الله عزَّ وجل ، فوجودها ليس حقيقياً ، وجودها متعلقٌ بوجود الله ، وجودها متوقفٌ على وجود الله إذاً : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾  أيْ أن في الكون حقيقةً واحدة ألا وهي الله سبحانه وتعالى .

أول معنى ؛ أن الله هو الحق أي أنه أزلي أبدي سرمدي ، لا يتعلق وجوده بشيءٍ آخر .. 

﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) ﴾  

[ سورة الإخلاص ] 

معنى : ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾  أي ذاتي الوجود ، أما نحن مفتقرون إلى الهواء ، فإذا انقطع عنا الهواء نفقد الحياة ، مفتقرون إلى الماء ، مفتقرون إلى الطعام والشراب ، مفتقرون إلى جهاز القلب ، فلو تعطل هذا العضو الخطير لأصبحنا جثةً هامدة ، مفتقرون إلى أجهزة كثيرة جداً ؛ إلى أجهزة عصبية ، وأجهزة هضمية ، فحياة الإنسان مفتقرة إلى ما لا نهاية له من المقوِّمات ، بل إنها مفتقرةٌ إلى الروح التي هي قوة الله في الإنسان ، فوجود الكون وجود وهمي ، لأن هذا الكون كن فيكون ، زل فيزول :  

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)  ﴾ 

[  سورة يس  ] 

إذاً وجود المخلوقات ليس وجوداً أصلياً ، بل هو وجود مبني على وجود الله عزَّ وجل ، فالحق هو الله ، هو الأبدي السرمدي ، أما الأرض فكل من عليها فان . 

﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) ﴾  

[ سورة القصص  ] 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾  لذلك من تعلَّق بالحق سَعِدَ إلى الأبد ، ومن تعلق بالباطل زال مع الباطل ، وزهق مع الباطل .. 

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا  (81)﴾ 

[  سورة الإسراء ] 

هذا هو المعنى الأول . 

 2 ـ الله تعالى هو الأبدي السرمدي وهو الحيّ الباقي :

المعنى الثاني : أن الله سبحانه وتعالى هو حقٌ ومخلوقاته بالحق ، معنى بالحق أي بحكمةٍ بالغة ، كل شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل بدرجةٍ ، وبحجمٍ ، وبشكلٍ ، وبنوعٍ ، وبتعقيدٍ ، وبإمكاناتٍ ، وبأجهزةٍ ، وبطباعٍ ، بحيث لو اختل بعضها لكان هذا نقصاً في حكمة الله عزَّ وجل.

أول معنى : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾  أيْ هو الأبدي السرمدي ، كل شيءٍ سواه يفنى ، لا بقاء لشيءٍ سواه ، هو الحي الباقي . 

المعنى الثاني أن الله سبحانه وتعالى هو الحق بمعنى أنه واجب الوجود ، بينما غيره ممكن الوجود ، إنه مصدر الوجود ، وقوام الوجود ، ولا وجود إلا وجوده .  

3 ـ مخلوقات الله عزَّ وجل بالحق :

المعنى الثالث : مخلوقات الله عزَّ وجل بالحق ، كل مخلوقٍ له شكل ، له حجم ، له خصائص ، له صفات ، له أجهزة ، له طباع ، إنها بالحق حيث لو زادت درجةً أو نقصت درجةً لكان هذا خللاً في خلق الله عزَّ وجل :

﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)﴾ 

[ سورة الملك ] 

أي هذا المعنى ينطبق على الكون كله ، بُعد الأرض عن الشمس بالحق ، لو زاد هذا البعد لاختل توازن الأرض ، لو قل هذا البعد لاحترق من على الأرض ، بعد القمر عن الشمس ، بعد الأرض عن القمر ، طبيعة الجبال ، طبيعة البحار ، أنواع النباتات ، أنواع الحيوانات ، أنواع الأسماك ، أنواع الأطيار ، كل مخلوقٍ ليس في الإمكان أبدع مما كان ، كل مخلوق ؛ كبيراً كان أو صغيراً ، جليلاً كان أو حقيراً ، هذا المعنى الثالث ، الله سبحانه وتعالى هو الحَق الأبدي السرمدي ، وهو الحق واجب الوجود ، وغيره ممكن الوجود ، وهو الحق قوام الوجود . 

الآن مخلوقاته بالحق ، أي بوضعٍ كاملٍ كمالاً مطلقاً ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾  ، نظامه بالحق ، مخلوقاته ، أنواعها ، أعدادها ، أشكالها بالحق ، تسييره بالحق ، نظام المجرَّات بالحق ، نظام الكواكب بالحق ، المجموعة الشمسية بالحق ، خلق الإنسان بالحق ، خلق الجنين بالحق ، خلق النبات بالحق ، أي بوضعٍ كاملٍ لا يقبل تعديلاً ، مثل بين أيديكم : هل علمتم أن خلق الإنسان طرأ عليه تعديلٌ ؟ لا ، ولكنّ صُنعَ الإنسان يطرأ عليه ألف تعديل وتعديل ، انظر إلى مركبةٍ صنعت عام ألف وتسعمئة وعشرة ، وانظر إلى مركبةٍ صنعت عام ألف وتسعمئة وثمانين ، أو ثمانية وثمانين ، ترى أن بينهما بوناً شاسعاً ، بوناً كبيراً جداً ، إذاً خلقُ الإنسان يتكامل ، لكنَ خلق الله عزَّ وجل كاملٌ كمالاً مطلقاً ، معنى بالحق : لا يمكن أن يطرأ عليه تعديل ، مثلاً لن يقال : الإنسان الفلاني مولود عام ألف وسبعمئة وعشرة ، وكان في خلقه نقص كثير ، ليس هذا الكلام معقولاً ، الآن يوجد تعديلات جوهرية أُجريت على أجهزته ، مستحيل هذا الكلام ، في حق الله هذا مستحيل ، خلقُ الإنسان خلقٌ كامل لم يطرأ عليه أي تعديل .. ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ .

 

الحق هو الشيء الثابت والدائم والباطل هو الشيء العابث والزائل :


كلمة بالحق من معانيها أيضاً ، نأخذ معناها من آيتين : 

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)﴾ 

[  سورة ص ] 

الباطل الزائل ، والحق الثابت والدائم ، فربنا عزَّ وجل هو ثابت وخَلَق الكون ليبقى ، وما ثناؤه إلا طورٌ مِن أطواره ، الإنسان خلق ليبقى ، لأن الإنسان مخلوق بالحق ، ومعنى بالحق أي خلق ليسعد إلى الأبد في جوار الله عزَّ وجل ، ما الموت إلا ثوبٌ يخلعه ويرتدي ثوباً آخر ، فالخلق بالحق ، أي الخلق لم يكن خلقاً باطلاً أي زائلاً ، خُلِقَ الإنسان ليبقى أبد الدهر ، إما في جنةٍ يدوم نعيمها ، أو في نارٍ لا ينفد عذابها .

المعنى الثاني : أن الحق هو الشيء الهادف ، أيْ ربنا عزَّ وجل خلق الإنسان لهدفٍ عظيم ، أمّا أن يقول بعض الناس : إن الإنسان خلق للشقاء فهذا ليس بالحق معنى ذلك ، أي حينما تبني بناءً ضخماً لابدَّ من هدفٍ كبير وراء هذا البناء ، تبني جامعة ، يُبنى هذا البناء ليبقى ، ويبنى لهدفٍ كبير ، نقول : هذا البناء بالحق بمعنى أن أساساته متينة ، بناؤه يبقى إلى عشرات السنين ، وله هدفٌ كبير من بنائه ، لذلك معنى الحق " صار مجموعة معاني ، من معاني الحق البقاء ، من معاني الحق الكمال ، من معاني الحق الدَيْمومة ، من معاني الحق أنه واجب الوجود ، من معاني الحق أنه أصل الوجود ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ .

الحق تأتي وصفاً ، وتأتي صِفَةً ، نقول مثلاً : هذا القرآن حق ، نَصِف القرآن بأنه حق أي لا يوجد فيه باطل ، ولا فيه تناقضٌ ، ولا فيه خلل ، ولا فيه رَيب ، ولا فيه زَيغ ، ولا فيه آية تصادم حقيقة علمية ، هذا القرآن حق وما دام حقاً إذاً هو ثابت ، دائماً الشيء الحق ثابت ، لو بني بناء بشكلٍ صحيح ، لو بني الجدار بالحق ، أي على شاقول ، يبقى هذا البناء ، لو بُني الجدار من دون شاقول ، بُني مائلاً ، هذا البناء لابدَّ من أن يسقط ، فالبناء الذي بُني على شاقول حق ، والجدار الذي بُني بلا شاقول باطل ، لابدَّ من أن يسقط .

 

إحياء الموتى حق :


لذلك : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى﴾ هذه الآية ما دام الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان : ﴿ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾  هذا الذي خلق الإنسان بهذه الأطوار قادرٌ أن يخلقه خلقاً ثانياً ، لذلك : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أيُّ شيءٍ ، ما من كلمةٍ في اللغة أشمل وأوسع من كلمة شيء ، لأن كلمة شيء تشمل كل شيء .

 

قُدْرَةُ الله عزَّ وجل لا تُحَد :


﴿ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾  قُدْرَةُ الله عزَّ وجل لا تُحَد ، بينما قدرة الإنسان محدودة ، أي أيها الإنسان ؛ هل تأمَّلت في الكون ؟ هل أجَلْتَ فكرك في خلق السماوات والأرض ؟ هل فكَّرت في خلقك ؟ هل فكرت في خلق طعامك ؟ في خلق شرابك ؟ في خلق ما تأكله من حيوانات ؟ في خلق ما تستعين به من حيوانات ؟ هل فكرت في خلق الأطيار ؟ في خلق الأشجار ؟ في خلق الأسماك ؟ هل توصَّلت من هذه الجَوْلات إلى أن الله هو الحق ؟ أي ليس في الوجود حقيقة إلا الله ، وما سوى ذلك صور وأخيلة لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، هنيئاً لمن ربط مصيره بالحق ، والويل لمن ربط مصيره بالباطل ، الباطل زهوق ، والباطل لابدَّ من أن يسقط .

 

الساعةُ حقُّ :


﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾  أيْ الإنسان إذا فكَّر تفكيراً بسيطاً ، وتوصَّل من هذا التفكير إلى أن هذا الكون عظيم ، وخالقه عظيم ، وفي الحياة الدنيا حظوظ متفاوتة ، هذا مريض ، وهذا صحيح ، هذا قوي ، وهذا ضعيف ، هذا غني ، وهذا فقير ، هل يعقل أن يستمتع الغني بالغنى ، ويموت ، وأن يشقى الفقير بالفقر ، ويموت ، وأن يسعد القوي بقوته ، ويموت ، وأن يشقى الضعيف بضعفه ، ويموت ، وينتهي كل شيء !! نقول : يا رب أين حق الفقير ؟ أين حق الضعيف ؟ أين حق المريض والعليل ؟ لابدَّ من يومٍ يحاسب فيه الإنسان على أعماله كلها ، لابدَّ من يومٍ يعاد فيه تقييم كل شيء ، لابدَّ من يومٍ ينال الإنسان جزاء عمله إن صغيراً أو كبيراً ، لابدَّ من يومٍ يعود الحق إلى نِصابه ، لابدَّ من يومٍ يأخذ كل ذيٍ حقٍ حقه ، إذاً : ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾  أيْ مِن لوازم الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر ، من لوازم إيمانك بعظمة الله أن تؤمن بعدالته ، وعدالته لن تتحقق كاملةً إلا في يوم الدين ، يوم البعث والنشور .. ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾  لذلك يتوهَّم الإنسان أحياناً أن الموت نهاية الحياة ، والأصح من ذلك أن الموت بداية الحياة ، لهذا قيل : " الدنيا دار تكليف ، والآخرة دار تشريف ، الدنيا دار عمل ، والآخرة دار جزاء " ، لذلك الإنسان في الدنيا دارِ عملٍ ولا جزاء ، والآخرة دار جزاءٍ ولا عمل ، لا عملَ بالآخرة ، خُتم العمل ، وبقي الجزاء ، أمَّا الآن فالعملُ مفتحةٌ أبوابُه ، لكنّ الجزاء يوم القيامة .

 

إذا أردت المناقشة والجدال فعليك بالعلم والهدى والقرآن :


﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾  .. العلماء وقفوا عند هذه الآية ، هذا الذي يجادل ، يماري ، يناقش ، من دون علمٍ يَسْتَنِدُ إليه ، ومن دون هدىً يهتدي به ، ومن دون كتابٍ يعلم تأويله ، لا علمٌ ولا هدىً ولا كتابٌ منير ، بعض العلماء قالوا : العلم هو علم أهل الأرض ، والهُدى سلامة التفكير ، والكتاب المنير هو الكلام الذي أوحاه الله عزَّ وجل إلى بعض أنبيائه ، فكأن الإنسان إذا أراد أن يناقش عَليه أن يستند إلى علمٍ قد تَعَلَّمه ، أو إلى هدىً يهتدي به ، أو إلى كتابٍ منير يُضئ له السبيل ، أمَا الذي يُناقش بلا علم فهو إنسانٌ أحمق ، إنسانٌ غبي ، إنسانٌ مبطل ، إنسانٌ مفترٍ ، والذي يناقش بلا منطقٍ سليم ، لا يستخدم وسائل المنطق الصحيحة ، في الوصول من المقدمات إلى النتائج ، هذا أيضاً مناقشته باطلة ، والذي لا يهتدي بكتاب الله عزَّ وجل ، ولا يأخذ آياته موضع الجَد ، ولا يعتمدها في المناقشة ، هذا إنسان أيضاً مناقشته باطلة ، فكأن الله سبحانه وتعالى يبيِّن لنا أنك إذا أردت أن تناقش فهل عندك علمٌ حَصَّلْتَهُ ؟ أو هل عندك منطقٌ سليم تدرَّبت عليه ؟ أو هل عندك آياتٌ بينات من قِبَلِ الله عزَّ وجل تهتدي بها ؟ لا علمٌ ولا هدىً ولا كتابٌ منير  .

بعضهم قال : العلم هو المُسَلَّمات ، أن الجزء أصغر من الكُل ، هذه مسلمة ، أن الجمع أكثر من الواحد ، مسلمة ، هناك مجموعة مسلَّمات في المنطق ، هذه لا برهان عليها ، لأن البرهان يعتمد عليها . 

بعضهم قال : العلم هو المسلمات والبديهيات ، والهدى هو إشراق الحقيقة في قلب الإنسان ، والكتاب المنير هو القرآن الكريم ، أو أي كتابٍ سماوي ، على كل إذا أردت أن تناقش مهندساً فينبغي أن تكون مهندساً ، وإذا أردت أن تناقش طبيباً فينبغي أن تكون طبيباً ، الطبيب لا يسمح لك أن تناقشه ، وأنت جاهل ، والمهندس كذلك ، وإذا أردت أن تناقش لغوياً فلابدَّ أن تكون لغوياً مثله ، هذا العلم ، والهدى لابدَّ من قواعد منطقية في التعامل مع الأفكار ، هذه المقدمة تُفضي إلى هذه النتيجة ، أو أنْ تأتينا بآية ، أي إمَا أن يكون لدينا دليل عقلي ، أو دليل نقلي ، أو دليل واقعي .

 

أنواع الأدلة :


العلماء قَسَّموا الأدلة إلى أنواع ثلاث ، الدليل النقلي ما جاء عن الله عزَّ وجل في القرآن الكريم أو في السنة النبوية المطهرة ، هذا دليل نقلي ، أخي هذا الأمر حرام ، ما السبب ؟ قال الله عزَّ وجل : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾ 

[ سورة المائدة  ] 

الاستهزاء أخي حرام .. 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)﴾ 

[  سورة الحجرات ] 

شيء جميل ، إما أن تأتي بالدليل النقلي ، قرآن أو حديث ، النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال : عن حكيم بن حزام :

(( سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، يأتيني الرجلُ فيسألني البيعَ ليس عندي أبيعُه منه ثم أبتاعُه له من السوقِ, قال : لا تبعْ ما ليس عندَك . )) 

[ صحيح النسائي  ] 

فإذا باعَ شخص بضاعة على المسطرة ، هذه مخالفة في البيع ، فإذا وجدتَ تاجراً يبيع بضاعةً قبل أن يقتنيها لك أن تنهاه عن ذلك ، يقول لك : والدليل ، تقول له : قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ))  .. هذا دليل نقلي ، فإذا أردت أن تناقش الناس فأنت بحاجة إلى دليل ، الدليل ثلاثة أنواع ؛ دليل نقلي : وهو أعلى أنواع الدليل من الكتاب الكريم ومن السنة المطهرة ، أو الأصح ما صحّ من السنة المطهرة ، أي آية قرآنية ، أو حديث متواتر صحيح ، حديث حسن مقبول ، لكنَّ الحديث الضعيف مرفوض في الأحكام الشرعية ، لكنه مقبول في الفضائل ، في فضائل الأعمال ، وفي المكارم الأخلاقية ، هذا هو الدليل النقلي .

الدليل العقلي المنطقي : الدليل العقلي هو المنطقي ، تقول له : هذه المخدرات حرام أم حلال ؟ تقول له : حرام ، يقول لك : هات لي آية ؟ الله حرَّم الخمر فقط ، تقول له : عن عبد الله بن عمر :

(( كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . )) 

[  صحيح مسلم  ] 

بالمنطق ، لماذا حرَّم الله الخمر ؟ لأنها تسبب السكْرَ ، فأي مادةٍ أخرى تنطبق عليها علَّة التحريم إذاً هي محرَّمة أيضاً ، هذا دليل عقلي ، بالقياس ، أي قسنا كل أنواع المخدرات على الخمر ، إذاً محرمة ، محرمة بالقياس ، أي بالدليل العقلي ، ما دامت العلة متحدة إذاً حُكم الخمر ينسحب على كل مسكر آخر ، شيء جميل ، هذا دليل ثانٍ .

الدليل الواقعي : الدليل الثالث الواقعي ، من خلال العلوم الوضعية تكتشف أن تربة القمر ليست من طبيعة تربة الأرض ، فإذا أردت أن تذهب مع بعض العلماء من أنَّ السماوات كانت كتلةً واحدة ، ثم بفعل الدوران انفصلت بعض الكواكب عن بعضها ، هذا يجب أن يَتْبَعَهُ أن تكون تربة القمر من نوع تربة الأرض ، فإذا كانت تُربة القمر من نوعيةٍ أخرى ، فهذه النظرية مرفوضة ، هذا دليل واقعي .

إذاً نحن بالمناقشة نحتاج إلى دليل واقعي ، وإلى دليل عقلي ، وإلى دليل نقلي ، أعلى درجة في الأدلة للمسلمين الدليل النقلي ، أعلى درجة في الأدلة لغير المسلمين - إنسان غير مؤمن بالأديان - الدليل الواقعي والعقلي ، فالإنسان عليه أن يكون حكيماً إذا ناقش الناس ، إذا ناقشت إنساناً مسلماً يؤمن بكتاب الله وبسنة رسوله يكفيك أن تأتيه بالدليل النقلي ، آيةٌ قرآنية أو حديثٌ شريف ، أما إذا ناقشت إنساناً غير عابئ بكتاب الله ولا بالسنة المُطَهَّرة ، يجب أن تبدأه بالدليل العقلي أو الدليل الواقعي ، لو أن شخصاً قال لك : هناك دواء يطيل العمر وهو مسلم ، تقول له : لا يا أخي ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى في الكتاب الكريم يقول : 

﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)﴾ 

[  سورة الأعراف  ] 

فهذا الدواء لا تصدقه ، هذه دعاية إعلامية لا قيمة لها ، أما إذا خاطبت إنساناً آخر غير مؤمن بالقرآن والسُّنة فعليك أن تتبع الدليل العقلي أو الدليل الواقعي ، هذا معنى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾  إنه يجادلُ لا بالدليل الواقعي العلمي ، ولا بالدليل العقلي الهُدى ، ولا بالدليل النقلي الكتاب المنير ، وهذه آداب المناقشة .

 

هدف الكافر الأول الصّد عن سبيل الله وإبعاد الناس عن طريق الحق :


﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾  العطف هو الجانب ، يثني جانبه كبراً ، كقوله تعالى : 

﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ  وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)﴾ 

[  سورة لقمان ] 

تصعيرُ الوجه كبراً ، وثنُي العطف كبراً .. ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾  حينما يناقش بغير علمٍ ولا هدى ولا كتابٍ منير ، يقول لك : لابدَّ من الاختلاط ، تقول له : الأجانب حينما رأوا آلافاً مؤلفة من اللقطاء في الحدائق جعلوا الجامعات هناك ذكوراً وإناثاً ، هؤلاء الذين لا يؤمنون بالأديان حفاظاً على بنية مجتمعهم جعلوا هكذا ، عندنا دليل واقعي ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾  .. هو يريد الشهوة ، يريد أن يستمتع بالمرأة بطريقٍ مشروع أو بطريقٍ غير مشروع ، لذلك يحبذ الاختلاط ، يحبذ الانحلال ، يحبذ اختلاط الأنساب ، يحبذ التبذُّل ، يحبذ خروج المرأة بأبهى زينة ، من أجل أن يروي نهمته ، ويحقق شهوته بشكلٍ غير مشروع فلذلك : ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾  هو يريد أن يصُدَّ الناس عن سبيل الله ، يريد أن يبعدهم عن طريق الحق ، يريد أن يكون هؤلاء الناس مُنْحَلِّين.

 

مصير المضِلِّ عن سبيل الله في الآخرة :


﴿ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾  وعدٌ إلهي ، كل إنسانٍ يريد أن يُضِلَّ الناس عن سبيل الله ، كل إنسانٍ يريد أن يصد الناس عن طريق الحق ، كل إنسانٍ يريد أن يضل الناس عن طريق سعادتهم لابدَّ من أن يناله خزيٌ في الدنيا ، لابدَّ من أن يفضح على رؤوس الأشهاد ، فضيحة مالية ، فضيحة أخلاقية ، فضيحة علمية في عمله ، لابدَّ من أن يُشهَّر به عقاباً له على صده عن سبيل الله ، هذا عقابٌ أليم .. ﴿ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾  إذاً  ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ *ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾  أيْ كبراً ، هذه اللام لام التعليل .. ﴿ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾  هدفه إضلال الناس عن سبيل الله .. ﴿ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾  هذا الإنسان يقال له : ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾  .. أي الإنسان يوم القيامة يرى أنه لمُ يظلم ، وأن الله سبحانه وتعالى أعطاه حقَّه غير منقوص :

﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) ﴾ 

[ سورة الدخان ] 

﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾  بعضهم يقول : الله سبحانه وتعالى ينفي أن يكون ظَلَّاماً ، وظلّام على وزن فعَّال ، صيغة مبالغة ، فهل هو ظالمٌ ؟ ينفي المبالغة في الظلم لا لنفي المبالغة ، إن مجيء صيغة المبالغة ظلّام بعد النفي ليس ، ليس لنفي المبالغة ، بل للمبالغة في النفي ، أي الله سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة وإن تكن حسنةً يضاعفها . 

 

الإيمان الصحيح أن تحبَّه وتعرفه في السراء والضراء :


الآن عندنا نمط آخر من الناس ، هؤلاء أيضاً خطرون ، هذا النمط : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾  الحرف هو الطَّرَف ، إن صح التشبيه ، إن صح التمثيل ، هذه الطاولة هناك من يعبد الله على هذا الحرف ، هو على حرفٍ على شفا هاوية ، على وشك السقوط ، أيُّ شيءٍ يسقطه ، أية هزةٍ توقعه ، أية عاصفةٍ ترميه ، أية موجةٍ تسحبه ، موجة تسحبه ، عاصفة تسقطه ، دفعة قليلة تجعله يسقط ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾  أحياناً يتصورُ الإنسانُ الدّينَ أنه إذا استقام على أمر الله ستضاعف غَلَّته عشرة أضعاف ، سيشتري بيتاً بأرقى حي فوراً ، سيشتري مركبة فخمة ، سيتزوج امرأة كما تحلو له ، سيعيش حياة أين منها حياة الملوك ، هذا الوهم خطير ، هو يوظِّف الدين من أجل الدنيا ، هو يتاجر بالدين ، هو يجعل من الدين مَطِيَّةً للدنيا ، هو يعبد الله على حرف ، ما دام صحيح الجسم فهو يعبد الله ، يؤدِّي صلواته ، يصوم رمضان ، يحجُّ البيت ، ما دام دخله وفيراً يعبد الله ، ما دامت أسرته سعيدةً يعبد الله ، ما دام يرقى في سلم الوظائف يعبد الله ، فإن أصابه خيرٌ اطمأن به ، هذا الإنسان الوصولي ، يريد أن يصل إلى الدنيا عن طريق الدين ، هو في الحقيقة أن الإنسان عندما يستقيم على أمر الله يسعدُه الله في الدنيا ، أما لا ينبغي أن يكون هذا شرطاً ، فالله سبحانه وتعالى لا يُشارط ، ولا يجرب ، فيتوهَّم أن الإنسان إذا آمن واستقام وصلى يجب أن ينجح من دون دراسة ، أنا يجب أن أنجح ، يجب أن يربح من دون جهد ، يختار بضاعة سيِّئة يقول لك : اتركها لسيدك ،  يختار بضاعة سيئة أسعارها مرتفعة يعرضها بالسوق فلا تباع معه ، ينصرف الناس من عنده ، فتجده يقول : أهكذا الدين ؟ بعدما صليت صار معي هكذا ؟! ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ إذا لم ينجح يترك الصلاة ، لم نتفق هكذا ، لم يتفق مع الله ألا ينجحه ، هذا الإنسان إنسان ساذج ، إنسان ضعيف التفكير ، يريد الدنيا بالدين ، يوظف الاستقامة لِيُتاجر بها ، لو تصورنا إنساناً استقام استقامة تامة ، وهو يطمع من هذه الاستقامة أن يزداد ربحه ، وأن تحل كل مشكلاته ، إذا استقام بهذه النية ربما على الرغم من استقامته لا يحصّل ما يبتغي ، لأن هذه استقامة مشوبة ، كأن تصادق إنساناً كي يعطيك مالاً ، فإذا أعطاك المال تمدحه ، وإذا منع عنك المال تذمه ، هذه ليست صداقة ، هذه وصولية ، هذا انتفاع ، لذلك ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾  أنا أخشى من هؤلاء الناس كثيراً ، ما دامت تجارته رائجة تجده يحضر الدروس ، أين أنت ؟ حدثت معنا مشكلة بالتجارة ، هناك صفقة لم تربح ، لماذا لا تأتي لحضور الدروس ؟ حزين ، لم يأت إلى  الدروس ، هذا موقف ضعيف ، أنت تعامل خالق الأكوان ، الإيمان الصحيح أن تحبَّه ، وأن تعرفه في السراء والضراء ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في الصحة والمرض .. 

فليتك تحلو والحياة مريرة                 وليتك ترضى والأنام غضابُ

* * *

هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا       فليس لي عنهمُ معدلٌ وإن عدلوا

واللهِ إن فتتوا في حبـهم كبدي        باقٍ على حبـهــم راضٍ لما فعلوا

* * *

هنا البطولة ، البطولة أن تحبَّه في الضرَّاء ، أن تحبه في أثناء المصيبة ، أن تقول له : يا رب لك الحمد .

 

النبي الكريم قدوة لنا في كل شيء :


 مشى على قدميه مئةً وستين كيلو متراً - اللهم صلِّ عليه - ليصل إلى الطائف ، أقام فيها أياماً عِدَّة يدعو أهلها إلى الإسلام ، ردُّوه رداً قبيحاً ، استهزؤوا به ، استهزؤوا برسالته ، قال بعضهم : " سأمزق أثواب الكعبة إن كنت رسولاً !! " ، وقال آخر : " لم يجد الله أحداً غيرك يجعله رسولاً ؟! " ، وقال ثالث ، وقال رابع ، أغرَوْا به سفهاءهم ، ألجؤوه إلى حائط ، قال صلى الله عليه وسلم :  

(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس ، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري ، إن لم تكن غضبان عليّ فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله" )) 

 قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" : وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة ، وبقية رجاله ثقات

في السرَّاء وفي الضرَّاء ، لذلك النبي الكريم الله سبحانه وتعالى قال في حقه : 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ 

[ سورة الأحزاب ] 

أي ذاق النبي الكريم الضرَّاء فصبر ، وذاق السرَّاء فشكر ، حينما فتح مكة طأطأ رأسه لله شكراً ، وحينما قُهِرَ في الطائف قال : (( رب إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي ))  ذاق الضعف البشري ، وذاق النصر ، وكان في الحالين إنساناً كاملاً ، كان صابراً راضياً ، وكان شاكراً ، محباً ، حامداً ، ذاق حياة الرخاء ، " لمن هذا الوادي ؟ ، قال عليه الصلاة والسلام : " هو لك " ، قال : " أشهد أنك تعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر" ، وذاق الفقر .. عن عائشة أم المؤمنين  :

(( دَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ يَومٍ فَقالَ : هلْ عِنْدَكُمْ شيءٌ؟ فَقُلْنَا : لَا ، قالَ : فإنِّي إذَنْ صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا : يا رَسولَ اللهِ ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقالَ : أَرِينِيهِ ، فَلقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فأكَلَ . )) 

[ صحيح مسلم ] 

ذاق اليسر ، وذاق العسر ، ذاق الرخاء ، وذاق الشدة ، ذاق النَصر ، وذاق الضعف ، ذاق أن تُطَلَّق بناته نكايةً به ، هكذا فعل بعض كفار مكة قُبَيْلَ البعثة ، حينما جاءته الرسالة طلقوا بناته من أجل أن يغيظوه ، وذاق في المدينة أراجيف تُرجف في حق السيدة عائشة ، وشيءٌ لا يحتمله الإنسان ، ذاق هذه ، وذاق تلك .

 ذاق الصحابة الأجلاء المودة الراقية ، وذاق طباعاً جلفةً قاسية ، يا محمد اعدلْ ، قال له : عن جابر بن عبد الله  :

(( كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بالجِعرانةِ وَهوَ يقسِمُ التِّبرَ والغَنائمَ وَهوَ في حِجرِ بلالٍ فقالَ رجلٌ : اعدِل يا محمَّدُ فإنَّكَ لم تعدِلْ ؟ فقالَ : ويلَكَ ومَن يعدلُ بعدي إذا لم أعدِلْ ؟! فقالَ عمرُ دعني يا رسولَ اللَّهِ حتَّى أضربَ عنُقَ هذا المُنافقِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ هذا في أصحابٍ أو أُصَيحابٍ لَه يقرءونَ القرآنَ لا يجاوزُ تراقيَهُم يمرُقونَ منَ الدِّينِ كما يمرُقُ السَّهمُ منَ الرَّميَّةِ . )) 

[ صحيح ابن ماجه  :  خلاصة حكم المحدث  : صحيح  ] 

قال له : يا أعرابي ، هل أحسنت إليك ؟ قال : لا ، ولا أجملت ، ذاق غلظة أبناء البادية بعضهم ، وذاق نعومة أصحابه الكرام ورأفتهم ، وفي كل الأحوال كان إنساناً كاملاً ، عاش مع زوجةٍ تكبُره بخمسة عشر عاماً وكان وفياً لها ، وعاش مع امرأةٍ في مِيْعَةِ الصبا ، تقول له السيدة عائشة : ألم يبدلك الله خيراً منها ؟ قال : لا والله ، لا والله ، لا والله ، عن السيدة خديجة ، ذاق كل الأحوال ، ذاق لذة النصر ، وذاق مرارة الضعف في أحد وفي حنين ، لذلك جعله الله سبحانه وتعالى أسوةً حسنة .

 

ضرورة الثبات على المبدأ :


﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾  أصيب رجلٌ بورم خبيث في أمعائه ، زاره إنسان في المستشفى ، فقال له : اشهدْ أنني راضٍ عن الله ، يا رب لك الحمد ، كلما زاره زائر يقول هذه الكلمة إلى أن توفاه الله عزَّ وجل ، مريض آخر على عكس ذلك ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾  المؤمن الصادق يوطِّن نفسه على أن يذوق حلو الحياة ومُرَّها .. 

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾ 

[  سورة الأحزاب  ] 

هذا الثبات على المبدأ ، عرضوا عليه امرأة جميلة ، وأن يكون زعيماً لقريش ، وأن يكون أغنى أغنيائها ، فقال : 

(( عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة  : والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه  . )) 

فقه السيرة ليس له إسناد ثابت ، من الأحاديث الضعيفة

أحياناً أحدنا لسببٍ بسيطٍ بسيط ينتكس ، لسببٍ تافهٍ تافه يترك الصلاة ، يا أخي أنت عاهدت خالق الكون ، أنت فاوضت كف الرحمن في الحَج ، أنت تبت إلى الله توبةً نصوحة ، ببساطة ، بسهولة ، لسببٍ تافه ، لضغطٍ ضغط عليك به ، لمشكلةٍ ألمَّت بأسرتك ، لعقبةٍ نشأت في عملك ، لإنسان يضايقك تترك الدين ؟ أهكذا ؟ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾  على حرف ، هنا هذا المكان خطر ، أي نفخةٌ يقع ، موجةٌ تأخذه ، دفعة تُسقطه ، على حرف ، لكن هناك إنسان يعبُد الله في الأعماق ، أحدُ من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق قال : أيعدنا صاحبكم ، لم يقل : رسول الله ، قال : " أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته !! " ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾  إذا كنت مؤمناً صادقاً فيجب أن توطِّن نفسك على طاعة الله في كل الأحوال ، أنت مالكٌ لحريتك ، وأنت فاقدٌ لحريتك ، في البيت وفي غير البيت ، في الحضر وفي السفر ، في الصحة والمرض ، في الغنى والفقر ، في العُسر واليسر ، في ضيق الدنيا وفي سَعَتِها ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، هذه البطولة ، هذه الآية تهز مشاعر المؤمنين .. 

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾ 

[ سورة الأحزاب  ] 

أحد الصحابة الكرام جاء به كفار قريش ليصلبوه ، قال أبو سفيان : " يا خُبَيْب ، أتريد أن يكون محمدٌ مكانك ؟ " قال : " والله ما أريد أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ، ويصاب رسول الله بشوكة " ، هذا ليس على حرف ، بل في الأعماق ، شوكة ، " ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكةً "، ليس على حرف . 

أسمع إخواناً كثيرين - جزاهم الله كل خير- حالته ضيِّقة تجد دوامه منظومًا ، في بحبوحة دوامه منظم صحيح ، في ضيق ، قبل الزواج ، بعد الزواج ، في عسره ، في يسره ، والله شيء جميل ، والله مثل هؤلاء يُرفع الرأس بهم ، مثل هؤلاء يعتمد عليهم ، هؤلاء المؤمنون الصادقون ، فهل الإنسان طفل ؟ الطفل لأتفه سبب يضحك ، لأتفه سبب يبكي .

 

من اعتمد على غير الله خسر الدنيا والآخرة :


﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ﴾  يقول لك : جيبٌ مليء ، بطن مليء ، الحياة تمام ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾  مشكلة ، مرض ، نتيجة تحليل أن الأسيد أوريك مرتفع جداً ، مُنع من كل الطعام تقريباً ، فتنةٌ ، صهره طلق له ابنته ، من الممكن أن يقع مرضٌ بأهله ، بأولاده ، بنفسه ، يمكن أن يتوقف عمله نهائياً ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾  سمَّاها الله فتنةٌ لأنها سوف تكشفه على حقيقته .. ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾  أي انتكس ، قال لك : هذا الدين كله خلط ، رأساً ، كله خلط ، لم نستفد شيئاً ، لأن دنياه ضيقة ، لأنه لم يجد عملاً ، مرّ أسبوع أو أسبوعان ، شهر أو شهران لم يجد عملاً ، ضاقت به الدنيا قال : الدين باطل ، رأساً اتهم الدين بالبُطل ﴿ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾  أيْ انتكس ﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾  .. خسر الآخرة بكفره ، وخسر الدنيا بسوء ظنه بالله عزَّ وجل ، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾  الإنسان لابدَّ له من جهة يعتمد عليها ، فإذا ترك الله عزَّ وجل يلتجئ إلى جهات أرضية أخرى ، أي يتقرب من إنسان من أهل الدنيا ، من أهل الحول والطول ، يعتمد عليه ، يخدمه ، هذا جعله بديل الله عزَّ وجل ، كان معتمداً على الله عزَّ وجل ، فإذا هو يعتمد على زيدٍ أو عُبيد ، أو على فلان أو علان . 

 

مآل الشرك الضلال في الدنيا والخسران يوم القيامة :


﴿ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ﴾  .. هذا الذي اتجه إليه وجعله مكان الله عزَّ وجل ، اعتمد عليه ، هذا الذي التجأ إليه لا يضرُّه ، ولا ينفعه ، عبد مثله ، ضعيف .. ﴿ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾  عندنا ضلال كبير ، وعبارة ضلال بعيد ، بعضهم شبَّه الضلال الكبير لو كان هناك طريق إلى حمص مثلاً ، وهناك لوحة كبيرة جداً طولها أربعة أمتار بعرض ثلاثة أمتار مكتوب : تدمر على اليمين ، رغم هذه اللوَّحة الكبيرة ، الواضحة ، الفسفورية ، المضاءة ليلاً اتجه إلى تدمر ، وهو يبتغي حمص ، نقول له : هذا ضلال كبير ، ألم تر اللوحة ؟ أما إنسان دخل بطريق سار فيه مئتي كيلومتر ، وبعدما مشى هذه المسافة عرف أن هذا الطريق غلط ، أي مشى مسافةً بعيدةً جداً في طريق الضلال ، فربنا عزَّ وجل أحياناً يقول :  الضلال الكبير وأحياناً الضلال البعيد ، فقال :﴿ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ .. قد يقول لك قائل : يا أخي هذا الإنسان الذي سِرْتُ معه أعطاني شيئا من المال ، استفدت منه في الدنيا ، صار لي شأن حينما تقرَّبت منه ، فربنا عزَّ وجل انسجاماً مع تفكير هؤلاء .. ﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ﴾  إذا كان هناك نفع فالضرر الذي حصل من هذا الإنسان كبير جداً .

 

من يعبد غير الله فبئس العبد هو :


هنا يوجد سؤال : كيف يقول الله عزَّ وجل : ﴿ مَا لَا يَضُرُّهُ﴾ أي ينفي عنه الضرر ، وهنا : ﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ﴾ العلماء قالوا : الإنسان الذي يُعْبَدُ من دون الله لا يستطيع أن ينفع ، ولا أن يضر إلا بإذن الله ، ولكن مَن عبده من دون الله يضرُّه ، طبعاً لأنه يبعده عن الله عزَّ وجل ﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾  .. بئس هذا الوليِّ الذي تولاَّه ، وبئس هذا العشير الذي عاشره . 

كل الذي أريده من هذه الآية ألا تنطبق هذه الآية علينا ، ألا نعبد الله ما دام الله يعطينا ، فإذا منع عنا انقلبنا على وجوهنا ، هذه الآية تصف حالةً مَرضية ، بين المؤمنين أناسٌ يعبدونه على حرف ، ما دامت الأمور على ما يُرام يعبدونه ، فإذا جاءت على غير ما يرام لا يعبدونه ، أحياناً الإنسان يصاب بمرض ، وقد يكون مرضاً عُضالاً ، هكذا مشيئة الله عزَّ وجل ، ألا تحب مشيئة الله ؟ هكذا أراد الله ، هذه إرادته وهذه مشيئته ، لذلك قال سيدنا علي كرم الله وجهه : " الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين " ، أيْ أعلى درجة من درجات اليقين أن ترضى بمكروه القضاء 

 

تعلق الإرادة الإلهية بالحكمة المطلقة : 


﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ أي إذا أراد الله شيئاً وقع ، وإذا وقع شيءٌ أراده الله ، والإرادة الإلهية متعلِّقَةٌ بالحكمة ، والحكمة متعلقةٌ بالخير المُطلق ، هذه كلمات يجب أن تحفظوها ، إذا أراد الله شيئاً وقع ، قولاً واحداً ، وإذا وقع شيءٌ فقد أراده الله ، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة ، أي كل شيءٍ أراده الله لابدَّ له من حكمةٍ قاطعة ، وحكمة الله متعلقةٌ بالخير المطلق ، أما الدليل : 

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ  إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)  ﴾ 

[ سورة آل عمران ] 

الإعزاز خير ، والإذلال خير ، والإيتاء خير ، والنزْعُ خير ، الحكمة متعلقةٌ بالخير المطلق ، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة ، وكل شيءٍ وقع أراده الله ، وكل شيءٍ أراده الله وقع ، هذا هو القول الفصل ، لذلك : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ هنا إذا نسبنا الفعل إلى الله عزَّ وجل ، بمعنى أن الله يمتحن هذا الإنسان ، فإذا كان صادقاً ، مؤمناً ، مُخلصاً هداه ، أو تعزا الإرادة إلى الإنسان ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾  الإنسان ، الإنسان ماذا يريد ؟ يريد الهدى . 

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)  ﴾ 

[  سورة الإنسان  ] 

إذا أردت الهدى هداك الله ، وإذا أردت الضلال أضلَّك الله ، كلاهما يصح . 

 

الله تعالى حينما يرفع مِن شأن عبدٍ من عباده لا ينتظر من أحدٍ أن يوافق أو لا يوافق :


﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾  هناك أناسٌ من قريش غاظَهُم أن ينصر اللهُ النبيَّ ، وأن يُعلي شأنه ، وأن يمدَّه بأصحابه الكرام ، وأن يُقَدِّر على يديه فتح البلاد وهداية العباد ، كفار قريش غاظهم ذلك ، فكانوا يظنون أن الله لن ينصر النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا مُدَّعٍ ، هكذا يظنون ، سَبَّ آلهتهُم ، عاب دينهم ، هل يعقل أن ينصره الله عزَّ وجل ؟ فهم يظنون أن الله لن ينصر محمداً عليه الصلاة والسلام ، أما وقد نصره ، ورفع شأنه ، وأعلى ذِكْرَهُ ، وفتح البلاد على يديه ، وهدى العباد بهُداه ، غاظهم ذلك ، امتلؤوا غيظاً وحقداً ، وكادوا ينفجرون ، ربنا عزَّ وجل ردّ عليهم : ﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾  أي سيدنا محمد ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾  ليصعد إلى السماء ، ثم ليمنع هذا النصر عن محمد ، إذا كان بإمكانه أن يفعل ذلك ، لا يوجد غير ذلك ، إذا غاظه أن ينصر الله النبي عليه الصلاة والسلام فليمدد بسببٍ إلى السماء ، ليصعد إلى السماء ، ثم ليقطع نصر الله عن هذا النبي الكريم ، هل بإمكانه أن يفعل ذلك ؟ إن كان ليس بإمكانه أن يفعل ذلك فماذا يفعل إذاً ؟ هل يُذْهِبَنَّ كيده ما يغيظ ؟ هذا لا يُذهبنَّ كيده ما يغيظ ، هذا المعنى الأول ، وأوجَهُ المعاني التي جاءت في بعض التفاسير . 

أحياناً الإنسان يرى مؤمناً نصَّره الله عزَّ وجل ، رفع شأنه ، أجرى على يديه الخير ، قد يغتاظ لذلك ، الله سبحانه وتعالى حينما يُجري الخير على يدِ إنسان لا ينتظر أن توافق على ذلك ، لا ينتظر أن توافق ، ولا ينتظر أن تبارك ، ولا ينتظر أن تسمح ، هذا من معاني هذه الآية . 

المعنى الآخر أنّ الإنسان إذا كان منقطعَ الرجاء من الله عزَّ وجل ، لا يرجو الله عزَّ وجل ، سوداوي المزاج ، متشائماً ، هذا موته خيرٌ من حياته ، أي الإيمان من لوازمه الثقةُ بالله ، والرجاء بالله ، هناك أُناس يُيئِسون ، يوجد أناس سوداويون ، يحبون الأخبار المؤلمة ، السيئة ، هؤلاء الناس بعيدون عن حقيقة الإيمان ﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾  أيّ ظنه بالله سيِّئ ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾  أيْ هذا الإنسان موته خيرٌ من حياته ، هذا معنى ، والمعنى الثاني : مَن غاظه أن ينصر الله النبي عليه الصلاة والسلام فليفعل ما يشاء ، إن الله ناصر نبيِّه ، وليس بإمكان هذا الذي اغتاظ أن يقدِّم أو يؤخِّر ، أي الله عزَّ وجل حينما يرفع مِن شأن عبدٍ من عباده لا ينتظر من أحدٍ أن يوافق ، أو لا يوافق .﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴾  .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور