وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة الأحقاف - تفسير الآيات 21- 27، المواعظ و العبر من قصة سيدنا هود عليه السلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة الأحقاف.


العبر من قوله تعالى وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ:


تذكير الله عز وجل النبي الكريم بهود عليه السلام و تكذيب قومه له:

 مع الآية العشرين، وهي قوله تعالى:

﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(21)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 الله سبحانه وتعالى يُوجِّه الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، ويقول له: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ﴾ ، يعني هوداً، وهي أُخوَّة نسَب، قال تعالى:

﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ(50)﴾

[  سورة هود  ]

 فكان هود عليه السلام أخًا لقومه نسبِيًّاً فيقول الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام: اُذْكر هوداً، واذكر تَكذيب قَومهِ له، واذكر صبرَهُ على قومه، واذكرْ شِدَّة المِحنة التي قاساها، لك به أُسْوَةٌ حسنة. 


قصص القرآن الكريم عبر و دروس للإنسان:


  أيها الإخوة الكرام، قصص القرآن لا ينبغي أن تكون قصصاً إطلاقًا! إنَّما هي عِبرٌ ودروس، فالله سبحانه وتعالى حينما يورِدُ قِصّة في القرآن الكريم تُتْلى إلى يوم القيامة، ومعنى ذلك أنَّ هذه القصَّة ينبغي أن تكون عِبْرةً، ينبغي أن تُستنبط منها الحقائق والدُّروس، وينبغي أن تؤخذ منها القواعد، فالله سبحانه وتعالى يؤدِّب النبي عليه الصلاة والسلام أدَباً رفيعاً، فإذا ضاقَتْ عليك الأمور، إذا ضاقَتْ نفسُكَ بِتَكذيب قوْمِكَ لك، إذا ضاقَت نفسُكَ بِتآمُر قومك عليك، إذا أرادوا إخراجَكَ من بيتك، إذا أرادوا أن يُحارِبوك، إذا نكَّلوا بأصحابك، إذا فعَلُوا الأفاعيل، ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ﴾ ، فقد أرْسِل إلى قومه وتحمَّل منهم ما تحمّل.

 نحن كيف نستفيد من هذه الآية؟ إذا أُصِبْتَ بِمُصيبةٍ فاذْكُر مصيبة المسلمين بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم، النبي على عُلُوّ شأنِهِ مات ابنه إبراهيم، وقال: 

(( إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون. ))

[ صحيح البخاري ]

 امرأة شريفة طاهرةٌ عفيفة، تكلَّم الناس بها الناس عنها كلاماً لا يليق بها، فهذه لها في السيّدة عائشة أُسْوَة حسنة.

 صحابيّ جليل عانَى مِن شِدَّة الفقْر لك بهِ أسْوةٌ حسنة، فإذا قرأْت سيرَ الصحابة، وإذا قرأت قِصَص الأنبياء ينبغي أن تكون هذه القِصص عِبراً لك ودروساً.

إهلاك الله عز وجل قوم هود لإفسادهم في الأرض:

 هناك معنى آخر وهو: يا محمّد اُذْكُر لِقَومك أخا عادٍ، أيْ ذَكِّرْهم كيف كان قوم هود أشِدَّاء وأقوياء، وكذَّبوا ولم ينصاعوا، وسَخِروا واستهزؤوا فأهلَكَهُم الله عز وجل.


العاقل من اتعظ بغيره:


 إذًا الآية تحْتَمِلُ معْنَيَيْن، أيْ اُذْكُر يا محمَّد في نفْسِكَ أخا عادٍ كيف دعا قومه إلى ربِّه، وتحمَّل من قومه ما تحمَّل، أيْ يا محمّد اذكر لِقَومك قِصَّة أخي عادٍ سيّدنا هود، وكيف أنَّ قومه لم يؤمنوا به، واستهزؤوا به، واستعجلوا العذاب، وكيف أنهم كانوا أقوياء وأشِدَّاء، ومع كلّ ذلك أهْلكهم الله عز وجل، إذًا نحن نستفيد من هذه الآية كَتَطْبيق عمَلي؛ إذا رأيْت في التاريخ إنسانًا طغى وبغى، ونَسِيَ المبْتَدَا والمُنْتهى، ثمَّ قصَمَهُ الله عز وجل فهذه عِبْرةٌ ينبغي أن نأخذ بها، إذا رأيتَ إنسانًا أكل مالاً حراماً فدمَّر الله ماله، هذه عِبْرةٌ ينبغي أن نأخذ بها، وإذا رأيتَ إنسانًا اعْتدى على أعراض الآخرين، وفضَحَهُ الله تعالى في بيته، فهذه عِبرة ينبغي أن نأخذ بها، والمؤمن شأنُهُ كما قال عليه الصلاة والسلام: 

(( أوصاني الله بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبراً.  ))

[ رواه رزين ]

فالمؤمن يتَّعِظ بالآخرين.


الله عز وجل رحيم بعباده يُرْسِلُ أنبياءَهُ ورُسلَهُ إلى الأقوام ليبشروهم و ينذروهم:


 قال تعالى: ﴿إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ الأحقاف كُثْبان الرِّمال المرتفعة، ويذكر المُفسِّرون أنَّ الأحقاف هي نُجود من الرِّمال المرتفعة في جنوب الجزيرة العربيّة، وهي على وجْه الغلَبَة بلاد حضْرَمَوت، فحَضْرَمَوت كانت بلاد أخي عادٍ، أيْ قَوْم هود، فالمعنى واذكر لِقَومك قصَّة هؤلاء القوم، واذْكُر لِنَفسك قصَّة هذا النبي، النبي حقيقة، موعظة لِرَسول الله، وقوم سيّدنا هود موعظة لِبَقِيَّة الأقوام، قال تعالى:

﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ فالإنذارات مستَمِرَّة، فمِن بين يَدَيْه أيْ مِن أمامه، ومِن خلفه، أيْ مِن ورائِهِ، فالنُّذُر كانت قبله وبعده، فليس هودٌ أوَّل نذير، وليس آخر نذير، كان نذيراً وقد جاءَت من قبله النُّذر، وسوف تأتي من بعده النُّذر، وهذا يدلّ على رحمة الله جلّ جلاله بِعِباده، فالإله الرحيم دائماً يُرْسِلُ أنبياءَهُ ورُسلَهُ إلى أقوامهم مبشِّرين ومنذرين.


العبادة أعلى علاقة بين المخلوق و خالقه:


 فمضمون الدَّعوة: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ أنْذَرَهم، وهم مُقيمون بالأحقاف، مضمون الإنذار: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ قال تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ فإذا ضَغطنا أيَّةَ دَعْوَةٍ سماوِيَّة بِكَلمات كانت: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾‍، العِبادة غاية الخُضوع مع غاية الحبّ، مع غاية الاستِسلام، مع غاية الإخلاص، العبادة هي أعلى علاقة بين المخلوق وخالقه، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾

[  سورة الذاريات  ]


الله عز وجل وحده من يستحق العبادة:


 ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ الإنسان لا بدّ له مِن أن يعبُد، فإما أن يعبد الله وإما أن يعبدَ غير الله، والإنسان فيه ضَعف، وهذا الضَّعف كيف يُقوّيه؟ بِعِبادةِ جِهةٍ قَوِيَّة، وفيه نقْص، كيف يكمِّله؟ بِعِبادة جِهة قوِيَّة، فالمؤمن يعبد الله القويّ، الغنيّ، الرحمن، الرحيم، الرؤوف، الحكيم، العليم، السميع، البصير، والأشقِياء لِضَعفِهم وخوفهم، وقلقِهِم وضياعهم يعبدون غير الله، يعبدون الأقوياء، والتَّوجيه الإلهي عن طريق هذا النبي الكريم، قال تعالى: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ هذا شيء دقيق جداً، وعلى الإنسان أن يحاسب نفسه، فهل يُطيع مخلوقًا، ويعصي خالقه؟ إذًا هو يعبدُهُ من دون الله، هل يسمحُ لِنَفسِهِ أن تُرْتَكَبَ معْصِيَةٌ في بيتِه إرْضَاءً لِزَوجته، أو لبناته، أو لأولاده، أو لأصْدِقائه؟ هو يعصي الله عز وجل، إذًا هو يعبدهم من دون الله، فالتوجيه الإلهي: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ من الذي يستحقّ العبادة؟ هو اللهُ جلّ جلاله، فالذي يُعْبَدُ هو الذي يُحْيي، والذي يُعبَدُ هو الذي يُميت، والذي يُعبَدُ هو الذي يرزق، والذي يُعْبَدُ هو الذي يُعطي ويمْنعُ، ويرفع، ويخفض، ويبسط، ويقبض، ويُحيي ويُميت؛ هذا الذي يستحقّ العبادة، هو الذي يعلم ما كان وما يكون وما سيَكون، يعلم السرّ وأخفى، يعلم الجهر، ويعلم ما خفي عنك أنت، ويعلم ما أعْلنْتهُ، ويعلم ما أسْررْتَهُ، فهذا هو الذي ينبغي أن يُعْبد.


من عبد غير الله تعالى خسر دنياه و آخرته:


 أما إذا عبدْت إنسانًا ضعيفًا لئيماً قاصِراً في إدراكه، وقاصِراً في سلطانه، فقد خَسِرتَ خسارةً مُبينة، إذًا كما قال تعالى: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ فالمؤمن الصادق دائماً يراقب نفسهُ، هل يُطيعُ مخلوقًا ويعصي خالقًا؟ هل يَمحضُ حُبَّه لِغَير الله؟ وهل يمْحض ولاءهُ لِغَير الله؟ هل يُوجِّه اهْتِمامه لغير الله؟ قال تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ .


الخير و الأمانة في منهج الله و الكذب و الخيانة في غيره:


  الآن السؤال الدقيق؛ إذا عبَدَ الإنسان غير الله، لماذا يستحقّ هذا العذاب العظيم؟ لو أنَّ الله تجاوَزَ عنه؛ اُعْبُد من شئتَ.

((  يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. ))

[  رواه مسلم  ]

 لا إيماننا بالله عز وجل ينفعُ الله عز وجل، ولا كفرنا به يضرُّه، فلماذا إن عبدنا غيره فلنا عذاب عظيم؟ هذا سؤال! لعلّ الجواب أنَّك إذا عبَدْت غيره خرجْت عن منهج العدالة، وأقَمْت شؤونك على العُدوان، ولأنّ الله تعالى عادِل، ومنهجه هو الحقّ، هو العدل، هو الرَّحمة، هو الإنصاف، هو الخير، هو النور، هو الصِّدق، هو الوفاء، أما منهج غير الله يستحيل أن يكون فيه الصّدْق، بل الصِّدق كلُّه في منهج الله، وإذا ابْتدَعْتَ منهجاً آخر كان فيه الكذب، والأمانة كلها في منهج الله، وإن اتَّبَعتَ منهجاً آخر ففيه الخيانة، والإحسان كله في منهج الله، وإن اتَّبَعت منهجاً آخر فيه الإساءة، وكذلك الاستقامة في منهج الله، وإن اتَّبعْتَ منهجاً آخر كان الانحِراف، فالخير كله في منهج الله، وإن اتّبعت منهجاً آخر فيه الشرّ.


الحق واحد لا يتعدد:


 إذًا الله جلّ جلاله حينما تعبدُ غيرهُ لا بدّ من أن تطغى، ولا بدّ من أن تبْغي، ولا بدّ من أن تعتدي، ولا بدّ من أن تنحرف، ولا بدّ من أن تسيء، لأنَّ الحق لا يتعدَّد أما الباطل فيتعدَّد، فالحق خطّ مستقيم، بين نقطتين لا يمرّ إلا خط مستقيم واحدٌ، إذًا ينبغي أن نلحظ بين الآيتَين ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ لأنّكم إن عبدتم غير الله فلا بدّ أن تنحرفوا، ولا بدّ من أن تُسيؤوا، فمنهج غير الله عز وجل ضلال و شقاء. 


الطُّغيان والبغي مِن لوازم عبادة غير الله:


  في الهند إذا مات الرّجل ينبغي أن تُحرَق امرأته معه، أو ينبغي أن تُدْفَنَ معه وهي حيّة في القبر، هذا عُدْوان، لم يشَأ الله لهذه المرأة أن تموت، يجب أن نُمِيتها مع زوجها، فأيُّ منهجٍ آخر فيه عُدْوانٌ شديد، هناك أدِلَّة واقِعِيَّة، اُنظر هذا الذي لا يستجيب لأمر الله تعالى، أين يذهب؟ كيف يتعامل مع الناس؟ قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾

[  سورة العلق  ]

الآية انتهت، كيف انتهت يا رب؟ اُنظر إلى أحواله، وإلى علاقاته، إلى معاملاته، وإلى صدقه فهو كاذب لا يصدق، وهو يخون وليس أمينًا، كما أنه قاسي القلب، لا يرحم، ومُجحِف لا يُنصِف، ومعتدٍ لا يستقيم، ومنحرِف لا يسير على منهج الله عز وجل، لذلك مِن لوازم عبادة غير الله الطُّغيان، والبغي، والعُدوان، والظُّلم، وهذه الصِّفات لها عقاب شديد، ومن ثَم فالانْسِجام واضح بين الآيتين: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ إنَّكم إن عبدْتم غير الله، قال تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ الذي يعبد غير الله قد يعتدي على أعراض الآخرين، وهذا واقِع.


العذاب الأليم لمن اعتدى على أعراض الآخرين:


 المؤمن مستقيم لا يعرف من النِّساء إلا امرأته، أما غير المؤمن يعتدي على أعراض الآخرين، وهذه الفتاة التي اعْتُدِيَ عليها، فأصبَحَتْ بعد هذا الاعتِداء ساقطة، وأصْبحَتْ تأكل بِثَدْيَيْها، فلما زَوى جمالها أُلْقِيَتْ على قارعة الطريق، أليس هذا الذي اعتدَى عليها جعلها بهذه النِّهاية الوخيمة؟ يوم القيامة يُرِيه الله عمله، هذه الفتاة كان مِن المُمْكن أن تكون أُمًّاً شريفة لها أولاد، ولها أصهار، ولها مكانة اجْتِماعِيّة رفيعة، فأنت حينما اعْتَدَيتَ عليها حوَّلتها إلى ساقطة، ولمّا سقَطَت أكَلَتْ بِثَدْيَيْها، فلمَّا زوى جمالها أُلْقِيَت كما تُلقى الفأرة الميِّتة خارج المنزل، هذا هو العُدْوان، فيستحيل على الذي يخرج عن منهج الله تعالى إلا أن يعتدي؛ إما على أموال الآخرين، أو على أعراضهم، أو على مُمْتلكاتهم، أو على حُقوقهم الأدبيَّة، لا بدّ من أن يتكبَّر ويجْحَد، ولا بدّ من أن يكون قاسِيَ القلب، فهو مقطوع عن الله تعالى، فليس العذاب العظيم لأنّه لم يعبد، ولكن لأنَّه طغى وبغى، واعْتدَى وظَلَم، وجحَد وأنْكَر.


فَحْوى دعوة الأنبياء جميعاً عبادة الله وحده و توحيده:


 إذًا فَحْوى دعوة هذا النبي الكريم: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ ، والحقيقة هذه فَحْوى دعوة الأنبياء جميعاً، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾

[ سورة الأنبياء ]

 أن تعبد الله وحده، وأن تُوَحِّدهُ عقيدةً، وأن تعبدَهُ سلوكًا، هذا هو الدِّين، إذا أردت أن تبسِّط، وأن توجِز، وأن تضغَط، فعليك أن تُوَحِّدهُ، وأن تعبُدَهُ، فما من نبيٍّ على الإطلاق إلا وقد جاء قومه بِهاتين الحقيقتَين؛ توحيد الله عز وجل وعبادته.


أمنية الكافر يوم القيامة أن يدفع دنياه بأكملها فداءً من العذاب العظيم الذي نوَّه الله به:


 قال تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ما قَوْلُكَ أيها الأخ الكريم إذا قال لك الله العظيم: عذاب يوم عظيم؟‍‍ لو قال لك طفل: معي مبلغٌ كبير، كم تُقدِّر هذا المبلغ؟ طفل صغير في الصف السادس إذا قال لك أنا معي مبلغ كبير، ولكن إذا قال لك إنسانٌ راشِد: معي مبلغ كبير، إذا قال لك تاجر كبير: معي مبلغ كبير، وإذا قال لك أغنى أغنياء الأرض: أنا معي مبلغ كبير، كلمة كبير تتراوَح بِحَسَب القائل، خالق الكون يقول لك: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ، فما هو هذا العذاب؟ قال تعالى:

﴿ يُبَـصَّرُونَهُمْ يَـوَدُّ الْمـُجْرِمُ لَـوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِـئِذٍ بِبَنــِيهِ(11)﴾

[  سورة المعارج  ]

 لو أنَّ للكافر الدنيا بأكملها، لدفَعَها ومثلها معها فداءً من العذاب العظيم الذي نوَّه الله به. 



إقبال الناس على عبادة غير الله على الرغم من الإنذارات المستمرة من الله تعالى:


  قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ فالإنذارات مستَمِرَّة، وليس إنذار هذا النبي الكريم أوّل إنذار، وليس آخر إنذار، ونحن نعيش، ونرى مِن حولنا مواعظ وعِبَراً ودروساً، وهذه المواعظ وتلك العِبَر، وهذه الدروس ليْسَت أوَّل الدروس وليْسَت آخرها، مادام هناك خالق رحيم فإنذاراته مستمرّة، وعلاجاته مستمرّة، وأدواؤُه مستمرّة، الآن ردّ الفِعْل، قال تعالى:

﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(22)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 تأفِكَنا أي تصرفَنا عن آلهتنا، وقد يسأل سائل، كيف نُصَدِّق شعباً كشَعب الهند إحصاء ما قبل عشرين سنة أربعمئة وخمسون مليونًا، والآن حوالي سبعمائة مليون، يعبدون بوذَا! كيف يُقْبِلُ الناس على هذه العِبادة؟ هناك جواب دقيق جداً؛ أن هذه الأصنام، وهذه الأديان الوَضْعِيَّة، ليس فيها تكاليف، فيها بحبوحة، اِفْعَل ما تشاء ولكنّ أقرّ بهذا الصَّنَم أنَّه إله، وانتهى الأمر، إقبال الناس على هذه الأديان بِمَلايينِهم المُمَلْيَنَة، وبالأعداد الغفيرة، هذا لا يدلّ على أنَّ هذا الدِّين حق، لا، ولكن يدلّ على أنّ هذا الدّين لا تكليف فيه، انتماء شكلي، وإقرار صوري، ثم لك أن تفعل ما تشاء.


إقبال الناس على التَّمَسُّك بالمذاهب الوَضْعِيَّة لانعدام التكاليف فيها:


 من قرأ تاريخ الأديان في العالم يرى العَجَب العُجاب، فأكثر الأديان بُعْداً عن الحق أقربها إلى الإباحِيَّة والاشتراك في النِّساء وفي الأموال، فحينما تنعدم الحدود والقيود والموانع والزَّواجر والأوامر والنَّواهي يصبح الانتِماء سهلاً، فلذلك إن رأيْت الملايين من الناس تَدينُ بِدِين أرضي وضعي فلا تعْجَب، لأنّ هذا الدِّين لا تكليف فيه، والدُّخول فيه سَهل جدًّاً، وهناك مصالح دنيوية كثيرة تتحقَّق من هذا الدِّين، لكنّ دين الله هو دين الحق، بِمَعنى أنّ فيه الأمر وفيه النّهي، فالإنسان المؤمن يبحث عن منهج حقيقيّ فيه الأمر والنَّهي، والحرام والحلال، فالجاهِلِيُّون مثلاً لو قرأْت أي كتاب عن حياتهم لوجَدْت أنَّ بضعة عشر رجلاً يتزوَّجون امرأة واحدة، وهي تنتقي، فحينما تلِدُ تقول: هذا الغلام لفُلان، وانتهى الأمر! يوجد إباحية، وفوضى في العلاقات الجِنْسِيَّة، وفوضى في كسب المال، الربا أضعاف مضاعفة، العلاقة بالمرأة علاقة مباحة بأي شكل، هذه هي الجاهليّة، فإقبال الناس على التَّمَسُّك بالجاهليَّة الأولى والثانية، أو على المذاهب الوَضْعِيَّة أساسه أنّ هذه المذاهب وتلك الجاهليَّة ليس فيها تكاليف.

 فالأنبياء لمَّا يأتون بالمنهج، فمن الذي يُعارضهم؟ المُتْرفون، الغارقون في الشَّهوات، المُنْحرِفون: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾ .


استهزاء الكفار بوعيد الله و تكذيبهم له:


 طبعاً كذَّبوا دعوته وسَخِروا منها ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ﴿فَأْتِنَا﴾ اسْتِهزاء بِوَعيد الله عز وجل، ألمْ يقل لهم أخوهم هود: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ هذا هو الاستهزاء، فقال لهم بِأَدَب النبوَّة:

﴿ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ(23)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 هذا تركيب فيه قَصْر، يعني العلم عند الله وحده، فهو الذي يأتي بالعذاب، أما متى يأتي به؟ أو كيف يأتي به؟ وبأيِّ طريقة يأتي به؟ ومن يُصيب به؟ هذا ليس من شأنك، هذا مِن شأن الله تعالى. 

 بالمناسبة المؤمن كلّما نما إيمانه يتمسَّك بِعُبودِيَّته لله عز وجل، ويتخلَّى عن مواقف لا تليق بذوي الإيمان، فلو سُئِلَ عن تقييم شخصٍ؛ ماذا يقول؟ يقول: تَقييم الأشخاص من شأن الله، وليس من شأن البشر، وحتَّى لو مدَحَ شخصاً يقول: أَحْسَبُهُ كذلك، ولا أُزكِّي على الله أحداً، فالمؤمن كلّما ارتقى تمسَّك بالمنهج، رسول الله عليه الصلاة والسلام دخل بيت أحد أصحابه وقد توُفِّي مِن فورِه، فلما سمع امرأة تقول: 

(( رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. ))

[ رواه البخاري ]

 فأنْ تقول: فلان أكرمه الله، فلان من أهل الجنَّة، هذا تألٍّ على الله تعالى، من قال لك ذلك؟ ليس هناك على وجه اليقين أُناسٌ بُشِّروا بالجنَّة إلا العشرة المبشِّرين، أما الباقون فنرْجو الله أن يكونوا من أهل الجنَّة، وهذا هو مقام العبوديَّة، مقام فيه تواضع، وبعيد عن التّألي على الله.


ملة الكفر واحدة في كل مكان و زمان:


 ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ وهذا يُعادُ كلّ يوم، فأنت تقول لأحدهم: هذا الدَّخْل حرام، وهذا الدَّخْل رَبَوي مثلاً، فيقول لك: وما الذي يحدث؟ هل يُدَمِّر الله لي مالي؟ دعْهُ يُدَمِّرْهُ! فإذا نبَّهتَ إنسانًا إلى معْصِيَة كبيرة، إلى حرام، إلى علاقة رَبَوِيّة، إلى علاقة مع النِّساء لا تجوز، واختلاط يقول لك آخر: دعْهُ يفعل ما يشاء، إنها مقالة أهل الضلال، وهذا كلام الكافرين، ومِلَّة الكفر واحدة، قال تعالى: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ .


خشية المؤمن بعقله و خوف الكافر بعينه:


 سبحان الله! فكلّ إنسانٍ يتحدَّى ويتألَّى، ويطلب العِقاب ويسْتِعجله، وحينما يأتي العِقاب تجِدُه يلوي كما تلوي الأفعى من شِدَّة الحر، ثم نتيجة العُنْجهيَّة والكبرياء تجده صار ذليلاً، ثم يصيح ويستغيث، ويستجير ولا مُجير، إنّ الإنسان بطبعه يخاف، فأما المؤمن يخاف بِعَقلِهِ، أما الكافر فيخاف بِعَيْنِهِ، فإلى أن يأتي العذاب يخاف، أما المؤمن فهو يخاف بِعَقلِه، والذي يخاف بعقْله هذا يسمِّى خشية، وليس خوفاً، فالخوف بالعَين، أما الخَشْيَة فَبِالعَقل.


مهمة الأنبياء التبليغ:


 بِأدب النبوَّة قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ هذا ليس من شأني، متى يأتي العذاب؟ وكيف يأتي العذاب؟ ما نوع العذاب، وما شدة العذاب؟ ومن يُصيب هذا العذاب؟ فهذا ليس من شأني! هذا مِن شأن الله وحده، ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ ، أنا مهمتي أن أبلِّغكم ما أرسلت به: ﴿وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ .


من ازداد معرفة بالله ازداد خشية منه:


 الذي لا يخاف جاهل، هناك قصة كنت أرويها دائماً؛ بعض الفلاَّحين يأخذون أطفالهم الصِّغار جدًّاً، ابن سنة مثلاً، إلى الحقل أثناء الحصيدة، وقد يمرّ ثعبان كبير ثخين بِجانِب طفلٍ صغير، فهذا الطِّفل الصغير يضعُ يده على الثعبان ويألفُهُ ويستأنس به، ولا يعرف ما خطورة هذا الكائن، فلو كان كبيراً لقفز من فوره، ولصاحَ بأعلى صوته! فعَدَم الخوف يدلّ على عدم الإدراك، والإنسان يخاف بِقَدْر عِلمهِ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( رأسُ الحكمَةِ مخافَةُ اللهِ تعالى. ))

[ ضعيف الجامع ]

((  أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. ))

[ صحيح البخاري ]

هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، وسيّدنا عمر رضي الله عنه كان يقول: "أتمنَّى أن أنقلب إلى الله لا إلي ولا عليّ، ليت أمّ عمر لم تلِد عمر، ليتها كانت عقيماً" ، هذا عِملاق الإسلام المبشَّر بالجنَّة، الذي جنّد الجند، وفتح البلاد، وجهَّز الجيوش، وفتح الله على يديه أطراف الدنيا، وكان زاهداً متقشِّفاً، يُضرَب به المثل في الورَع، والزُّهد والعدل، ومع ذلك قال: "أتمنَّى أن أنقلب إلى الله لا إلي ولا عليّ، ليت أمّ عمر لم تلِد عمر، ليتها كانت عقيماً" ، هذا كلام حقيقي وليس تمثيلياً لِشِدَّة معرفته بالله كانت خشيتُهُ منه، وأنت تخشى الله بِقَدْر معرفتك به، كلّما ازددْت به معرفةً ازْددْت له خشْيةً، قال تعالى: ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ .


التعريف بالإنسان الجاهل:


 من هو الجاهل؟ هذا الذي يرتكب الموبقات، ويعتدي على أموال الناس وعلى أعراضهم، ويظنّ أنّ هذا العمل فيه ذكاء وبطولة، ثم يتبجَّح بين الناس بِعُدْوانه على أموال الآخرين، وعُدوانه على أعراضهم، هذا جاهل، هذا الذي لا يرى العقاب الحتْمي، ولا يرى المصير الحَتمي لِكُلّ معْصِيَة وانْحراف، فهو جاهل، قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ وكلّ إنسانٍ يدعو إلى الله عز وجل يُواجِه هذه الحالات، إنسان مستهزئ، يقول لك: من اليوم ليوم الله يفرجها الله! هذا الحاضر، افعل ما شئت! هذا كلام الناس المُتفلِّتين والمنحرفين.


وصف حال قوم لوط عليه السلام:


 تروي كُتب التفسير أنَّ هؤلاء القوم، قوم هودٍ الذين سكنوا بالأحقاف أصابتهم مَوجة حرٍّ شديدة، جعلتْ بلادهم مُغْبرَّة، حرّ لا يُطاق، وغبار شديد، وبعد هذا الحرّ الشديد، وهذا الغبار الذي لا يُطاق، رأَوا السماء ملبَّدة بالغيوم:

﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 رأوا سحاباً في السماء، فقالوا: جاء الخير، قال تعالى: ﴿بل هو ما استعجلتم به﴾ هذا هو العذاب.


عقاب الله عز وجل لا يبقي على شيء:


 قد سمعتم بالأخبار ما تفعله الأمطار، فقد تدمِّر وتهلك القرى، والإعصار الذي أصاب أمريكا دمَّر كلّ شيء، وكانت الخسائر ثلاثين ملياراً، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الرِّياح لها سرعات، إذا تجاوزت المائة والخمسين كيلومتراً أو المائتين تدمِّر؛ الجدران تسقط ، والأشجار تُقتلَع من مكانها، وإذا صارت سرعة الرياح ثمانمائة وألف كيلو متراً لايبقى شيء، الأعاصير الشديدة تقتلع البيوت من أساساتها، فلا يبقى بيوت ولا جسور، ولا أشجار، تدمر كل شيء. 


الأعراض الجَوِيَّة ليست شيئاً عارضاً بل هي عذاب من الله عز وجل:


 قال تعالى: 

﴿ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 انظر إلى الدِقَّة في التعبير؛ ﴿بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ معنى ذلك إن سَمِعت عن فيَضانٍ، أو إعصار، أو زِلزال، أو رياح شديدة أهلكت الحرْث والنَّسل، عن وباء اجتاح العالم، إيَّاك أن تفهم هذا أنَّه شيءٌ عارض، بل قال تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ هذه الرِّياح لها ربٌّ هو الذي سيّرها، وسمح لها أن تُدَمِّر، وهذه الصاعقة لها رب هو الذي أنزلها على القوم، وهذه الأرض لها ربّ هو الذي زلزلها، وهذا الماء الذي طغى وبغى، له ربّ هو الذي أرسله، فالإنسان حينما يرى الأعراض الجَوِيَّة مِن مطرٍ إلى ثلْج إلى حب العزيز أحياناً، إلى رياح شديدة، إلى صقيع يدمِّر المحاصيل كلّها، هذا الفَهْم ينبغي أن يكون فهماً توْحيدِيًّاً، في أحد المرات انخفضت الحرارة بِبَعض المناطق الزِّراعِيَّة إلى اثنتي عشرة درجة تحت الصِّفر، فأتلفت ثمانين مليون ثمن البذور! وأُتلفت المحاصيل كلها، ثمنها مئات الملايين، وحتى ألف مليون أحيانًا تصاب بِصَقيعٍ طارئ فلا يُبقي منها ولا يذر.


الدمار و الهلاك عاقبة قوم هود عليه السلام:


 أدقّ ما في الآية: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ والرياح لها رب، والجرثوم له ربّ، والماء لها رب، الهواء والماء والصواعق والزلازل والبراكين، وهذه الأوبئة والأمراض، هذه كلّها لها ربّ، قال تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ فأصحاب المساكن ماتوا عن آخرهم، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ .


ما من مصيبة تقع في الأرض إلا ولها سبب معين:  


أحيانًا يقولون لك: أصبح هناك انفِتاح، ولكن مع هذا الانفتاح معاصٍ، ومنكرات، وفِتَن، واختلاط، وشرب الخمور، ومناظر لا ترضي الله عز وجل، وبرامج ساقطة، ومحطَّات فضائيَّة، فإذا كان مَن حولنا قد دُمّروا وفعلنا مثل فِعلهم فَمِن المحتمل أن نُدَمَّر مثلهم! وهذه قاعدة، إذا كان مَن حولنا قد دُمِّروا بهذه الطريقة، ونفعل فعلهم، فشيءٌ مُتَوَقّع جدًّاً أن يُصيب العُصاة ما يصيب بقية العصاة. 

قال تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ الحقيقة أيها الإخوة، إني أرجو الله سبحانه أنه إذا سمع أحدكم عن خبر من مشكلات العالم ألاّ يعْزل هذه المشكلة عن التوحيد، هذا الشيء الذي حدث له ربٌّ، وهذه المصيبة وقعت لسبب، وما من مصيبة تقع في الأرض إلا ولها سبب، قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾

[  سورة هود  ]


من أعرض عن ذكر الله دمره الله و لو بعد حين:


 مستحيل، فالإنسان عليه أنْ يتَّعظ، وعليه أن يستقيم على أمر الله، لِقَول الله تعالى:

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء  ]

 القصَّة مؤثِّرة، نبيٌّ كريم دعاهم إلى رب كريم، إلى منهج قويم، وإلى طاعة الواحد الأحد، كذَّبوا واستهزؤوا، وأعرضوا واسْتعجَلوا العذاب، فجاءتهم سحابة ظنُّوها مطراً لأوديتهم، فإذا في هذه السحابة عذاب أليم، تُدَمِّر كلّ شيءٍ بأمْر ربِّها، قال تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ .


القوة و البأس لا ينجيان العبد من عذاب الله:


 قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(26)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 إن الله سبحانه و تعالى يُمِدّ، ويعطي الصِّحة، ويعطي القوَّة، ويعطي المال والثَّرْوَة، الإنسان لما يكون قويًّاً، ومع القوَّة جهل، فإذا رأيْت الله يُتابِعُ نِعَمَهُ عليك وأنت تعصيهِ فاحْذَرْهُ، إذا وجد الإنسان أن هناك توفيقاً ومالاً وفيراً وصحة وقوة وشَأن ومَنعَة وهو على غير منهج الله فهذا اسْتِدراج، وليس إكراماً، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ أيْ مكَّانهم ما لم نُمَكِّن لكم، فكانوا أكثر منكم قوَّة، وأكثر جمْعاً، وأكثر غِنًى، وأكثر بأساً ومع ذلك ما أغنى عنهم جمعهم ولا قوَّتهم ولا بأسهم من الله شيئًا.


العقل من أعظم النعم التي منحها الله تعالى للإنسان:


 قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾ السمع ليستمعوا إلى الحق، وأبصاراً ليروا الآيات، وأفئدة، الفؤاد إن جاء مع السمع والبصر فهو العقل، فهناك عَقل الرأس، وهناك عقل القلب، فإذا جاء الفؤاد مع السمع والبصر، فالبصر نافذة، والسمع نافذة، والعقل هو الذي يحكم، أعطيناهم سمْعاً لِيَستمعوا إلى الحق، وأبصاراً لِيَرَوا الآيات، وأفئدةً عقولاً كي تحْكُم بِوُجود الله عز وجل وأسمائه الحسنى، قال تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾


من أراد الهدى فكل شيء يدله على الله:


 أيها الإخوة، أراد الله جلّ جلاله من هذه الآيات أن يُعْلِمَنا أنّ الإنسان العاصي ينبغي ألاّ يغترّ بِقُوَّته، ولا بِرِفْعة شأنه، ولا بِغِناه، ففي لحظة واحدة تصبح القوّة ضعفًا، والغنى فقْراً، ويصبح الرجل خبراً بعد أن كان رجلاً، لذلك قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾ هذه الأجهزة حجَّة علينا، أعْطيتك يا عبدي سمعاً من أجل أن تستمع إلى الحق فأعرضْت عن الحق، وأعطيتُكَ بصراً من أجل أن ترى الآيات فلم تنظر إليها، وأعطيتُكَ عقْلاً من أجل أن تحكم بهذه الحقائق فلم تستخدمه، فالإنسان إذا أراد الهدى كلّ شيءٍ يدلُّه على الله، أمّا إن أراد الدنيا وشهواتها تصبح الدنيا حِجاباً بينه وبين الحقيقة، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: 

(( حبُّكَ الشَّيءَ يُعمي ويُصِمُّ. ))

[ ضعيف أبي داوود ]

يجعلك أعمى أصم.

قال تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ حاق بهم: أي أحاط بهم، فاسْتِهزاؤهم أحاط بهم وأوْصَلَهم إلى الهَلاك. 


الهلاك عاقبة من سار على درب الأقوام السابقة:


  ثمَّ يقول الله عز وجل:

﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(27)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 هذه الآية مُطبَّقة الآن، شرقُنا في هلاك، وغربنا في هَلاك، وشمالنا في هلاك، وجنوبنا في هلاك، تارةً حروب أهليَّة، وتارةً صواعق، وتارةً براكين، وتارةً زلازل، وتارةً فيضانات، ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى﴾ أي؛ أُهْلِكَ ما حولنا من القرى لأنَّهم فسقوا وعَصَوا فإذا سِرنا على درْبهم، ومنهجهم فالهَلاك مُحَقَّق بحكم القوانين، قال تعالى: ﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فالآيات صرّفناها أي أظهرناها، فالآيات صارخة، ولكنّ الأعمى لا يرى.

﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(45)﴾

[ سورة الزمر ]

 فأنت إن أشْركت يفرحون، أمّا إنْ وحَّدتَ وأعطَيت تفسيراً توحيدِيًّاً، وفسَّرت هذه الأمور تفسيراً متعلَّقاً بالله عز وجل فالناس التائهون لا يرضَون بهذا، قال جل جلاله: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ . صرّفنا الآيات أي؛ أظهرناها جليةً واضحةً.


الأحداث الكبرى ينبغي على الإنسان أن يربطها بكلام الله ويعطيها تفسيراً توحيدياً:


 وإليك أيها الأخ الكريم هذه الواقعة: مركبة فضائيَّة اسمها المُتَحَدِّي! تتحدَّى مَن؟ بعد سبعين ثانية من انطلاقها أصبحت كتلة من اللَّهَب، هذا الخبَر ينبغي أن نقف عنده، قلعة من قلاع الكفر في العالم، كيف تهاوت كبيت العنكبوت؟ هذه آية من آيات الله الكبرى، قلعة عمرها سبعون سنة أصبحت ضعيفة كبيت العنكبوت، تهاوت ﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ وكذلك مرض الإيدز، هو آية من آيات الله عز وجل، وهناك مرض جديد أحدث منه، وهذا المرض يؤدِّي إلى أن يتآكل جلد الإنسان وعضلاته في أربع وعشرين ساعة! وأسبابه أيضاً انحراف جِنسي، وقد ظهر هذا المرض في بريطانيا، حوله مقالة مهمة جداً لعلي أعرضها عليكم في دروس قادمة إن شاء الله، مرض خطير يُنهي الإنسان بأربع وعشرين ساعة، هذه كلها آيات، الإيدز آية، الأعاصير في بلاد الفسق والفجور، البلد السياحي ونوادي العُراة، والشواطئ، يهبَّ إعصارٌ يُدَمِّرها عن آخرها، هذه آيات دالة على وجود الله وعلى عظمته، فالذي أتمناه على الإخوة الكرام أنّ هذه الأحداث الكبرى ينبغي ألاّ نفهمها فهْماً ضيِّقاً محدوداً، ولكن أن نربطها بِكلام الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾

﴿ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(28)﴾

[ سورة الأحقاف  ]


من اتخذ جهة أرضية و اعتمد عليها فإنقاذًا للتَّوحيد يُخَيِّب الله له ظنه:


 الشيء الثابت أنّ كلّ إنسان اتَّخذ جِهة مَا إلهاً من دون الله، هذه الجهة لا بدّ من أن تخذِلهُ، وهذا من قدر الله عز وجل، لماذا تخْذِلُهُ؟ من أجل أن يتَّعظ، وأن يتخلَّى عن شِرْكِهِ، وهذه قاعدة أساسيَّة، إذا اتَّخَذْت جهةً من الجهات، واعْتَمَدْت عليها، واتَّخَذتها إلهاً فالنتيجة في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ودائماً خذ هذه القاعدة؛ ولو اتَّكَلْت على جهة أرضيَّة، واسْتَغْنيْت عن الله عز وجل بهذه الجهة، هذه الجهة لا بدّ من أن تُخَيِّب أملك، لا بد من أن تتّكِئ عليها فلا تُنجِدك إنقاذاً للتَّوحيد.


عزل خالد بن الوليد من قِبل عمر بن الخطاب إنقاذاً لعقيدة التوحيد:


 سيّدنا عمر رضي الله عنه عندما عزل سيّدنا خالد رضي الله عنه، وهو سيف من سيوف الله، والعزل تفسيره صعبٌ، فعمر بن الخطاب من المبشَّرين بالجنَّة، وسيّدنا خالد وصفه النبي بأنَّه سيف من سيوف الله، ولقد قبِلَ العزل من قيادة الجيش، وجاء إلى عمر، فقال له: يا أمير المؤمنين، لِمَ عَزَلتني؟ فقال له عمر: والله إنِّي لأُحِبُّك ، -لا يكفي- فقال له: لِمَ عزلتني مرَّةً ثانية؟ فقال له عمر: والله إنِّي لأُحِبُّك ، فلما ألحَّ عليه في الثالثة، قال له: "ما عزلتك يا بن الوليد إلا مخافة أن يُفْتَتَنَ الناس بِكَ لِكثرة ما أبليْتَ في سبيل الله" ، فعُمَر خاف على عقيدة التوحيد، خاف أن يظنّ الناس أنَّ النَّصر من عند خالد، إنما هو من عند الله فعزَلَه، واستمر النَّصْر، لم يتوقف، فسيدنا عمر رضي الله عنه بهذا أنقذ التوحيد، وكلّ إنسان يعتمد على جهة أرضيَّة، ويثق بها، وينسى ربّه، فإنقاذًا للتَّوحيد يُخَيِّب الله له ظنَّه، ويُحْبطُ عمله، وعند الضرورة هذه الجهة التي عبدتها من دون الله لا تُنجِدك، ولا تخلّصك، ولا تفكّ أسرك، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ .


هدف القصة في القرآن الكريم:


الموعظة والعبرة:

  أيها الإخوة، عودة إلى فقرات هذه القصَّة، أوَّلاً إنًّ الإنسان إذا قرأ القصَّة في القرآن ينبغي ألّا يتوهَّمها قِصَّة، وإنَّما هي حقائق، وقوانين صِيغَت على شكل قصَّة، ففيها الدروس، وفيها العِبَر، وفيها المواعظ، وفيها الحقائق، وفيها الأُسُس. 

من عبد الله جاءته الخيرات و من كفر و طغى جاءه العقاب:

 الشيء الثاني أنَّ الإنسان إذا عبدَ غير الله لا بدّ من أن يعتدي، ولا بدّ من أن ينحرف، ولا بدّ من أن يطغى، لا بد من أن يبغي لذلك يأتي العقاب، قال تعالى: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ بالمقابل:

﴿ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66)﴾

[  سورة الزمر  ]

 فما هي العلاقة بين قوله تعالى ﴿بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾ وبين قوله تعالى ﴿وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ﴾ ؟ العلاقة أنَّك إذا عبَدْته جاءَتْك الخَيرات، إذاً عليك أن تشْكر، وإذا لم تعبدْهُ وفعلْتَ المنكرات، فإذاً عليك أن تنتظر العقاب من الله عز وجل، إنها قوانين، ملخَّص الموضوع إن عبدت الله عز وجل جاءتك الخيرات فاشكر، وإن لم تعبدْهُ انحرفْت فاعْتَدَيت، فظَلَمْت فجاءك العقاب فاصبر.


على الإنسان أن يتقوَّى بِطاعة الله و يترفع عن عبادة غيره:


 الشيء الثالث في الآية، أنّ الإنسان مهما كان مُمَكَّناً في الأرض، مِن قوَّة ومال وسلطان، فهذه كلها بثانية قد تصبح خبراً بعد أثَر، لذا على الإنسان أن يتقوَّى بِطاعة الله، والعوام لهم كلمة تعجبني: التَّقوى أقوى، فالاستقامة والترفّع عن أموال الناس وعدم إيذائهم، هذه أحد أسباب القوَّة، والإنسان عليه أن يتَّعظ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فالإنسان إذا اعتمد على غير الله عز وجل، فهذا الذي اعتمَدَ عليه يُخَيِّب ظنَّه، وعندئذٍ يرى حقيقة التوحيد، وهي أعظم ما في الدين، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد .

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور