وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 01 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 1 - 9 حرص النبي على هداية قومه وإعراض المشركين عن الإيمان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 

 

التوحيد أهم محاور سورة الشعراء :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع سورة جديدة من سور القرآن الكريم، إنها سورة الشعراء، وسميت سورةَ الشعراء لأن الله سبحانه وتعالى تحدث في مقطعها الأخير عن الشعراء. 

وحقيقة هذه السورة أنها تدور على عدة محاور، أهم هذه المحاور التوحيد، ففي هذه السورة قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ أحد أهم أسباب الشقاء الإنساني هو الشرك، ومحور الإيمان باليوم الآخر، ومحور تكذيب الكفار لهذه الرسالة، ومحور العواقب الوخيمة التي تنزل بالكفار حينما يكذبون رسالات الله، هذه بعض المحاور التي تحوم حولها هذه السورة، مع الدرس الأول من سورة الشعراء.

 

الحروف المتقطعة ومعانيها :


﴿طسم﴾ ثمة سُور كثيرة تبدأ بحروف شبيهة بهذه الحروف، ألم، الر، ق، كهيعص، هذه الحروف التي تفتتح بها بعض السور المفسرون لهم في تفسيرها مذاهب شتى، بعض المفسرين يقول: الله أعلم بمرادها، بعضهم يقول: إن القرآن الكريم صِيغَ من هذه الحروف، وهذه الحروف مبذولة لكل عربي، كما أن الإنسان خلق من طين، والطين مبذول، إذاً جعل الطين إنساناً، وجعل هذه الحروف قرآناً، إنها لمعجزة، المعنى الأول أن الله أعلم بمرادها، والمعنى الثاني أن سور القرآن الكريم نُظمت من هذه الحروف التي بين أيديكم، ومع ذلك يقول الله عز وجل:

﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾

[ سورة الإسراء ]

نموذج هذه الحروف، بعض المفسرين يقول: إن هذه الحروف أوائل لأسماء الله تعالى، بعضهم يقول: إن هذه الحروف أوائل لأسماء القرآن الكريم، بعضهم يقول: إن هذه الحروف أوائل لأسماء النبي عليه الصلاة والسلام، فالطاء تشير إلى أنه طاهر من كل ذنب وعيب، والسين تشير إلى قدسيته، وإلى أنه مصدر سلامة للبشر، والميم تشير إلى أنه محمود عند نفسه، ومحمود عند الله عز وجل، ومحمود عند الخلق، وبعضهم يقول: إن هذه الحروف اسم علم لهذه السورة، على كلّ كما قال الإمام علي كرم الله وجهه: القرآن حمّال أوجه. 

لكن الذي يلفت النظر أن هذه الحروف حيثما تأتي في الأعم الأغلب يتبعها كاف الخطاب، تلك يا محمد، فكاف الخطاب التي تأتي بعدها ترجح أنها أوائل أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا قلنا: إن الطاء أول اسم من أسمائه وهو أنه طاهر، والسين إلى أنه سليم من كل ذنب، أو إلى أنه مقدس، والميم إلى أنه محمود، ربما كانت هذه الحروف أوائل أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، لأن أغلب السور المفتتحة بهذه الحروف يأتي بعدها الخطاب موجهاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإن شئت أن تقول: الله أعلم بمراده فقد أصبت، لأن بعض المفسرين هكذا قال، وإن شئت أن تقول: إن القرآن الكريم من جنس هذه الحروف، ومع ذلك تحدى بني البشر أن يستطيعوا أن يأتوا بآية واحدة أو بسورة واحدة هذا أيضاً صحيح، وإن قلت: إن هذه الحروف أوائل أسماء الله تعالى هناك وجهة نظر مقبولة، وإن قلت: إن هذه الحروف أوائل أسماء النبي عليه الصلاة والسلام هناك وجهة نظر مقبولة، وإن قلت: إنها أوائل أسماء القرآن الكريم أيضاً صحيح، وبعضهم يقول: الطاء إشارة إلى طوبى في الجنة:

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)﴾

[ سورة الرعد ]

والسين إشارة إلى سدرة المنتهى، والميم إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، على كلّ هناك ثلاث سور تبدأ بـ (طسم) اسمها الطواسيم، وهناك سبع سور تبدأ بـ (حم) اسمها الحواميم، هذا بعض ما جاء في التفاسير حول تفسير هذه الحروف.

 

القرآن الكريم واضح الإعجاز :


﴿طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)﴾ .. هذا الكتاب الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه كتاب مبين، منهج مفصل، إعجازه واضح في نظمه، إعجازه واضح في مضمونه، إعجازه واضح في تشريعه، إعجازه واضح في الإشارات العلمية التي أشار إليها، إعجازه واضح في توجيهاته التربوية، في أخباره الغيبية ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ ويا أهل الكتاب إن جاء في كتبكم السابقة أنه لا بدّ من أن يظهر نبي في آخر الزمان، ومعه كتاب من عند الله فتلك آيات الكتاب المبين، هذه هي الآيات، وهذا هو الكتاب، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ المبين من أبان، وأبان بمعنى أظهر، ومبين من بان، وبان بمعنى بَعُد، البين البعد، فلأن القرآن الكريم آياته ظاهرة فهو مبين، ولأنه بعيد بعداً كبيراً عن الباطل فهو مبين، فإما أن نفهم كلمة مبين من أن آياته ظاهرة للعيان، أو أن نفهم كلمة مبين من أنه بعيد  بعد الأرض عن السماء عن الباطل..﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أي هذه الآيات آيات الكتاب الذي أنزله الله عليك، يا طاهر القلب، يا سليماً من كل عيب، يا محموداً عند الخلق.

 

حرص الأنبياء على هداية أقوامهم :


﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ .. باخع نفسك بمعنى مهلك نفسك، ما سبب أنه كاد يهلك عليه الصلاة والسلام؟ لأن قومه لم يؤمنوا، ما الدافع الذي جعله يشقي نفسه؟

﴿ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)﴾

[ سورة طه ]

تلك الآية مشابهة لهذه الآية، يا طاهراً من الذنوب، ويا هادياً إلى علّام الغيوب، كما جاء في تفسير الرازي: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)﴾ شقاء الأنبياء شقاء مقدس، آلام علوية بسبب رحمتهم بخلق الله عز وجل، إذا أردنا أن نطبق هذه الآية تطبيقاً علينا، أي ما حجم رحمتنا؟ هل إذا اهتدى الإنسان إلى الله عز وجل حلت مشكلاته فقط؟ والناس ولو أنهم تائهون، ولو أنهم شاردون، ولو أنهم ضالون، ولو أنهم معذبون، أيرضيك أن تكون أنت سعيداً وحدك؟ أيرضيك أن تكون مهتدياً والناس في ضلال؟ أيرضيك أن تكون سعيداً والناس في شقاء؟ أيرضيك أن تكون موصولاً بالله والناس في ضياع؟ 

 

حرص المؤمن على هداية الناس :


كلما نمت الرحمة في قلب المؤمن اتسعت دائرة اهتمامه، فالذي تعنيه نفسه فقط هذا في مستوى، والذي تعنيه أسرته هذا في مستوى أرقى، والذي يعنيه أقاربه هذا في مستوى أرقى، والذي يعنيه من حوله من الناس هذا في مستوى أرقى، وكلما ارتقى قلب المؤمن، وكلما سمت نفسه، وكلما تجلى الله عليه بالرحمة اتسعت دائرة اهتماماته. فالنبي عليه الصلاة والسلام بنص هذه الآية الكريمة كاد يهلك نفسه لشدة حرصه على قومه، فهذه مقياس لنا، الإنسان طبعاً له أولاد، له زوجة، له أقارب، له إخوة، له أخوات، له أولاد عم، له جيران، له زملاء في العمل، له أشخاص ينتمون إليه، له جيران يحيطون به، أبناء أمته، أبناء وطنه، الإنسانية جمعاء، هل يرضيه أن يكون وحده مهتدياً؟ هل يرضيه أن يكون وحده سعيداً؟ هل يرضيه أن يكون وحده موصولاً؟ إذا كان يرضيك ذلك ولا يعنيك أمر الناس فأنت في المستوى الأدنى الذي لا يُرضي الله عز وجل. 

النبي عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة، حينما وصل إلى الطائف وهاجمه أهلها هجوماً شديداً، كذَّبوه، واستهزؤوا به، وجاءه جبريل الأمين، وقال: يا محمد:

(( عن عائشة رضي الله عنها ... هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ؟ فقالَ : لقد لقيتُ مِن قومِكِ ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلالٍ ، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي ، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ ، فرفعتُ رأسي ، فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني ، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ ، فَناداني فقالَ : يا محمَّدُ ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ ، وما ردُّوا عليكَ ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ : فَناداني ملَكُ الجبالِ : فسلَّمَ عليَّ ، ثمَّ قالَ : يا محمَّدُ : إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ ، وأَنا ملَكُ الجبالِ ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ ، وبما شئتَ ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا. ))

[ التوحيد لابن خزيمة، صحيح ]

فالإنسان المؤمن يستطيع أن يقيم موازنة بينه وبين هذه الحال، قد تقول: أنا لست نبياً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لك: عن أبي هريرة :

(( أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ، فقالَ: يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وقالَ: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك؟ ))

[ صحيح الترمذي: خلاصة حكم المحدث : حسن  ]

فكيف رحمتك بزوجك؟ قد تكون لك زوجة تعجبك، وتؤدي لك واجبك أداءً تاماً، ولكنها لا تصلي، أيرضيك ذلك؟ أترضى أن تعيش مع امرأة تسعدك وهي شقية؟  قد يكون لك إخوة لا يصلُّون، أو ليسوا ديّنين، أيرضيك أنت أن تكون سعيداً بربك موصولاً به، لك مجالس العلم وأخواتك وإخوانك الذين هم من أبيك وأمك تائهون شاردون، أترتاح لهذا؟  هذه الآية دقيقة جداً، يجب أن نخرج بها من ذواتنا، إذا أردت أن تسعد فأسِعد الآخرين، الإنسان أن يبقى نشاطه منصبًّا على مصالحه، على كسب رزقه، على تأمين حاجاته، على تأمين حاجاته المادية من دون أن يرقى إلى مستوى آخر وهو أن يسعى لهداية الخلق:

(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه ، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ ، قالَ : فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ : أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا ، فَقالَ : أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ : هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ ، قالَ : فأرْسَلُوا إلَيْهِ . فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له ، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : يا رَسولَ اللَّهِ ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ : انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا ، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ . ))

[ صحيح البخاري ]

عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((  لأنْ يهدِيَ اللهُ على يديك رجلًا خيرٌ لك ممَّا طلعَتْ عليه الشَّمسُ وغَرَبت. ))

[ السيوطي : الجامع الصغير خلاصة حكم المحدث : حسن ]

يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها، فهذه الآية يجب أن تدفعنا إلى أن نخرج من ذاتنا، إلى أن ننطلق إلى خدمة الخلق، لأن الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعيالهم، هذه الآية يجب أن تجعل من النبي عليه الصلاة والسلام قدوة لنا، أسوة لنا، أيرضيك أن تكون سعيداً في قوم أشقياء؟ أيرضيك أن تكون في بحبوحة في قوم محرومين؟ يقول عليه الصلاة والسلام عن عبد الله بن عباس :

(( ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ. ))

[ تخريج مشكلة الفقر :  خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

أنت في بحبوحة، والناس في ضيق، أنت في بيت واسع، والناس يتمنون غرفة واحدة، ألا تتألم؟ النبي عليه الصلاة والسلام كاد يهلك نفسه لشدة رحمته بالخلق فأين أنا من هذه الصفة؟ اسأل نفسك هذا السؤال: أين أنا منها؟ ولو على شكل مصغر، حرصك على هداية زوجك هذا نوع من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، حرصك على هداية ابنك هذا نوع من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، حرصك على هداية أمك وأبيك إن كانوا في ضلال، حرصك على هداية إخوتك وأخواتك وأصهارك وأبناء عمك وأبناء خالتك وجيرانك وزملائك ومَن حولك، فلذلك هذه الآية يجب أن تدفعنا للعمل الصالح، يجب أن تدفعنا إلى هداية الخلق، إلى نقلهم من الضياع إلى اللقيا، من الشقاء إلى السعادة، من الضلال إلى الُهدى، وهذا يحتاج إلى جهد كبير، إلى جهد في كسب قلوبهم، وفتح صدورهم، إلى خدمتهم بادئ ذي بدء، إلى تقديم المعونة لهم، إلى حلّ مشكلاتهم، تمهيداً إلى أن تلقي عليهم الحق كما عرفك الله به، وهذه شهادة من قبل الحق بسيد الخلق ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ أتلفت نفسك يا محمد، أشقيت نفسك يا محمد، بعض هذا الاهتمام، بعض هذا الحزن، بعض هذا الألم:

﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)﴾

[ سورة الحجر ]

 

شهادة الله على حرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية قومه :


شيء آخر ؛ هذه الآية فيها شهادة من قبل الحق بسيد الخلق، إذاً هو حريص كما قال الله عز وجل: 

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128)﴾

[ سورة التوبة ]

لذلك قالوا عنه صلى الله عليه وسلم: إنه أرحم الخلق بالخلق. 

سؤال: هل يخفق قلبك إذا رأيت شقاءً إنسانياً؟ هل يخفق قلبك بالرحمة إذا رأيت حيواناً معذباً؟ هل يخفق قلبك بالشفقة إن رأيت مريضاً متألماً؟ إن رأيت مشرداً؟ إن رأيت تائهاً؟ إن رأيت جائعاً؟ إن رأيت عرياناً؟ هل تقول: مالي وله؟ الله يكفي العباد، بعض أقوال الناس، أم تندفع إلى خدمته؟ تندفع إلى إطعامه؟ تندفع إلى تلبية حاجته، هذه الآية دقيقة جداً وربنا عز وجل جعله قدوة لنا، وأمرنا أن نقتدي به، وأن نجعله لنا مثلاً أعلى ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى يسلّي نبيه يقول: يا محمد ليس عليك هداهم، بعض هذا الحزن، بعض هذا الشقاء، بعض هذا الإهلاك، إن إيمانهم ليس عليك، وليس إيمانهم منوطاً بك، وليس إيمانهم متعلقاً بك، إنك مبلغ ليس غير، إنك مبشّر ليس غير، إنك نذير ليس غير، ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، لست عليهم بوكيل، لست عليهم بحفيظ.

﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)﴾

[ سورة الغاشية ]

الإنسان يحاسب نفسه، يقول: هذا النبي قدوة لنا، هل يرضيني أن أكون أنا مهتدِيًا وأخي الشقيق غارقاً في الضلال؟ لا أكلمه، ولا يعنيني أمره، لا أسأله، لا أزوره، لا أسعى لهدايته، لا أتقرب إليه، لا آخذ بيده، دعه وشأنه، كما يقول معظم الناس، هذه الكلمة تصدر عن قلب قاس، هذه الكلمة تصدر عن إنسان يحب ذاته فقط، مادام قد اهتدى انتهى الأمر، النبي عليه الصلاة والسلام بدأت متاعبه حينما عرف ربه، حينما عرف ما عنده من خير كيف قومه في ضلال؟ كيف قومه في عمى؟ كيف قومه في بعد عن الله عز وجل؟ هو ذاق طعم القرب، ذاق سعادة المعرفة، هو في هذه الحالة وقومه تائهون؟ وقومه ضالون؟ هل تبكي على الناس؟ هل يؤلمك ضلالهم؟ هل يشقيك بعدهم عن الله عز وجل؟ هل تتمنى أن تنفق من مالك كل شيء نظير أن يهتدوا؟ هل تبذل الدنيا من أجل الدين؟ إذا ثبت لك أن هذا الإنسان إن خدمته اقترب من الله عز وجل هل تبذل هذه الخدمة سخية في سبيل الله أم تضن بها؟ ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ والله هذه الآية عظيمة جداً، هي شهادة، وهي مثل أعلى، وهي قدوة، وهي مقياس، وهي دافع يدفعنا إلى خدمة الخلق، تدفعنا إلى هدايتهم، تدفعنا إلى أن نعتني بهم، يدفعنا إلى أن نرحمهم، تدفعنا إلى أن نتألم لألمهم، أحياناً الإنسان يكون في بحبوحة، قد يشقى الناس من حوله لا يهتم، لست مؤمناً، من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، الناس في ضيق شديد وأنت في بحبوحة وتقول: لا عليّ شيء:

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)﴾

[ سورة يس ]

ليس هذا هو المنطق الصحيح. 

 

قضية الإيمان هي بيد الله وحده :


الله جلّ وعلا يطمئن النبي عليه الصلاة والسلام أن قضية الإيمان هذه ليست عليك، لو شئت يا محمد لجعلتهم مهتدين قسراً، أي بإمكان رئيس الجامعة أن يُنَجِّح جميع الطلاب بعمل بسيط جداً، وهو أن يوزع على الطلاب أوراق الإجابة مطبوع عليها الإجابة كاملة، ويكلفهم أن يكتبوا أسماءهم وأرقامهم، ويعطي علامة تامة لكل الطلاب، وبذلك ينجح كل الطلاب، ولكن هذا النجاح لا قيمة له لا عند الطلاب، ولا عند الناس، ولا عند الجامعة، نجاح مزور، أساسه الكذب، فالله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة يقول:

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)﴾

[ سورة يونس ]

﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)﴾

[ سورة الرعد ]

ولكنه لا أقول: لم يشأ، ولكن شاءت مشيئته أن يكون الإنسان ذا مشيئة حرة، شاءت مشيئة الله أن يكون الإنسان حراً في اختياره، فلو أُلزم لفقد الإنسان هويته، لأُلغي التكليف، ألغي الاختيار، ألغيت الأمانة، ألغي الثواب، ألغي العقاب، ألغيت الجنة، ألغيت النار، ألغيت الكتب المنزلة، ألغيت الرسالات، انتهى كل شيء، الإنسان مخير، طبعاً مخير في دائرة محدودة، ومسير في دائرة أخرى، لكن الإنسان أن يبقى في الضلال، ويقول: هكذا شاء الله، هذا كذب وزور.

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾

[ سورة الأنعام  ]

إذاً هذه دعوة كاذبة أن تقول: الله قدّر عليّ ذلك، سيدنا عمر كما قلت لكم كثيراً جاءه رجل شارب للخمر، فقال رضي الله عنه: أقيموا عليه الحدّ، فقال: والله يا أمير المؤمنين إنّ الله قدّر عليّ ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: أقيموا عليه الحدّ مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، وقال: يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار.

 أنت مختار، مجرد الأمر والنهي يعني أنك مختار، لو ألزمناك أن تسير في طريق عرضه ستون سنتيمترًا بعرض كتفيك، وقلنا لك: خذ اليمين، هذا أمر ليس له معنى، لا يكون للأمر معنى إلا إذا كنت في خيار، إلا إذا كان الطريق عريضاً بإمكانك أن تأخذ اليمين، أو أن تأخذ اليسار، لمجرد أن الله أمرك فأنت مخير، لمجرد أن الله نهاك فأنت مخير، ولمجرد أن المذنب يندم يوم القيامة على فعل الذنوب فهو مخير، لو كان مجبراً على أن يفعل الذنب لما ندم المذنبون يوم القيامة، قالوا: هذا حظنا، الله أجبرنا على ذلك:

﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)﴾

[ سورة الأنعام ]

 

الإيمان ليس قسريًا :


إذاً: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ .. لو أن الناس كلهم أصيبوا بمرض واحد، وهو الشلل فرضاً، هذا تفكير، فإذا آمنوا بالله ذهب عنهم هذا المرض، إذاً يؤمنون جميعاً، هذا إيمان قسري، أحياناً إنسان مع إنسان، واحد يكون قويًا، والآخر ضعيف، فيملي عليه أفكاره، يعتنقها خوفاً من بطشه، هل هذا الاعتناق إيمان؟ إطلاقاً، هذا ترديد، لأنه يخاف بطشه، إذاً يقول ما يقول، هل هذا إيمان؟ لا، هذا إيمان بدافع القسر والقهر، فربنا سبحانه وتعالى لو أن الإيمان القسري، لو أن الإجبار على الإيمان.. لو أن الإيمان الذي أساسه القوة يجدي، وينفع، ويسعد لفعله الله عز وجل، ولكنه لا يجدي، ولا ينفع، ولا يسعد، فهذه الحقيقة الصارخة تفسر في ضوئها كل الآيات التي تقول: ﴿لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾ لا نقول: لم يشأ، لا، ولكن مشيئته شاءت أن يكون الإنسان ذا مشيئة حرة، لأن هذه المشيئة الحرة تثمن عمله، لا يكون لعمله قيمة إلا إذا كان ذا مشيئة حرة، إن لم يكن ذا مشيئة كسبية فعمله لا قيمة له، لا يسعد به ولا يشقى به، لا يرقى به في الجنة ولا يهوي به في النار، ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ هذا الهدى القسري.


  الإعراض طريقة المشركين في مقابلة دعوة الأنبياء : 


﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ ..أي كلما جاءهم ذِكر أعرضوا عنه، والإعراض هو التكذيب، هنا معنى دقيق جداً ؛ هو أن الإنسان إذا أعرض عن الشيء فهو تكذيب حقيقي، لو فرضنا أنك أعرضت عن هذا المتكلم، وبقيت صامتاً لم تكذبه، ولم تجرحه، ولم تبين أنك غير معتقد به، إعراضك عنه هو أحد أنواع التكذيب، بل هو أخطر أنواع التكذيب، لأنك إذا ذكرت أنك غير معتقد به كان هناك مجال للمناقشة والحوار والأخذ والرد، أما إعراضك عنه فهو دليل التكذيب العملي، فالإنسان قد لا يقول: ليس هناك آخرة، أو لا يجرؤ إنسان في العالم الإسلامي على أن ينكر الآخرة، ولكن ألّا يعمل الإنسان للآخرة فهذا تكذيب لها، أن يكون عمله للدنيا فقط فهذا تكذيب بالآخرة.. تكذيب عملي، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ الله اختار، لم يقل: من الله، ولا: من الغني، ولا من: القوي، ولا من القدير، ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ لأن هذا القرآن الكريم الذي جاءنا من الله عز وجل لأن الله رحيم رحمة بنا أنزله على النبي عليه الصلاة والسلام، هذا التشريع الحكيم رحمة بنا، هذا النبي العظيم رحمة بنا، هذا الكتاب المبين رحمة بنا، إذاً: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ معنى ذكر: أي يذكرهم بفطرتهم، الله سبحانه وتعالى جبلهم جبلة عالية، فطر الإنسان على معرفة الله، جعل هذه النفس البشرية لا ترتاح إلا إذا آمنت، لا يذهب عنها قلقها إلا إذا اتصلت بالله عز وجل، لا تسعد إلا إذا اصطلحت معه، لا تطمئن إلا إذا أطاعته، لا تحس بالنشوة إلا إذا ظفرت بقربه، هكذا النفس، لذلك لو أن إنسانًا أتيحت له الدنيا من كل أطرافها، ولم يعرف الله عز وجل فهو في شقاء، قد يستغرب الإنسان أن يكون الغني الذي في مستوى من الغنى لا يتصور أن يكون هذا أشقى الناس إذا كان بعيداً عن الله، لذلك: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ﴾ كلمة ذكر: أنا أذكرك بشيء تعرفه، قد ألقي عليك شيئاً جديداً، وقد أذكرك بموعد جرى بيننا، تقول: ذكرته ذكرته، فكلمة تذكير تعني أن الإنسان مفطور على حبّ الله عز وجل، وعلى الفطرة السليمة، يأتي التذكير، معنى ذلك أن الفطرة السليمة التي فطرنا الله عليها هي فطرة تندفع إلى معرفة الله، وإلى طاعته، وإلى الاتصال به، قد تأتي الشهوات والهموم والأحزان والنواحي المادية فتطمس هذه الفطرة، يأتي القرآن الكريم ليذكرنا بفطرتنا ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ ، وهذا من أشدّ أنواع العجب ؛ أن تدعو الإنسان إلى حياته:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال ]

أنت تدعى إلى أن تكون حياً لأن الضلال موت، والبعد عن الله موت، والذي يرتكب المعاصي هو ميت:

﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾

[ سورة الأنعام  ]

إذاً حينما الإنسان يدعى إلى الله عز وجل يُدعى ليحيا بعد أن كان ميتاً، يدعى ليستيقظ، كيف يعرض؟ كيف لا يستجيب؟ كيف يتلكأ؟ كيف لا يفكر؟ لم لا يفكر؟ لم لا يحقق؟ لم لا يتأمل؟ ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ الإعراض أخو الكذب.. أخو التكذيب، بل هو أخطر أنواع التكذيب، زُرت طبيباً كتب لك وصفة، شكرته عليها، ونقدته أتعابه، وصافحته، وكنت في منتهى الأدب معه، لمجرد أنك لا تشتري هذه الوصفة فأنت تكذب علمه، عدم شرائك لهذا الدواء طبعاً إذا كان موجوداً فأنت تكذب علمه، هذا تكذيب خطير، لذلك ربنا عز وجل لما قال: ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ ، أي إعراضك عن الحق، إعراضك عن القرآن، إعراضك عن مجالس العلم، إعراضك عن بيان الحق، هذا نوع خطير من أنواع التكذيب.

 

الاستهزاء مآله الخسران :


﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ .. ما داموا قد أعرضوا فقد كذبوا ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)﴾ .. أحياناً إذا كان هناك راكبان في طائرة.. طائرة نقل جنود.. يوجد للسقوط قوانين، فإذا الإنسان عرف هذه القوانين يستخدم المظلة، ما هي المظلة؟ هي تأدَّب مع قوانين السقوط، حينما تنتشر المظلة لها طبعاً قماش كتيم لا ينقل الهواء، هذا القماش يجمع الهواء تحته فينشأ مقاومة لهذا الوزن، فهذا المظلي ينزل إلى الأرض سالماً، فهذا الذي يستهزئ بقوانين السقوط.. يستهزئ بقوانين الهواء.. يستهزئ بقوانين الجاذبية، يحتقرها، لا يبالي بها، ويلقي بنفسه من دون مظلة بعد دقائق أو بعد خمس دقائق تتضح النتيجة: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ طبعاً الذي تأدب مع قوانين السقوط، واستخدم المظلة نزل سالماً، والذي احتقرها، وكذبها، وألقى بنفسه من دون مظلة ينزل مكسراً، فالقضية قضية وقت فقط، عندما يعصي الإنسانُ اللهَ عز وجل، يخالف شرع الله عز وجل، عندما يرتكب المحرمات قضية وقت فقط، لا بدّ من أن يدفع الثمن، إما من سعادته الزوجية، لو أنه أطلق بصره في الحرام، الله عز وجل يقول له: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾  وهو ينظر، ويقول: ماذا أفعل بعيوني؟ الطريق هكذا، نحن في زمن صعب، فساد يا أخي، القضية في القلب، إن الله جميل يحب الجمال، هذا استهزاء بهذه الآية، طبعاً سيدفع ثمن هذه المعصية شقاءً عائلياً أو زوجياً، حينما يتعامل الإنسان خلاف الشرع في البيع والشراء سوف يدفع الثمن غالياً، فربنا عز وجل قال: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أيّ مخالفة للشرع ؛ إنْ في العبادات، أو في الآداب، أو في المعاملات، أو في المحرمات، أو في الحقوق، أو الواجبات، أي مخالفة من هذا القبيل لا بدّ من أن يدفع المخالف ثمنها باهظاً، ولكن بعد حين، فلذلك العاقل هو الذي يرى النتيجة قبل المقدمة، أما هذا الذي ينطلق من دون وعي، من دون تريث، من دون تبصر، من دون تأمل فهذا يخبط خبط عشواء، ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ربنا عز وجل قال في آيات أخرى:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾

[ سورة الأنعام ]

المرابي انظر إليه كيف انتهى به المصير، من أكل مالاً حراماً انظر إلى مصيره، لا بدّ من أن يتلفه الله عز وجل بعد أن يتلف ماله، انظر إلى من يخالف الشرع في علاقته الزوجية كيف يصبح أشقى الأزواج، انظر إلى من يخالف الشرع في علاقاته الاجتماعية كيف أن الله يفضحه في عقر داره، انظر: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ فلذلك هذا قرآن، هذا كلام خالق الأكوان، هذا حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا قطعي الثبوت، آياته في معظمها قطعية الدلالة، هذا قانون، هذا الكتاب فيه علاقات ثابتة لا تتبدل، ولا تتغير، ولا تعدل، ولا يزاد عليها، ولا يحذف منها، فإذا تعاملت مع كتاب الله فالأمر خطير جداً، تتعامل مع تعليمات الخالق، تعليمات الصانع، أنا هكذا أقول: هذه التوجيهات القرآنية تعليمات الصانع، عندما يشتري الإنسان آلةً غالية الثمن فهو حريص على سلامتها، وعلى مردودها العالي، هذا الحرص يدفعه إلى تنفيذ تعليمات الصانع مئة بالمئة. فالقرآن الكريم من تعليمات الصانع، فأنت حينما لا تعبأ بأحكام الشرع إنك لا تعبأ بتوجيهات الصانع فالنتيجة حتماً خطيرة.

 

ظاهرة النبات والأشجار من الآيات الدالة على عظمة الله :


العلاقة الآن دقيقة جداً ؛ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ .. أي أليس أمامهم آيات دالة على عظمة الله؟ قبل أن نخوض في تفصيلات هذه الآية، هناك آيات تدل على أن الله عظيم، وأنه يجب أن تعبده، ويجب أن تطيعه، ويجب ألا تكذب كتابه، فكأن الكون هو الدليل على الله عز وجل، إن كنت في حيرة، إن كنت في ضلال، إن كنت في شك، إن كنت في تردد، دونك الكون، هذا هو المعجزة، لو تأملت في خلق السماوات والأرض لعرفت ربك، وإذا عرفته عبدته، وإذا عبدته سعدت بقربه وانتهى الأمر. 

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ ظاهرة النبات ظاهرة صارخة واضحة جلية كالشمس، هذه الأشجار أشجار للزينة، أشجار للظل، هذه تزرع وهي دائمة الخضرة، كأنها مظلة أوراقها صغيرة تتراقص مع الرياح، شيء جميل جداً، هذه الشجرة صممت خصيصاً كي تستظل بها. 

هناك أشجار من أجل أن تزين الجبال مثل الصنوبريات، أشجار صممت في بنيتها، وفي شكلها، وفي أوراقها، وفي ديمومة خضرتها من أجل أن تكون غابات، هذا تصميم الخالق.

هناك أشجار صممت كي تأكل من ثمارها، أنواع الأشجار المثمرة. 

هناك أشجار صممت كي تستفيد من خشبها، هذا خشب زان لصنع الأثاث، هذا خشب كندي لصنع النوافذ، لم كان له هذه الخاصة؟ لئلا يتأثر هذا الخشب بالماء، والمطر، والهواء، والشمس، على العوارض الجوية يبقى محافظاً على استقامته، وعلى خصائصه، إذاً هذه الأشجار صممت خصيصاً لصنع النوافذ، وهذه الأشجار صممت خصيصاً لتكون أخشابها مرنة متينة لتلقي الصدمات، فالحداد يضع خشب التوت تحت سندانه، فإذا هوى بمطرقته على الحديد إن طبيعة هذا الخشب فيه ألياف متينة ومرنة تمتص هذه الصدمات. 

هناك نباتات ذات أشواك، سماها علماء النبات نباتات حدودية. 

هناك نباتات تعطيك الليف كي تتنظف به.

هناك نباتات تعطيك السواك.

هناك نباتات تعطيك الخلّة من أجل تنظيف الأسنان، ومن أجل معالجة بعض أمراض الكلية.

هناك نباتات تتغذى من سوقها.

هناك نباتات تتغذى من أوراقها.

هناك نباتات تتغذى من أزهارها.

هناك نباتات تتغذى من ثمارها.

هناك نباتات تتغذى من جذورها، البصليات كلها.

هناك نباتات تُخزَّن (القمح، والشعير، والحمص، والعدس ) محاصيل تنضج في وقت واحد، أما الفواكه فتنضج تباعاً، ولها برنامج زمني. 

ظاهرة النبات وحدها والله الذي لا إله إلا هو لو فكر الإنسان فيها ملياً لأخذه العجب العجاب، كأن الله يقول: كيف تكذبون وأمامكم هذه الظاهرة؟ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ .

 

نظام الذكورة والأنوثة في الكون :


من جعل هذا النظام نظام التذكير والتأنيث في النباتات؟ في النبات الواحد أعضاء مذكرة وأعضاء مؤنثة، أو أشجار مذكرة كما هو في التين، وأشجار مؤنثة، وكما في الصنوبريات أشجار مذكرة وأشجار مؤنثة، أو أعضاء التذكير والتأنيث في النبات الواحد، من جعل هذا التزاوج أعطاك هذه الفاكهة؟ انظر إلى التفاحة، انظر إلى حجمها المناسب، وشكلها الجميل، ورائحتها العطرة، وقوامها الذي يتناسب مع أسنانك، وطعمها الطيب، وغذاؤها، وسكرها، وفيتاميناتها، كلها مجتمعة في هذه الفاكهة، اللون، والشكل، والقوام، والطعم، والفائدة. كان النبي إذا دخل بيت الخلاء يقول: الحمدُ للهِ الذي أذاقَنِي لذتَه، وأبقى عليَّ قوتَهُ، وأذهبَ عنِي أذَاه .

أي هذا الطعام فيه قوة، وفيه لذة، وفيه أذى، الأذى أذهب الله عنا الأذى بعد قضاء الحاجة، والقوة ؛ تحس بعد الطعام والشراب بأنك قوي، هذه قوة الغذاء، والطعم، هناك من يأخذ مواد عن طريق الأوردة والشرايين، وهناك من يأكل ما لذّ وطاب من الطعام، إذاً في الطعام لذة، وفيه قوة، وفيه أذى، فالأذى أذهبه الله عنك، والقوة بقيت في جسمك، والطعم الطيب أذاقك الله إياه.

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ هذه الآية تكفيهم، فإذا لم يَجُل فكرُ الإنساِن في هذه الآيات البينة فالطريق إلى الله غير سالك، لأن: 

﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)﴾

[ سورة الجاثية ]

نحن في الدنيا لا نستطيع أن نرى الله عز وجل، لكننا نستطيع أن نرى آثاره، الكون كله من آثاره، فإذا وقفنا عند الأثر عرفنا المؤثر، نظرنا إلى الكون عرفنا المكِّون، نظرنا إلى النظام عرفنا المنظم، نظرنا إلى الصنعة عرفنا الصانع، نظرنا إلى الخلق عرفنا الخالق، تعرف الصانع، والخالق، والمنظم، والمكوِّن، والمحكم من حكمته، والقدير من قدرته، والغني من غناه.  


التأمل في خلق السماوات والأرض باب واسع من أبواب معرفة الله عز وجل:


أيها الإخوة الأكارم... باب واسع من أبواب معرفة الله عز وجل، وهو التأمل في خلق السماوات والأرض ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾  أي آية بين أيدينا تحت سمعنا وبصرنا، ظاهرة النبات فقط، نباتات زاحفة مثل البطيخ، نباتات متسلقة كالخيار والبندورة، نباتات عملاقة، نباتات على شكل أشجار، نباتات أرضية كالفريز، نباتات تحت الأرض كالكمأة، نباتات غالية، نباتات رخيصة، نباتات من أجل أن نأخذ منها الألوان، نباتات من أجل أن نأخذ منها الأدوية، الأدوية من النبات، والألوان من النبات، وبعض حاجاتنا من النبات، حتى هناك نباتات نصنع منها سبحاتنا، المسابح، نباتات خاصة، هناك نباتات نستفيد منها كأواني لوضع الطعام كأنها نحاس، نباتات للحدود بين البساتين شوكيات كلها، نباتات معمِّرة، نباتات سريعة، النخلة تعيش ما يزيد عن ستة آلاف عام، هناك نخيل من عهد الفراعنة ويعطي كل عام، هناك نباتات تعطينا الزيت، الزيتون، أي التفكير في الآيات آية آيةً، واللهِ حينما يأكل الإنسان يفكر، هذا كرز، هذا تفاح، هذا مشمش، هذا إجاص، هذه خضار، هذه فواكه، هذه بقول، هذه محاصيل، هذه حبوب،﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ المؤمن يأكل ويفكر، ولكن الكافر يأكل كما تأكل الأنعام، والنار مثوىً لهم، الدواب تأكل، ولكنها تأكل وكفى، أما المؤمن فيأكل ويفكر، وما جعل الله هذه النباتات إلا من أجل أن نفكِّر، بل إن هناك الأزهار مئات، بل ألوف الأنواع، الأبصال وحدها مئات الألوف، كل زهرة لها لون، ولها طبع خاص، هذه تحتاج إلى الشمس، هذه إلى تيار الهواء، هذه إلى الظل، هذه إلى ماء غزير، هذه إلى ماء قليل، هذه تحتاج إلى منطقة مرتفعة وباردة، هذه إلى دافئة، هذا نبات استوائي، كل نبات له طبيعة، أليس ظاهرة النبات آية دالة على عظمة الله عز وجل، فربنا عز وجل بعد أن ذكر تكذيب المكذبين قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ أي لو رأينا هذه الآية لعرفنا الله عز وجل، وإذا عرفناه لا بدّ من أن نعبده، ويستحيل أن نكذب، أي كأن الطريق إلى الله عز وجل هو التفكر في خلق السماوات والأرض، هذه بداية الطريق.

 

كفر الإنسان بالآيات مع قوة وضوحها وعظمتها :


﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)﴾ الذي يؤلم أن الآيات صارخة، والآيات واضحة.

﴿ ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)﴾ ﴾

[ سورة الذاريات ]

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[ سورة يونس ]

ومع ذلك ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ .

﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)﴾

[ سورة المؤمنون ]

انظروا إلى المصير: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)﴾آيات القرآن، أو آيات الأكوان، هذه تتلى قراءةً، وتلك تتلى تذكيراً، ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ(106)﴾ غلبت علينا شهواتنا، استعجلنا، اتبعنا الشيء العاجل ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)﴾ هذه النتيجة.

 

من عاند الحق قصمه الله :


﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)﴾ عزيز لا ينال جانبه، ورحيم لمن تاب، فهذه دعوة الله عز وجل، من عاند الحق قصمه الله عز وجل، من ركب رأسه أذله الله في العالمين، من أراد أن يحارب الله ورسوله بات في خسران مبين، من أراد أن يطفئ نور الله فلا بدّ من أن ينهزم، لأن الله عز وجل يقول: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ عزيز لا ينال جانبه، رحيم بخلقه.

الحقيقة هذه السورة فيها ست قصص، وكل قصة تنتهي بهذه الآية: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)﴾ لماذا قال الله عز وجل: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا – يا محمد - فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(6)﴾ إن شاء الله في الدرس القادم نتطرق إلى قصة سيدنا موسى مع فرعون، كيف أن فرعون كذب سيدنا موسى، ثم كيف أن الله أهلكه، فجاءت الحوادث تؤكد دعوة سيدنا موسى، وتشير إلى تكذيب فرعون للنبي موسى، وكيف أنه دفع الثمن باهظاً، وهكذا قوم سيدنا إبراهيم، قوم سيدنا موسى، قوم سيدنا لوط، نبيًا بنبي، وقومًا بقوم ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)﴾ أي قصة سيدنا موسى مع فرعون.

في الملخص في آخر القصة: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)﴾ إلى أن: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)﴾ هذه الآيات تأتي بعد كل قصة، سبع قصص في هذه السورة تؤكد هذه الآية: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ يجب على الإنسان أن يتعظ، كل قوم كفروا وكذبوا أهلكهم الله عز وجل، وكل إنسان إلى آخر الدوران إذا كذب بالحق لا بدّ من أن يهلك.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور