وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة الفرقان - تفسير الآيات 9 - 16 السعير عاقبة من يكذب بالساعة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

الله تعالى هو الخالق الذي يَخلُق ولا يُخلَق والذي بيده ملكوت كل شيء :


 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الخامس من سورة الفرقان . 

ربنا سبحانه وتعالى في هذه السورة بيَّن عدداً من أركان الإيمان ، وأركان الإيمان كما تعلمون الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، وأنبيائه ، والقدر خيره وشرِّه من الله تعالى ، فالآيات التي ذَكَرَتْ عن الآلهة التي اتُخِذَت مِن دون الله في تفصيلٍ أوصافَ هذه الآلهة بيَّن في ثناياها ماذا تعني كلمة الربوبيَّة والألوهيَّة والخالق ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا(3)﴾ إذاً مَنْ هو الله العظيم ؟ هو الخالق الذي يَخْلُق ولا يُخْلَق ، وهو الربُّ المتصرِّف من كان الخلق له مُلكاً وتصرُّفاً ومصيراً . 

 

لا مجالٌ للموازنة والمقارنة بين الخالق والمخلوق :


شيء آخر ؛ هو الإله الذي بيده ملكوت كل شيء : ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا ﴾ .. لا ينبغي أن تعبد غير الخالق ، والدليل آية سورة البقرة :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾

[ سورة البقرة  ]

فالخالق هو الذي يُعبَد ، وهو الذي يستحقُّ وحده أن يُعْبَد ، والربُّ هو المُمدّ لكل حاجات الإنسان ، والمسيِّر هو المتصرِّف ، فربنا سبحانه وتعالى من خلال كلمة : ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ﴾ كلمة من دونه أي شتَّان بين أن تعبد الخالق وبين أن تعبد المخلوق ، شتَّان بين أن تعبد مَن يسمعك وبين أن تعبد مَن لا يسمعك ، شتَّان بين أن تعبد من يستجيب لك وبين مَن لا يستجيب لك ، أي ليس هناك مجالٌ للموازنة والمقارنة بين الخالق والمخلوق ، فهذا الذي اتخذ عبداً مِن دون الله يعبده ، ويَتَّكِلُ عليه ، ويحرص على رضاه ، ويسعى إليه ، هذا هو الذي ضلَّ ضلالاً بعيداً .

 

الترابط والتلازم بين الدين والعقل :


﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا(3)﴾ .. هذه الآلهة إذا كانت لا تملك لأنفسها دفع الضرِّ عنها ، ولا جلب النفع إليها ، فهي من باب أوْلى أنها لن تستطيع أن تقدِّم للآخرين شيئاً ، كما قيل :  أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ، وقال أيضاً : ابن آدم أطع ربك تسمى عاقلاً ، ولا تعص ربك فتسمى جاهلاً  ، إنما الدين هو العقل ومن لا عقل له لا دين له ، ومن لا دين له لا عقل له ،  هناك ترابط وتلازم بين الدين والعقل ، إنما الدين هو العقل ، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءه سيدنا خالد مسلماً قال له : عجبت لك يا خالد أرى لك فكرًا ! ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام قال : 

عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ  : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  :

(( أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلا قَمَرًا وَلا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالا لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً  . ))

[ ضعيف ابن ماجه ]

 

الدين هو التوحيد و" لا إله إلا الله " هي كلمة التوحيد :


لو سألتني أن أضغط لك الدين كله في كلمة أقول لك : هو التوحيد ، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ، لو تصفَّحت هذا القرآن كلَّه من الدفَّةِ إلى الدفَّة ، من الفاتحة إلى سورة الناس ، ما رأيت قصَّةً ولا آيةً إلا لتؤكِّد في النهاية أنه لا إله إلا الله ، لذلك كلمة : " لا إله إلا الله " هذه كلمة التوحيد ، بهذه الكلمة تنجو ، لا إله إلا الله حصني من دخلها أمِنَ من عذابي.  

لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ لا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ وَلا تَتْرُكُ ذَنْبًا  ، الإسلام فيه معلومات كثيرة جداً ، هذه المعلومات لو تتبعَّتها ، وقرأتها بالكتاب ، أو استمعت لها في مجلس علم ، أو من خلال خطبة ، ينمو عندك ما يسمَّى بالثقافة الإسلاميَّة ، ولكن الثقافة الإسلاميَّة شيء ، وأن تكون مهتدياً إلى الله شيءٌ آخر ، أن تعرف الله شيء ، وأن تتصل به شيءٌ آخر ، يجب أن يكون لك طريق إلى الله عزَّ وجل : ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا(3)﴾ الإنسان أين المصير ؟ حينما يُوضَع المرء في قبره مَن ينفعه ؟ أتنفعه زوجته التي عصى ربه من أجلها ؟ حينما يُوضع تحت أطباق الثرى أينفعه ماله وقد خلَّفه وراءَه ؟ حين يوضع تحت أطباق الثرى أينفعه ابنه ؟ وقد يقول ابنه يوم القيامة : يا رب لا أدخل النار حتى أُدْخِلَ أبي قبلي ، فالقضيَّة قضيَّة مصيرية وقضية خطيرة ، أنا ألاحظ أن الإنسان ما لم يتعمَّق في التوحيد فدينه ثقافة ، ما دام يرجو غير الله ، ويخشى غير الله ، ويأمل بغير الله ، ويعقد رجاءه على غير الله ، ويطيع مخلوقاً ويعصي خالقاً ، هذا إنسان بعيدٌ بعد المشرقين عن أن يكون مؤمناً إيماناً راقياً .

 

ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل :


شيءٌ آخر ؛ إذاً الإيمان بالله ، كلمة الإيمان بالله سهل أن تقول : أنا مؤمن ، ولكن الإيمان له شروط : الإيمان عفيفٌ عن المطامع ، عفيفٌ عن المحارم ، الإيمان إقرارٌ في القلب ، ما وقر به القلب وصدَّقه العمل ، هذا الإيمان ، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل ، فالذي أتمنَّى على الله عزَّ وجل ألا يضيِّع الإنسان وقته بشكل غير مُجْدٍ ، إما أنه مؤمن حقَّاً وإما أن يبحث عن أن يكون مؤمناً حقَّاً .

الآن : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) ﴾ فربنا سبحانه وتعالى في الآيتين الثانية والثالثة تحدَّث عن الإيمان بالله ، وها هو في الآية الرابعة يتحدَّث عن الإيمان بالكتاب ، الإنسان يقرأ القرآن ، ما من مسلمٍ إلا ويقرأ القرآن في رمضان بشكل مكثَّف ، ولكن يا ترى هل يقرأ القرآن في رمضان وهو يعلم علم اليقين أنَّ هذا كلام الله ؟ فإذا علم أن هذا كلام الله فهل يعلم علم اليقين ما وراء أن يعصي هذا الكلام ؟ أو أن يقصِّر فيه ؟ في تطبيق ما أمر أو في ترك ما نهى عنه وزجر ؟ وإن شاء الله تعالى في دروسٍ أخرى سوف نتحدَّث عن البراهين التي تؤيِّد بشكلٍ قطعي أن هذا الكلام كلام الله عزَّ وجل . 

 

بشريَّة النبي محمد صلى الله عليه وسلَّم حجبت الكفار عن حقيقته :


الآن الآيات تطرَّقت إلى موضوعٍ ثالث وهو الإيمان بالرسول : ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ كأنَّهم غفلوا عن حقيقته ونظروا إلى بشريَّته ، رأوه بشراً مثلهم ؛ يأكلون ويأكل ، يشربون ويشرب ، يغضبون ويغضب ، ينسون وينسى ، فبشريَّته صلى الله عليه وسلَّم حجبتهم عن حقيقته ، رأوه يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، وعهدهم بملوك الإفرنج بملوك الفرس والروم أنهم لا يمشون في الأسواق ، هذا يمشي بين الناس متواضعاً ، يمشي مع المسكين ، ومع الأرملة ، ومع الضعيف . عدي بن حاتم حينما جاء المدينة دخل على النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال النبي : " مَن الرجل ؟ " ، فقال : " عدي بن حاتم " ، فالنبي رحَّب به ، فلمَّا علم أنه عدي وكان ابن ملكٍ من ملوك نجد أخذه إلى البيت ، قال عدي : " في الطريق استوقفته امرأةٌ ، فوقف معها طويلاً يكلِّمها في حاجتها ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك " ، فرقٌ كبير بين الملك وبين النبي ، عندما دخل سيدنا عمر على النبي عليه الصلاة والسلام ورآه قد أثَّر الحصير على خدِّه الشريف بكى ، فقال النبي : " يا عمر ما يبكيك ؟ " قال : " رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير ؟! " قال : " يا عمر إنما هي نبوَّةٌ وليست مُلكاً " ، أنا لست مَلِكاً ، أنا نبي ، فهم حينما رأوه بشراً مثلهم ، يأكل ويأكلون ، يشرب ويشربون ، وينام وينامون ، ويتعب ويتعبون ، ويغضب ويغضبون ، قالوا : ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ .. بينما هم من قبل هذا عرضوا عليه أن يكون أميراً عليهم فرفض ، عرضوا عليه أن يكون أغناهم فرفض ، عرضوا عليه أن يزوِّجوه أجمل فتياتهم فرفض ، شرْطَ أن يدع هذه الدعوة ، وعندئذٍ قال النبي عليه الصلاة والسلام قولته الشهيرة : " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته " ، فلمَّا يئسوا من أن يصرفوه عن هذه الدعوة بحثوا عن مطعنٍ في شخصه ، رأوه بشراً يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ، عندئذٍ ردَّ الله عليهم : ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ هم تصوَّروا أن يكون الرسول مَلَكاً ، وإذا كان ملكاً فالقضيَّة مشكلةٌ كبيرة ، عندئذٍ لن يستطيع أن يأمرهم بشيء ، كلَّما أمرهم بشيء قالوا : أنت مَلَك ، أنت لست مِن جِنسنا ، ولست من طبيعتنا ، ولا تُحِسُّ بما نُحِسْ ، ولا تشعر بما نشعر ، أحياناً إنسان ميسور الحال يدعو فقيراً إلى الصبر ، هذه الدعوة غير مقبولة من الغني ، يقول لك : أنت لا تُحِسُّ بمعنى الجوع لأنه لا يستطيع أن ينصح الآخرين إلا من يعيش معهم ، من يحيا مشكلتهم ، من يمارس مأساتهم ، أما لو أنه مَلَك ليس فيه شهوة ، وليس فيه نوازع داخليَّة أرضيَّة لقالوا : أنت مَلَك ، هم تصوَّروا أنه مَلَك : ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ لو كان هو مَلَكاً : ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) ﴾ .. اقترحوا أن يكون مع النبي الكريم مَلَك ينذر الناس ، واقترحوا أيضاً : ﴿ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ ﴾ كأنهم تعوَّدوا أن المَلِك لا يكون مَلِكاً إلا إذا كان في بذخٍ ، وترفٍ ، وبيتٍ فخمٍ ، وطعامٍ نفيسٍ ، ولباسٍ مزخرفٍ مزيَّن ، هذا الذي جعله ملِكاً ، أما أن تكون البطولة في أخلاقه ، في علمه ، في رحمته ، في قلبه الكبير فما أَلِفوا إنساناً يستحقُّ أن يكون نبياً إلا أن يكون كالملوك ، مع أن البطولة يجب أن تكون في الأخلاق ، وأن تكون في العلم ، وأن تكون في القلب الكبير : ﴿ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ ليس معه كَنز ، وليس له بستان فخم ، فيه أشجار ، وفيه غدران ، وفيه أزهار ، يقضي فيها معظم وقته ، كأنَّهم يتمنَّون أن يكون النبي كالملوك ، يغرقون في النعيم ، ويغرقون في البذخ والترف : ﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)﴾   .. غفلوا عن حقيقته صلَّى الله عليه وسلَّم ، غفلوا عن قلبه الكبير ، غفلوا عن علمه العظيم ، غفلوا عن رحمته ، غفلوا عن حكمته ، غفلوا عن تواضعه ، غفلوا عن شجاعته ، غفلوا عن كَرَمِهِ ، غفلوا عن أمانته ، غفلوا عن صدقه ، كل هذه الصفات غفلوا عنها ، رأوه إنساناً فقيراً مثلهم ، ولحكمةٍ بالغة فقد جعل الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام فقيراً :  قال له جبريل : " يا محمَّد أتحبُّ أن تكون نبيَّاً ملِكاً أم نبياً عبداً ؟ " ، قال : بل نبيَّاً عبداً أجوع يوماً فأذكره وأشبع يوماً فأشكره ، والنبي عليه الصلاة والسلام دعا لأحبابه بالكفاف فقال : عن عبد الله بن عمرو :

(( قد أفلح من أسلَم ورُزِقَ كفافًا  ، و قَنَّعَه اللهُ بما آتاه ))

[ مسلم ]

اللهم من أحبني فاجعل رزقه كفافاً ، من أدرك الإسلام والصحَّة ما فاته شيء ، إن الإنسان إذا كان إيمانُه سليماً وصحَّته طيِّبةً فقد نال المجد من طرفيه ، خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها همَّاً ، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر .

عن عبد الله بن محصن وأبي الدرداء وعبد الله بن عمر  :

(( مَنْ أصبَحَ منكمْ آمنًا في سِرْبِهِ ، معافًى فِي جَسَدِهِ ، عندَهُ ، قوتُ يومِهِ ، فكأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدنيا بحذافِيرِهَا . ))

[ صحيح الجامع  :  خلاصة حكم المحدث  : حسن  ]

فلذلك عندما اقترح هؤلاء على النبي أن يكون معه مَلَك ، أو أن يكون له كنز ، أموال طائلة ، أو أن يكون له بيت فخم وبساتين غنَّاء ، ما عرفوا حقيقة النبي صلى الله عليه وسلَّم .. 

وكيف يدرِكُ في الدنيا حقيقته           قومٌ نيامٌ تسلوا عنه بالحُلُمِ

فـمبلغ العـلم فيه أنـــــه بشــــــــرٌ           وأنه خير خلـق الله كلِّــــهـمِ

* * * 

 

الإسلام ليس معلومات جافَّة بل حبّ ومحبة :


إذا رأى أحدٌ النبي عليه الصلاة والسلام في المنام يبقى أشهراً وهو مغموس في السعادة ، لو أُتيح لنا أن نلتقي به صلَّى الله عليه وسلَّم  ، أصحابه الكرام سحرهم كماله ، صبؤوا ، أحبُّوه حبَّاً كما قال أبو سفيان : "ما رأيت أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحاب محمدٍ محمَّداً ".  

 الإسلام حبّ يا أخوان ، الإسلام ليس معلومات جافَّة ، الإسلام قلب يخفق بالمحبَّة ، الإسلام جلد يقشعر إذا قُرئَت آيات الله ، الإسلام دموع تنهمر من العينين ، لا يبكي ، ولا يقشعرُّ جلده ، ولا يخفق قلبه بالمحبَّة وهو مسلم ، الإسلام محبَّة :

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)﴾

[ سورة البقرة  ]

إن الله تعالى ليباهي الملائكة بالشاب التائب يقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي ، فالإنسان يجب أن يسعى ليجعل قلبه حياً ، هناك قلب ميِّت ، ميِّت لا يتأثَّر ، يقرأ القرآن فلا يتأثَّر ، يصلي صلاة جوفاء ، يصوم صيامَ جوعٍ وعطش ، القلب ميِّت ، القلب يحيا بذكر الله ، يحيا بالعمل الصالح ، يحيا بالتضحية ، يحيا بالمؤاثرة ، يحيا بالبَذل ، يحيا بترك الشهوات ، يحيا بالانضباط ، هذا كلُّه يحيي القلب ؛ لكن إن لم يكن لديه مؤاثرة ، ولا انضباط ، ولا استقامة ، هان الله عليهم فهانوا على الله ، الله هيِّن على الناس كثيراً ، يعصونَهُ بسهولة ، لأيسر ضغط يعصونَهُ ، لأيسر إغراء يعصونَهُ ، هان الله عليهم فهانوا على الله ، لأقل مشكلة يتركون مجلس العلم ، لأقل سبب يزهد بالقرآن الكريم ، لسببٍ تافه يُفْطِر ، هان الله عليهم فهانوا على الله. 

 

المقاييس التي اختلقها الكفار كانت حجاباً بينهم وبين هذا النبي الكريم فضلوا :


أنا أريد أن أقول : الإسلام محبَّة ، الإسلام قلبٌ يخفق بالمحبَّة ، الإسلام جلد يقشعر من خشية الله ، الإسلام عين تدمع حبَّاً بالله وشوقاً إليه . فهذه الاقتراحات أن يكون معه مَلَك ، أن يُلقَى إليه كنز ، أن تكون له جنَّة ، هذه الاقتراحات سَدَّت عليهم طريق معرفته صلى الله عليه وسلَّم ، فأنت تظن أن العالِم هو الذي يكون لون جسمه أبيض ، ليس هناك علاقة بين البياض والعلم ، تظن العالِم مَن كان له قامة طويلة ، تظن العالِم مَن كان له رصيد ضخم ، تظن العالِم من كان له بيتٌ فخم ، التقيتُ بعالِم بيتُه متواضع جداً ، قصير القامة ، أسمر اللون ، لا يملك من الدنيا شيئاً ، فأنت مقياسك غلط ، هذا المقياس حجبك عن حقيقته ، مقياسك مبني على الوهم ، لا علاقة للعلم بالشكل ، ولا باللون ، ولا بالمال ، ولا بالبيت ، فأنت عندما جعلت العلم دليلُه البيتُ الفخم ، دليلُه المال العريض ، دليلُه الشكل الوسيم ، فهذه المقاييس أنت الذي اخترعتها ، وهي حجاب بينك وبين هذا العالِم مثلاً . فهم حينما ظنّوا أن النبي لن يكون نبياً إلا إذا كان له جنَّة ، بستان ، كنز ، بيت فخم ، معه مَلَك من طبيعة أخرى ، عندئذٍ هذه المقاييس التي اختلقوها هم كانت حجاباً بينهم وبين هذا النبي الكريم ، بل إنهم قالوا : ﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) ﴾ نسوا أن هذه نبوَّة ، وأن هذا وحي من عند الله ، نسوا كل هذا وظنّوه رجلاً مسحوراً ، أي يتبع السحرة ، أو يُسْحَر . 

 

الله سبحانه وتعالى ما أراد الدنيا أن تكون ثواباً لأوليائه ولا عقاباً لأعدائه :


﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا ﴾ كيف ضربوا لك الأمثال ، هذه الاقتراحات ، هذه المقاييس من عند أنفسهم لا أساس لها من الصحَّة ، هذه المقاييس جعلتهم في ضلال فَضَلّوا : ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) ﴾ ، إلى معرفتك ، سبيلاً إلى معرفة حقيقتك النبويَّة ، شيءٌ عظيمٌ جداً أن تعرف حقيقة النبي عليه الصلاة والسلام ، شيء عظيم جداً أن تكون في المستوى الذي يليق بك كإنسان . 

الله سبحانه وتعالى ما أراد الدنيا أن تكون ثواباً لأوليائه ، وما أرادها هي أحقر من ذلك ، أحقر من أن تكون ثواباً لأوليائه ، وأحقر من أن تكون عقاباً لأعدائه ، ربَّما رأيت وليَّ الله فيها معذَّباً ، مُمْتَحَناً ، مُبتلىً ، وربَّما رأيت الكافر الفاجر فيها مرتاحاً ، لحقارتها عند الله عزَّ وجل ، ولضعف شأنها عند الله عزَّ وجل ، ولأنها هينةٌ على الله عزَّ وجل ، ما أرادها الله أن تكون ثواباً لأوليائه ، ولا عقاباً لأعدائه ، لذلك : عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  :

(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء . ))

[ المنذري  : الترغيب والترهيب :  خلاصة حكم المحدث  : إسناده صحيح أو حسن ]

فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمَّداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ، فإن قال : أهانه فقد كذب ، وإن قال : أكرمه فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا ﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) ﴾ هذه المقاييس كانت حجاباً بينهم وبينك ، سدَّت عليهم طريق معرفتك . 

 

الله تعالى قادر أن يعطي النبي كل شيء لكن هذا الشيء ليس مقياساً للنبوة :


﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا(10)﴾ ربنا عزَّ وجل قادر أن يحيط النبي ببيوتٍ ، وقصورٍ ، وجنَّاتٍ ، وبساتين ، ومراكب ، ورياحين ، هذا شيء على الله سهل جداً لكنَّه ليس مقياساً للنبوَّة ، إن شاء ، ولو فعل الله ذلك لما نقص من ثواب النبي شيئاً يوم القيامة : ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا(10)﴾ قصوراً عالية .

 

كلَّما ورد الإيمان بالله في القرآن الكريم يأتي معه الإيمان باليوم الآخر :


﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) ﴾ .. الحقيقة الآن دخلْنا في البند الثالث ، الإيمان بالله ، ثم الإيمان بالكتاب ، ثمَّ الإيمان بالنبيّ ، والآن الإيمان باليوم الآخر ، والشيء الذي يلفت النظر أنه كلَّما ورد الإيمان بالله في القرآن الكريم يأتي معه الإيمان باليوم الآخر ، لأن الإنسان حينما لا يؤمن بالساعة أي باليوم الآخر ، أي لا يؤمن بالحساب ، أي لا يؤمن بالجزاء ، أي لا يؤمن بالدينونة ، إذا لم يؤمن بالدينونة ، بالجزاء ، بالحساب ، بالعقاب ، عندئذٍ سيتفلَّت من قوانين ربنا عزَّ وجل ، سيتفلَّت من الشرع ، فهناك تلازم ، لماذا فلان مستقيم ؟ لأنه مؤمن أن لكل حسنةٍ ثواباً ولكل سيئةٍ عقاباً ، هذا الإيمان يحمله على الاستقامة ، أي هناك مسؤوليَّة :

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾

[ سورة الحجر ]

لولا المسؤوليَّة لما كان هناك استقامة ، الآن لماذا ينضبط الموظَّف ؟ يكون هناك مديرٌ شديد جداً مثلاً يحاسب حساباً دقيقاً ، واضع ضوابط ، واضع معايير ، واضع أجهزة مراقبة دقيقة جداً مثلاً بالدخول والخروج ، الآن يوجد كرت مثلاً تدخل يُسجِّل أي ساعة دخلت إلى الدائرة ، تخرج يسجل ، التأخُّر صار عليه محاسبة ، جهاز يضبط دوام الموظَّفين ، فإذا كان المدير العام شديداً جداً ، وعنده أجهزة دقيقة جداً لضبط الدوام والإنجاز ، فالإنسان يلتزم لأنه سوف يُحَاسَبْ ، ربنا عزَّ وجل جعل يوم القيامة يوم الحساب ، يوم الجزاء ، يوم الدينونة ، لذلك المؤمن إذا آمن بهذه الساعة لابدَّ من أن ينضبط .

 

أدلة من القرآن الكريم على أن يوم القيامة حقٌ وله مقياس دقيق جداً :


﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ﴾ .. التكذيبُ بالساعة تكذيبٌ بعدالة الله عزَّ وجل ، لأن الله سبحانه وتعالى من أسمائه الحق ، والحق هذا الاسم يتحقَّق يوم القيامة :

﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾

[ سورة الواقعة  ]

يوم القيامة يوجد مقياس ، مقياس عظيم ، مقياس دقيق جداً :

﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

مثقال حبَّة من خردل :

﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16) ﴾

[ سورة لقمان  ]

 وقال : 

﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾

[  سورة النساء  ]

نواةُ التمرة لها رأسٌ مدبَّب ، لو تحسّسته بلسانك شعرت به ، هذا الرأس المدبَّب اسمه النقير : ﴿ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(124) ﴾ نواة التمر فيها خيط بين فُرْضَتَيها ، هذا الخيط اسمه الفتيل :

﴿ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)﴾  

[ سورة الإسراء  ]

لا نُظْلَم الفتيل ولا نُظْلَم النقير . 

 

على المؤمن أن يُعِدّ ليوم الحساب عُدَّته بأن يحاسب نفسه على كل حركة وسكنة :


﴿ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) ﴾ ، وقال :

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)  ﴾

[ سورة الزلزلة ]

هذا يوم القيامة ، يوم الساعة ..﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ﴾ فالإنسان البطل الذي يُعِدُّ لهذا اليوم عُدَّته ، الإنسان إذا أعمل فكره إعمالاً صحيحاً ، وتيقَّن أنه لابدَّ من أن يقف بين يدي الله عزَّ وجل ، عندئذٍ يحاسب نفسه على الأنفاس ، على الخواطر ، على النظرات ، على الحركات ، على السكنات ، على البسمة ، على العبوس ، كلُّه محاسبٌ عليه : 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾

[ سورة الحجر ]

 

إذا صحَّ إيمانك باليوم الآخر صحَّ عملك :


موضوع الإيمان باليوم الآخر شيء مهم جداً ، إذا صحَّ إيمانك بيوم القيامة ، أو باليوم الآخر صحَّ عملك لأن هذا الوقوف لابدَّ منه :

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابيه(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه(25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه(26)يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27)مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه(29) ﴾

[ سورة الحاقَّة  ]

لننظر للتلازم بين يوم القيامة والحساب .

 

لوازم التكذيب بالساعة :


 ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) ﴾ يا تُرى هل السعير فقط على التكذيب بالساعة ؟ أعتقد أنَّ التكذيب بالساعة سوف ينتج عنه تفلُّت من النظام ، سوف ينتج عنه عدوان ، التكذيب بالساعة من لوازمه التفلُّت من منهج الله عزَّ وجل ، التكذيب بالساعة من لوازمه العدوان على أموال الناس ، وعلى أعراضهم ، التكذيب بالساعة من لوازمه أن يقتنص المُكَذِّب اللذَّة من أي طريقٍ كان ، هذا التكذيب بالساعة . 

 

من أعجب العجب أن يتلوَ الإنسان كلام الله ويعصيه :


لذلك : ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) ﴾ فالسعير ليس على التكذيب فقط بل على ما ينتج عن التكذيب من انحرافٍ وعدوان ، ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) ﴾ هذا الكلام الحقيقة أنه من أعجب العجب كيف أن يتلوَ الإنسان كلام الله ويعصيه !! فهذا الكلام ليس له إلا حالتين : إما أنه صحيح حقاً ، وإما أنه باطل ، فإذا كان باطلاً ما الدليل ؟ وإذا كان صحيحاً وحقاً فكيف تعصي الله والقرآن يذكِّر بأنه لابدَّ من حساب دقيق ؟ ذات مرَّةٍ خاطب الإمام الغزاليُّ نفسَه فقال لها : " يا نفس لو أن طبيباً منعكِ أكلةً تحبينها ماذا تفعلين ؟ طبعاً أغلب الظن أنَّكِ تمتنعين عنها حرصاً على صحَّتكِ ، كيف يعصي الإنسان ربَّه ؟ هذا الذي يعصيه أيكون الطبيب أصدق عنده من الله ، إذا كان كذلك فما أكفره ! 


  ما من شيءٍ في الكون إلا وهو نفْسٌ تسبِّح بارئها :


﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) ﴾   هذه جهنَّم نفْس أيضاً ، والدليل : 

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾

[ سورة الإسراء  ]

 أيْ ما من شيءٍ في الكون إلا وهو نفْسٌ تسبِّح بارئها ، إلا هذا الإنسان الغافل ، فالكون كلُّه مسخر لهذا الإنسان وهو يسبِّح بحمد الله ، فإذا جاء الإنسان الذي سُخِّر له الكون من أجله ، وغفل عن ذكر الله ، جهنَّم نفسها لا تحتمل أن ترى مخلوقاً أولاً قد خان الأمانة  ونقض العهد ، وأساء إلى الخَلق ، لذلك حتى جهنَّم لا تحتمل ، لذلك لو فرضنا أباً اعتنى بابنه عناية فائقة ، وهذا الابن فعل شيئاً سيئاً مع أبيه ، هؤلاء الذين يأخذونه للمحاسبة في الطريق يغلظون له في القول ، كيف تفعل هذا ؟ أين أخلاقك ؟ أين برُّك لأبيك ؟ لا يحتملون ، الغُرَبَاء لا يحتملون فعل هذا الابن العاق ، فلذلك حتَّى جهنّم : ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ رأتهم هنا الموضوع يسوقنا إلى أن هذه الجمادات ، هذه الكواكب ، هذه النباتات ، هذه الحيوانات كلّها نفوس ، أعرف حجراً بمكَّة كان يُسلِّم عليّ . 

(( النبي عليه الصلاة والسلام دخل بستاناً من بساتين الأنصار فرأى جملاً فحنَّ إليه ، تقدَّم منه النبي عليه الصلاة والسلام فرآه يبكي ، مسح النبي عليه الصلاة والسلام دمعَهُ بيديه الشريفتين ، فقال : " مَن صاحب هذه الناقة ؟ " فقالوا : فلان الفلاني فتى من الأنصار يا رسول الله ، قال :  "ائتوني به " ، فلمَّا جاؤوا به قال : عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب : من ربُّ هذا الجملِ ؟ لمن هذا الجملُ ؟ فجاء فتًى من الأنصارِ ، فقال  : لي يا رسولَ اللهِ  فقال : أفلا تتَّقى اللهَ في هذه البهيمةِ التي ملَّكَك اللهُ إياها ؟ فإنَّهُ شكا إليَّ أنك تُجيعُه وتُدْئِبُه . ))

[ صحيح الترغيب  : حكم المحدث : صحيح ]

الحيوان نفس ، والجماد نفس ، كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب على جذع النخلة ، فلمَّا صنع له أًصحابه منبراً حنَّ الجذع إليه ، فكان يقف على المنبر ويضع يده على الجذع إكراماً لهذا الجذع ، فهذه الإشارات من النبي عليه الصلاة والسلام مؤدَّاها أن الجمادات أنفس لكنَّها لم تقبل الأمانة ، بمعنى أن الله عزَّ وجل حينما عرض :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾

[ سورة الأحزاب ]

 

المخلوقات اكتفت أن تكون مسبِّحةً لله من دون مسؤوليَّة لذلك نَجَتْ :


إنَّ هذه الأمانة ، أمانة التكليف ، عُرِضَت على الجمادات أيضاً : ﴿ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ﴾ المخلوقات اكتفت أن تكون مسبِّحةً لله من دون مسؤوليَّة ، من دون امتحان ، من دون شهوات ، من دون حساب ، من دون حرية اختيار ، لذلك نَجَتْ ، أما الإنسان إذا صدق في حمل الأمانة يتفوَّق على كل المخلوقات ، فإن لم يصدق بحملها فكل مخلوقٍ أفضل منه .

 

الضيق والضغط من لوازم العذاب والاتساع والانفراج من لوازم النعيم :


﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ ﴾ جهنَّم ..﴿ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) ﴾   ورد في بعض الآثار أنه يخرج لسان من جهنَّم له عينان تشاهدان ، وله لسان ينطق : ﴿ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) ﴾ .. تؤكِّدُ بعض التفاسير أن أهل النار وهم يتعذَّبون في النار ، يشهقون ، ويئنون ، ويزفرون ، فهذا الشهيق والزفير ، وهذا التغيُّظ والأنين ، والصوت والألم هي أصوات أهل النار ، كما لو أن إنساناً ساقوه إلى مكان يعذَّب فيه الناس ، قبل أن يصل سمع أصوات المعذَّبين فازداد خوفه : ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا(13)﴾ هم مقيَّدون مقرَّنون ، أو مقرَّنون مع شياطينهم ، هذا الشيطان الذي ساق الإنسان إلى النار ، يأتي النار هو والشيطان الذي ساقه إليها ، هذا معنى ، أو هم مقيَّدون لأن جهنَّمَ على اتساعها تضيق بأهلها ، وقد تضغط عليهم ، والضيق والضغط من لوازم العذاب ، والاتساع والانفراج من لوازم النعيم ، لذلك القبر يتسع ويتسع حتَّى يغدو مدَّ العين ، والقبر يضيق بالكافر حتى يَضْغَطَ عليه فتختلف أضلاعه ، معنى الضيق من معاني العذاب ، ومعنى الاتساع من معاني النعيم .

 

السعير هو ما ينتج عن التكذيب بالساعة مِن تفلُّت وعدوان :

 

﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) ﴾ قالوا : يا ويلنا لقد هلكنا ، شخص مقرر يتعذَّب عذاباً شديداً لأنه مجرم ، فلأولِ ضربةٍ صرخ ، أطلْ بالك ، هذا أول شيء ، هناك أعداد من الضرب كثيرة جداً :﴿ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) ﴾ .. العمليَّة طويلة جداً ، أنت في أول الطريق ، أنت في أول الأمر ، هناك سلسلة طويلة جداً من التعذيب ، فهذه صور من الله عزَّ وجل ، هذا كلام رب العالمين ، هنا لا يوجد حل وسط ، لا يوجد نقرأ القرآن ونتبارك فيه ونعصي كلامه ، هذه ليست بركة هذا غباء ، كلام واضح كالشمس ، وعدٌ ووعيد ، فإما أن تؤمن بأن هذا القرآن كلام الله فتنضبط وتدفع الثمن ، وإما أن تواجه تحقيق هذا الوعيد ، فالإنسان عليه ألا يأخذ الأمور أخذاً ساذجاً ، حدِّد موقفك من هذا الكتاب ، ما دام كتاب الله حقَّاً ، يقيناً ، قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، فماذا تنتظر ؟ ما الذي يمنعك من أن تتوب إلى الله توبةً نصوحاً ؟ ما الذي يمنعك من أن تقلع عن هذه المعصية ؟ إذاً : ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) ﴾ والسعير لِما ينتج عن التكذيب بالساعة مِن تفلُّت وعدوان .

 

وصف دقيق لما يجري في جهنم من عذاب وآلام وشدة لا تطاق :


﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) ﴾ .. النار تحتار في أمر هؤلاء ، كيف خُنْتم الأمانة ؟! كيف عصيتم ربُّكم ؟! وهناك آيات أخرى توضِّح هنا المعنى :

﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)﴾

[  سورة المُلك  ]

حتَّى الخَزَنَة يعجبون من هذا الإنسان العاصي : ﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)﴾ أحياناً طبيب الأسنان يمس طرف السن فيصرخ المريض ، هناك أيضاً إبرة البنج ، وألم القلع ، وسلسلة آلام أُخرى أمامه ، هذه : ﴿ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) ﴾ هذه الحال التي لا توصف من الشدَّة ، جهنَّم إلى الأبد ، آلامٌ لا تُطاق .

 

بعض الآيات من القرآن الكريم للموازنة بين الجنة والنار :


ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ﴾   .. وازنوا بين أن يكون الإنسان في عذابٍ أليم ، في حريقٍ دائم ، في خزي وعار ، في ألمٍ لا يُحتمل ، في شيءٍ لا يمكن أن يُصْبَر عليه : ﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ﴾ أن تكون في جنة عرضها السماوات والأرض ، معزَّزاً ، مكرَّماً ، لك ما تشتهي نفسه ، لك فيها من كل الثمرات ، وفوق ذلك سلامٌ من الله عزَّ وجل ، أي الله عزّ وجل يلقي عليهم السلام :

﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) ﴾  

[ سورة الزمر ]

موازنة دقيقة جداً ، فلذلك ربنا عزَّ وجل في آيات أخرى يقول :

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[  سورة القصص ]

وقال : 

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) ﴾

[ سورة السجدة  ]

 وقال :

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾

[ سورة الزمر  ]

﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) ﴾ جزاء على أعمالهم في الدنيا ، وهم في هذا النعيم إلى الأبد .

 

حياتنا مهما طالت لا تساوي شيئاً لأن الحياة الأبدية هي كل شيء :


ما هو الأبد يا أخوان ؟ ما هو الأبد ؟ تكلَّمنا عن أقرب نجم للأرض ملتهب طبعاً ، العلماء يفرِّقون بين الكوكب والنجم ، الكوكب هو الجسم المنطفئ ، الأرض كوكب ، المريخ كوكب ، المجموعة الشمسية كلُّها كواكب ، أقرب نجم ملتهب للأرض بعده عنَّا أربع سنوات ضوئيَّة ، كلمة ، معنى أربع سنوات ضوئيَّة بالحساب الدقيق لو ركبنا مركبَةً إلى هذا النجم بسرعة السيارة نحتاج إلى خمسين مليون سنة ، معنى أربع سنوات ضوئيَّة في علم الفَلَك ، لو ركبنا مركبة بسرعة السيارة لاحتجنا إلى خمسين مليون سنة ، لو ركبنا مركبة بسرعة مركبة القمر أي أربعون ألف كيلو متر بالساعة نحتاج إلى مئة ألف عام ، فهذا النجم بعده عنَّا أربع سنوات ضوئيَّة ، أما نجم القطب فيبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية ، ليس أربعة بل أربعة آلاف ، المرأة المُسَلْسلة مليون سنة ضوئيَّة ، مجرَّة اكتُشِفَت حديثاً تبعد عنا ستة عشر ألف مليون سنة ، الكون غير محدود ، فما هو الأبد ؟ يا ترى مليون مَليون ملْيون مليُون مَلْيون ، حياة الإنسان لو عاش على الأرض مليون سنة فهي تساوي صفراً ، مثلاً فلان ما شاء الله صار عمره تسعة وثمانين عاماً ، ما هذه التاسعة والثمانين عاماً ، هذه تعدل صفراً ، والمئة سنة صفر ، والمليون سنة صفر ، والألف مليون سنة صفر أمام الأبد ، أيُضحَّى بالأبد كلِّه هكذا ببساطة ؟ تمشي على هواك وتعصي الله ، أتضحي بهذه الحياة الأبديَّة ؟ ماذا يقول الكافر يوم القيامة ؟

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)  ﴾

[ سورة الفجر ]

 ألم تكن حيَّاً ؟ لا ، هذه لم يسميها حياةً ، حياته هي الحياةُ الأبدية . 

 

على الإنسان ألا يضحي بالأبد من أجل شهوات طارئة :


موضوع الأبد يا أخوان شيء لا يتصوره إنسان ، تقريبٌ بسيط ، خذ كيساً من الطحين ، وبلل أصبعك بريقك ، واضغط ضغطاً خفيفاً وأحضر مكبِّراً وعُدّ كم ذرَّة ؟ ضغط خفيف بحيث يكون أقل ضغط وعُد كم ذرَّة ، إذا كانت كل ذرَّة مليون سنة فهذا الكيس كم مليون سنة ؟ لو كان طحينًا كثيرًا ليس كيساً واحداً ، بل مليون كيس طحين ، إنتاج العالَم كلَّه من الدقيق ، إذا كانت كل ذرَّة مليون سنة فالدقيق الذي في العالَم كم مليون سنة ؟! هذا الأبد لا يوجد شيء ينتهي عنده : ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) ﴾  مصيره في الجنَّة ، ثمنها كم سنة ، غض البصر ، والاستقامة على أمر الله ، أداء الصلوات ، أداء الصوم ، أداء الحج ، إحسان للخلق ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كم سنة مهما طالت فإنَّها تمضي ، وبعدئذٍ : ﴿ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) ﴾ أيضحَّى بهذا الأبد من أجل لُقَيْمَاتٍ من حرام ؟ من أجل نظراتٍ إلى النساء ؟ من أجل كلماتٍ نمزح بها فنقع في إثم المعصية ؟ نضحي بالأبد كله من أجل شهوات طارئة؟ ﴿ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) ﴾ والله كلمة مؤثِّرة جداً ، وبالمقابل جهنَّم كذلك جزاءً ومصيراً ، كذلك للأبد.

 

الأبد إذا لم يعرفه الإنسان ما عرف الله عزَّ وجل فالجنَّة للأبد والنار للأبد :


كلمة أبد كلمة لو الإنسان فكر فيها ، لو فرضنا أن رقم واحد بدمشق ، وبين كل صفرين ميليمتر ، وأصفار لحلب ، تابعنا لأنقرة ، ثم لموسكو ، ثم للقطب ، ثم تابعنا دورتنا حول المحيط الهادي ، ثم لإفريقيا ، لو أن رقم واحد بدمشق وأصفاراً حول الكرة الأرضيَّة لما أحاط هذا الرقم بالأبد ، هذا رقم كبير ولكنه محدود في النهاية ، الأبد ليس له نهاية ، هذا الأبد إذا لم يعرفه الإنسان فإنَّه إذاً ما عرف الله عزَّ وجل ، فالجنَّة للأبد ، والنار للأبد : ﴿ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ﴾ فقط اطلب ، اطلب وتَمَنَّ ، خاطرٌ لو جاءك تتنعم بكل شيء ، بما لذَّ وطاب ، يقولون : إن الإنسان عندما يموت يُكْشَفْ له شيءٌ من نعيم أهل الجنَّة فيقول : لم أرَ شرَّاً قط في حياتي ، علماً بأن حياته كلها كانت متاعب ، كل حياته كانت أحزاناً وهموماً ، كل حياته مشكلات ، كانت كلها أمراضاً ، عندما يكشف ربنا عزَّ وجل له عن شيء من نعيم أهل الجنَّة يقول : لم أرَ شراً قط في حياتي ، وحينما يكشف لأهل النار عن بعض ما فيها من عذاب يقول أحدهم : لم أرَ خيراً قط ، وقد قضى كل عمره بالدنيا في النعيم والرفاه والعز والجاه ، القضية ليست سهلة .

 

الله تعالى لا يخلف وعده لأن وعده واقع وقطعي :


﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) ﴾ هذا وعدٌ من الله عزَّ وجل ، واسأله ذلك الوعد ، والدليل :

﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)﴾

[   سورة آل عمران  ]

فوعد الله اعتبرْه وقع وانتهى ، قطعياً ، ربنا عزَّ وجل :

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[ سورة النساء ]

 وقال :

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[  سورة التوبة  ]

في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتابع هذه الآيات وهي قوله تعالى : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ(17)﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور