وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 141 - 159 ، قصة سيدنا صالح مع قوم ثمود ـ درجات الطائعين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

من صفات المؤمن العدالة والضبط :


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس العاشر من سورة الشعراء. 

أيها الإخوة الأكارم؛ في الدرس الماضي تحدثنا عن أنواع منوعة من المذنبين، ومن لوازم هذا الموضوع الحديث عن أنواع منوعة من الطائعين، فكما أنّ في الدرس الماضي دركات العصاة، في هذا الدرس موضوع آخر متعلق بدرجات الطائعين.

قبل كل شيء ورد:" رأس الدين الورع" ، و" ركعتان من وَرِع خير من ألف ركعة من مُخَلِّط" ، و" من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله" .

وفي هذا الموضوع شيء آخر، هو أنّ من صفات المؤمن العدل والضبط، العدالة والضبط أو العدل والضبط.

الضبط: صفة عقلية، والعدالة: صفة نفسية، هناك أشياء إذا فعلها الإنسان سقطت عدالته، وقد ورد" من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحُرمَتْ غيبته".

أي من عامل الناس فلم يظلمهم، فمن ظلم الناس سقطت عدالته، وحدثهم فلم يكذبهم، مَن كذَب الناسَ سقطت عدالته، ووعدهم فلم يخلفهم؛ مَن أخلف الناسَ وعدَه سقطت عدالته، من فعل هذا، من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته. 

 

الفرق بين سقوط العدالة وجرح العدالة:


لكن بعض العلماء يفرق بين سقوط العدالة وبين جرح العدالة؛ سقوط العدالة شيء، وجرح العدالة شيء آخر، فمن أكل لقمة من حرام فقد جرحت عدالته، تطفيفٌ بتمرة، إذا رجح الميزان، رجحت كفة البضاعة عن الحد المطلوب بمقدار تمرة فقد جُرحت عدالة المؤمن، مَن تنزه في الطريق، وفي الطريق كاسيات عاريات، مائلات مميلات فقد جُرحت عدالته، مَن صحب الأراذل فقد جرحت عدالته، من أطلق لفرسه العنان فقد جُرحت عدالته، من قاد برذوناً، أي حيوان مخيف أخاف به الأطفال فقد جُرحت عدالته، مَن مشى حافياً فقد جُرحت عدالته، من أكل في الطريق فقد جرحت عدالته، من كان حديثه عن النساء جرحت عدالته، أي فلان عدالته مجروحة أي إناءٍ مشعور، أما عدالته ساقطة، إناء المكسور، الفرق بين سقوط العدالة وبين جرحها كالفرق بين الإناء المكسور وبين الإناء المشعور، مَن علا صياحه في البيت حتى سمعه مَن في الطريق فقد جُرحت عدالته. 

إذاً هناك سقوط العدالة، وهناك جرح العدالة، و كما قلت قبل قليل ورد:  رأس الدين الورع، وركعتان من وَرَع خير من ألف ركعة من مُخَلِّط، و من لم يكن له وَرَع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله. 

 

أقسام الورع أربع درجات :

 

1 ـ ورع العدول :

الآن بعضَ العلماء الأجلاَّء قسَّم الورع إلى أربع درجات.. الدرجة الأولى هي ورع العدول، أي هؤلاء لا يفعلون شيئاً حرمه الشرع، أو لا يفعلون شيئاً حرمته فتاوى الفقهاء، يا سيدي كسب هذا المال حرام أم حلال؟ يقول لك المفتي أو مَن تستفتيه: حرام، ترك الحرام يجعلك في مستوى ورع العدول، فيما يتعلق بكسب المال، وإنفاق المال ـ والعلاقات الاجتماعية، ومعاملة الزوجة، ومعاملة الأولاد، في أيّ علاقة لك مع الآخرين هناك موقف يعد في الشرع حلالاً، وموقف آخر يعد حراماً، فمن ترك المحرمات، أو من ترك ما أفتى به الفقهاء على أنه حرام فقد كان في مرتبة سماها بعض العلماء: مرتبة ورع العدول، أما الذي يخترق هذه الحرمات يقع في الفسق حتماً، وتسقط عدالته، ويثبت عصيانه، وربما انتهى إلى النار مصيره، مَن خرق هذه الحرمات، من خرق أوامر الشرع، من تجاوز الحد المعقول، من خرج عن دائرة القبول، هذا تسقط عدالته، ويثبت فسقه وعصيانه، وقد يقوده عمله إن لم يتب منه إلى النار، طبعاً الحد الأدنى من الاستقامة أن تكون في هذا المستوى، الحد الأدنى من التدين، من الورع، من طاعة الله عز وجل أن تكون في هذا المستوى، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

أنت مخير، ولكنك إذا عرفت حكم الله عز وجل ينتهي اختيارك؛ هذا حكم الله، انتهى الأمر، أي تنتهي حريتك كما يقولون عندما تبدأ حرية الآخرين، هناك تعديل لهذا القول؛ تنتهي حريتك حينما تعرف حكم الله عز وجل، هذا حرام حَرَّمه خالق الكون، تعليمات الصانع، أخي أنت لماذا تغض بصرك عن محارم الله؟ أنا أنفذ تعليمات الصانع، لماذا تمتنع عن هذه الأرباح الفاحشة بطريق غير مشروع مع أن أحداً لا يراقبك؟ أنا أنفذ تعليمات الصانع، فورع العدول هو الحد الأدنى، ومن نزل عن هذا الحد كان خارج الإسلام، لأن المسلم هو الذي انقاد إلى أوامر الله كلها طواعية، وهذا المعنى المقبول للعبودية لله عز وجل، غاية الخضوع لله عز وجل مع غاية المحبة، لذلك ورد:" ما آمن بالقرآن مَن استحل محارمه".. و" ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه"، لكن كما أن المعاصي درجات، والعصاة أنواع، كذلك الطاعات درجات، والطائعون أنواع منوعة. 

2 ـ ورع الصالحين : 

المرتبة الثانية هي ورع الصالحين، ورع الصالحين مرتبة أعلى من مرتبة ورَع العدالة، فالصالح يمتنع عما يتطرق إليه احتمال التحريم أي يدع الشبهات، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ ، كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ. ))

[  صحيح البخاري ]

هناك رأيٌ ضعيفٌ أنه يجوز أن تفعل ذلك، أمّا رأي جمهور العلماء فلا ينبغي أن تفعل ذلك، يوجد فتوى عثرت عليها في كتاب تجيز أن تأكل هذا المال، لكن ما هم عليه أهل السنة والجماعة يمتنعون عن السماح بأكل هذا المال، إذاً مادام هناك شبهة، ما دام هناك وجه من أوجه الحرام، ما دام هناك دليل ظني، ما دام هناك قضية خلافية فيها أخذ وفيها رد، فالصالح يدعُ الشبهات ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ..)) .

إذا أردت الفتوى فقد تجد لكل مخالفة فتوى، قد تجد لكل معصية تغطية، أما إذا أردت التقوى فَلْتأْخُذْ بالأحوط، تدع الشبهة وتبقى في البيّنة، مَن ترك ما اشتبه عليه كان لما استبان أترك، ومن وقع فيما اشتبه عليه كان لما استبان أوقع، دائماً الشيطان إذا استطاع أن يقنعك أن تأخذ بشبهة جرك إلى شيءٍ واضح، جرك إلى معصية صريحة، وإذا بقيت متمسكاً بترك الشبهات، كانت هذه الشبهات التي تركتها هامشَ أمانٍ بينك وبين الحرام، لذلك: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ)) .

 في العلاقات المالية، في الاجتماعية، في كل مشكلة، في كل موقف الحلال بيّن، والحرام بيّن، والمشتبهات إن كنت صالحاً تدعها لله، تدعها وترتاح، تدعها وتنام نوماً هانئاً، تدعها وتستريح، تدعها ويطمئن قلبك، الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطّلع عليه الناس، ما دام هناك قلق، ما دام هناك تساؤُل، ما دام هناك حرج، فالأمر فيه شبهة، وترك الشبهات من صفات الصالحين، أحياناً يقول لك: أنت تزوجت زواجاً شرعياً، بإيجابٍ وقبولٍ وشاهدين، وانتهى الأمر، ثم طلقت بعد مدة محدودة طلاقاً شرعياً، لا عليك، ولكن أترضى لابنتك أن تتزوج زواجاً مؤقتاً؟ الصيغة صحيحة، لم يكن التوقيت مشروطاً، صح، إيجاب، وقبول، ومهر، وشاهدا عدل، فالزواج صحيح، لكن أنت تنوي أن تطلق بعد حين، أيضاً الطلاق شرعي، فظاهر الإجراءات كله صحيح، لكن أنت لم تنوِ التأبيد في هذا الزواج، نويت التوقيت، ولو أن هناك من يقول: هذا يجوز، مثلاً مذهب ابن حنبل يجوّز ذلك، هذه شبهة، إذاً دع هذه الشبهة لما استبان لك، أي فرضت هذا المثل، هناك أشياء، هناك من يدعمها بفتوى، وهناك من يجد لها في بعض الكتب سماحاً، أو إجازة، فالصالح يدع الشبهات، ويبقى في البيّنات، كما يقول بعض العلماء: ليس كل شبهة يجب اجتنابها، ولكن كل شبهة يستحب اجتنابها إذا كنت صالحاً.   

3 ـ ورع المتقين:

المرتبة الثالثة أرقى من هاتين المرتبتين هي ورع المتقين؛ التقي يمتنع عن الحرام أصلاً، وعن الشبهات أصلاً، ويمتنع عن بعض الحلال مخافة أن يصل به إلى الحرام، هذا الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: عن عطية بن عروة السعدي الصحابي قال: قال رسول الله ﷺ: 

(( لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ. ))

[ الترمذي، حسن ]

  فالانغماس في المباحات قد يجر إلى بعض المعاصي، وقد يجر إلى ترك مجالس العلم، الانغماس في الشيء الذي أحله الله عز وجل، المبالغة به، قد يجر إلى حبّ الدنيا، وإلى الطمأنينة لها، فالتقيُّ لا يدع الحرام فقط كالعدل، ولا يدع الشبهة فقط كالصالح، ولكن يدع الحرام، ويدع الشبهة، ويدع المباح، ليس كل المباح، يدع بعض المباح مخافة أن يصل به هذا المباح إلى محرم، لذلك صحَّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ:

((  إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ. ))

[ رواه أحمد ]

أي إذا جعلت النعيم همَّك الأول، المباح، المشروع، إذا تفننت في أنواع الطعام والشراب، إذا تفننت في أنواع المتع المباحة، فهذه المتع المباحة قد تجرك إلى الدنيا، قد تجعلك تخلد إلى الأرض، قد ترغبك في الدنيا، قد تبعدك عن مجالس العلم، قد تبعدك عن طلب العلم، قد تبعدك عن الهمة العالية في العمل الصالح، قد تحملك على أن تجمع المال من أجل أن تنفقه في هذه المباحات، قد تحملك على الجُبن، قد تحملك على الخَوف، قد تبعدك عن خطر تتوهمه من أجل أن تبقى في دنياك كما تريد، هذه المباحات قد تجر الإنسان شيئاً فشيئاً إلى بعض الشبهات، والشبهات تجر إلى المحرمات وهكذا، لذلك التقي أحياناً يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (( لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ)) يدعم هذا القول وهذه المرتبة قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ، فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ)) قد تتنعم، وقد تسعد، وقد تُسر في بيتك، وقد يبارك الله لك في مالك، وقد تتنزه، هذا كله يأتي إكراماً من الله عز وجل، أمّا أن يكون مقصوداً لذاته، أما أن تسعى من أجله، فهذا يتناقض مع رسالة المؤمن في الحياة، لا تنسَ قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يُدعى إلى اللهو يقول:" لم أخلق لهذا"، يقول سيدنا عمر رَضِي اللَّه عَنْه: << كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام >> أما الآن فالإنسان يكفي أن يتعلق على فتوى لإنسان، أَيّ إنسان، يقول لك: بذمته إن شاء الله، برقبته، لا تحل معك المشكلة، اللهَ عز وجل أمرك بالتمحيص، أمرك بالتدقيق، الله سبحانه وتعالى قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾

[  سورة آل عمران ]

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾

[  سورة الزمر ]

((  النبي عليه الصلاة والسلام وهو أعظم المخلوقات قدراً عند الله عز وجل قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))

[ صحيح البخاري ]

لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه، فهذا الإنسان الذي يتعلق بفتوى، يتعلق برأي العالم، ويأخذ في بعض الشبهات، هذا إنسان ربما انتقل شيئاً فشيئاً إلى المحرمات، لا تنسَ أن بعض المباحات تقودك إلى بعض الشبهات، وأن بعض الشبهات تقودك إلى بعض المحرمات، وإذا وقع الإنسان في الحرام انقطع عن الواحد الديان، فإذا انقطع عن الله عز وجل أصبح في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، الله سبحانه وتعالى يخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات. 

 4 ـ ورع الصّديقين :

بقي معنا شيء، بقيت معنا الدرجة الرابعة وهي ورع الصديقين، الصّديق طبعاً يدع الحرام، ويدع الشبهات، ويدع بعض المباحات، ويدع ما سوى الله، قال تعالى: 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)﴾

[  سورة المؤمنون ]

اللغو كل ما سوى الله، لأن الإنسان يعيش حياة محدودة، هذه الحياة المحدودة هي إعداد لحياة أبدية، فأية دقيقة تذهب سدى يحاسب عنها الإنسان يوم القيامة، لذلك حتى المؤمن لا يندم إلا على شيء واحد؛ على ساعة مرَّت لم يذكر الله فيها، لذلك ربنا عز وجل قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)﴾

[  سورة الأحزاب ]

أي المؤمن كل وقته، وكل جهده، وكل طاقته لربه، وهذا الذي سأل بعض شيوخه، قال له: كم الزكاة يا سيدي؟ قال له: عندنا أم عندكم؟ قال: ما عندنا وما عندكم؟ قال الشيخ: عندكم اثنان ونصف بالمئة، أما عندنا فالعبد وماله لسيده، أي يوجد عندنا السابقون السّابقون، وعندنا أصحاب اليمين:

﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)﴾

[  سورة الواقعة ]

أصحاب اليمين ناجون، ولكنّ المقربين.. 

﴿  إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾

[  سورة القمر ]

يجب على الإنسان أن يطلب أعلى درجة في الجنة، أخي أنا أريد وراء باب الجنة فقط، لمَ وراء الباب فقط كُنْ بصدرها، المؤمن طموح، حتى في الجنةَ طموح، فعليه أن يطلب الجنة في أعلى مراتبها، لذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ :

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾

[  سورة الحج ]

والباب مفتوح على مصراعيه، وكل شيء لا علاقة له بالآخرة لن تستفيد منه شيئاً:

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾

[  سورة الكهف ]

 

في حياة كل إنسان شيئان ؛ شيء يفنى وشيء يبقى :


في حياتك شيئان؛ شيءٌ يفنى، وشيءٌ يبقى، فكل عمل متعلق بشيء يبقى فهو منتهى الذكاء، ومنتهى التوفيق، ومنتهى العقل، وكل جهد تبذله من أجل شيء يفنى فهو خسارة في خسارة، وهذا معنى قول الله عز وجل:

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾

[  سورة العصر ]

أنه هو بضعة أيام، الأيام تمضي، الإنسان مُسْتَهلَك، حينما يستهلك الوقت يستهلك هو، لأن الإنسانَ وقت، فكُلما مضى يوم مضى يوم من عمره، وعمره مجموعة أيام، إذاً مضى بضع منه، فمرور الوقت فيه خسارة للإنسان، إلا إذا آمن وعمل صالحاً وتواصى بالحق وتواصى بالصبر: 

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر ]

فهذا الصّدّيق يدع الحرام، ويدع الشبهات، ويدع المباح الذي يؤدي إلى شبهة، ويدع فوق هذا كل ما ليس له علاقة بالله عز وجل، أي الشيء الذي لا يوصله إلى الله والدار الآخرة خارج اهتمامه. 

هذه بعض المراتب، مراتب الورع، أما أن يعد الإنسان مسلماً وهو غارق بالمعاصي فهذا شيءٌ يحتاج إلى جهد كبير، وإلى توبة نصوح، حتى يرقى في سلم أهل الإيمان. 

 

قصة سيدنا صالح عليه السلام :


عودة إلى القصة التي تركناها، والتي وصلنا إليها في الدرس الماضي، وهي قول الله عز وجل: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(145)﴾ هذه الآيات تتكرر في كل قصة بالضبط ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ﴾ أي من قومهم، من أبناء جنسهم، من بني جلدتهم، منهم، من بلدتهم﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾ وتحدثنا بالتفصيل في درس ماض عن التقوى، ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسولٌ أَمِينٌ﴾ ، وقد ورد:"  العلماء سُرُجُ الدنيا ومصابيح الآخرة"، والعلماء أمناء الله على خلقه، أي هناك أمانة، هناك أمانة التبليغ ألقاها الله على كاهل الأنبياء، وهناك أمانة التبيين ألقاها الله على العلماء: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)﴾.

 

من صفات المؤمن تقديم الخدمات الدعوية من غير أجر :


﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(145)﴾ من صفات المؤمن أنه يعطي، ويقدم خدماته للناس من دون أن ينتظر منهم أجراً، قال تعالى: 

﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)﴾

[  سورة يس ]

القضية أنا أشبهها بمثل؛ رجل ميسور الحال قال لك: عَلِّم ابني درساً، وخذ على كل درس مليون ليرة، فَرَضاً، أما إذا تقاضيت منه شيئاً فلن أعطيك شيئاً، فهل يعقل أن تقبل بمئة ليرة على هذا الدرس وتضيع مليون ليرة؟! فهذا الذي يفعل شيئاً من أَجْل الله عز وجل له عند الله ثواب كبير، أما إذا تقاضى على عمله أجراً، أو طمع في الأجر، أو طلب أجراً، فقد أسقط ثوابه، وأحبط عمله.

 

أهل الدنيا يحسبون لكل شيء حساباً إلا الموت :


﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾ واللهِ هذه آية دقيقة جداً، يا قوم: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾ .. الأيامَ تمضي، اليوم استيقظت بحالة طيبة، وصحة جيدة، يا تُرى كلّ يوم هكذا إلى ما شاء الله أما أن هناك حداً تنتهي هذه الحياة؟ أهل الدنيا يحسبون لكل شيء حساباً إلا الموت، يعدون لكل شيء عدة إلا الموت، قال تعالى: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾ ، وقد ورد:" بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟" ماذا ينتظر؟ تمضي سنة، وسنتان، وثلاث، وربيع، وخريف، وصيف، وشتاء، بالصيفِ نلبس الخفيف، ونذهب إلى المتنزهات، وبالشتاء نُرَكِّب المدافئ، ونأكل الحلويات، ونلبس الملابس الشتوية، أي صيف، شتاء، ربيع، خريف، من صف لصف، من معهد لمعهد، من جامعة لجامعة، من صفقة لصفقة، من وظيفة لوظيفة، وإلى متى؟ يا تُرى إلى ما شاء الله؟ لا ! هناك حَدّ ، بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ أي إن لم يكن له وجهة إلى الله عز وجل، إن ألقى بهذا الدين جانباً، إن جعل القرآن وراء ظهره، إن قال: إن هذا الدين خرافة، إنه مجموعة غَيْبِيَّات، إنه تعبير عن حالة الضعف التي يعانيها الإنسان القديم، هذا الذي يقول لك: الدين كذا وكذا ماذا ينتظر من الدنيا؟، ورد:" بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا" قد يأتي الفقر فجأة، الذي أعطاك هذا المال قادر على أن يأخذه منك في لمح البصر،"هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا" هناك نوع من الغنى يحمل صاحبه على الفجور والعياذ بالله، فهذا الغنى بلاء من الله عز وجل، لي عليكم فريضة ولكم عليّ رزق، لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك فَلأَسلطنّ عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك، ولا أبالي، وكنت عندي مذموماً، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد، أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد." هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا" هناك أمراض وبيلة تفسد على الإنسان حياته، تجعل حياته جحيماً لا يطاق.

 هذا الذي لا يريد الدين، يحب الدنيا فقط، ينطلق إليها بكل طاقته، لا يرى إلا الدنيا، هي مبلغ علمه، منتهى أمله، منتهى علمه؛ الكلام لهؤلاء،" ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟  هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا" ما مات، تقدّمت به السن حتى ضعف عقله، وانحنى ظهره، وضاق أفقه، وأصبح على هامش الحياة، وأصبح عِبْئاً على أهله، يتمنى أقرب الناس إليه الموت، أصبحت حياته لا تطاق، أما المؤمن الصادق عاش ستاً وتسعين سنة سمعه مرهف، وبصره حاد، وأسنانه في فمه، وقامته منتصبة، يقال له: يا سيدي ما هذه الصحة؟ قال: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً، من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت. 

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) ﴾  

[ سورة الجاثية ]

مستحيل هذا الكلام: ﴿سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ هذا المؤمن الذي استقام على أمر الله، الذي غضّ بصره عن محارم الله، الذي ضبط لسانه، الذي ضبط حواسه، هذا الذي أنفق ماله، هذا الذي جلس في المساجد ليتعلم كتاب الله، هذا يعاملُ كما يعامل الفاسق؟ الفاجر؟ المنحرف؟ الذي يأكل المال من حلال أو من حرام، هكذا ظنكم برب العالمين؟ ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ أي حياته، زواجه، عمله، وظيفته، تجارته، هذا كهذا سواء؟ أليس للمؤمن ميزات أبداً؟ هذا ظن الذين كفروا. 

﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)﴾

[  سورة الفتح ]

" هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا" يَخْرِف، لكن من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، هذه ضمانة يا أيها الإخوة، واللهِ التقيت مع أُناس بالتسعين، بالسابعة والتسعين، ولهم ذاكرة طيبة، ولهم شخصية قوية، بفضل القرآن الكريم، لذلك اقرؤوا القرآن، تعلموا القرآن، طبقوا القرآن، فهو ضمانة لمستقبلكم، ضمانة لخريف العمر، بقي:" أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ" ، هنا قال سيدنا صالح: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾ هذه البيوت الفخمة في المصايف، هل أصحابها هُم هم من مئة عام؟ لا ! اختلفت الأمور، إما أن الورثة أخذوا هذه البيوت، أو أن البيوت بيعت إلى أشخاص آخرين، المحلات التجارية الضخمة في الأسواق المهمة أصحابها قبل مئة عام هٌم هم؟ لا ! اختلفوا: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾ أي كل فترة يحدث تبدل، أصحاب البيوت، أصحاب الحوانيت، أصحاب البيوت الجميلة في المصايف، أصحاب المركبات الفخمة يتبدل الحال من إنسان إلى إنسان.

 

الإسراف بالمعصية بعد الأمن والنعيم :


﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)﴾ .. أي طَلعُها طيِّب.. ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)﴾ .

 (طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ أي لطيف، أو تعني الرّطب اللين، أو الرّطب النحيل، أو الذي ليس فيه نوى، أو الناضج، أو المكتنز، هذا كله من معاني ﴿طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ ، ومعنى ﴿فَارِهِينَ﴾، ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ﴾ بمعنى نشيطين، أو بمعنى حاذقين بنحتها، أو بمعنى متجبرين، أو بمعنى أشرين بطرين، أو بمعنى معجبين، أو بمعنى أقوياء، أو بمعنى فرحين، هذه معاني ﴿فَارِهِينَ﴾ .

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)﴾ الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعصية، وقال بعض العلماء: هم الذين عقروا الناقة فاستحق قومهم الهلاك بعقرها.

 

اتهام المنحرفين للمستقيمين بالسحر والجنون :


 ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)  قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ أي أنت لأنك خرجت عن دين قومك فقد ضاع عقلك، فأنت مسحور، أو يوجد معنى آخر، المسحَرين أي الذين يأكلون، أي أنت تأكل مثلنا الطعام، ما الذي جعلك تفضلنا به؟ إما أنه اختلّ عقلك، وإما أنك بشر مثلنا، هذا معنى المسحرين.

 

مرحلة تحدي ثمود لنبيهم صالح عليه السلام :


﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(154)﴾ الآن بدأ التحدي، إن كنت نبياً صادقاً فائتِ بآية، طبعاً من صفات المعجزة أنها تأتي بعد التحدي، وهؤلاء قوم سيدنا صالح تحدوه، وجعلوا بينهم وبينه حداً فاصلاً، إما أن تأتي بآية، وإما إنك كاذب.

 

معجزة ناقة صالح :


﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ .. قالوا: إن كنت نبياً صادقاً فأخرج لنا من هذا الجبل ناقة تشرب من هذا الماء، فقال النبي الكريم سيدنا صالح، طبعاً بأمر الله عز وجل وبقدرته، هذه ناقة الله: ﴿لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ هي تشرب الماء يوماً، وأنتم تشربون يوماً ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)﴾ ، ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ الواو واو الجمع، الذي عقرها واحد، لأنهم أقروا عقرها، وأقروا فعلته، فقد شاركوه في الإثم، فربنا عز وجل قال: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ مع أن الذي عقرها واحد إشارة إلى أن الذي يرضى عن فعل مجرم فهو مثله في الإثم، الذنب شؤم على غير صاحبه، من رضي به شاركه في الإِثم، ومَن شمت به فقد وقع فيه، ومن ذكره فقد اغتابه: ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾ .. حينما بدت ملامح العذاب ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)﴾ .

هذه كلها قصص، وهذه القصص تقع في كل يوم، أي هذا الذي يقع في الأرض من زلازل، من كوارث عامة، هناك تفسيرات علمية له، وهناك تفسيرات إلهية له، فربنا عز وجل:

﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾

[ سورة هود ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور