وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 09 - سورة الفرقان - تفسير الآيات 32 - 44 الإنسان حمِّل الأمانة ومُنح حرية الاختيار فعليه أن يتحمل المسؤولية كاملة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

الكفار طعنوا بنبوة النبي من خلال ادعائهم أن القرآن ليس كلام الله :


 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس التاسع من سورة الفرقان . 

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا(34)﴾ الكفَّار أرادوا أن يطعنوا بنبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام من خلال تكذيبهم له  من أن هذا القرآن كلام الله ، هم يكذّبون أن يكون هذا القرآن كلام الله ، من افتراءاتهم ، أو من مطاعنهم أن هؤلاء الكفَّار يرون أن هذا القرآن لو أنه كلام الله لأُنْزِلَ على النبي عليه الصلاة والسلام دفعةً واحدة ، مرَّةً واحدة بسوَرِهِ ، وآياته ، وموضوعاته ، من أين جاؤوا بهذا الافتراء ؟ من الذي سمح لهم أن يطعنوا هذا المطعن ؟ الحقيقة أنهم توهَّموا أن التوراة أُلقيت على سيدنا موسى على شكل ألواح ، والإنجيل كذلك ، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام رسولاً من عند الله فينبغي أن يُنَزَّلَ عليه القرآن جملةً واحدة ، وما دام قد أنزل هذا القرآن مُنَجَّماً في ثلاثَة وعشرين عاماً فهذا من افتراءات النبي عليه الصلاة والسلام وليس كلام الله ، هذا مجمل دعوى الكفَّار ، أو هذه فريةٌ افتراها الكفَّار على النبي عليه الصلاة والسلام .

 

الكافر هو الكافر نموذجٌ متكرِّرٌ في كل زمانٍ ومكان :


الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى ردَّ عليهم فِرْيَتَهُم ومطعنهم فقال : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (32) ﴾ ، بالمناسبة هناك قولٌ ثابت هو أن مِلَّةَ الكفر واحدة ، أي الكافر هو الكافر في كل زمانٍ ومكان ، تصرُّفاته ، أفكاره ، طريقته ، طعنه ، تشكيكه ، نموذجٌ متكرِّرٌ في كل زمانٍ ومكان .

 

الآية التالية أصلٌ في الطريقة التربوية في التعليم :


ربنا سبحانه وتعالى قال : ﴿ كَذَلِكَ (32) ﴾  لكنَّه بَيْن كلمة : ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (32) ﴾ وبين كلمة : ﴿ كَذَلِكَ (32) ﴾ هناك وقفٌ جائز ، ومعنى الوقف الجائز أي أن المعنى ينتهي عند كلمة واحدة ، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (32) ﴾ وقف ، ﴿ كَذَلِكَ (32) ﴾ أي نَزَّلناه منجَّماً ، نزَّلناه منجَّماً كذلك : ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ (32) ﴾ كيف ؟ الشيء الذي تُعَلِّمُنا إيَّاه هذه الآية ، هذه الآية أصلٌ في الطريقة التربوية في التعليم ، أنت إذا أردت أن تُعَلِّم علم النحو دفعةً واحدة بكل أبوابه ، وفروعه ، وأقسامه ، هذه المعلومات لا تثبت في نفس الطالب ، لكن هذا الطالب إذا واجه مشكلةً في كتابة نصٍّ ، أو واجه مشكلةً في تحريك كلمةٍ ، أو واجه مشكلةً في صياغة جملةٍ ، كُلَّما واجه مشكلةً وشعر أنه في أمسِّ الحاجة لحلِّ هذه المشكلة جاءته القاعدة النحويَّة التي تُبَيِّن له الصواب ، إذا جاءت القواعد عَقِبَ مشكلاتٍ وقضايا يعانيها الطالب فإن هذه القواعد تكون ثابتة ، هذا على مستوى التعليم . على مستوى تعليم الحِرْفَة ، حينما يأتي معلِّم الحرفة ويعلِّم الطالب القواعد النظريَّة في هذه الحرفة ، أغلب الظن أن هذه القواعد لا تثبت ، ولكن حينما يواجه المُتَعَلِّم مشكلةً ، أو قضيَّةً ، أو أزمةً ، ولا يدري لها حلاً ، يأتي معلِّم الحرفة في الوقت المناسب ، وهو على أحرّ من الجَمر ، طالب العلم متعلم هذه الحرفة على أحرّ من الجمر لتعلُّم حلِّ هذه المعضلة ، أو تذليل هذه المشكلة ، يأتي عندئذٍ معلِّم الحرفة ، ويوضِّح للطالب القاعدة في حلِّ هذه المشكلة ، وبذلك فإن هذه القاعدة لن تُنْسَى أبداً .

 

مادام القرآن لم ينزل دفعةً واحدة فهذه هي الحكمة المطلقة وهذا هو الخير المطلق :


كلكم يعْلَم إن من خلال تعلُّمه ، أو من خلال تدريبه ، أو من خلال مواجهته للمشكلات إذا جاءت القاعدة ، أو جاء الحل ، أو جاء القانون ، أو جاء التوجيه الصحيح على أثر مشكلةٍ ، أو أزمةٍ ، أو قضيَّةٍ ، أو إشكالٍ فإن هذا الحَلَّ يثبت في النفس ، ولا تنساه النفس أبداً ، فالنبي عليه الصلاة والسلام - ولله المثل الأعلى - هو الذي يعلِّمنا كيف نُعَلِّم ، والنبي عليه الصلاة والسلام سيِّد المعلِّمين قال : عن عبد الله بن يزيد :

(( وإنما بعثت معلماً . ))

[ ضعيف الجامع   ]

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ  . ))

[ السلسلة الصحيحة  : صحيح ]

فكلَّما ظهرت مشكلة في مجتمع النبي وأصحابِهِ ، ومجتمعِ المؤمنين ، وأقلقت المؤمنين ، لا يدرون لها حلاً ، جعلتهم يقلقون ، يحارون ، يأتي تنزيل الله عزَّ وجل ، تنزيل القرآن الكريم في الوقت المناسب لتكون هذه الآية شفاءً لما في الصدور . 

إذاً أنت إذا أردت أن تُعَلِّم فانتهز المُناسبات ، علِّم من خلال الممارسات ، من خلال المشكلات ، من خلال المُعضلات ، من خلال الأزمات ، تأتي القاعدة وكأنها البَلسم الشافي ، يأتي القانون وكأنَّه الحل السديد ، كذلك ربنا سبحانه وتعالى - ولله المثل الأعلى -شاءت حكمته ، وفي المناسبة الإنسان أحياناً يسلك سلوكاً غير حكيم لأنه جاهل ، أو لأنه واقعٌ تحت ضغطٍ قوي ، أو لأنه واقعٌ تحت إغراءٍ نفسي ، الضغط الضاغط ، أو الإغراء الجاذب ، أو الجهل القاطع يحمله على تَصَرُّفٍ غير حكيم ، هذا لا ينطبق على الله عزَّ جل ، أفعال الله كلُّها حكيمة ، الذي شاءه الله وقع ، والذي وقع شاءه الله ، الذي أراده الله وقع ، والذي وقع أراده الله ، وإرادة الله عزَّ وجل متعلِّقةٌ بالحكمة ، والحكمة متعلِّقةٌ بالخير المُطلق ، أي ما دام الشيء قد وقع فقد أراده الله ، وما دام الله قد أراده إرادة الله حكيمةٌ قطعاً ، وحكمة الله متعلِّقةٌ بالخير المطلق ، إذاً ما دام القرآن لم ينزل دفعةً واحدة ، جملةً واحدة ، فهذه هي الحكمة المطلقة ، وهذا هو الخير المطلق ، وإذا أردت أن تُعَلِّم فاسلك هذا السبيل .

 

لا يعترض على فعل الله إلا أحمق أو جاهل أو غبي :


سمعت أن بعض كليَّات الهندسة في بعض البُلدان يبدأ طالب الهندسة في الميدان ، ميدان البناء ، ومعه مُدَرِّبه ، فكلَّما واجه قضيَّةٌ يأتي المدرِّب ويعطيه القاعدة ، إنَّ هذه القاعدة لن تُنْسَى أبداً ، لذلك في بعض اتجاهات تدريس النحو في التعليم ألا يُعْطَى النحو كدرسٍ مستقل ، يُعطى من خلال النَص ، فكلَّما واجه الطالب مشكلةٌ في قراءة الكلمة ، أو في إعرابها ، أو في تحريكها ، أو في كتابتها ، أو في صياغتها ، أو في تصريفها ، يأتي المدرِّس ويعطي الطالب هذه القاعدة ، إذاً هذه الآية أصلٌ في أصول التربية : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (32)﴾ .

علماء العقيدة يقولون : إن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، نَزَلَ ، ونُزِّل على قلب النبي عليه الصلاة والسلام مُنَجَّمَاً في ثلاثة وعشرين عاماً ، الفرق بين نَزَلَ ونَزَّل كالفرق بين كَسَرَ وكَسَّرَ ، وقَطَعَ وقَطَّعَ ، قَطَعَ الشيء قَطَعَهُ مرَّةً واحدة ، أما قَطَّعه أي بالغ في تقطيعه قطعاً صغيرة ، كَسَرَ الإناء شيء ، وكَسَّرَهُ شيءٌ آخر ، نَزَلَ القرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثمَّ تَنَزَّلَ على قلب النبي عليه الصلاة والسلام مُنَجَّماً في ثلاثة وعشرين عاماً : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (32) ﴾ الذي وقع هو الخير المطلق ، والحكمة المطلقة ، إذاً لا يعترض على فعل الله إلا أحمق ، لا يعترض على فعل الله إلا جاهل ، لا يعترض على فعل الله إلا غبي ، قال عليه الصلاة والسلام : 

 عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ  :

(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ  . ))

[ أحمد  : الهيثمي  : مجمع الزوائد  : رجاله ثقات  ]

لأن الأمور تجري بتقدير عزيزٍ عليم ، حكيمٍ خبير . 

 

الله سبحانه وتعالى حبَّاً بنا وتكريماً لنا يعلِّل لنا أفعاله :


الوقف عند ( جملةً واحدة ) : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (32) ﴾ هناك جيم ، وقف جائز ، الآن ردَّ الله عليهم فقال : ﴿ كَذَلِكَ (32) ﴾ أي كذلك أنزلناه مُنَجَّماً ، أنزلناه منجَّماً كذلك ، كلاهما صحيح ، ولكن لماذا ؟ ربنا سبحانه وتعالى لا يحتاج وهو الخالق العظيم أن يعلِّل للبشر أفعاله ، ولكن من كرمه ولطفه وحبِّه لهذا الإنسان قَرَنَ أفعاله بالتعليل ، قال تعالى :

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

قال تعالى : 

﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) ﴾

[  سورة العلق  ]

قال تعالى :

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾

[ سورة العنكبوت  ]

هذا تعليل .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾

[  سورة البقرة  ]

قال تعالى :

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾

[ سورة التوبة ]

هذا كلُّه من باب التعليل ، والله سبحانه وتعالى حبَّاً بنا وتكريماً لنا يعلِّل لنا أفعاله ، وها هو ذا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية يعلِّل أفعاله ، قال تعالى : ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ (32) ﴾ هذه اللام لام التعليل . 

 

تعلّم اللغة العربية واجب علينا لنفهم كلام الله فهماً دقيقاً لا فهماً ضبابياً :


يجب أن تعرفوا ماذا تعني لام التعليل ، أنا أقول : أدرس لأنجح ، آكل لأعيش ، هذه علَّة الطعام أن أعيش ؛ لكي أبقى مستمرَّاً في الحياة ، أدرس لأنجح ، علَّة الدراسة النجاح ، النجاح علة الدراسة ، فإذا قال الله عزّ وجل :

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[  سورة الطلاق  ]

هذه آية دقيقة جداً ، هذه لام التعليل ، أي عِلَّة خلق السماوات والأرض أن تعلم :

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[  سورة الطلاق  ]

إذا قال الله عزّ وجل :

﴿  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ(56)  ﴾

[ سورة الذاريات ]

أي علَّة وجودك على هذه الأرض أن تعبده ، فإذا تعلَّمت اللغة العربية فمن أجل أن تفهم كلام الله فهماً دقيقاً لا فهماً ضبابياً ، هناك فهمٌ عريض ، فهم ضبابي ، فهمٌ غائم ، وهناك فهمٌ دقيقٌ دقيق ، فسيدنا عمر رضي الله عنه يقول : "تعلَّموا العربيَّة فإنَّها من الدين ."

 

إذا أردت أن تُثَبِّت حقائق فاجعلها عقب ممارسات وتجارب :


هذه طُرْفَة : شخص أراد أن يُحْرِجَ عالماً فقال له : تزعم أنت أنَّ في القرآن كل شيء لقول الله عزَّ وجل :

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)﴾

[  سورة الأنعام  ]

قال : نعم ، فقال ذاك الشخص : فمدُّ القمح ، كم من الأوزان يُصنَع منه خبزٌ ؟ فقال العالم : هذه في كتاب الله ، أية آية تشرحها ؟ أمهلني نصفَ ساعة ، فغاب العالم نصف ساعة ثم عاد ، وقال له : مدُّ القمح يصنع من الخبز كذا وكذا بالوزن الدقيق ، فقال : كيف عرفت ذلك ، وأين الآية ؟ قال : لقوله تعالى : 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾

[ سورة النحل ]

وأنا قد سألت أهل الذكر ، ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(7) ﴾ ، قال ربنا سبحانه وتعالى :﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ(38) ﴾ ، أنا وقفت هذه الوقفة عند اللام : ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ (32) ﴾ أي إذا أردت أن تُثَبِّت هذه الحقائق فاجعلها عقب ممارسات ، عقب تجارب ، عقب مشكلات ، عقب مُعضلات ، عندئذٍ وَضِّح : ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ (32) ﴾ .

 

تنزيل القرآن منجَّماً أي هناك تناسق وخطَّة وتنظيم ومنهج تسير عليه الآيات :


لكن أيها الأخُ الكريم ، لا يذهبنَّ بك الظن إلى أن القرآن إذا نزل منجَّماً فلا رابط بين آياته ، قد تأتي بموضوعاتٍ متباينة مختلفة بحسب الوقائع ، والأحداث ، والظروف والملابسات ، فإذا جمعتها في كتاب لم ترَ بينها تناسقاً ، ولا موضوعاً مشتركاً ، ولا تنظيماً ، ولا مقدِّمةً ، ولا عرضاً ، ولا خاتمةً ، هل تظنَّ أن الله عزَّ وجل إذا نزَّل القرآن منجّماً أي جعله متفرِّقاً ؟ جعله مشتَّتاً ؟ مبعثراً ؟ جعل الآيات ليس بينها رابط ؟ لا ، ومع أنه نُزِّل منجَّماً ، ومع أنه نزِّل مفرَّقاً ، ومع أنه نُزِّل بحسب الوقائع ، وبحسب الظروف ، وبحسب المناسبات ، وبحسب المشكلات ، لكن جبريل عليه السلام كان يقول للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم : " ضع هذه الآية في مكان كذا وكذا ، وضع هذه الآية في مكان كذا وكذا " . وترتيب الآيات ترتيبٌ توقيفي ، أي الله سبحانه وتعالى رَتّبَ هذه الآيات ، فلذلك إن نزول القرآن منجَّماً ليس على حساب وحدة الموضوع ، ولا على حساب تناسق الآيات ، ولا على حساب التنظيم ، ولا على حساب سير الآيات وفق خطَّةٍ محكمةٍ ، إن تنزيل القرآن منجَّماً أي في الوقت نفسه أن هناك تناسقاً ، وارتباطاً ، وخطَّةً ، وتنظيماً ، ومنهجاً تسير عليه الآيات ، والدليل : ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) ﴾ ، من المعاني السياقيَّة للترتيل هنا ، كيف تقول : رَتل ، من معاني الترتيل في هذه الآية بالذات أن آياته جاءت متناسقةً يأخذ بعضها برقاب بعض ، وكلَّما تَعَمَّقت في فهم القرآن رأيت أن السورة تعالج موضوعاً موَحَّداً ، وهذا الموضوع مطروقٌ من زوايا متعدِّدة ، وهذا الموضوع فيه مقدِّمةٌ ، وفيه عرضٌ ، وفيه خاتمة ، وهذا الموضوع يَطْرُقُ محوراً أساسياً عميقاً واحداً .

 

من تدبَّر القرآن ووقف عند آياته متأمِّلاً رأى الترابط في الآيات :


إذاً : ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) ﴾ لا بدَّ من أن تجد الإحكام ، والترابط ، والتسلسُلَ ، وأن تأخذ كل آيةٍ برقبة أختها في كتاب الله ، ربَّما لا يبدو لك إذا قرأت القرآن قراءةً ظاهرة ، أو قراءةً سريعة ، أو قراءةً غير متأنيِّة ، ربَّما لا يبدو لك هذا الترابط ، ولكن إذا تدبَّرت القرآن ، ووقفت عند آياته متأمِّلاً يجب أن ترى الترابط في الآيات ، وقد توضَّح لكم بعض هذا الترابط في سورة النور ؛ كيف أن الله سبحانه وتعالى حدَّ الحدود ، ووضع البدائل ، ونظَّم إظهار الزينة ، وأمر بغضّ البصر ، وجعل الزواج هو الطريق المشروع ، هناك تسلسل دقيق جداً ، من يقرأ القرآن هكذا كما قال عليه الصلاة والسلام ، قال : " أنتم تقرؤونه هكذا وأما أنا فأقرؤه وأُعَقِّله " ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما سألوه مرَّةً : " يا رسول الله كيف تحفظ القرآن ؟ " من منَّا يستطيع أن يسمع السورة مرة واحدة فيحفظها ؟ قال : " أنتم تقرؤونه هكذا وأما أنا فأعقِّله " . حينما أتدبَّر الآيات أعقلها وأحفظها ، لذلك هذا الحديث أيضاً توجيهٌ تربوي إلى أنَّك إذا أردت أن تحفظ فدقِّق في معاني الآيات . 

 

من يفهم المعنى الحقيقي للآية يستطيع حفظها بسرعة وبسهولة :


﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)﴾

[ سورة المائدة ]

نسي تتمة الآية ، فقال : إنك أنت الغفور الرحيم ، لا ليس كذلك ، ﴿ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118) ﴾ قد يظن الإنسان أن تتمة هذه الآية : فإنك أنت الغفور الرحيم ، ولكنها في القرآن : ﴿ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118) ﴾ أي يا رب ما من مخلوقٍ يعفو إلا وقد يُحَاسَب ، أما أنت إذا عفوت فلا رادَّ لحكمك ، ولا مُعَقِّب على عفوك ، وأنت عزيزٌ لا يُنال جانبك إذا عفوت ، ولكن الإنسان مهما علت رتبته إذا عفا قد يُنال جانبه ، قد يُحاسَب لماذا عفوت عنه ؟ لماذا طويت هذه الضريبة عنه ؟ قد يُحَاسَب ، إلا أن الله سبحانه وتعالى : ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118) ﴾ أي إذا عفوت وإذا غفرت فلا أحد يستطيع أن ينال جانبك ، لو أنك فهمت هذا المعنى وكنت تحفظ هذه الآية لا تقول : فإنك أنت الغفور الرحيم ، تقول : ﴿ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118) ﴾ هذا هو تعقيل الآيات . 

 

الحكمة من تنزيل القرآن الكريم منجماً :


أحياناً هذه الدعوة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام لابدَّ من أن تواجه الصعوبات ، لابدَّ من أن تواجه العَقَبات ، لابدَّ من أن تواجه الخصوم ، لابدَّ من أن تواجه الكَيْد.

كيف ربنا سبحانه وتعالى سيثبِّت قلب النبي ؟ لو أن الله عزَّ وجل أنزل هذا القرآن على قلب النبي دفعةً واحدة ، جملةً واحدة ، ثمَّ واجَهَ النبي صعوبةً في أُحد ، أو صعوبةً في الخندق ، أو صعوبةً في فتح مكَّة ، من سيثبِّته ؟ أما إذا نزل هذا القرآن منجَّماً فإذا أشرف النبي عليه الصلاة والسلام على معركةٍ من المعارك بشَّره الله ببعض الآيات بأن مكَّة سوف تُفْتَح عليكم قريباً ، فهذه بِشارة ، وهذا تثبيت ، إذاً من حكمة الله عزَّ وجل في تنزيل القرآن بشكلٍ منجَّم أن الله عزَّ وجل كلَّما ظهرت مشكلة ، أو صعوبة ، أو معارضة ، أو صدام مسلَّح بين النبي وبين المشركين ، كلَّما ظهرت أزمةٌ مستعصية يأتي القرآن ليطمئن النبي عليه الصلاة والسلام ، وليثبِّت قلبه ، وهذا معنى قوله تعالى : ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) ﴾ أحياناً يَدَّعي الكفَّار شيئاً باطلاً ، يأتي القرآن فيدمغ هذا الباطل ويُلغيه بآيةٍ محكمة : 

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ﴾

[ سورة البقرة ]

انتهى الأمر ، فكل الفلسفات حول الربا ، وكل الدعاوى الباطلة ، وكل ما يُزَيَّن به هذا العمل ، جاءت آيةٌ كريمة فدمغت الباطل وألغته وأزالته ، فإذا جاءك الكفَّار بطرحٍ باطلٍ ، بعقيدةٍ باطلة ، بقصَّةٍ باطلة :

﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)﴾

[ سورة النساء ]

هذه دعوى باطلة ، جاءت آيةٌ محكمةٌ فأبطلتها : ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ (33) ﴾ معنى " مَثَل " هنا في هذه الآية أي وصفٍ ، أي وصفوا السيد المسيح بأنه قُتِل ، الله سبحانه وتعالى قال : ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ(157) ﴾ هذا الوصف الباطل جاءت آيةٌ محكمةٌ فدمغته ودحضته ، فإذا جاؤوا بشيءٍ من الحق ، لكنَّه فُسِّر تفسيراً على هواهم ، ربنا سبحانه وتعالى يأتي بآيةٍ تفسِّر آيةً أخرى يدحض به هذا التفسير الباطل ، أي هناك تفاعل ، كأن هناك معالجة لقضايا ، هناك مشكلات تُطْرَح ، هناك إجابات ، هناك افتراء ، هناك آية تدحض هذا الباطل ، هناك تفسير مزيَّف لآية ، تأتي آيةٌ أخرى فتأتي بتفسيرٍ صحيح : ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) ﴾ إذا جاؤوك بالباطل جئناك بالحق ، إذا جاؤوك بتفسيرٍ غير صحيح جئناك بالتفسير الصحيح ، إذا أخذوا آيةً وفسَّروها على هواهم تأتي آيةٌ أخرى فتفسِّر هذه الآية التفسير الصحيح : ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)﴾ .  

 

تنزيل القرآن منجماً فيه تثبيت ليس لرسول الله فحسب بل لأصحابه أيضاً :


إذاً هذا القرآن الكريم لحكمةٍ بالغة نزل منجَّماً ، وتنجيمه يعني أنه أثبتُ في قلب النبي ، وإذا ذكر الله عزَّ وجل بعض الحكمة من تنزيل هذا القرآن منجَّماً فليس معنى ذلك أن هذه الحكمة هي كل الحكمة ؛ هي بعضها ، إذا نزل هذا القرآن منجَّماً ففيه تثبيتٌ لأصحاب رسول الله أيضاً ، واجهتهم مشكلة الإفك ، كيف ثبَّت الله النبي وأصحابه حينما أعلن براءة السيدة عائشة ؟ بالقرآن ، إذاً تنزيل هذا القرآن منجَّماً أيضاً تثبيتٌ لأصحاب النبي عليهم رضوان الله ، تنزيل هذا القرآن منجَّماً صار هناك ردٌّ لكل افتراءٍ يفتريه الكفَّار ، إن افتروا شيئاً باطلاً جاء القرآن فَرَدَّ عليهم ، وإن كان الافتراء على شكل تفسير ، أحياناً يقول لك أحدهم : هذه الآية هكذا تفسيرها ، مثلاً :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)﴾

[ سورة آل عمران  ]

هذه الآية كما يقول بعض أصحاب الأهواء تنهى عن أن تأكل الربا بنسبٍ عاليةٍ جداً ، فإذا أكلته بنسبٍ قليلةٍ فهذا شيءٌ مقبول من نصِّ هذه الآية ، هذا تفسير لا يرضي الله عزَّ وجل ، تأتي الآية الثانية :

﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾

[ سورة البقرة  ]

هذه الآية فَسَّرت الآية الأولى ، لذلك قال الله عزَّ وجل في وصف هذا القرآن إنه مثانٍ ، ومعنى مثانٍ أن كل آيةٍ تنثني على أختها فتفسِّرها . 

 

من يفتري على الله الكذب يستحق أن يحشر على وجهه للمبالغة في إذلاله :


﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) ﴾ أما هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب ، هؤلاء الذين يدَّعون أن هذا القرآن ليس كلام الله ، هؤلاء الذين يزعمون أنه لو كان كلام الله لَنَزَلَ جملةً واحدة ، هؤلاء : ﴿ يُحْشَرُونَ – يوم القيامة - عَلَى وُجُوهِهِمْ (34) ﴾ قال بعضهم : حينما يمشي الإنسان على وجهه لا يرى أمامه ، وهذه صورةٌ مُجَسَّدةٌ للضلال ، مَن يمشي على وجهه لا يرى أمامه فقد يقع في حفرةٍ ، وقد يرتطم بحائطٍ ، ومن يمشي على وجهه فهو دليلٌ أنه غارقٌ في أحزانه وآلامه ، ومن يمشي على وجهه فذلك مبالغةٌ في إذلاله ، فهذا الذي يفتري على الله الكذب ويدَّعي أن هذا القرآن ليس من عند الله ، لو تنظر إليه يوم القيامة وهو يُحْشَر على وجهه : ﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) ﴾ شرٌّ مكاناً ، النبي عليه الصلاة والسلام ما افترى على الله عزَّ وجل ، إذاً هو في مقعد صدقٍ عند مَلِيكٍ مقتدر ، ولكنَّهم هم الذين افتروا على الله الكذب فاستحقوا هذا المكان الوضيع ، واستحقّوا أن يكونوا في أسفل سافلين. 

 

قصص الأنبياء جاءت تثبيتاً لقلب النبي ومواساة له :


﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) ﴾ ربنا سبحانه وتعالى يبيِّن لنا بعض قصص الأنبياء أيضاً تثبيتاً لقلب النبي عليه الصلاة والسلام ، أيضاً تطميناً له ، أيضاً إيناساً له ، أيضاً مواساةً له : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا(36)﴾ أي الله سبحانه وتعالى إذا أراد بقومٍ سوءاً فلا مَرَدَّ له ، ذهب سيدنا موسى وهارون إلى فرعون فكذَّبوهما آمن عندئذٍ ولكن جاء هذا الإيمان بعد فوات الأوان ، لذلك قال له الله عزَّ وجل :

﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) ﴾

[ سورة يونس  ]

وفعلاً نجَّاه إلى الشَط ببدنه وكان لمن خلفه آية ، وأكثر الروايات الصحيحة تؤكِّد أن الفرعون الذي هو مُسَجَّى في بعض الأهرامات هو فرعون موسى ، والذي لا يزال محنَّطاً حتَّى اليوم :

﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)﴾

[ سورة يونس  ]

﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) ﴾ .  

 

الله تعالى كَرَّمَ أمَّة النبي محمد فحماها ونجَّاها من هلاك التدمير والإبادة :


أما نحن أمَّة النبي محمد عليه الصلاة والسلام فالله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ﴾

[  سورة الأنفال  ]

كأنَّ الله سبحانه وتعالى كَرَّمَ أمَّة النبي محمد عليه الصلاة والسلام فحماها ونجَّاها من هلاك التدمير ، من هلاك الإبادة: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ(33) ﴾ ، بعضهم فَسَّرَ هذه الآية : أنه ما دامت سنَّتك أيها النبي في أمَّتك مطبَّقةً فالله سبحانه وتعالى لا يعذِّبهم ، أو ما دام النبي عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم إذاً هم معهم فُسْحَةٌ ليهتدوا بهديه ، إذاً الله سبحانه وتعالى ما كان له أن يعذِّبهم . 

 

آيات من القرآن الكريم عن أقوام أبادهم الله وأهلكهم لانحرافهم عن منهجه :


﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) ﴾ وهذه قصص الأمم التي كذَّبت رسلهم ، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم : ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ (38) ﴾ أصحاب البئر ، هناك روايات كثيرة جداً أوْجَهُها أن هؤلاء يقابلون قوم لوط ، كيف أن قوم لوط انحرفوا في قضاء شهوتهم ، كذلك هؤلاء انحرفوا في الجهة المقابلة في قضاء شهوتهم : ﴿ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) ﴾ التتبير هو التقطيع ، أي قُطِّعوا في الأرض وأهلكهم الله عزَّ وجل ، وكفَّار مَكَّة في رحلتهم إلى الشام كانوا يمرّون على القرية التي أمطرت مطر السوء وهم قوم لوط ، كيف أن الله سبحانه وتعالى أرسل عليهم حجارةً من السماء فجعل قريتهم عاليها سافلها : ﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا(40)﴾ هم كانوا بعيدين عن أن يتَّعظوا ، والإنسان العاقل يتَّعظ بغيره ؛ بينما الشقي لا يتَّعظ إلا بنفسه . 

 

الاستهزاء بالرسول من صفات الكفَّار :


يقول الله عزَّ وجل :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) ﴾ الاستهزاء بالرسول من صفات الكفَّار ، ماذا ينتظرون أن يروا في النبي عليه الصلاة والسلام ؟ إنه بشر ؛ له عينان ، وله أذنان ، وله يدان ، ويمشي ، ويأكل ، وينام ، ويجوع ، ويغضب ، ويتعب ، ويسهو ، هو بشر : 

محمَّدٌ بشرٌ وليس كالبشرِ                 بَلْ هو جوهرةٌ والناس كالحجرِ

* * *

﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ (41) ﴾ يا محمَّد ﴿ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا (41) ﴾ يستهزؤون ، الإنسان له أن يمرح ولكن يتَّخذ آيات الله للسُخرية والمرح ؟ يتخذ النبي عليه الصلاة والسلام للسخرية ؟ هذا هو الكفر بعينه . 

 

من اتخذ آيات الله هزواً ولعباً فقد كفر :


لذلك هناك معتقداتٌ تؤدي بالإنسان إلى الكفر ، وهناك أعمالٌ تؤدي بالإنسان إلى الكفر ، فلو أنه أمسك المصحف وألقاه بقصد أن يهينه فقد كفر ، من استهزأ بالنبي عليه الصلاة والسلام فقد كفر ، من سخرَ منه فقد كفر : ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ (42) ﴾ هم كانوا يخشون أن يؤمنوا، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام فيما يزعمون أنه لم يؤثِّر فيهم ، وبقوا محافظين على عقيدتهم الوثنيَّة : ﴿ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا(42)﴾ .  

 

البطولة أن تكون في الحياة الآخرة من السعداء :


في الحقيقة البطولة أنْ تبقى ضاحكاً حتى النهاية ، هناك من يضحك قليلاً ليبكي كثيراً ، وهناك من يفرح عاجلاً ليحزن آجلاً ، وهناك من يسعد في الدنيا ويشقى إلى الأبد ، فالبطولة أن تكون في الحياة الآخرة من السُعداء ، لذلك عندما وصف ربنا عزَّ وجل في بعض الآيات الكفَّار وكيف أنهم يقولون :

﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107)قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ(108)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)﴾

[ سورة المؤمنون ]

وقال : 

﴿  فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾

[ سورة المطففين ]

إذاً البطل من يضحك في النهاية لا من يضحك في البداية :

﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)﴾

[ سورة هود  ]

 

إذا عبد الإنسان شهوته فقد أطاع هواه ولن يتسنَّى له أن يؤمن :


﴿ إِنْ كَادَ (42) ﴾ أي كاد النبي ﴿ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) ﴾ لذلك :

﴿ كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيم(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾

[ سورة التكاثر ]

هذا الذي يسخر ، دقِّقوا في هذه الآية : ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا (41) ﴾ هؤلاء أنفسهم لماذا لا يؤمنون ؟ ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ (43) ﴾ كيف يؤمن ؟ أي الإله الذي يُعْبَد ، فإذا عبد الإنسان شهوته أطاع هواه هذا كيف يؤمن ؟ أنت إما أن يقودك الحق ، وإما أن يقودك الهوى ، فإذا كنت مقوداً للهوى أَنَّى لك أن تؤمن ؟ أنّى لك أن تعبد الله عزَّ وجل ؟ لابدَّ من أن تعبد ، هناك من يعبد الدرهم والدينار ، قال عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة رضي الله عنه  :

(( تعِس عبدُ الدينارِ  ، تعِس عبدُ الدرهمِ  ، تعس عبدُ الخميصةِ  ، تعس عبدُ الخميلةِ  ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ  . ))

[ أخرجه البخاري ]

هناك من يعبد بطنه ، هناك من يعبد فرجه ، هناك من يعبد الخميصة ، قال عليه الصلاة والسلام : 

(( تَعِسَ عبدُ الدِّينار ، وعبدُ الدِّرهم ، وعَبْدُ الخميصة ، إن أُعْطِيَ رَضِيَ ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وانْتَكَسَ ، وإذا شِيكَ فلا انْتُقِشَ . ))

[ أخرجه البخاري ]

 

الإنسان ممتحن في كل حركة وسكنة :


هناك من يعبد الله ، إما أن تكون عبداً لله ، وإما أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم ، لابدَّ من أن تكون عبداً ، خضوعك هو العبوديَّة ، فإذا خضعت لهواك ، هناك من يقسو على الناس ولكنَّه ضعيفٌ أمام امرأة ، إذاً هو يعبدها من دون الله ، هناك من يتكلَّم بالقِيَم ولكنَّه يضعف عند الدرهم والدينار ، إذاً يعبد الدرهم والدينار ، فهذا الذي يستهزئ بالنبي عليه الصلاة والسلام أَنَّى له أن يؤمن ؟ لأنه يعبد هواه : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ (43) ﴾ ، أي أنت مُمْتَحَن في كل يوم آلاف الامتحانات ، تقع أمام مشكلة ، إما أن تنتصر لما يأمرك به العقل من الحق ، وإما أن تنتصر لما يأمرك به الهوى من الشهوة ، قد تقف في موقفٍ صعبٍ ، شيءٌ يغري ، وشيءٌ يرفعك في نظر الله عزَّ وجل ، فإما أن يسقط الإنسان في حَمْأَةِ المادَّة ، وإما أن يرقى في سُلَّم الرقي إلى الله عزَّ وجل ، أنت كل يومٍ ممْتَحَنْ ، في كسب المال ممتحن ، في إنفاق المال ممتحن ، في علاقتك بالمرأة ممتحن ، في علاقتك بجيرانك ممتحن ، في علاقتك بزوجتك ممتحن ، في علاقتك بأمِّك ممتحن ، أبداً . 

 

أهل الضلال منطقهم تبريري من أجل أن يعيدوا لأنفسهم توازنها مع ذاتها :


أهل الضلال لماذا يكذِّبون الحق ؟ لماذا يكذِّبون الرُسُل ؟ لأنهم اتخذوا آلهتهم أهواءهم ، ينطلقون من الشهوة ، هؤلاء ما منطقهم ؟ منطقهم تبريري ، منطقهم من أجل أن يعيد لهم توازنهم ، هم حينما يتَّبعون الهوى ، هم حينما يتَّبعون شهواتهم ، هم حينما يتَّخذون من شهواتهم آلهةً لهم يختلُّ توازنهم الداخلي بناءً على فطرتهم السليمة ، هذا الاختلال في التوازن يأتون فيُفلسفون الشهوات ، المُباحات ، يفلسفون التفلُّت من قواعد الشرع فلسفةً جديدة من أجل أن يعيدوا لأنفسهم توازنها مع ذواتها .


  الإنسان مركّب من عقل وشهوة فهو إما أن يتبع الحق وإما أن يتبع الهوى :


لذلك : ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ (43) ﴾ هذا هو نفسه : ﴿ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ (43) ﴾ آيةٌ أخرى : 

﴿  أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)  ﴾

[ سورة الماعون ]

هو نفسه : 

﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2) ﴾

[ سورة الماعون ]

آيةٌ ثالثة .

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[  سورة القصص  ]

القضية واضحة تماماً ، إما أن تتبع الحق وإما أن تتبع الهوى ، إما أن تؤثر القِيَم وإما أن تُؤثِر المادَّة ، إما أن تؤثر المُثُل وإما أن تؤثر الحاجات ، إما أن ترقى إلى السماء وإما أن تخلُدَ إلى الأرض ، رُكِّب الإنسان من عقلٍ وشهوة ، رُكِّب الحيوان من شهوةٍ بلا عقلٍ ، ورُكِّب المَلَكُ من عقلٍ بلا شهوة ، ورُكِّب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان .. ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ﴾ أنت إذا قلت لإنسان : يا أخي العقرب العقرب على ظهرك ، لم ينزعج ، لم يضطرب ، لم ينتفض ، بل التفت نحوك وقال لك كلاماً لطيفاً : أنا شاكرٌ لك على هذه الملاحظة ، هل سمع ما قلت له ؟ لا والله ، لو سمع ما قلت له ليس عنده وقتٌ كي يشكرك ، ينتفض كالمذعور ، ما دام قد بقي هادئاً ، والتفت نحوك شاكراً ، إذاً أمواج صوتك وصلت إلى طبلة أذنه ، إلى غشاء الطبل عنده ، ولكن لم يدرك ما معنى العقرب ، لو عرف ما معنى العقرب لانتفض من تَوِّه ، إذاً قد تسمع وقد لا تسمع ، الصوت قد يصل إليك ولكن قد لا تفهمه.

 

القرآن عندما يتلى على الكفار لا يسمعونه سماع تدبر وإلا لكانوا أشخاصاً آخرين :


ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ (44) ﴾ .. القرآن يُتلى عليهم ، هل يسمعونه سماع تدبُّر ؟ لا والله ، لأنهم لو سمعوه لكانوا أشخاصاً آخرين ، لو عقلوه لكانوا في حالٍ غير هذه الحال ، لو سمعوا كلام الله يُتلى عليهم لأحلَّوا حلاله ، وحَرَّموا حرامه ، لو سمعوا كلام الله كما يجب أن يُسْمَع لاستقاموا على أمر الله ، ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ (44) ﴾ السؤال دقيق هنا : لماذا يسمعون أو يعقلون ؟ لماذا لم يقل ربنا عزَّ وجل يسمعون فقط أو يعقلون فقط ؟ كأنَّ الله عزَّ وجل في هذه الآية أشار إلى مصدرين أساسيين من مصادر المعرفة ، إما أن تعقل أنت عقلاً ذاتياً ، وإما أن تستمع إلى الحقِّ جاهزاً ، أي إما أن تفكِّر وإما أن تسمع من يفكِّر لك ، إما أن تحقِّق وإما أن تسمع من حَقَّقَ لك الحق ، فإذا حضرت مجلس العلم فقد سمعت ، وإذا جلست وفكَّرت في خلق السماوات والأرض فقد عقلت ، أيْ أنَّ هناك باب التأَمُّل وباب السماع ، قد تأخذ الحق جاهزاً لقمةً سائغةً من فم مَن يُلقيه عليك ، وقد تجهد نفسك في البحث عنه ، على كل هذا طريق وهذا طريق .

 

من لا يسمع أو يعقل كلام الله كالدابة التي لا تعقل ولا تفهم ولا تدرك :


﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ (44) ﴾ .. ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ مثل الذين ﴾ الآن المثل الصارخ في القرآن الكريم لو جئت بدابَّة وحمَّلتها كتاب فيزياء ، وكتاب كيمياء ، وكتاب طب ، وكتاب فلك ، وكتاب هندسة ، وكتاب في اللغة العربية ، وكتاب في التفسير ، ووضعت هذه الكتب على ظهرها ، وسرت بها عشر ساعات ، ثم أوقفتها وسألتها : ما حجم الكرة الأرضيَّة ؟ كم بين الشمس والأرض ؟ الكُتب على ظهر الدابَّة ،  ربنا عزَّ وجل يقول :

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾

[  سورة الجمعة  ]

فأنْ تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون : ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ (44) ﴾  أي لا يسمعون ولا يعقلون ، الحيوان رَكَّب الله عزَّ وجل فيه غريزة حبّ البقاء ، يبحث عن طعامه ، وعن مأواه ، ويخاف من عدوِّه ، ويركن إلى مكانٍ مريح ، أربعة منعكسات عند الحيوان ، لا يعقل ولا يفهم ولا يدرك : ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ (44) ﴾ الآن المعنى واضح تماماً . 

 

الحيوان لن يُحاسب كالإنسان لأنه ما حمِّل الأمانة ولا كُلِّف :


لكن كيف نفسِّر قوله تعالى : ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ﴾ هل هناك أضلّ من البهيمة ؟ نعم ، البهيمة لم تُكلَّف ، فإذا كانت لا تعي فلا مسؤوليَّة عليها ، البهيمة لم تحمل الأمانة ، فإذا خانت هذه الأمانة هي في الأساس لم تحملها حتى تخونها ، البهيمة رُكِّبت فيها غريزة بحيث لا تلقي بنفسها في المهالك ، والإنسان أُعطي حريَّة الاختيار ، فلو لم يحسن استخدام هذه الحريَّة لألقى نفسه في المهالك ، فالقضيَّة دقيقة جداً ، إذا طغت شهوة الإنسان على عقله أصبح دون الحيوان ، الحيوان ليس مكلَّفاً :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

الإنسان حمل أمانة ، الإنسان مكلَّف ، الإنسان سُخِّرَ له الكون ، الإنسان أُعطي العقل ، الإنسان أُعطي الشهوة ، الإنسان أُعطي حريَّة الاختيار ، هذه كلها أعطيت له فإذا عطَّل عقله اختار شيئاً يهلكه ، لم يعبأ بتسخير الكون له وقع في شقاوةٍ كبرى ، لذلك الحيوان لن يُحاسب كالإنسان ، الحيوان ما حمل الأمانة ، ما كُلِّف : ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾ .. الحيوان لا يقتحم المخاطر كما يفعل الإنسان ، الحيوان يعرف بالبديهة ما ينفعه ، الحيوان لم يعاهد ربه في الأزل على أن يطيعه ، الحيوان عنده شهوة يمارسها في الطريق الذي سمح الله له بها ، وانتهى الأمر .

 

الله سبحانه وتعالى يدعونا إلى أن نستمع إلى الحق ونذكره في مجالسنا :


﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ (44) ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى يدعونا إلى أن نسمع ، إلى أن نستمع إلى الحق ، لذلك : 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال  : ما من قومٍ يقومونَ من مجلسٍ لا يذكرونَ اللهَ فيهِ إلا قامُوا عن مثلِ جيفةِ حمارٍ ، وكان لهم حسرةٌ . ))

[ صحيح أبي داود ]

أما إذا ذكروا الله في مجلسهم : 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال  : ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ  ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ  . ))

[ صحيح مسلم ]

والله سبحانه وتعالى يقول لسيدنا موسى : " أتحبُّ أن أكون جليسك ؟" قال : " كيف هذا يا رب ؟ " ، قال: " أما علمت أنني جليس من ذكرني ، وحيثما التمسني عبدي وجدني ؟ " يا رب كيف أشكرك ؟ قال الله عز وجل : يا بن آدم إنك إذا ذكرتني شكرتني ، وإذا نسيتني كفرتني ، وقال : عن  أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: 

((  من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق  . ))

[ ضعيف الترغيب  : خلاصة حكم المحدث  : ضعيف  ]

 

الإنسان حمِّل الأمانة ومُنح حرية الاختيار فعليه أن يتحمل المسؤولية كاملة :


﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ﴾ أضل سبيلاً لأنهم حملوا الأمانة وكُلِّفوا ، أودع الله فيهم الشهوة ليرقوا بها إلى رب الأرض والسماوات ، أودع الله فيهم العقل ، منحهم حرية الاختيار ، سخَّر لهم ما في السماوات والأرض ، فإذا خالفوا هذه الأمانة ، وخالفوا العهد فقد وقعوا في شقاءٍ كبير ، أما الحيوان فإنه لم يُكلَّف بكل هذا ، إذاً هو أضل ، لو فرضنا أنَّ إنساناً مقيماً في بلده ، ولا يدرس شيئاً ، أُرسل بعثة إلى دولة أجنبيَّة وهناك لا يدرس ، سوف يعود بالخزي والعار ، سوف يتحمَّل نفقات الدراسة ، سوف يعود وقد خان الأمانة ، إذاً حينما تُكلَّف وتقصِّر شيء ، وحينما لا تُكلَّف شيء آخر ، هذا معنى قوله تعالى : ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور