وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة الفرقان - تفسير الآيات 54 - 59 التفكر في عظمة الله عزَّ وجل ودقَّة خلقه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

الإعجاز في خلق الإنسان :


 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الحادي عشر من سورة الفرقان .

وصلنا في الدرس الماضي وفي أثناء الحديث عن الآيات الكونيَّة التي تتالت بدءاً من قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ ومروراً بقوله تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا(50)﴾ إلى أن وصلنا إلى قوله تعالى في الدرس الماضي : ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا ﴾ هل عرفت الله عزَّ وجل ؟ ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ ﴾ ماء الحياة ، هذا الحوين الذي لا يُرى بالعين ، يكون في اللقاء الواحد مع عددٍ كبير يزيدُ عن ثلاثمئة مليون حوين ، تتنافس جميعاً على تلقيح بويضة المرأة ، أما كيف تنطلق هذه الحوينات ؟ وكيف صُمِّمَت بشكلٍ مخروطي وعنقٍ وذنب ؟ وكيف تسبح في الماء لتصل إلى بغيتها البويضة ؟ كم منها يصل إلى البويضة ، وكم منها يهلك على الطريق ؟ هذا موضوعٌ بالغ التعقيد .

على كلٍّ كيف تختار البويضة أقوى هذه الحوينات ؟ وإذا اختارته كيف تسمح له بالدخول ؟ وكيف يدخل ؟ مادَّةٌ نبيلة- كما يقول العلماء- مُغَشَّاةٌ بغشاءٍ رقيق ، إذا اختارت البويضة هذا الحوين واصطدم هذا الحوين بالبويضة ، فإنَّ هذه المادة النبيلة تذيب جدار البويضة ليدخلها الحوين ، فإذا دخل إلى البويضة ولقَّحها أُغْلِقَ الباب ، وأُعْلِنَ لبقيِّة الحوينات الثلاثمئة مليون أنه لا فُرصة الآن للدخول ، لقد اختارت البويضة أحد هذه الحوينات ، بل أقواها.

كيف يُلقِّحُ هذا الحوين تلك البويضة ؟ وكيف يحمل الحوين المورِّثات وقد قدَّرها العلماء بخمسة آلاف مليون معلومة في الحوين ؟ وفي البويضة أيضاً خمسة آلاف مليون ، كيف أن هذا الحوين وتلك البويضة يتَّحدان ثمَّ ينقسمان إلى عشرة آلاف خليّةٍ في أيامٍ معدودة ؟كيف تنقسم هذه البويضة المُلَقَّحة من دون أن يزداد حجمها ؟ لأنه لو زاد حجمها لاستعصى عليها أن تتابع السير إلى الرَحِم ، وكيف هذه المورِّثات تحدِّد طول الجنين ؟ ولونه ؟ ونوع شعره ؟ ولون عينيه ؟ وشكل حاجبيه ؟ وشكل خدِّه ؟ وعدد الشعر في جسمه ؟ كيف تحدِّد أعضاءه وبنيتها ؟ كيف تحدِّد طباعه ؟ خمسة آلاف مليون معلومة تتحد مع خمسة آلاف مليون معلومة لتشكِّل هذه العلقة التي تغدو مضغة ، فتغدو عظاماً ، فتكسى العظام لحماً ، ثم يُنْشِئُهُ الله خلقاً آخر :

﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

 

تشكُّل الجنين في رحم الأم من الآياتٍ الدالَّةٍ على خلق الله عزَّ وجل:


عملية التلقيح ، وعملية نمو هذه البويضة ، وكيف تُزْرَع في الرحم ، وكيف تنتقل من مرحلةٍ إلى مرحلة إلى أن يولد الجنين طفلاً كامل الخلق ؛ فيه عضلاتٌ ، وفيه عظامٌ ، وفيه أجهزةٌ ، وفيه قلبٌ ورئتان ، وفيه معدةٌ وأمعاء ، وفيه كليتان ، وفيه دماغٌ وأعصاب حسٍ وأعصاب حركةٍ ، وفيه جِلْدٌ ، كيف تعمل أجهزته ؟ كيف ينبض قلبه ؟ كيف يغلق ثقب بوتال الذي بين الأذينين ؟ لو أتيح لأحدكم أن يقرأ ما يُسمَّى في علم الطب مُسَلَّمات ، بديهيات ، معلومات أوليَّة حول تشكُّل الجنين في رحم الأم ، لا يملك إلا أن يخشع قلبه ، وأن يقشعَّر جلده لما يقرأ ، أو لما يشاهد من آياتٍ دالَّةٍ على خلق الله عزَّ وجل :

﴿  أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ(58)أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59)﴾

[  سورة الواقعة  ]

﴿ قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23) ﴾

[ سورة عبس  ]

أتحسب أنك جرمٌ صغير                 وفيكَ انطوى العالَم الأكبرُ ؟

* * *

 

الله تعالى يأمرنا أن ننظر في خلقنا حتى نحس بعظمته سبحانه :


﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ(21)﴾

[ سورة الذاريات  ]

قد تقول : أنا لا أذكر كيف كنت جنيناً في بطن أمي ، ألا ترى إلى ابنك أمامك ؟ ألا تعلم علم اليقين أن هذا الطفل الذي أمامك كان نقطة ماءٍ ، بل كان حويناً واحداً لَقَّحَ بويضة زوجتك فكان هذا الغلام ؟

يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الشقي من غفل عن هذه الحقائق ، الشقي من انغمس في عمله ، وفي كسب رزقه ، وفي متاهات الحياة ، وفي القيل والقال ، الشقي من استهلك نفسه استهلاكاً رخيصاً ، الشقي من غَفَلَ عن الله رب العالمين ، من غفل عن صنعته ، من غفل عن عظمته ، من غفل عن خلقه ، الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن ننظر في خلقنا . ألم تعرفه بعدُ ؟ 

 

عظمة الله عزَّ وجل ودقَّة خلقه :


﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ(48)﴾ ، ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا ﴾ ، هذا الجنين يصبح ذكراً أو أنثى : ﴿ فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ﴾ النسب كِنايةٌ عن الرجل لأن المولود يُنْسَبُ إليه ، والصهر كنايةٌ عن المرأة لأنها تجلب الأصهار ، لأن البنت تجلب الصهر  فجعل الله عزَّ وجل كلمة النسَب كنايةٌ عن الذَكَر ، وكلمة الصهر كنايةً عن الأنثى ، هذه آيةٌ كبرى دالَّةٌ على عظمته والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿  فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ(6)﴾

[ سورة الجاثية  ]

فإن لم تؤمن من خلال هذه الآيات فبأي طريقٍ آخر تؤمن ؟ إنَّك إذا فكَّرت في هذه الآية تواجه عظمة الله عزَّ وجل ، تواجِه دقَّة خلقه ، لماذا كانت البويضات في المرأة محدودةً ؟ ولماذا كان الإنجاب في الرجل مستمرَّاً ؟ لماذا كل هذه الحوينات ثلاثمئة مليون من أجل أن تختار البويضة حويناً واحداً ؟! كيف اجتمعت صفات الأب والأم ؟ كيف تفاعَلت مع بعضها بعضاً ؟ كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ واحد لَخَّصَ مجموعةً من المحاضرات المطوَّلة التي أُلقيت حول تحسين النسل ، قيل : اغربوا لا تضووا .

أي لا تضعفوا ، كلَّما تباعدت في زواجك جاء النسل قوياً ، لأن الصفة الأقوى تغلب الصفة الأضعف ، فإذا تزوَّجت من قريباتك تضافر الضعف فجاء الضعف مركَّزاً في الجنين ، وقد قيل : اغتربوا لا تضووا .

حتى لو أن الإنسان تزوَّج أخته من الرضاعة أغلب الظن يأتي الجنين مشوَّهاً ؛ بهشاشةٍ في العظام ، أو بعمىً في العينين ، أو باختلالٍ في الخلق ، لأن تشريع الله عزَّ وجل تشريعٌ أساسه علم الله ، وخبرته ، ورحمته ، وبيانه . 

هذه الآية إذا كان الله سبحانه وتعالى ذكرها في القرآن الكريم فليس معنى ذلك أن نكتفي بها ، كأن الله سبحانه وتعالى يذكر في كتابه عناوين لآياتٍ كونية ، أي أيها الإنسان فكِّر في هذه الآية ، هذه الآية تستدعي أن تبحث عن مكنوناتها ، عن أبعادها ، عن تفصيلاتها ، عن جزئيَّاتها ، عن ملابساتها ، عن أسبابها ، عن نتائجها ، لا أعتقد أن آيةً دالَّةً على عظمة الله عزَّ وجل أقرب إليكم من خلق أنفسكم، وهذا قول الله عز وجل : 

﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ(21)﴾

[ سورة الذاريات  ]

 

من أراد أن يواجه عظمة الله لابدَّ له من جلسة تأمل وتفكر بينه وبين نفسه :


إذا أردت أن تواجه عظمة الله عزَّ وجل لا بدَّ من جلسةٍ بينك وبين نفسك ، لا بدَّ من جلسة تأمُّلٍ ، لا بدَّ من جلسة تفكُّر ، لا بدَّ من خلوةٍ ولو لقليلٍ من الوقت كل يوم :

﴿  فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6)﴾

[  سورة الطارق  ]

حينما تُصبح هذه البويضة مضغةً فعلقةً ، حينما تصبح عظماً تُكسى لحماً ، حينما تصبح طفلاً ، هذا الطفل من منَّا يصدِّق أن في جمجمته مئة وأربعين مليون خليَّة عصبيَّة سمراء لم تُعْرَف وظيفتها بعد ؟ أربعة عشر مليون خليَّة عصبيَّة قشريَّة تتمُّ فيها المحاكمة ، والتذكر ، والتصوُّر ، والإدراك ، وإدراك المسموعات والمشمومات والمبصرات ، الذاكرة وحدها لو أنك أمضيت العُمر كله في دراستها لانقضى العمر قبل أن تنقضي عجائبها ، الذاكرة وحدها . 

 

إذا تفكَّرت في عظمة خلق الله عرفته وقدَّرته حقَّ قدره فإذا قدرته استقمت على أمره:


العين وحدها التي أودع الله فيها هذه الطبقة القرنية الشفَّافة ، وكيف تتغذَّى هذه الطبقة الشفَّافة ؟ إنها علمٌ قائمٌ بذاته ، من أودع بعد هذه القرنية ذلك الجسم البلوري المَرِن الذي يزيد احتدابه أو تقلُّصه مع بُعد الشيء المرئي وقربه ؟ من هذا الذي يقيس المسافة ويضغط الأهداب حتَّى تأتي الصورة على الشبكيَّة ؟ يدُ من ؟ يدُ الله سبحانه وتعالى . 

هذا المخلوق ؛ دماغٌ وأعصابٌ ، أعصاب حسٍّ وحركةٍ ، عينٌ تأخذ بمجامع القلوب ، العصب البصري يزيد عن أربعمئة ألف عصب ، الشبكيَّة فيها مئة وثلاثون مليون عُصَيَّة ، سبعة ملايين مخروط من أجل أن ترى الصورة بوضوحٍ شديد ، وبألوانها الزاهية ، وليس في الأرض آلة تصويرٍ تستطيع أن تعطيكَ ألواناً متفاوتةً كما ترى العين ، إنها تستطيع أن ترى الفارق بين لونين من أصل ثمانمئة ألف درجة من لونٍ واحد ، لو أن اللون الأخضر وحده دُرِّجَ إلى ثمانمئة ألف درجة فإن العين البشريَّة تفرِّق بين درجتين من درجاته ، هذا عن العين ، فماذا عن الأذن ؟ وماذا عن الشم ؟ وماذا عن حسِّ اللمس ؟ وحس الضغط ؟ وحسِّ الحرارة ؟ وحسِّ البرودة ؟ كيف ينام الإنسان ؟ وكيف يتقلَّب في الليلة الواحدة قريباً من أربعين مرَّة ؟ لماذا يتقلَّب ؟ لماذا يتقلَب يمنةً ويسرة ؟ كيف يضغط الهيكل العظمي وما فوقه من عضلات على قسمهِ السفلي ؟ كيف تضيق الأوعية الدمويَّة ؟ كيف أودع الله سبحانه وتعالى في الجسم مراكز للإحساس بالضغط ؟ كيف تخبر هذه المراكز الدماغ بأن انضغاطاً وقع في القسم الفلاني ؟ كيف يأمر الدماغ العضلات وأنت نائم بالتقلُّب ؟

﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)﴾

[ سورة الكهف  ]

إن هذه الآية دالَّةٌ على عظمة الله ، لو أن أهل الكهف لم يُقَلَّبوا لما أمكن أن يبقوا في كهفهم ثلاثمئةٍ وزيادة .

يا أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا أردت باباً واسعاً جداً من أبواب معرفة الله فعليك بالتفكُّر ، التفكُّر أرقى عبادة ، في بعض الكتب الإسلاميَّة يؤكِّد بعض المؤلِّفين أن عبادة التفكُّر تفوق كل عبادة ، أنت إذا تفكَّرت عرفت الله ، وقدَّرته حقَّ قدره ، فإذا قدرته حقَّ قدره استقمت على أمره . 

 

الحوين هو الذي يحدِّد نوع الجنين وليس البويضة :


أيها الأخوة ؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) ﴾ حديثاً توصَّلنا فيه إلى أن الذي يحدِّد نوع الجنين هو الحوين وليس البويضة ، والله سبحانه وتعالى يقول : 

﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(45)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46)﴾

[ سورة النجم  ]

 

وجوب عبادة الله وحده والعبادة غايةٌ في الحب مع غايةٍ في الخضوع :


ويقول الله عزَّ وجل : ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ كل هذه الآيات الدالَّة على عظمته ومع ذلك يعبدون من دون الله !! الكون كله من دون الله ، الذين عبدوا الشمس عبدوها من دون الله ، الذين عبدوا القمر عبدوه من دون الله ، الذين عبدوا الأصنام عبدوها من دون الله ، الذي يعبد هواه هذا يعبده من دون الله ، أي كان الله ولم يكن معه شيء ، والكون كلُّه من دون الله ، فإذا توجَّهت بالعبادة إلى أيَّةِ جهةٍ غير الله عزَّ وجل فهذه عبادةٌ من دون الله ، إذاً لا ينبغي أن تعبد إلا الله :

﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)﴾

[  سورة الأعراف  ]

 وقال : 

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾  

[  سورة هود ]

والعبادة كما قلت لكم : طاعةٌ طوعيَّة ، غايةٌ في الخضوع مع غايةٍ في الحب ، لو أن العبادة خَلَت من الحب لما كانت عبادة ، لو أن الحب كان موجوداً ولم تكن هناك طاعة لما كانت عبادة ، غايةٌ في الحب مع غايةٍ في الخضوع ، طاعةٌ طوعيَّة ممزوجةٌ بمحبَّةٌ قلبيَّة أساسها معرفةٌ يقينيَّة تفضي إلى سعادةٍ أبديَّة ، وهي عِلَّة وجودنا على وجه الأرض :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات  ]

﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ هؤلاء الكفَّار ، هؤلاء التائهون ، هؤلاء الشاردون ، هؤلاء الغافلون ، هؤلاء الجُهَلاء ، هؤلاء الذين ما فكَّروا في عظمة الكون ، هؤلاء الذين لم تستوقفهم هذه الآيات ، هؤلاء الذين مَرَّوا على هذه الآيات مرور الغافلين ، هؤلاء الذين استهلكتهم الحياة ، هؤلاء الذين استهلكوا حياتهم استهلاكاً رخيصاً ، هؤلاء يعبدون من دون الله .

 

الله عزّ وجل ما أمرك أن تعبده وحده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كلَّه راجعٌ إليه:


الله عزّ وجل ما أمرك أن تعبده وحده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كلَّه راجعٌ إليه : ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾ و : ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ قال عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة رضي الله عنه  :

(( تعِس عبدُ الدينارِ  ، تعِس عبدُ الدرهمِ  ، تعس عبدُ الخميصةِ  ، تعس عبدُ الخميلةِ  ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ  . ))

[ أخرجه البخاري ]

هذا الذي يجعل حياته كلَّها من أجل شيءٍ أرضيٍ ينتهي عند الموت ، هذا عبدٌ لهذا الشيء ، ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ، لو أنك آثرت رضا زوجتك على طاعة الله فكأنك عبدتها من دون الله ، لو أنك آثرت إرضاء إنسانٍ ما على طاعة الله عزَّ وجل فكأنما عبدته من دون الله ، لو أنك آثرت شهوتك على طاعة الله عزَّ وجل فكأنما عبدت هذه الشهوة من دون الله ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ فلا توجد إلا حالة واحدة إما أن تعبد الله وإما أن تعبد من دون الله ، والذي يستحقُّ العبادة وحده هو الله عزَّ وجل ، والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾

[ سورة البقرة  ]

هكذا قال سيدنا إبراهيم :

﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُين(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمين(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيٍين(81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾

[ سورة الشعراء  ]

اسأل أهل الطب ، اسأل علماء الطب : كم من حالة شفاءٍ تمَّت بشكلٍ ذاتي لا يستطيع العلم أن يفسِّرها ؟ يجب أن تعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يشفيك مما أنت فيه فلا يستطيع أحدٌ أن يقف بينه وبين هذا الشفاء ، لذلك :

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

 

الإيمان بالله يبثُّ التفاؤل في النفس والرضا والإشراق:


لذلك هذا الإيمان يبثُّ التفاؤل في النفس ، يبثُّ الرضا ، يبث الإشراق ، لكن البعد عن الإيمان بلا إله يجعل الإنسان يائساً ، يجعله متشائماً ، يجعله منكمشاً على نفسه ، ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ﴾ إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾

[  سورة الأعراف  ]

إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فلأن لا يملك لكم نفعاً وضراً من باب أولى ، إذا كان سيد الخلق وحبيب الحق لا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضُراً ، فكيف يتَّجه إنسانٌ إلى إنسان ؟ 

 

لا تستطيع جهة في الأرض أن تنفعك أو تضرك إلا بإذن الله سبحانه:


﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ﴾ أي أيها الإنسان اعبد من ينفعك ويضرُّك ، هذا الذي تَلَقَّى رسالةً من يزيد بن معاوية ، وكان عنده بعض التابعين ، وفي هذه الرسالة توجيهٌ لا يرضي الله عزَّ وجل ، فهذا الوالي سأل هذا التابعي ، قال : " ماذا أفعل ؟ " أجابه بكلمة يجب أن تُكْتَب بماء الذهب ، قال له : " إن الله عزَّ وجل يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله " أي أنت إن أطعت هذا الإنسان وعصيت الرحمن ، الرحمن من قدرته أن يمنعك منه ، وليس في قدرة هذا الإنسان أن يمنعك من الرحمن : ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ﴾ إذاً من الصفات التي يجب أن تتوافر فيمن تعبده أن يملك بشكلٍ يقيني أن ينفعك وأن يضرَّك ، تحقَّق تجد أن جهةً في الأرض لا تستطيع أن تنفعك ولا أن تضرَّك إلا أن يأذن الله عزَّ وجل ، وهذا مأخوذٌ من قوله تعالى :

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

أطع أمرنا نرفع لأجلك حُجْبَنَا           فإنا منحنا بالرضا من أحبَّنـــا

ولُذ بحمانـا واحـتـــــــمِ بجنابنــا           لنحميك مما فيه أشرار خلقنا

* * *

أي إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتُّك فاتك كل شيء ، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء .

 

على الإنسان أن يدرك أن حاجته عند الله وحده :


﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) ﴾   أنت إذا دخلت إلى دائرة وبيدك معاملة ، وأنت في أَمَسِّ الحاجة أن يوقِّعها لك من يعدُّ توقيعه موافقةً لك ، فتوجَّهت إلى مستخدمٍ لا يملك لك هذا التوقيع ؛ رجوته ، وتذلَّلت له ، واستحلفته أن يوقِّعها لك ، وليس من صلاحيَّته أن يوقِّعها لك ، ألا يُعَدُّ هذا الإنسان غبيَّاً ؟ أنت إذا توجهَّت إلى إنسانٍ كائناً من كان ورجوته أن يعطيك شيئاً ، أو أن يمنع عنك شيئاً ، أو أن يحميك من شيء ، وهو لا يملك لك أي شيء . 

لذلك أحد الخلفاء دخل إلى المسجد الحرام وسأل عن أحد العلماء الكبار وكان اسمه أبا حازم ، فقال : " يا أبا حازم سَلني حاجتك ؟ " فقال : " والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله " ، فلمَّا التقى به خارج الحَرَم ، قال : " يا أبا حازم سلني حاجتك " ، قال : " والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها ؟!" ، فلمَّا ألحَّ عليه ، قال : " نعم ، أنقذني من النار " ، قال : " هذا لا أملكه " ، قال : " إذاً ليس لي عندك حاجة " . أنت حاجتك عند الله ، بيد الله صحَّتك ، بيد الله عيناك ، شبكيَّة العين ، الجسم البلوري ، ماء العين ، بيد الله سمعك ، بيد الله دماغُك ، شرايين الدماغ بيد الله ، لو أن أحدها انفجر في الدماغ لفقد الإنسان عقله ، أو ذاكرته ، أو سمعه ، أو بصره ، أو قوَّته فأصبح مشلولاً ، هذه الأوعية الشعرية الدقيقة لو أن نقطة دمٍ تجمَّدت فيها لأصبحت حياة الإنسان جحيماً ، كليتاك بيد من ؟ ماذا تفعل إذا قيل : لقد توقَّفت هاتان الكليتان عن العمل وهذا المرض ليس له دواء حتى الآن ؟ ماذا تفعل ؟ بيد مَن كليتاك ؟ بيد من دسَّامات القلب ؟ بيد من هذه الأوعية ومرونتها ؟ بيد من ، بيد من التوازن الذي تتمتَّع به ؟ كل الأمر بيد الله ؛ صحَّتك ، وأعضاؤك ، وأجهزتك ، وعقلك ، وسمعتك ، وزوجتك ، وأولادك ، ورزقُكَ ، ومن هم دونك ، ومن هم فوقك ، ومن تخاف منهم ، ومن لا تخاف منهم كلُّهم بيد الله ، لهذا قال سيدنا هود : ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56) ﴾ .

 

الكافر من صفاته الثابتة أنه يَصُدُّ عن سبيل الله ويعينُ الشيطان على إضلال الخلق:


﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ وكأن الله سبحانه وتعالى يقول : ومع هذا كله تعبدون من دون الله ؟! تتوجَّهون بالعبادة إلى غير الله ؟ أيعقل هذا ؟ ﴿ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ أي كان الكافر يعين الشيطان على إبعاد الناس عن الله عزَّ وجل ، أي الكافر من صفاته الثابتة في كتاب الله أنه يَصُدُّ عن سبيل الله ، أنه يعينُ الشيطان على إضلال الخلق ، يعين الشيطان على الإفساد بين الناس ، يعين الشيطان على الإيقاع بينهم. 

 

الإنسان إما أن يستجيب لله عن طريق النبي أو يتولى الله مباشرةً معالجته :


﴿ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) ﴾ هذه مهمَّة النبي عليه الصلاة والسلام ، لا يملك لنا ضراً ولا نفعاً ، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، ولكن يدعونا إلى الله ، ويبشِّرنا إن أطعناه، وينذرنا إن عصيناه ، هذا كل ما يملكه النبي عليه الصلاة والسلام :

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)  ﴾

[ سورة الرعد  ]

لكن هذا الإنسان إذا دُعِيَ إلى الله عزَّ وجل ولم يستجب ، ربنا عزَّ وجل عندئذٍ يداويه ، يقول الله عزَّ وجل : 

﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)﴾

[ سورة المدثر  ]

إما أن تستجيب لله عزَّ وجل عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام ، وإما أن يتولى الله مباشرةً المعالجة ، أي يا محمد إن لم يستجب دعه لي ، أنا أداويه .

 

إذا دُعيت إلى الله فقف وتأمل وخذ هذه الدعوة أخذاً جدياً:


الإنسان أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا دعي إلى ما يحيه ، إذا دعي إلى الله ورسوله ، إذا دعي إلى طاعته ، إذا دعي إلى التعرُّف إليه ، إذا دعي إلى محبته ، إذا دعي إلى الأعمال الصالحة ، إذا دعي ليعلم من هو ؟ وأين كان ؟ وإلى أين المصير ؟ إذا دعي إلى حقيقة الدنيا ، وأن أساسها العمل الصالح ، لقول الله عزَّ وجل :

﴿ وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾

[  سورة العصر  ]

إذا دعي إلى هذا ينبغي أن يقف مَلِيَّاً ، ينبغي ألا يستهين بهذه الدعوة ، ينبغي ألا يمر عليها كما يمر الغافلون :

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)﴾

[ سورة سبأ  ]

إذا دُعيت إلى الله فتأمل وقف ، خذ هذه الدعوة أخذاً جدياً ، تأمل من أنت ؟ أين كنت ؟ إلى أين المصير ؟ اسأل هذا السؤال وهو سؤالٌ مخيف : هل بقي بقدر ما مضى ؟ هذا الذي مضى كيف مضى ؟ مضى كأنه لمح البصر ، إذاً هذا الذي بقي سيمضي كما مضى الذي مضى ، إذاً الدنيا ساعة اجعلها طاعة ، النفس طماعة عوِّدها القناعة . 

 

ليس في الإسلام حِرمان والشهوات إذا سارت في طريقها الصحيح أثمرت سعادةً:


أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمة أقولها لكم : ليس في الإسلام حِرمان أبداً ، إذا عرفت الله عزَّ وجل ، واستقمت على أمره ، ليس معنى هذا أنك محروم ، كل شيءٍ أودعه الله فيك جعل له طريقاً نظيفاً ، صحيحاً ، منظماً ، هذا الوقود السائل في المركبة الذي ينطوي على قوة انفجار ، البنزين ، هذا الوقود لو وضع في مستودعه الصحيح ، وسار في أنابيبه الصحيحة إلى غرفة الاحتراق ، لأثمر حركةً نافعةً لك ، نقلتك هذه المركبة من مكانٍ إلى مكان ، أما إذا خَرَجَ عن خَطّ سيره ، وأصاب جسم المركبة ، وأصابته شرارة حرق المركبة كلها ، وكذلك الشهوات إذا سارت في طريقها الصحيح أثمرت سعادةً ، شهوة النساء هذه خطط الله لها أن تفضي بك إلى زواجٍ صحيح ، إلى زوجةٍ تحبها وتحبك ، تفي لها بالعهد وتفي هي لك بالعهد ، إذا كان البيت الذي هو أساس المجتمع سعيداً سعد المجتمع كله ، وهذا تخطيط ربِّ العالمين ، أما إذا حاد الإنسان عن الطريق الصحيح ، واعتدى على أعراض الآخرين ، وترك هذه الفتاة في قارعة الطريق تنهشها الذئاب فقد خرب في المجتمع ، أساس المجتمع دعم الأسرة ، فكل شيءٍ أودعه الله في الإنسان جعل الله له طريقاً صحيحاً ، نظيفاً ، مسعداً .

 

البطولة أن تأتي الله طائعاً لا أن تأتيه مُكرهاً:


﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) ﴾ أي أنت تُبَلِّغ ، وتُبَشِّر ، وتُنْذِر ، وتنتهي مهمتك ، ليس عليك أن تهديهم إلا أن يختاروا همُ الهُدى ، ولست مسؤولاً عنهم ، وما أنت عليهم بحفيظ .

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾

[ سورة القصص  ]

﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾

[ سورة البقرة ]

لكن إذا لم يستجب الإنسان لهذه الدعوة ، دعوة السماء لهذا الإنسان ، ربما تولى الله عزَّ وجل دفعه إلى أن يستجيب ، ولكن البطولة أن تستجيب بالحسنى ، البطولة أن تأتي الله طائعاً لا أن تأتيه مُكرهاً : عن أبي هريرة  :

(( عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل . ))

[ صحيح البخاري ]

البطولة أن تتصدق وأنت صحيحٌ شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر ، البطولة أن تأتي الله عزَّ وجل وأنت شاب ، في ريعان الشباب ، أن تأتيه وأنت قوي ، أن تأتيه وأنت غني ، أن تأتيه وأنت ذو شأن ، لا أن تأتيه بعد فوات الأوان ، لا أن تأتيه في خريف العمر ، لا أن تأتيه وقد اشتعل الرأس شيباً ، وانحنى الظهر . 

عبدي كبرت سنك ، وانحنى ظهرك ، وضعف بصرك ، وشاب شعرك فاستحي مني فأنا أستحي منك ..

إلى متى أنت باللـذات مشـغول              وأنت عن كل ما قدمت مسؤول ؟

 * * *

إلى متى ؟!! قال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) ﴾

 

تسخير الله عز وجل من يدعو إليه والأجر والثواب عند الله :


أيها الأخوة ؛ آيةٌ دقيقةٌ كل الدقة : ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ لو أن الله عزَّ وجل قال : قل ما أسألكم عليه أجراً ، أي هذه الدعوة إلى الله خالصة ، لا أسأل عليها أجراً هكذا يقول النبي ، الله سبحانه وتعالى يأمره أن يقول هذا ، قل : يا محمد ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ هذه (مِن) لاستغراق كل أنواع الأجر ، أي لا أجر مادي ، ولا معنوي ، ولا عفوي ، ولا غير عفوي ، ولا بدون طلب ، ولا مع طلب ، ولا صغير ، ولا كبير ، ولا عاجل ، ولا آجل ، أي أجرٍ ، لا معنوي ، ولا مادي ، ولا قريب ، ولا بعيد ، ولا مُعَجَّل ، ولا مؤَجَّل ، ولا أي شيء من هذا القبيل ، ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ لذلك لا تستطيع أن تذهب إلى طبيب إلا وفي جيبك المال ، ولا تستطيع أن تذهب إلى محام إلا وفي جيبك أجرة الأتعاب ، لكنك تستطيع أن تدخل بيت الله لتعرف كتاب الله من دون أن تدفع شيئاً ، ومن دون أن تُكَلَّفَ بشيء ، ومن دون أن تفعل شيئاً ، فالله سبحانه وتعالى سَخَّرَ هؤلاء الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل وجعل الأجر عنده والثواب ، لذلك إذا عملت صالحاً فلا تفسِد هذا العمل بطلب الأجر .

 

الدعاة الصادقون لا يسألون الناس أي أجرٍ كان :


أنا كنت أضرب مثلاً : لو أن ملكاً قال لأستاذ : عَلِّم ابني بعض الدروس وأنا أكرمك ، ما معنى كلمة أنا أكرمك وهو ملك ؟ العطاء على قَدَر المُعطي ، فإذا سوَّلت لهذا المُعَلِّمِ أن يأخذ من هذا الابن مبلغاً من المال فهذا أجره ، أليس من يفعل هذا غَفَلَ عما عند هذا الملك من وعدٍ كبير ؟ أي أنت إذا خدمت العباد والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾

[  سورة البقرة  ]

أنت إذا خدمت أخاك فقد أقرضت الله عزَّ وجل ، أنت إذا دللته على خير فقد أقرضت الله عزَّ وجل ، أنت إذا أعنته على حاجته ، أنت إذا أطعمته ، أنت إذا سَقيته ، أنت إذا كسوته ، أنت إذا عُدَّته .

((  قال الله في الحديث القدسي : عن أبي هريرة  : إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ : يا بْنَ آدَمَ ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي ، قالَ : يا رَبِّ ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ ؟! قالَ : أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ؟ يا بْنَ آدَمَ ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي ، قالَ : يا رَبِّ ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ ؟ ! قالَ : أَمَا عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ ؟ أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي ، ياابْنَ آدَمَ ، اسْتَسْقَيْتُكَ ، فَلَمْ تَسْقِنِي ، قالَ : يا رَبِّ ، كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ ؟!  قالَ : اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ ، أمَا إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي . ))

[ صحيح مسلم ]

فهذه الآية دقيقةٌ جداً : ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ والدعاة الصادقون كذلك ، لا يسألون الناس أي أجرٍ كان ؛ لا كثير ولا قليل ، لا قريب ولا بعيد ، لا مادي ولا معنوي ، لا شكر ولا شيء من هذا القبيل ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾

 

أجر النبي الذي يتقاضاه من أصحابه أن يسيروا إلى الله سيراً حثيثاً :


الله عزَّ وجل يقول :

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾

[ سورة يوسف ]

إذا كنت متبعاً للنبي عليه الصلاة والسلام فلا ينبغي أن تأخذ أجراً ، ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ معناها في أجر لأن إلا أداة استثناء إلا ، ما هو الأجر : ﴿ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ المعنى دقيق جداً ، غايةٌ في الدقة ، أي أجر النبي عليه الصلاة والسلام الذي يتقاضاه من أصحابه أن يسيروا إلى الله سيراً حثيثاً ، هذا أجره ، أي إذا عرفتم الله ، وأطعتموه ، وسعدتم به ، فهذا أعظم أجرٍ تقدمونه لمن يعلمكم ، هذه الفسيلة إذا اعتنى به صاحبها ، سقاها ، سمَّدها ، قلَّمها ، فإذا نمت هذه الفسيلة وأثمرت فهذا أجره .

 

الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :


أنت إذا علَّمت إنساناً لو أنه لم يسلِّم عليك ، لكنه طبق هذا العلم وانتفع به فقد نلت منه أعظم الأجر ، لأن كل أعماله في صحيفتك ، هذه آية دقيقة جداً : ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) ﴾ أنت مخير : ﴿ إِلَّا مَنْ شَاءَ ﴾ من أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلاً ، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، تعلمُ العلم طريق ، تعليم العِلم طريق ، خدمة الناس طريق ، الاستقامة على أمر الله طريق ، بِرُّ الوالدين طريق ، الإحسان إلى الجيران طريق ، إتقان العمل طريق ، أن تكون عند المسؤولية التي أنت فيها طريق ، أن تكون نافعاً للناس طريق ، أن تأمر بالمعروف طريق ، أن تنهى عن المُنكر طريق ، أن تحضر مجالس العلم طريق ، أن تُعين على إحقاق الحق طريق ، ﴿ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ هذا هو أجر النبي ، فقد يقول الأب لابنه على سبيل التقريب : مكافأتك لي يا بني أن تكون إنساناً عظيماً ، مكافأتك لي أن تنجح في امتحاناتك الصعبة ، مكافأتك لي أن تكون إنساناً أخلاقياً ، الأب ماذا يريد ؟ لا تَقِرُّ عينه إلا إذا رأى ابنه شخصيةً مرموقة .

 

من يتجه إلى الله ويستقيم على أمره يكافئ الذي عَلَّمَهُ أعظم مكافأة:


لذلك : ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) ﴾ يكفي أن يتجه الإنسان إلى الله عزَّ وجل بإخلاصٍ وصدقٍ ، وأن يستقيم على أمر الله ، وأن يعمل صالحاً ، يكون قد كافأ الذي عَلَّمَهُ أعظم مكافأة ، أنت لو أودعت في مصرف مبلغاً من المال ، كل هذا المبلغ يسجَّل نظيره في حساب من دلَّك على هذا العمل ، هكذا عند الله عزَّ وجل ، أي إذا دللت على خير ، فكل عملٍ يعمله من دللته على خير فهو في صحيفتك ، فهذا هو أعظم أجر ، هذا معنى . 

هناك معنى آخر للآية : ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا ﴾ إلا إذا أعنت أهل الحق على مهمتهم ، إنسان قدم خدمة لبيت من بيوت الله ، هذا الذي يريده النبي من أصحابه ، إلا إذا كنت لبنةٍ في بناء الحق ، إلا إذا ساهمت في خدمة الخلق ، أي إلا إذا أعنت أهل الحق على أداء مهمتهم : ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) ﴾ عندئذٍ نسأله أجراً لوجه الله عزَّ وجل ، وهذا الأجر أن يكون عضواً نافعاً في المجتمع ، أن يكون إنساناً معطاءً ، أن يكون مضحياً . 

 

التوكّل على الحيّ الذي لا يموت :


﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ الوكالة التي يحوزها الإنسان لا يستطيع أن يستعملها إلا إذا جاء من دوائر النفوس بوثيقةٍ تثبت أن الموكِّل لا يزال على قيد الحياة ، فإذا مات الموكِّل ضاعت الوكالة ، لذلك أنت أيها المؤمن توكَّل على الحي الذي لا يموت ، أحياناً إنسان يضع كل ثقته بإنسان ، يموت هذا الإنسان فجأةً ضاعت كل آماله : 

اجعل لرَبَّك كل عزك يـستقر ويـــثبت            فإذا اعتززت بمـن يموت فإن عزك ميت

* * *

أي إذا توكلت على إنسان حيّ فهو ميت ، بمعنى أنه سيموت ، ولا تدري متى سيموت ؟ فالتوكل عليه مغامرةٌ ومقامرة ، فلذلك توكَّل على الحي الذي لا يموت ، هو الحي الذي لا يموت ، لأن ربنا عزَّ وجل يقول للميت حينما يوضع الإنسان في قبره يقول له : عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت : ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ ، التوكل على جهة أخرى مغامرة ، بل مقامرة ، بل خسارة ، بل غباء ، بل حُمق ، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ توكل على من بيده كل شيء ، توكل على من بيده ملكوت السماوات والأرض ، توَكَّل على الذي يسمعك ، توكل على الذي ينفعك ، توكل على الذي يستجيب لك.

 

على الإنسان أن ينزه الله ويمجده لأنه هو كل شيء :


﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ﴾ أي مجّده ، نَزِّهُهُ ومجّده، هل فكرت في خلق السماوات والأرض ؟ هل عرفت لُطفه ؟ هل عرفت قوته ؟ هل عرفت غناه ؟ هل عرفت علمه ؟ هل عرفت قدرته ؟ هل عرفت عطفه ؟ هل عرفت أنه هو المعطي والمانع ؟ هو الخافض والرافع ؟ هو المعز والمذل ؟ هل عرفت أنه هو النافع والضار ؟ هل عرفت أنه هو القابض والباسط ؟ هل عرفته أنه هو كل شيء ؟ 

ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ                وكـل نعيمٍ لا مـحـالَـةَ زائـلُ

  * * * 

 

الخبير بالذنوب هو الله فعلى الإنسان ألا يُقَيِّم أخاه الإنسان:


﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) ﴾ أنت أيها الإنسان لست الخبير بالذنوب ، الخبير بالذنوب هو الله عزَّ وجل ، إذاً ليس من شأن الإنسان أن يُقَيِّم أخاه الإنسان ، هذا من شأن الواحد الديَّان ، مقامُكَ كعبدٍ لا يسمح لك أن تقيِّم أحداً ، لأن الله سبحانه وتعالى رب النوايا ، وهو الذي يعلم السر وأخفى ، يعلم ما تخفي الصدور ، يعلم خائنة الأعين ، لذلك : ﴿ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ ، إذا قلت : هذا سَيِّئ ، وهذا إلى النار ، وهذا كافر ، هذا ليس من شأنك ؛ هذا من شأن الله عزَّ وجل ، لا تمدح ولا تذُم ، من أنت ؟ أنت عبدٌ ضعيف ، محدود المعلومات ، لذلك ربنا عزَّ وجل قال : 

﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾

[  سورة النجم  ]

لا تقل : أنا ، من أنت ؟ قالها إبليس فأهلكه الله ، لا تقل : أنا ، قل : الله أعلم ، أرجو الله أن يرحمني . 

تابعيٌ جليل التقى مع أربعين صحابياً قال : " ما رأيت واحداً إلا وهو يظن أنه منافق " ، أرجو أن أكون صادقاً ، أرجو أن أكون مخلصاً . 

شخص قال : أنا مخلص ، فقال : يا هذا إخلاصك يحتاج إلى إخلاص  ، لا تقل : أنا مخلص ، قل : أرجو الله أن أكون مخلصاً ، لا تزكوا أنفسكم ؛ هذه واحدة .

 

لا تزكِّ نفسك ولا تزكِّ على الله أحداً فهذا تجاوزٌ لمقام العبودية:


لا تزكِّ على الله أحداً قل : الله أعلم ، سيِّدنا الصديق وله ما تعلمون من الفضل ، قال عنه النبي الكريم : ما طلعت شمس على نبي أفضل من أبي بكر  ، لما ولّى عمر ، قال : " فإن بَدَّلَ وغَيَّرَ فلا علم لي بالغيب " ، يوجد أدب مع الله عزَّ وجل ، فلان جَيِّد ، من أنت ؟ هذا تطاول على الله عزَّ وجل ، لا تزكوا أنفسكم ، ولا تزكوا على الله أحداً ، قل : الله أعلم ، قال : " يا رب أقول لقد وليت عليهم أرحمهم فإن بدّل وغيَّر فلا علم لي بالغيب " ، أنت أعلم . هذه الآية دقيقة ، لا تزكِّ نفسك ، ولا تزكِّ على الله أحداً ، ولا تحكم على أحدٍ بشيء ، من أنت ؟ أنت عبدٌ لله ، أن تزكي نفسك ، أو أن تزكي غيرك ، أو أن توزِّع التهَمَ على الناس ، هذا فاسق ، هذا فاجر ، هذا ليس من شأنك ، هذا من شأن الله عزَّ وجل ، هذا تجاوزٌ لمقام العبودية ، ﴿ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ لذلك كما ورد  : عن أنس بن مالك : 

(( الذنبُ شؤمٌ على غيرِ فاعلهِ ، إنْ عيَّرَهُ ابتُلِيَ بهِ ، وإنِ اغتابهَ أَثِمَ ، وإنْ رضِيَ بهِ شاركَهُ . ))

[ السلسلة الضعيفة   : خلاصة حكم المحدث  : ضعيف  ]

 الذنب شؤمٌ على غير صاحبه ، إن تكلَّم به فقد اغتابه ، وإن عَيَّرَهُ ابتلي به ، وإن رضي به فقد شاركه في الإثم ، أخوكم وقع في ذنب ، قل : يا ربي اغفر له وارحمه ونجِّني من هذا الذنب ، هذا الموقف الأديب ، هذا موقف العبد الصادق .

 

اليوم الذي عناه الله بالآية التالية لا يعلمه إلا هو :


﴿ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ .. كلمة ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ تعني الكون ، أي الذي خلق الكون : ﴿ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ أولاً : كلمة يوم نفهمها نحن فهماً محدوداً ، أرضنا تدور حول نفسها ، دورةً في كل أربعٍ وعشرين ساعة ، إذاً كلمة يوم نفهمها نحن هذه الدورة ، أما عندما ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ليس معنى هذا كما يقول اليهود في تلمودهم : إن الله خلق الدنيا في ستة أيام واستراح يوم السبت لأنه تعب :

﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)﴾

[ سورة ق ]

هذا معنى فاسد ، اليوم الذي عناه الله بهذه الآية لا يعلمه إلا الله .

 

للآية التالية عدة تفسيرات :


﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾

[ سورة الحج  ]

بعض التفسيرات لهذه الآية : أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام هكذا على ظاهرها ، وبعض التفسيرات : أن السماوات والأرض مرَّت بأدوار ، اليوم هو الدور ، يقول لك : العصر المَطير ، عصر النباتات العملاقة ، عصور الأمطار الغزيرة ، عصور تَجَمُّد القشرة الأرضية ، أي الأرض نفسها مرت بأدوار عبر آلاف السنين ، عبر ملايين السنين ، حتى أصبحت صالحةً لحياتنا ، حتى أصبحت هذه القشرة مفتتةً ، أصبحت تربةً زراعية ، وأصبح النبات مستقراً ، وأصبحت القارات في أماكنها ، وزِّعت القارات والجُزُر والصحارى والجبال والمحيطات والأنهار ، من أجل أن تكون هذه الأرض مستقراً للإنسان مرت بمراحل طويلة جداً عبر آلاف السنين ، عبر ملايين السنين ، لعل الله سبحانه وتعالى يريدُ من كلمة ستة أيام تلك المراحل الطويلة التي أعدت الأرض فيها لتكون مستقراً لهذا الإنسان .

وبعضهم يقول : لعل هذه الأيام الست هي الصيف والشتاء والربيع والخريف والليل والنهار ، وعلى هذه الأدوار الست تقوم الحياة ، أي القُرآن حَمَّاُل أوجه ، والقرآن لا يُحَدُّ بمعنىً واحد .

هذه الآية : ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ستة أيامٍ لا كأيامنا ، وهذا اليوم لا يعلمه إلا الله ، أو ست مراحل مرَّت بها السماوات والأرض حتى أصبحت على ما هي عليه الآن صالحةً للحياة ، أو الأيام هي الربيع والخريف والشتاء والصيف والليل والنهار ، والله أعلم .

 

كلمة الرحمن هي اسم الله الأعظم :


﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ الاستواء معلوم والكيف مجهول ، كيف استوى على العرش ؟ الله أعلم ، ولكن خلق الأرض والسماوات وبَثَّ فيهما الحياة ، خلق فسوى ، خلق وبثّ الحياة ، لعل هذا هو المعنى ، على كل : ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ هل تعرف من هو ؟ إنه الرحمن ، ولعل هذا الاسم هو اسم الله الأعظم ، لأن لطفه رحمة ، وقوَّته رحمة ، وعدله رحمة ، منعه رحمة وعطاؤه رحمة ، رفعه رحمة وخفضه رحمة ، إعزازه رحمة وإذلاله رحمة ، بسطه رحمة وقبضه رحمة ، تقريبه رحمة وإبعاده رحمة ، إذا أبعد الإنسان عن شيءٍ فهو رحمة ، قد يكون العطاء عين المَنع ، وقد يكون المنع عين العطاء .

 الرحمن ، بكلمة الرحمن وهي اسم الله الجامع تُفسر كل أفعاله ، بل تفسَّر كل أسمائه ، بل تفسر كل صفاته ، بل تفسر الآية الكريمة :

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

أي الله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا ، خلقنا ليسعدنا ، وأيُّ كلامٍ آخر لا تلتفت إليه ، يقول لك : سبحان الله ، الله خلقنا ليعذبنا ، هذا كلام شيطاني ، الله جلَّ وعلا عن ذلك ،  خلقك ليسعدك ، ليرحمك ، ولكن إذا حِدَّتَ عن الطريق لا بُدَّ من التأديب ، هذا كل ما في الأمر.

 

أدلة من القرآن الكريم على رحمة الله بعباده وتأديبه لهم عند تقصيرهم:


قال تعالى :

﴿  وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾

[ سورة السجدة ]

﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(30)﴾

[ سورة الشورى ]

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

سورة النساء

﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)﴾

[ سورة الكهف  ]

﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ( 17 )﴾

[  سورة سبأ  ]

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[  سورة الكهف  ]

﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)﴾

[  سورة الروم  ]

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)﴾

[ سورة الزلزلة ]

لو أنقذت نملةً من الموت لرأيت هذا العمل يوم القيامة عظيماً : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه  :

(( دخَلَتِ امرأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ ربَطَتْها ، فلمْ تُطعِمْها ، ولم تَدَعْها تَأكُلُ مِن خَشاشِ الأرضِ. ))

[ صحيح البخاري ]

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾ .


  كل شيءٍ وقع أراده الله وهو مَحْضُ الخير:


 ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ هل عرفته من هو ؟ إنه الرحمن ، خلقه رحمة ، وتسييره رحمة ، وتربيته رحمة ، عطاؤه رحمة ، ومنعه رحمة :

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران  ]

كلُّه خير ، كل شيءٍ وقع أراده الله ، وإرادة الله متعلقةُ بالحكمة المطلقة ، وحكمته متعلقةٌ بالخير المطلق ، كل شيءٍ وقع أراده الله وهو مَحْضُ الخير ﴿ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا  ﴾ اسأل عنه ، اسأل عنه أهل الذِكر ، تَعَلَّمَ عنه كل شيء ، احضر مجالس العلم كي تعرف من هو الله سبحانه وتعالى .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور