وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الأحقاف - تفسير الآيات 15- 20 ، العاقل من برّ والديه و ادخر عطاء الله له للآخرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع من سورة الأحقاف.


على الإنسان أن يحسن إلى والديه لأنهما سبب وجوده:


 ومع الآية الخامسة عشرة، وقد شُرحت في الدرس الماضي شرحاً موجزاً، ونظراً لارتباطها بالآية التي تليها، فلا بد أن نقف عندها وقفةً متأنِّيةً إن شاء الله تعالى، يقول الله عز وجل:

﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(15)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 الوصيَّة من الله تعالى أمْرٌ، يعني الله عز وجل أمَرَ الإنسان أن يُحْسِنَ إلى والدَيه، أما كلمة "الإنسان" ، مادامتْ جاءَتْ معرَّفَةً بـ "الـ" فهي تعني أيَّ إنسانٍ من دون شرْطٍ أو قَيْد، لأنه ولد مِن أبوين، ولأنَّ هذين الأبوَين كانَا سبب وُجوده، إذًا لا بدّ أن يُحْسِنَ إليهما، والشيء الذي يلفت النَّظر هو أنّ الله سبحانه وتعالى في معظم آيات القرآن الكريم كلَّما ورد الحديث عن الإيمان بالله، وعن عبادته، يأتي الحديث عن الإحسان للوالدَين. 


أعظم عملٍ يأتي بعد الإيمان بالله بِرُّ الوالدين:


معنى ذلك أنَّ أعظم عملٍ على الإطلاق بعد الإيمان بالله والعبودية له بِرُّ الوالدين، قال تعالى:

﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 وقال أيضاً:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(14) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(15)﴾

[   سورة الأحقاف  ]

 الله جلّ جلاله هو الذي خلق، وهو الذي ربَّى، وهو الذي أمدّ، وهو الذي هدى، لكنّ هذين الأبوَين كان هذا الخَلقُ بِسَبَبِهما، لذلك: العبادة لله والإحسان للوالدين ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله.


وصية الله عز وجل للإنسان ببر والديه:


 الشيء الآخر في الآية، أولاً أنَّ الوصيّة بمعنى الأمر، ﴿وَوَصَّيْنَا﴾ أيْ أمرنا، ووصِيَّة الله تعالى أمر، قال تعالى:

﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102)﴾

[ سورة الصافات ]

 يعني أمر. 

 مقام الألوهيّة؛ إذا وصَّاك الله بِوَالِدَيك فهو يأمرك أن تبَرَّهُما، والإنسان في الآية تعني أيّ إنسان مِن دون استِثناء، أما "بِوالديه" أي والدَين، المُطلَق في القرآن على إطلاقه، الوالدان المؤمنان، المشركان، الفاسقان، والعاصيان، الكافران، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ ، أدِّ الذي عليك واطْلب من الله الذي لك! لذلك لِيَعْمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنَّة، لِيَعْمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يُغْفَر له، ولا تتعامل مع عاقٍّ لِوَالِدَيه، لو كان فيه خير لكان خيرهُ لِوالِدَيه. 


أجلُّ نعمة يسديها الابن لوالديه دعوتهما إلى الله عز وجل:


 أقول لكم أيها الإخوة: إنَّ أعظم عملٍ على الإطلاق أن تردّ على نعمة الأُبوَّة بِدَعْوتِهما إلى الله عز وجل، فإذا وُفِّقَ الشابّ المؤمن بِحِكمةٍ بالغةٍ وبأسلوبٍ حكيمٍ وبِتَلطُّفٍ شديدٍ، وبإحسانٍ بالغٍ أن يأخذ بيَدِ أبيه وأمِّه إلى الله، لا يستطيع أن يفيَ بحقّهما إلا أن يجدَهما عبْدَين فَيُعْتِقَهما، هذا الكلام إذا وسَّعناه، يعني إذا كان الوالِدان عَبْدَين لِشَهواتهما، فَأَعْتَقْتَهُما أنت، هذا أعظم عملٍ على الإطلاق، فالذي كان سبب وُجودك ردّدْتَ جميله بأن دَلَلْتَهُ على الله، قد يكون الأب تائهاً، شارداً ومُقصِّراً، وواقعاً في بعض المخالفات والمعاصي، ولكن الابن لا يستطيع أن يأخذ بيَدِ أبيه إلا بِذَكاءٍ بارع، وبِحِكمةٍ بالغةٍ، وبِتَفَهُّمٍ دقيقٍ، وبأدَبٍ جمٍّ، وبالإحسان، افْتَح قلبَهُ بالإحسان قبل أن تطلب منه أن يُصْغي لِكَلامك، إذًا قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ .


رِعايَة الآباء لأبنائهم طبعٌ وفطرة فطرهم الله عليها:


 الشيء الذي يلفت النَّظر أيضاً أنَّ رِعايَة الآباء لأبنائهم طبْعٌ وفِطرة، لذلك فالأب حينما يقدِّم كلّ ما في وُسْعِهِ لأولاده، هذا جزءٌ من كِيانه، وجزء من فِطرته التي فَطره الله عليها، طبعًا في حالات شاذَّة ومرضِيَّة، لا حكم لها، ففي بلاد الغرب هناك آباء يقتلون أبناءهم، امرأة فرنسيّة أغْلَقَت على أولادها الباب وغادرت المنزل حتى ماتوا جوعاً! هذه حالات نادرة جداً وشاذَّة، يكون الإنسان غير سَويّ، أما أيّ أبٍ أو أُمٍّ على وجه الإطلاق فقد أوْدَعَ الله في قلبهِما حبّ أولادهما، ورعايتهم، وليس في بقيَّة المخلوقات مخلوقات ترعى ما كان منها كبيراً إلا بني الإنسان؛ لأنَّ الله عز وجل أكرم الإنسان، كيف تفهم رحمة الله بك؟ وكيف تفهم حبّ الله لك؟ وكيف تفهم رعايته لك؟ إنه سبحانه أوْدع رحمته بك في قلب أبيك وأمِّك، ومحبَّتُهُ لك أوْدعها في قلب أبيك وأمِّك، وحِرْصُهُ عليك أوْدعهُ في قلب أبيك وأُمِّك.


من إكرام الله للإنسان أن يسخر له من يؤدبه و يرعاه:


 الإنسان إذا كان إيمانه عميقًا، وكانت له القدرة على اخْتِراق الظواهر، فإذا رأى أُمًّاً ترعى ابنها فهذه رِعاية الله، إذا رأيتَ أباً يُعطي كلّ ما في وُسْعِهِ لأولاده، فهذه محبَّة الله، وهذا إكرام الله، ومن إكرام الله لنا أن يُسخِّر بعضنا لبعض، وإذا الإنسان تلقَّى من أبيه وأمِّه رعايةً، ومودَّة ورحمةً وحرصاً ومالاً، ووالده زوَّجَهُ، ينبغي أن يشْكر والدَهُ إلى أقصى الحدود، لكن ينبغي ألاّ ينسى أنَّ هذا إكرام الله له، وأنّ الأب كلّه، والأمّ كلَّها بِرَحمتها، وحرصِها، وحنانها، وعطفها، ورعايتها، إنَّما هي تُمثِّل رحمة الله تعالى ﴿وَوَصَّيْنَا﴾ بِمَعنى أمرْنا، و﴿الْإِنْسَانَ﴾ مطلق الإنسان، و﴿بِوَالِدَيْهِ﴾ تعني مطلق الوالدين، عليك أن تُحْسن إليهما، والله يتولّى أمر إيمانهما، لكن إذا أمكنك بِحِكمة بالغة، وبأُسلوب ذكيّ، وأدبٍ جمّ، وإحسانٍ بالغ أن تنقل إليهما الحق، وأن تنقل إليهما أمر الله عز وجل، وأن تعرِّفهما بجناب الله عز وجل، فهذا عمل لا يعدلُهُ عملٌ على الإطلاق، فالذي كان سببَ وُجودك له عليك حقّ كبير، ولا تفي هذا الحق إلا إذا دَلَلْتهُ على الله تعالى، لذلك قال بعضهم: هناك أبٌ أنْجبك، وهناك أبٌ زوَّجَك وهناك أبٌّ دلَّك على الله، فالأب الذي أنجبكَ ينتهي فضلهُ عند نهاية الحياة، والأب الذي زوَّجَك يبدأ فضلهُ من وقت الزَّواج وإلى نهاية العلاقة الزَّوجيّة، أمّا الذي دلّك على الله، فهذا الإكرام يستمرّ إلى أبد الآبدين! لأنَّ أعظم نِعمةٍ على الإطلاق أنْ تعرف الله تعالى، وأن تعرف أمرهُ وتستقيم عليه.


الطاعة لله وحده والإحسان للوالدين:


 قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ ﴿إحسانًا﴾ إعرابها تمييز، ومعنى تمييز، أيْ في الجملة كلمة مُبهمة، فلولا التَّمييز لصدَقَت على أشياء كثيرة، تقول مثلاً سِرتُ ثلاثين، فثلاثين لفظة مبهمة يا ترى ثلاثين متراً أو كيلو متراً، فثلاثين لا تُحدِّد المعنى، ولكن إذا قلتَ سِرتُ ثلاثين مترًا كانت (متراً) تمييزاً، فلولا ذِكْرُ هذه الكلمة لصدَقت الكلمة الأولى على أشياء كثيرة، فوصَّينا الإنسان؛ طاعةً؟ لا، بل إحسانًا! وفرق كبير بين الطاعة والإحسان، وهناك أبناء يخلطون بين الطاعة والإحسان فالطاعة لله،

(( لا طاعةَ لِمَخلوقٍ في معصِيَةِ الخَالِق. ))

[ صحيح الجامع ]

لكنّ الإحسان للوالدين، الإحسان شيء، والطاعة شيء آخر، أحياناً الأب تعاملهُ رَبَوي، وابنهُ معه في المحلّ، يأمره بهذا التعامل، فنقول: (لا طاعةَ لِمَخلوقٍ في معصِيَةِ الخَالِق) .

قال تعالى:

﴿  وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)﴾

[ سورة لقمان  ]


لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:


 قالت له: يا بنيّ إما أن تكفر بِمُحمَّد وإلاّ سأدع الطَّعام حتى أموت -الكلام موجَّهٌ لسيّدنا سعد بن أبي وقَّاص-، فقال: "يا أُمِّي لو أنَّ لك مئة نفس فخرجَت واحدةً واحدةً ما كفرتُ بِمُحمَّد، فَكُلي إن شئتِ أو لا تأكلي" ، ثمّ هي أكَلَت، المفروض أن يعرف الإنسان هذه الحقيقة فالطاعة شيء، والإحسان شيءٌ آخر، وكثير من الأبناء تجدهُ يطلِّق امرأة صالحةً مؤمنةً محجَّبةً، لا لِشَيء، ولكن لأنَّ أمَّه لم تحبَّها فطلَّقها! هذا خطأ كبير، فالأُمّ لها حُقوق والزَّوجة لها حُقوق، وعلى المؤمن أن يُعطي كلّ ذي حقّ حقّه، (لا طاعةَ لِمَخلوقٍ في معصِيَةِ الخَالِق) .

 ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ وفي قراءة: حُسنًا، والحُسن ضدُّه القبح، والإحسان ضدُّه الإساءة، فأنت مكلَّف أن تحْسِن، وأن تُجْمِل.


زيارة الأم و الأب أعظم عمل يقوم به الإنسان:


 أحيانًا يتكلَّم الإنسان كلمة مع والدَيه يريد بها وجْه الله، لكنَّها قاسِيَة، فهذا أحْسنَ ولكنَّه لم يُجْمل، فالكلمة اللطيفة، والكلمة الجميلة، والكلمة الرقيقة، والكلمة المتوازنة، أحياناً يُطعِم لكن لا يُجمِل القول، يجب أن تُطعِم وأن تُجمِل، لذا قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: ﴿وبالوالدين إحسانًا﴾ ، هذه الباء حرف جرّ تُفيد الإلصاق، فأحيانًا يشتاق الأب لابنه، والابن بِمنصب رفيع مشغول، يبْعث له سائقًا يقدِّم لأبيه الفواكه والحلويَّات، ويأخذه إلى نزهةٍ ممتِعَة، ولكن المقصود أن تكون أنت معه، إلصاق ﴿وبالوالدين إحسانًا﴾ فالباء هنا تفيد الإلصاق، أي أنَّ الإحسان إلى الوالدين ينبغي أن يكون بالذَّات، وينبغي أن تزورهما في أقرب وقت، إنّ الأب والأمّ أحدهما أو كلاهما قد يتقدَّمان في السنّ، وعافَتْ نفسهما الطَّعام والشَّراب والنُّزهات، ولكنَّ حبّهما لأولادهما شيءٌ يتعاظم، لذلك أعظم عمل أن تزور أمَّك وأباك، فإن كانت الزيارة كلّ يوم كان الأفضل، وقد تكون كل يومين، أما أن تغيب الأشهر، لانشغالك! ولا تراهما، فهذا لا عذر لك به عند الله عز وجل


العناية الفائقة بالمرأة الحامل لسلامة جسمها:


 قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ العلّة أنَّها حملتهُ كرهاً، فهذا الحُوَين من خمسمائة مليون حُوَين يقذفها الرّجل في اللِّقاء الزَّوجي، أقْوى حُوَين يلقِّح البُوَيضة، والحُوَين مع البويضة يصبحا بويضة ملقَّحة، وهذه البويضة تنقسم إلى عشرة آلاف جُزَيْء، وهي في طريقها إلى الرّحِم، فإذا وصلَت إلى الرَّحم تعلَّقَت في جِدار الرَّحم، وهذه البُوَيضة وصفها العلماء بأنَّها الآكلة، أي تأكل جدار الرّحم، كي تصل إلى الدم، وهي شرِهٌة شرَهاً لا حدود له لدَم الرَّحم من أجل أن تتغدَّى، فَمُهِمَّة الأم وهي حامل أن تقدِّم كل كيانها وكلّ أجهزتها وكلَّ أعضائها وكلَّ أنسِجَتها من أجل أن تؤمِّن لهذه البويضة الغذاء الأمثل، والشيء الذي يلفت النَّظَر أنَّ هذه البويضة تحتاج إلى أكمل أنواع الغذاء، فإذا كان هذا الغذاء ليس متوافراً في الدمّ أُخِذ من أنسجة الأم، في أثناء تشكُّل عظام الجنين، إذا كان الكلس في دم المرأة لا يكفي، وطعامها فقير من المواد الكِلسِيَّة، لذلك إطعامُ المرأة الحامل الحليب والجبن، ومشتقات الألبان ضرورةٌ، وإلا تفقدُ أسنانها، فهذه البُوَيضة وهي في طَوْر تشكُّل الجهاز العظمي، تأخذ كلّ الكِلس من المرأة فإذا لم يكفِ أخذَت من عظامها، ومن كلس أسنانها، لذلك معظم الحوامل يُصَبْن بِنَخر الأسنان في أثناء الحمل إذا كانت العناية بالغذاء ضعيفة، وهذا هو معنى حملتْهُ كُرهاً، حالة الحَمْل تعني جِسْماً مُسْتنفراً اسْتِنفاراً كاملاً بِكُلّ أجهزته وأعضائه، وأنسجته لِتَخليق هذا الجنين التَّخليق الأمثل، فالإنسان أحيانًا يحتاج إلى شريط كهرباء لآلة يُعالجها، فهل يُعقَل أن يقطع الشَّريط الأساسي في البيت؟ يسحب الشريط الأساسي من غلافه ليصلح هذه الآلة! هكذا الجِسم، لا بدّ من تَشكيل هذا الجنين، فإذا كان بالدم المواد الأوليِّة الكافيه كان بِها، وإلا أخذ الجنين من أنسجة أمِّه العظميَّة وما سوى ذلك، هذا معنى قول الله تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ لذلك يَعُدُّ الأطباء حالة الحمل حالة ضَعف شديد، فالمرأة الحامل تحتاج إلى عِناية فائقة.


عدم استطاعة أي إنسان تأدية حق أمه كاملاً:


 قال تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ أحدهم سأل النبي عليه الصلاة والسلام، وقد حملَ أُمَّهُ يطوف بها حول الكعبة، فقال: يا رسول الله هل أدَّيتُ ما لها عليّ؟ فقال: لا، ولا بزفرة واحدة. 

(( أنَّ رجلًا كان في الطوافِ حاملًا أمَّه يطوفُ بِها، فسألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: هل أدَّيْتُ حقَّها؟ قال: لا، ولا بِزَفرةٍ واحدةٍ. ))

[ ابن كثير بسند ضعيف ]

والزَّفرة كلمة (آه) أثناء الطَّلْق! ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ طبعاً ربُّنا عز وجل في هذا المقطع من كتاب الله هناك تفاسير كثيرة تبيّن أنَّ هذه القصَّة تعني زيداً أو عُبيدًا، لا، بل هذان نموذجان بشريان متكرِّران في هذه السورة، ولا تعنيان أحداً.


من عرف الله شكره على وجوده:


 بعد قليل تَرَوْن النَّموذج الآخر، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ هذا الجنين بلغ أشده، الأشُدّ تبدأ من سن الثلاثين، وتكتمل في سن الأربعين، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ أساس الإيمان شُكر، وإذا عرفْت الله وشكَرْتَهُ حقَّقْت الهدف من وُجودك والدليل قوله تعالى:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾

[  سورة النساء ]

 أكبر شيئين تفعلهما في الحياة أن تؤمن بالله، وأن تشكرهُ على نِعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والإرَّشاد، أكبر شيء على الإطلاق. 


اكتمال ملكات الإنسان بدءاً من الثلاثين و حتى الأربعين:


 لذلك بدءاً من الثلاثين وحتى الأربعين تكْتَمِلُ ملكاتُ الإنسان، وإدراكه وانْفِعالاته، ومحاكمته، وهذه كلُّها تكْتَمِل، فإذًا ما بين الثلاثين والأربعين أشُدُّ الإنسان، والعلماء قالوا: للإنسان خطّ بياني صاعد، وعند عامٍ معيَّن من الأعوام يقف الصُّعود، ويبدأ السَّير المستقيم، ثمّ يبدأ الخطّ بالهبوط، إذ قد يصل إلى أرذل العمر، فالإنسان خطّه البياني صاعد، ومستقيم وهابط، ويبدو أنّ الصُّعود ينتهي في الثلاثين، ويستمرّ مستقيماً إلى الأربعين، وبعد الأربعين يبدأ الهبوط التَّدريجي، فالإنسان إن ركب طائرةً، والمسافة بعيدة، فمن قبرص تبدأ الطائرة تهبط، تدريجيًّاً إلى مطار دمشق، هذا إذا كان السّفر طويلاً، من قبل مسافات شاسعة، فقبل خمسة آلالف كيلو متراً يبدأ الهبوط التدريجي، وكذلك الإنسان يكْتَمِلُ في الثلاثين ويستمرّ اكتِمالهُ حتى الأربعين، وبعد الأربعين يبدأ الهبوط التدريجي، ويشعر بِوَهنٍ في قِواه، ويضعف بصره، ويشيب شعره، وأحياناً يشعر بميل إلى الراحة لم يكن يشعر به سابقًا، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ .


سِنُّ الأربعين هو النَّذير للإنسان:


  الإنسان ليس له عذر بعد الأربعين، لذلك القرطبي في تفسيره يقول: سِنُّ الأربعين هو النَّذير، قال تعالى:

﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37)﴾

[  سورة فاطر  ]

 سِنُّ الأربعين هو النّذير، ما لك حجّة، مَن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾ أوْزِعني أيْ ألْهِمني أن أشكر نعمتك، والنِّعَم لا تُعدُّ ولا تُحصى، والدليل هل تقول لإنسان: خُذ هذه الليرة وعُدَّها؟ ليرة واحدة، فهذا كلام لا معنى له.  


من أعظم النعم التي منحها الله تعالى للإنسان:


  قال الله تعالى:

﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18)﴾

[  سورة النحل  ]

1 ـ نعمة البصر:

 ما قال نعم الله، قال نِعْمَةَ اللَّهِ ، هناك نعمة واحدة لو أمضَيت الحياة كلّها في تَعداد خيراتها لما أدْركت هذه الخيرات، نعمة البصر. 

2 ـ نعمة العقل:

 نعمة العقل الذي في الرأس، الإنسان يكون قد بنى بيتاً وأنجب أولاداً، ووصل إلى أرذل العمر فيختل عقله، فأقرب الناس إليه يحملونه إلى مستشفى الأمراض العقلية، ويقولون: هذا مجنون، هذا خطير، وهم أقرب الناس إليه! فنِعمة العقل لا تعدلها نعمة. 

3 ـ نعمة السمع و النطق:

 وكذا نعمة السمع والبصر، ونِعمة النُّطق، ونعمة سلامة الأعضاء والأجهزة، هذه نعمة مادية.  

4 ـ نعمة معرفة الله و الاستقامة على أمره:

 نعمة معرفة الله والاستقامة على أمره، هذه نِعَمٌ لا تُعدّ ولا تحصى.  

5 ـ نعمة الصراط المستقيم و هي النعمة المطلقة:

 ولكن النَّعمة المطلقة التي ما بعدها نِعمة هي نعمة الصِّراط المستقيم، قال تعالى: 

﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)﴾

[ سورة الفاتحة  ]

 أن تكون حركتك في الحياة وِفْق منهج الله، وإذا كنت كذلك فأنت في أعظم نعمة، ولو افْتَقَرْت إلى المال، ولو أتْعَبَتْك الحياة، وكانت تحفّ بك آلاف المشكلات، إذا كنت على منهج الله سائراً فأنت في النِّعمة العظمى المطلقة، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾

6 ـ نعمة الولد الصالح:

 من أعظم النِّعَم أن يُنْجِب الوالدان ولداً صالحاً، فالوالدان قد يسكنان أفخَر البيوت، لكنّ هذه النّعمة تنتهي عند الموت، وتلاحظ أحياناً يكون ثمن البيت خمسين مليوناً، وعندما يموت صاحب البيت يُؤخَذ النَّعش إلى مقبرة الباب الصغير! له فيها قبرٌ صغير، وبيته كانت مساحته أربعمئة متر، وتزيينات البيت والأثاث كلّف الملايين، فنعمة السَّكن تنتهي بالموت، ونعمة المال تنتهي بالموت، ونعمة المكانة الاجتماعيّة تنتهي بالموت، لكنّ نعمة الطاعة لله عز وجل هذه تبدأ بعد الموت إلى أبد الآبدين ، إذًا أعظم نعمة هي نعمة الهدى، فهذا الذي جاءهُ ولدٌ صالح فكان اسْتِمراراً له، كلّ أعمال ذريَّته في صحيفته ولو مات الإنسان، فالذي خلَّف ذريَّةً صالحة لا يموت، يموت جسمه ويبقى عملهُ مستمرًّاً، أقول لكم هذه الحقيقة: أعظمٌ شيءٍ على الإطلاق أيها الإخوة، أن تنتهي حياة الإنسان وأن يستمرّ عمله الصالح من بعده، علم صالحٌ نشره، أو ولدٌ صالح ينفع الناس من بعده، مشروع خيري أسَّسهُ واستمرّ من بعده.


أسوأ عمل يفعله الإنسان هو العمل الذي يستمرّ شرُّه بعد موته:


 بالمقابل أسوأ عمل يفعله الإنسان هو العمل الذي يستمرّ شرُّه بعد موته، أسَّس ملهى من الدرجة الأولى، فيه كلّ الموبقات ولم يلبث أن مات، فكلّ هذا العمل في صحيفته إلى يوم القيامة، أفسدَ فتاة، فعل منكراً، وسنّ سنة سيّئة، لذلك هناك عملان كبيران: العمل الصالح الذي يستمرّ بعد موت صاحبه، وهذا يكون في الدرجة الأولى عن طريق أولاد صالحين، فالذي خلَّف الصالحين لم يمت، وهذا يحتاج إلى جهد كبير.


من ربّى أولاده تربية صالحة فقد أكرمه الله بنعمة كبيرة:


 الآن هناك عقبات كبيرة، ونحن في زمن الفساد، وإذا أكرم الله تعالى الإنسان بِتَربيَة أولاده تربية صحيحة بحيث تعرَّفوا إلى الله، واستقاموا على أمره، أقول لكم هذه الكلمة، وأقسم عليها بالله: الابن الصالح لو معك خمسة آلاف مليون، رقم خيالي أو عشرة آلاف مليون، بل ولو ملكت الشام كلّها بكل أسواقها، ولك ولدٌ صالح ينفع الناس من بعدك، يدعو إلى الله من بعدك خير لك من كلّ هذه الدنيا، وهذا هو معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: 

(( فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا واحداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ. ))

[ صحيح الجامع ]

 لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس، خير لك من الدنيا وما فيها.


المؤمن الصالح لا ينسى الدُّعاء لِوالِدَيه بعد موتهما:


 قال تعالى: ﴿أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ أنت جعلتني من والدَين، وجعلتني نسلاً لهما، وأنعمتَ عليهما بي، وأنعمتَ عليّ بهما، أنعمت عليّ إذْ جعلتني نسلاً صالحاً منهما، وأنعمت بي عليهما إذْ جعلتهما يُربِّياني هذه التَّربيَة، لذلك المؤمن الصالح لا ينسى الدُّعاء لِوالِدَيه في كل صلاة خمس مرات، قال يا رسول الله هل بقي عليّ شيء مِن برِّ والديّ بعد موتهما؟ قال: نعم، أربعة أشياء، أن تُصلِّي عليهما "صلاة الجنازة" ، وأن تدعُوَ لهما كل يوم خمس مرات، رب اغفر لي ولوالديّ، رب ارحمهما كما ربَّياني صغيرًا، وأن تصل صديقهما، وأن تنفذ عهدهما، وأن تصل الرَّحِمَ التي لم يكن لها صلة إلا بهما ، فهذا الذي بقي عليك مِن برِّهما بعد موتهما، النِّعمة الأولى هي الشُّكر، والثانية أن أعملَ صالحاً ترضاه.

(( عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما. ))

[ أخرجه أبو داوود ]


الفرق بين الاستقامة و العمل الصالح:


 الحقيقة –إخواننا الكرام- أنَّ الاستقامة عمل لكنَّها عمل سلبي؛ شخص ما أذى، وما اغتاب، وما أكل المال الحرام، وما نَمّ، وما اعتدى، وما بهت، وما سفك، وما غشّ، وما دلَّس، كلها "ما" الاستقامة ولكن ماذا فعل؟ العمل الصالح إيجابي، بينما الاستقامة: الكفُّ؛ كففت عن المال الحرام، وكففت عن ظلم الناس، وكففت عن الكذب عليهم، وعن غشِّهم وعن إهانتهم، وعن إيقاع الأذى بهم، جميل، هذه الاستقامة، ولكن ما العمل الصالح الذي فعلته ؟ يقول الله عز وجل للإنسان يوم القيامة: ماذا فعلت من أجلي؟ يقول هذا العبد: صليت، يقول: كل هذا لك، ماذا فعلت من أجلي؟ فالإنسان أحيانًا يكون صادقًا لا يكذب فيعلو اسمه بين الناس ويلقب بالصادق، فيقطف الثِّمار كلّها بحياته، ويكون أميناً محترماً، ويكون مثلاً مستقيم اللِّسان، مُعظَّم، كلامه متّزِن، فكلّ طاعة يفعلها الإنسان لله عز وجل يقطف ثمارها في الدنيا بالدرجة الأولى، ولكنّ ماذا فعلتَ من أجلي؟ ماذا قدمت؟ هل أنفقْت مالَكَ؟ هل أنفقْت وقتك؟ هل أنفقْت خِبرتَكَ؟ هذا هو العمل الصالح، قال تعالى: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ .


العمل الصالح لا يُرضي الله إلا بِحالتين:


1 ـ أن يكون موافقاً للشريعة:

 أما "ترضاه" إنّ العمل الصالح لا يُرضي الله إلا بِحالتين معاً؛ أن يكون هذا العمل موافقًا للسنة، وفق منهج الله. 

2 ـ أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى:

 أن يكون هذا العمل خالصًا لِوَجه الله؛ فالإخلاص وموافقة السنَّة، فالعمل لا يُقبَل إلا إذا كان خالصاً وصواباً، فخالصاً ما ابْتُغِيَ به وجه الله، وصواباً ما وافق السنَّة ، فالعمل الصالح ليس على مزاجنا، ولكن وفق الشريعة، وذكرت في الدرس الماضي مثالَين فَهِمَهُما أخٌ كريم على غير ما أردتُهما، فقُلتُ: لو قرأت في الإعلانات أنَّ حفلةً ساهرة غِنائيَّة يُرصَد رَيعُها للأيتام، فهذا العمل في نظر الناس صالح، أما عند الله فهو ليس بِصالح، فالقصد ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ فلا يقبل العمل الصالح إلا إذا كان وفْق منهج الله. 


العمل الصالح مقيّد بكونه وفق منهج الله:


 أقول مكرراً: العمل الصالح مُقيَّد بكونه وفق منهج الله، فإذا خطر لإنسان أن يعمل عملاً صالحاً مخالفًا للشَّرع، ومبنيًّاً على فساد، ومَبنيًّاً على إيقاظ الغرائز، مبنيًّاً على معصِيَة، ثمّ يقول لك: هذا عمل صالح، فما أصاب، لأنّ العمل الصالح يجب أن يكون مقيَّدًا بِمَنهج الله تعالى، أيْ يجب أن تعملَ صالحاً وِفق ما يريد الله، لا وفق مِزاج الناس.


الابن الصالح أكبر مصادر السعادة لأبيه:


 قال تعالى: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ هذا الدعاء الثالث، وقد سبقه الشُكْر، ثم العمل الصالح، ثم إصْلاح الذريَّة، فمن كان أباً يعرف تماماً معنى هذه الآية، حينما يرى ابنهُ وفق ما يريد، تقرّ عَينُهُ، حينما يرى زوجته صالحة، تخاف الله عز وجل وترجو الله واليوم الآخر، حينما يرى أولاده واقفين معه في الصَّلاة، وحينما يراهم ورِعين، هذه نعمة لا يعرفها إلا من أكرمه الله بها، لذلك الجهود الجبارة التي يبذلها الأب من أجل تربيَة أولاده ينساها كلّها إذا رأى ابنهُ صالحاً، ويصبح الابن أحدَ أكبر مصادر السعادة لأبيه إذا كان صالحاً، قال تعالى: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ يعني الطْف بهم، وأصلِحْهم، لأن أصلحَ تتعدَّى بِذاتها، أصلحْ لي ذريتي، أما أصلِح لي في ذريَّتي؛ أي أصلِحْهم، واُلطُف بهم، وأحيانًا يأتي الصَّلاح بِقَسْوة، يدعو الله عز وجل أن يصلحهم بلطف كما في الدعاء: "اللهمّ رُدَّنا إليك ردًّا جميلاً"، فهناك ردّ غير جميل.


التوبة أساس استجابة الدعاء:


 قال تعالى: ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ فهذا الدعاء أليس له ثمن؟ ثمنه التوبة، فالإنسان إذا تاب يشعر انه قدّم ثمن الدعاء، وإذا كان الإنسان مقيماً على معصيّة تجده لا يستطيع أن يدعُوَ الله تعالى أبداً، فمعصِيَتُهُ حِجاب، أما إن تاب فتصبح توبتُه ثمن دعائه، يا رب أنا أدعوك ورأسمالي توبتي، أنا تبت إليك، فالإنسان قبل أن يدعو عليه أن يتوب، إذا كان يدعو وكان متَلَبِّساً بِمَعصية أو مخالفة، فدعاؤُهُ لا يكون دعاءً حارًّاً ولا مؤثِّراً، قال تعالى: ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ .


الناس نموذجان:


1 ـ نموذج التقى الإيمان فيه مع النَّسَب:

 هذا النموذج قال تعالى:

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ(16)﴾

[  سورة الأحقاف  ]

 ومن كرم الله على الإنسان المؤمن أنَّ الله سبحانه وتعالى يتقبّل عمله وهو في أعلى درجاته، لو أن الإنسان صنع عِدَّة أشياء متفاوتة في الإتقان، وأحد هذه الأشياء في درجةٍ عالِيَة من الإتقان، يُعْطَى الجائزة على هذا التّفوّق، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ هذا النموذج الأول الذي التقى الإيمان فيه مع النَّسَب، الابن مؤمن والأبوان مؤمنان، فكان الإيمان مع النَّسَب خيرٌ على خير. 

2 ـ نموذج افترق الإيمان فيه عن النسب:

 أما النموذج الثاني فافترق الإيمان عن النّسب:

﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)﴾

[  سورة الأحقاف  ]

﴿أُفّ﴾ اسم فعلٍ مضارع يفيد التضجُّر، قال تعالى: ﴿أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ لقد أضاف إلى عقوق الوالدين الكفر بالآخرة، واليوم الآخر، فهاتان النِّعمتان؛ نِعمة الهدى والبرّ، والجريمتان؛ الكُفْر والعُقوق، أوَّلاً ﴿قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا﴾ ، فهذا أشدّ أنواع العقوق، وأن يتضجَّر الابن من أبيه وأمِّه قائلاً: ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ ، فهذا كفر بالدار الآخرة، والوالدان مؤمنان، وهما على أحرّ من الجمر قلقاً على ابنهما.


ملة الكفر واحدة في كل مكان وزمان:


 قال تعالى: ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وهذا ما يقوله الكفار في كلّ عصر، يقولون لك: أساطير الأولين كما هي مُغيَّبات، كما هي وراء الطبيعة، وإنّ الدِّين يلخِّص حالة ضعف الإنسان أمام قوى الطبيعة القاهرة، والدِّين أداة تفرقة، والدِّين مرحلةٌ عاشها الإنسان وانتهى منها الآن، هذه كلّها كلمات كفر واحدة، ومِلّة الكفر واحدة، قال تعالى: ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي هذه خرافات.


أشدُّ أنواع الخسارة أن يخسر الإنسان آخرته و نفسه:


 قال تعالى:

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ(18)﴾

[  سورة الأحقاف  ]

 أخسر شيء:

﴿  قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾

[  سورة الكهف  ]

 يعني أشدُّ أنواع الخسارة أن تخسر آخرتك، وأشد أنواع الخسارة أن تخسر نفسك، فرأسمالك الحقيقي نفسك، وعند الموت كلّ شيءٍ تتْركهُ، وتبقى نفسكَ؛ إما في جنّة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفد عذابها، فما هي الخسارة العظمى؟ أن تخسر الدار الآخرة وأن تخسر النفس التي بين جنبيك، وهي رأسمالك الوحيد.


العذاب عاقبة من أعرض عن ذكر الله تعالى:


 قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾  القول: هو قانون ربنا عز وجل، لمّا أعرض عن الله عز وجل تبِعَ شَهوته وانغمس فيها، واتِّباع الشَّهوة لا بدّ أن يرافقه عدوان على حقوق الآخرين، فالشَّهوة من لوازمها العُدوان، فوقع في شرّ عمله فاسْتحقّ العذاب.


من خرج عن منهج الله عز وجل أصبح تحت طائلة العقوبات الإلهيّة:


 أحيانًا يقول لك: تحت طائلة العقوبة الفلانيّة، لما الإنسان خرج عن منهج الله طالته عقوبة الله عز وجل، فكلمة ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾  تعني أنّ فلانًا خالف القانون الفلاني فانطبقت عليه المادة الفلانيّة القاضِيَة بإيقاع العقوبة فيه، هذا هو المعنى، فهو معنى مُقنَّن، فالإنسان إذا خرج عن منهج الله، والخروج هو الظُّلم والعدوان، والظلم والعدوان له عقاب عند الله عز وجل، فحينما خرج عن منهج الله واتَّبَع شهوته، أصبح تحت طائلة العقوبات الإلهيّة، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ هذا شأن العصاة في كل أنحاء العالم، وفي كلّ الأزمنة والأمكنة قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ .


من شروط العمل الصالح الإخلاص و مطابقة الشريعة و المنهج:


 قال تعالى:

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(19)﴾

[  سورة الأحقاف  ]

 لِكُلٍّ من النموذجين، من المؤمنين والكفار، من هؤلاء ومن هؤلاء، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ فأنت لك عند الله تعالى مرتبة بِحَجم عملك الصالح، والعمل الصالح لا يُسمَّى صالحاً إلا بِشَرطين؛ الإخلاص ومطابقته للشريعة والمنهج، إنّ مرتبتك بِحَسب عملك الصالح، وعملك الصالح لا يُسَمَّى صالحاً إلا بِنِيَّة خالصة، ومُوافقةٍ للشَّرع، مرتبتك بعَملك، وعملك يُقيَّم بِإخلاصك، وتَحرِّيك الحلال، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ تأخذ حقَّك كاملاً، قال تعالى:

﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ(20)﴾

[  سورة الأحقاف  ]


العاقل من ادخر عطاء الله له للآخرة:


 الإنسان له عند الله تعالى عطاء، إما أن يستعجلهُ في الدنيا وينقضي مع الموت، وإما أن يدَّخِرَهُ اللهُ له في الآخرة، ويبقى فيه إلى أبد الآبدين: 

((  عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِها.  ))

[  رواه الترمذي عن عائشة  ]

 فالذي أنفقته هو الذي بقيَ، أما الذي اسْتهلكْتهُ هو الذي فنيَ، فالباقيات هي ما أنفقته، أما المستهلك فهو الذي تأكله وتستفيد منه، إذًا كما قال تعالى: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ .


سبب عذاب النار ردّ الحق والانغِماس في المعاصي:


 الإنسان قد يستعجل أحيانًا، يريد أن يتمتَّع متعاً زائدة على الحدّ المعقول في الطعام، والشراب، والنِّساء، والسَّفَر، والبيوت، والقصور، والمركبات، والحفلات، والاختلاط، وهذا تنطبق عليه هذه الآية: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ الاستكبار ردّ الحق، والفسق معروف، فعذاب النار سببه ردّ الحق، والانغِماس في المعاصي، ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ .


العِبرة بِخَواتِم الأعمال:


وقد قيل: أَلَا يا رُبَّ نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا، جائعةٍ عاريةٍ يومَ القيامةِ أَلَا يا رُبَّ نفسٍ جائعةٍ عاريةٍ في الدنيا، طاعمةٍ ناعمةٍ يومَ القيامةِ، أَلَا يا رُبَّ مُكْرِمٍ لنفسِه وهو لها مُهِينٌ، ألا يا رُبَّ مُهِينٍ لنفسِه وهو لها مُكْرِمٌ.

 الأمور بِخَواتيمها، والذي يضحك أخيراً هو الذي يضحك كثيراً، والذي يضحكُ أوَّلاً هو الذي يبكي كثيراً والعِبرة بِخَواتِم الأعمال.


الناس نموذجان لا ثالث لهما:


 هذه الصفحة أيها الإخوة من هذه السورة تُقدِّم نموذَجَين بَشَرِيَيْن، هذان النَّموذجان لا يَعْنِيان أحداً بالذات، هذا أوجَهُ التفاسير، إنّما هما نموذجان يُصَوِّران حالة شَخصَين، وكأنَّهما يُوحيان أنَّهما شَخصان مُحَدَّدان، لكنَّ الآيات توحي أنَّ هذا النموذج مُتَكرِّر، والإشارة إلى التحديد على أنَّه نموذج مُتَكَرِّر، وكل نموذج له مصير، فأوَّل نموذج في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ 

النموذج الثاني في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ .


حجم الإنسان الديني تحدّده التضحية و طلب العلم و الأمر بالمعروف:


 التعقيب الإجمالي في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أعيد عليكم هذه العبارة: "حجمك عند الله تعالى بِحَجم عملك الصالح" ، بحجم البذل، والتَّضحِيَة، والإنفاق، وطلب العلم، علمك، وعملك، واستقامتك، وذِكْرك، وإقبالك، ودَعوتك، وأمرَك بالمعروف.


من انغمس في الملذات تعجل نصيبه من الله:


 آخر تعقيب يشمل النموذجين كليهما، أنّ هؤلاء الذين انغمسوا في الملذات واستمرؤوا المعاصي تعجَّلوا نصيبهم من الله، لذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

(( دخلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على حصيرٍ قال: فجلستُ، فإذا عليه إزارُه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِه، وإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحوَ الصَّاعِ، وقَرظٍ في ناحيةٍ في الغرفةِ، وإذا إهابٌ مُعلَّقٌ، فابتدرت عيناي، فقال: ما يُبكيك يا بنَ الخطَّابِ؟ فقال: يا نبيَّ اللهِ وما لي لا أبكي! وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِك وهذه خِزانتُك لا أرَى فيها إلَّا ما أرَى، وذاك كسرَى وقيصرُ في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت نبيُّ اللهِ وصفوتُه وهذه خِزانتُك. قال: يا بنَ الخطَّابِ أما ترضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدُّنيا. ))

[ صحيح البخاري ]

وفي رواية أخرى:

((  أوَ في شكٍّ أنت يا ابن الخطاب! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. ))

[ صحيح الجامع ]

يقول عليه الصلاة والسلام:

(( من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها. ))

[ سنن الترمذي  ]

 كان النبي عليه الصلاة والسلام حينما يستيقظ يقول:

(( الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي وعافاني في بدني وأذِنَ لي بِذِكره. ))

[ سنن الترمذي ]

 فهناك من ينام ولا يفيق، ثمّ ينهض من فراشه ويمشى على قدَمَيه، ويرى طريقه ويسمع ويتكلّم، فهو بكامل صحته: (وعافاني في بدني وأذِنَ لي بِذِكره) فالإنسان إذا استيقظ معافى، وعنده قوت يومه، وكان له طعام ليلةٍ واحدة، (آمناً في سربه، معافى في جسده) فهو ليس من الملاحقين ولا هو مطلوب، او أمن الإيمان، (عنده قُوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها) .


من ازداد علماً ازداد قرباً من الله عز وجل:


 إذا وصلت إلى الصِّحَة، والإيمان والاستقامة والأمْن وصلْتَ إلى كلّ شيء، والباقي كلّه صُوَر خدَّاعة مزيَّفة، وكلّها تتساقط عند الموت، وتبقى حقيقة واحدة هي الإيمان، لذلك السُّعداء هم الذين ينطلقون إلى الله عز وجل ولا يأبهون لتَقاليد المجتمع، ولا لِمظاهره، بيتُ تسكنه وتؤوي إليه كبيراً كان أو صغيراً، ملكًا كان أو أجرةً، معك مفتاح لهذا المأوى، والله تعالى آواك بِرَحمته، وألبسك ثياباً تسترُ عورتَك، مقبولة، ولك زوجة تعفُّك عن الحرام، ولك أولاد أبرار، ولك دخْلٌ يُغَطِّي نفقاتك أو لا يُغطِّي، ومع المشقَّة أحيانًا، على الدنيا السَّلام، "خُذْ من الدنيا ما شئتَ، وخذ بِقَدرها همّاً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتْفِهِ وهو لا يشعر" ، فالدنيا لها سقف، ولو كان معك ألف مليون، ما الذي ستأكلُهُ؟ هل ستأكل خروفاً لوحدك؟ لا تستطيع، وكمْ كُمّاً للبِذْلة التي تلبسها؟ كُمَّين، وعلى كم سرير تنام؟ فالدنيا لها سقف حتماً، أما الآخرة فلا سقْفَ لها، وكلّما ازْددْتَ علماً ازددتَ قرباً، وكلّما ازددْت عملاً صالحاً ازْددْت قرباً، فالآخرة لا سقْفَ لها، أما الدنيا فمحدودة بِسُقوف كثيرة جداً، على العكس قد تجد الإنسان وهو بمقتبل حياته مريض سكر، ولا تناسبه لذائذ الأطعمة، ويضع السكرين في الشاي، فالإنسان وهو في الدنيا قد يُحرَم الكثير من الأشياء، والدنيا دائماً لا تصفو لإنسان. 

فالعِبرة أن تُحِبَّ لقاء الله عز وجل، أما إن كانت الأمور على ما يرام تماماً فقد تكره لقاء الله، وهذه هي الطامة الكبرى، لذا فالمنغِّصات أحيانًا لها فوائد تربوِيَّة كبيرة جدًّاً، فالإنسان المؤمن يرجو لقاء الله ويشتاق إليه، والدنيا كيف ما سمَحَ الله له منها يرضى بها.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور