وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 175 - 160 ، قصة سيدنا لوط مع قومه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

كل شيء مخلوق هو خير مطلق ولكن الخطأ في سوء الاستخدام :


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الحادي عشر من سورة الشعراء.

في الدرس الماضي وصلنا إلى قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(164)﴾ هذه الآيات تتكرر في مقدمة كل قصة، وفي دروس سابقة شُرِحت كلمة (التقوى)، وشُرِحت كلمة (رسول أمين ) بالتفصيل، واليوم ننتقل إلى مضمون القصة. 

﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)﴾ .. إنّ كل شيءٍ خلَقه ربنا سبحانه وتعالى خيرٌ مطلق، ولكن حينما يسيء الإنسان استخدام الشيء يقع في مشكلة كبيرة بمعنى نضرب على هذا مثلاً؛ المعمل الذي صنع السيارة، صنعها كي تحقق الراحة للإنسان، صُنعت كي تنتقل بالإنسان من مكان إلى مكان، فإذا أساء السائق استخدام السيارة، إذا أهمل صيانتها، إذا غفل في أثناء قيادتها تدهورت به، فهذا التدهور شر، ولكن هذا الشر ليس مخلوقاً إنما نتج عن سوء استخدام المركبة، أو عن تقصير في تنفيذ تعليمات الشركة الصانعة، لذلك هؤلاء القوم، قوم لوط، لماذا أهلكهم الله عز وجل؟ لأنهم عبّروا عن شهوتهم بطريقة غير صحيحة، بطريقة شاذة، بطريقة لم يرض الله سبحانه وتعالى عنها، الله سبحانه وتعالى خلق الزوجين الذكر والأنثى، وخلق المرأة بطريقة تكمل الرجل، وخلق الرجل بطريقة يكمل المرأة، فإذا ما حصل انحراف، أو شذوذ، فهذا شرّ مستطير، ليس ناتجاً عن خَلق الإنسان، لا ! ناتج عن جهله، وعن تفريغ شهوته بطريقة غير مشروعة، كأن الدين جاء ليبين للإنسان طريقة استعمال كل شيء، طريقة التعامل مع كل شيء، طريقة الاستفادة من كل شيء.

 إليكم مثلاً تقريبياً: لو وضعنا السكر في الطعام، في الطبخ، فهذا الطعام لا يؤكل، مع أن الطبخ ثمين جداً، والسكر ثمين، إذا وضعنا الملح في الشاي، الشاي لا يُشرب، إذا وضعنا مسحوق التنظيف مع الطعام فالطعام لا يؤأكل، فحينما نسيء استخدام هذه المواد نقع في شر مستطير، أي الشر لا وجود له في الأصل، الكون خيرٌ مطلق، ولكن الشر ناتج عن جهلٍ في استعمال الأشياء، عن جهلٍ في التعامل مع الأشياء، عن جهلٍ في طريقة استخدام الأشياء، هذا هو الشر. 

هؤلاء قوم لوط خالفوا سنة الله في خلقه، ربنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7)﴾

[  سورة المؤمنون ]

أي عدوان، هذه الشهوة التي أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفةً تجري فيها، بشكل أعم، ما من شهوة أَوْدَعها الله في الإنسان إلا وخلق لها طريقةً نظيفةً مثاليةً يقرها المجتمع، ويقرها الله عز وجل لتفريغ هذه الشهوة، والحديث اليوم عن شهوة الجنس، فهؤلاء الذين خرجوا عن الطريق الصحيح، الذين خرجوا عن الأسلوب الصحيح وقعوا في العدوان، لأن هذه المرأة حينما خُلقت خُلِقت لتشكل مع الرجل أسرة نافعة، أي السعادة كل السعادة حينما يحقق الإنسان سنة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الزواج، فهذه زوجةٌ طاهرةٌ، وفيةٌ، صادقة، ثمرة هذه العلاقة أولادٌ، يعرفون أمهم وأباهم، ينشؤون في بيت إسلامي، فيه التوجيه، فيه العلم، فيه الأخلاق، هذا هو التخطيط الإلهي. 

قلت لكم سابقاً: إن امرأة تعمل في المسارح سئلت: ما شعورك وأنت على خشبة المسرح؟ قالت وهي صادقة: شعور الخزي والعار، وهذا شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الجمهور، إن الحبّ يجب أن يبقى بين الزوجين، وفي غرفٍ مُغلّقة، هذه هي الفطرة، حينما أودع الله في الإنسان شهوة المرأة جعل لها نظاماً دَقيقاً دقيقاً، القرآن الكريم طافح بالآيات التي تنظم علاقة الرجل بالمرأة، نظام الأسرة، نظام الخِطبة، نظام العَقد، نظام الشهود، نظام الإرضاع، نظام الطلاق، هذه كلها ضافية في القرآن الكريم، أحكام كثيرة ضافية تنظم علاقة الرجل بالمرأة، أما حينما يسلك الإنسان لتفريغ شهوته طريقًا لم يخلق له، طريقا شاذاً، فقد وقع في شرٍّ خطير، لأن الإنسان حينما ينحرف، أو حينما يعتدي، والانحرافُ والاعتداءُ هما شيءٌ واحد لأنه: 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]

الانحراف يسبب شعوراً بالكآبة، لأن الله سبحانه وتعالى فطر الإنسان فطرةً عالية، قال تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[ سورة الروم ]

فإذا فعل الإنسان شيئاً يُرضي الله عز وجل، ويُدَّعم الخير في المجتمع، ويسبب سعادة الآخرين، إذا فعل الإنسان هذا الشيء شعر بسعادة وطمأنينة، واستقرت نفسه، فإذا أفسد أخته في الإنسانية، أو إذا اعتدى على أعراض الناس، فقد حطمهم، وحطم نفسه.

 

إنكار لوط عليه السلام على قومه مخالفتهم للفطرة :


لذلك ربنا سبحانه وتعالى هذه المعصية الكبيرة جعل قوم لوط عبرةً للناس ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)﴾ أي أنتم معتدون، لأن الله سبحانه وتعالى جعل لهذه العلاقة مكاناً نظيفاً، ويثمر طفلاً يعين أبويه حينما يكبران، لكن الطريق الشاذ طريق قذر، وطريق يسبب تحطيماً لنفسية الصغير، وشعوراً بالذنب من قِبل الكبير، إن هذا كله يفتت المجتمع. 

 

تهديد قوم لوط نبيّهم بإخراجه من الديار :


﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ أي نحن مصرون على هذه الشهوة: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ عن تنبيهنا، وتوجيهنا، ولومنا سوف نخرجك من أرضنا ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ .

 

الأصل البراءة من المعصية وبغضها وإنكارها :


ما كان من سيدنا لوط إلا أن قال: ﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾ أنا أبغض عملكم، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: عن العرس بن عميرة الكندي:

(( إذا عُمِلتِ الخطيئةُ في الأرضِ؛ كان من شهِدَها فكرِهَها كمن غاب عنها ، و من غاب عنها فرضيَها كان كمن شهِدَها. ))

[  صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث: حسن: أخرجه أبو داود ]

أي من واجب المؤمن إذا رأى معصية أن ينكرها حتى ينجو من عذاب الله، ما معنى قول الله عز وجل:

﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)﴾

[ سورة الأنفال ]

أي إذا وقعت المعاصي من أناسٍ وسكت الباقون، لم ينكروا لا بقلوبهم، ولا بألسنتهم، ولم يغيروا هذا المنكر بأيديهم، فقد عمّ هؤلاء جميعاً بلاء الله عز وجل، لأن سكوتك عن إنكار المنكر دليل أنك رضيت به، من هنا ورد: " الذنب شؤم على غير صاحبه، إن ذكره فقد اغتابه، وإن رضي به شاركه في الإثم، وإن عَيَّره ابتلي به ".

﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾   أي إذا فُعِلَت المعصية، إذا فُعلتْ المنكرات، وسكتَ المسلمون، ولم يُنكروا هذا لا بقلوبهم، ولا بألسنتهم، ولا بأيديهم، فقد عمهم بلاء الله عز وجل، ومن هنا السكوت عن الحق ذنب كبير، ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)﴾ .. اللهم إن هذا منكرٌ لا أرضى به. طبعاً مَن استطاع أن يزيل المُنكر بيده لا يَقبل الله منه أن ينكره بلسانه، ومن استطاع أن ينكرَ المنكر بلسانه لا يقبل الله منه أن ينكره بقلبه، كل حالة لها حكم، إذا كان بإمكانك أن تزيل هذا المنكر، ابنتُك في البيت مثلاً، لك عليها سلطة، فإذا خرجت بطريقة غير إسلامية، وقلتَ: اللهم إن هذا منكر لا أرضى به، لا ‍! هذا ليس منك مقبولاً، لأنه بإمكانك أن تنكره، وأن تزيله بيديك، لكن متى يُقبل إنكار اللسان؟ إذا تعذر تغيير المنكر باليد، متى يقبل إنكار القلب؟ إذا تعذر إنكار اللسان.

 

من استقام على أمر الله جعل الله له معاملة خاصة :


﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170)﴾ قال ربنا عز وجل:

﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)﴾

[ سورة إبراهيم ]

إذا كنتَ في مجتمع فاسق، إذا كنتَ في مجتمع فاسد، واستقمتَ على أمر الله استقامة تامة، فالله سبحانه وتعالى جعل لك معاملة خاصة، لك طريقة خاصة عند الله عز وجل تنجو بها من عقاب الآثمين، اذكر هذه الآية في نفسك:

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾

[  سورة الرعد ]

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبـنا               فإنا منحنا بالرضـــا مَن أحبنا

ولُـذْ بحمـانا واحتــــمِ بجنابنــــــا               لنحميـك مما فيه أشرار خلقنا

* * *

إذاً ربنا عز وجل حدثنا عن سيدنا يونس حينما وقع في اليم والتقمه الحوت قال: 

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88)﴾

[  سورة الأنبياء ]

انتهت قصة سيدنا يونس، وجاء التعقيب الذي جعل هذه القصة قانوناً شاملاً: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ في كل زمان، وفي كل مكان، في كل ظرف، في كل عصر، في كل مصر، من أي جنس ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟ 

 

تعظيم حرمات الله :


﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170)﴾ الحقيقة هذا استهتار بأوامر الله عز وجل، قوم لوط استخفوا بأوامر الله، لم يقيموا لها وزناً، لم يعبؤوا بها، لم يعطوها ما تستحق من التعظيم، إذاً ماذا على المؤمن أن يفعل؟ هنا سؤال دقيق، نحن حينما نقرأ هذه القصة نحن المقصودون منها، أي هؤلاء دمرهم الله عز وجل وانتهى ذكرهم، وأصبحوا قصة، وحينما أصبحت هذه القصة قرآناً  معنى ذلك أنها درس بليغ لكلِ إنسان حتى نهاية الدوران، فما الحكمة؟ ما الموعظة؟ ما الدرس البليغ الذي يمكن أن نستنبطه من هذه القصة؟ هؤلاء قوم لوط استخفوا بأوامر الله، خالفوا سنة رسولهم خالفوا أمر ربهم، خالفوا القانون الذي وضعه الله للإنسان، خالفوا التخطيط الإلهي للأسرة، خالفوا القناة التي سمح الله بها لإفراغ الشهوة، خالفوا نظام الكون، خالفوا تعليمات الصانع، خالفوا تعليمات المربي، خالفوا أمر ربهم فأهلكهم الله عز وجل، فماذا ينبغي على المؤمن أن يفعلَهُ؟ المؤمن عليه أن يعظّم حرمات الله، الدرس الذي يمكن أن يُستنبط من هذه القصة أن على المؤمن أن يعظم حرمات الله، قوم لوط استخفوا بحرمات الله، تجاوزوا الحدود، خرقوا القوانين، خالفوا التخطيط الإلهي، خالفوا التصميم، خالفوا تعليمات الصانع، أما المؤمن فيعظم حرمات الله.

استمعوا أيها الإخوة الكرام إلى هذه الآية الكريمة: 

﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)﴾

[  سورة الحج ]

العلماء قالوا: ما معنى تعظيم حرمات الله؟ أو بالأصل ما هي حرمات الله؟ قال العلماء: حرمات الله مغاضبه، أيْ الشيء الذي إذا فعلناه غضب الله عز وجل، الطلاق مثلاً إذا طلق الرجل امرأته من غير شبهة، من غير سبب، يهتز له عرش الرحمن، الشيء الذي  يُغضبُ الله عز وجل، الشيء الذي إذا فعلته غضِب رب السماوات والأرض، وإذا غضب الله على إنسان فقد انتهى هذا الإنسان:

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)﴾

[ سورة محمد ]

إذا كان قوم لوط خاطئين، وإذا كانوا منحرفين، فاسدين، معتدين، تجاوزوا الحدود، فما موقف المؤمن إذاً؟ موقف المؤمن تعظيم حرمات الله، حرمات الله مغاضِبُه، أي الأشياء التي إذا فعلناها غضب الله علينا، وحرمات الله ما نهى الله عنه، ما معنى تعظيمها؟ ترك ملابستها، لكن المؤمن لا يدع المعصية فقط، يجعل بينه وبين المعصية هامشَ أمان، نهر عميق له شاطئ زَلِق، فالحكمة تقتضي أن أدع بيني وبين النهر مسافة كبيرة، نسميها: هامش الأمان، لذلك ربنا عز وجل قال: 

﴿ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾

[ سورة البقرة ]

هناك حدود لله عز وجل، إذا اقتربت منها جذبتك إليها، كيف أن بعض التيارات الكهربائية، بعض الأسلاك الكهربائية التي يجري فيها تيار يزيد عن آلاف الفولطات، إن هذا التيار يشكل حوله ساحة مغناطيسية، بحيث إن الإنسان إذا اقترب منه جذبه التيار وأحرقه، لذلك يضعون مسافةً واسعةً حول أسلاك الكهرباء ذات التوتر العالي، هذه المسافة هي هامش الأمان، وأنت أيها المسلم لابد من أن تضع بينك وبين حرمات الله أي مغاضِبَه هامش أمان، الزنا يُغضب الله عز وجل، الله عز وجل قال: 

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)﴾

[ سورة الإسراء ]

أي أن تصاحب زانياً، أن تسهر سهرة مختلطة، أن تذهب إلى أماكن مشبوهة، أن تتجول في طرقات فيها نساء كاسيات عاريات، أن تقرأ أدباً رخيصاً، هذا كله اقتحام لهامش الأمان، هذه منطقة خطرة ربما جذبتك إلى الزنا، لذلك ما حَرُمَ فعله حَرُمَ استماعه، وحرُم النظر إليه، وحرُم الحديثُ عنه، ما حَرُم فعله - هذه قاعدة أصولية- ما حرم فعله حرم استماعه، ما حرم فعله حرم النظر إليه، ما حرم فعله حرم الحديث فيه، هذا هامش الأمان، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ لذلك الشريف ليس الذي إذا واجه الزنا لا يزني، لكنه الذي يبتعد عن أسباب الزنا، فكل صديق سوء، كل رفيق سوء، كل أدب رخيص، كل عمل فني رخيص، كل سهرة مشبوهة، كل نزهة مختلطة، هذا كله من أبواب الزنا.

 

تعظيم حدود الله وأوامره: 


بعضهم قال: حرمات الله، ما وَجَب القيام به وحَرُم التفريط فيه. وبعضهم قال: حرمات الله ما وجب حفظه واحترامه، ربنا عز وجل قال: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ ، أدقُّ تفسير لهذه الآية هو الدرس البليغ الذي يمكن أن يستنبط من هذه القصة، " الحرمة: التحرُّج عن المخالفات " ، انظر التحرج، هذا التحرج كلمة على وزن تفعُّل، وزن تفعُّل له معنيان لطيفان، فلان تأثَّم على وزن تفعَّل، بمعنى خرج من الإثم، تأثَّم، تحوَّب خرج من الحوب، فلان تولَّج دخل في الشيء، فلان تمنَّى دخل في الأمنية، لذلك وزن تفعَّل فيه معنى الدخول أو الخروج، فإذا قلنا: فلان تأثَّم أي ابتعد عن هذا الشيء مخافة أن يقع في الإِثم به، فما هو تعظيم حرمات الله؟ التحرج عن المخالفات والمجاسرات، التحرج، والتحرج: الخروج من الحرج أي منطقة ضيقة، مشبوهة، مخيفة، زلقة، ذات أبعاد خطيرة ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ يبتعد عن كل شبهة، لذلك عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: 

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ؛ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ. ))

[ صحيح البخاري ]

أول شيء: ومَن يعظم حرمات الله، هناك شخص يرى أن أمر الله عز وجل شيء عظيم، بينما إنسان آخر يستخف بهذا الأمر، كما أقول دائماً: هان الله عليهم فهانوا على الله، الإنسان أحياناً يهون الله عليه، يهون أمره عليه، لا يبالي أكان كسبه من حلال أم من حرام، لا يبالي أصلّى أما لم يُصَلِّ، لا يبالي أصدق أم كذب، لا يبالي أخان أم أخلص، لا يبالي أَفعلَ ما يرضي الله أم فعلَ ما يسخطه، أي هان الله عليه، كيف يهون الله على إنسان؟ إذا هانت أوامره عليه؛ فإذا هان الله عليك هُنْتَ على الله، وحينما ترى المسلمين بأعداد كثيرة يزيدون عن ألف مليون، وليست كلمتهم هي العليا فالتفسير سهل جداً: هان الله عليهم فهانوا على الله:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور ]

القضية إمّا على مستوى جماعي، أو على مستوى فردي، فإذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر ما لله عندك، إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فانظر ما لله عندك، هل أمْره عظيم عندك؟ لذلك قالوا: مِن تعظيم الأمر والنهي أن تطيع الله عز وجل لا خوفاً من عقوبته، ولا طمعاً في ثوابه، ولا مراءاة لخلقه، هذا الذي يعظّم أمر الله ونهيه، يطيع الله عز وجل لا طمعاً في ثوابه، ولا خوفاً من عقوبته، ولا مراءاةً لخلقه، إنَّ الله عز وجل يستحق العبادة، جاء في الأثر:  لو لم أخلق جنةً ولا ناراً أمَا كنت أهلاً لأَنْ أعبد؟  فأن تعبد الله من دون طمع بما عنده في الجنة، ومن دون فزع لما ينتظر العاصي من عذاب، ومن دون أن ترائيِ أحداً من خلق الله، إذا فعلت هذا فأنت ممن تعظّم أمر الله ونهيه، أما إذا أردت بأمر الله منفعتك الدنيوية، أو خفت من عقاب أليم، أو أردت أن يمدح الناس استقامتك، فهذا التعظيم لأوامر الله تشوبه شائبة كبيرة. 


  الفرق بين الزلفى وبين حسن المآب والزيادة :


شيء آخر؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى عن أحد الأنبياء:

﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)﴾

[  سورة صَ ]

ما الفرق بين الزلفى وبين حسن المآب؟ ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ ، قال العلماء: حسن المآب الجنة، لكنّ الزلفى القرب، كأنْ يدعوك ملِك إلى طعام نفيس، تدخل قصره، وتأكل من طعامه، وليس بينك وبينه مودة، لكنّ الملك أحياناً قد يدعوك إلى طعام نفيس، ويبتسم في وجهك، يصافحك، يرحب بك، يجلسك إلى جنبه فهذه زلفى بمعنى التقريب، أي أرقى شيء في الدين أن تتقرب من الله عز وجل ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى﴾ أي قرب ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ فإذا نزَّهتَ طاعتك عن أن تكون مشوبة بطمع، أو خوف، أو مراءاة كافأك الله بالزلفى، والزلفى التقريب، لذلك: 

فلو شاهدَتْ عيناك مِن حســـننا        الذي رأوه لمـا وليت عنا لغيرنا

* * *

هذه الزُّلفى، وأمّا حسن المآب فيعني الجنة. 

آية ثانية: 

﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾

[ سورة يونس  ]

الزيادة: القرب من الله عز وجل، وفي بعض التفاسير النظر إلى وجه الله الكريم. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ النظر إلى وجه الله الكريم، فكلما ارتفع إخلاصك ارتفعت مكافأتك، إذا عظمت أمر الله عز وجل، نحن نتحدث عن تعظيم أمر الله، لأنّ قوم لوط استهانوا بأمر الله، استخفوا به، خرقوا الحدود، مَن خرق الحدود - كما قال ابن عطاء الله السكندري - فهو من الحضرة مطرود، ماذا يقابل هذا؟ يقابل هذا أن تعظّم حرمات الله، تعظيمُ حرمات الله أن يكون أمره ونهيه في منأى عن الطمع، أو عن الخوف، أو عن المراءاة، إذا فعلت ذلك ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ ، ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ ..

القرب من الله عز وجل، القرب له ثمن واضح جداً، يقول سبحانه وتعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[  سورة الكهف ]

باب الله مفتوح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(( رُبَّ أشعَثَ أغبَرَ ذي طِمرَينِ لا يُؤبَهُ لهُ لَو أقسَمَ علَى اللَّهِ لأبرَّهُ. ))

[ مشكلة الفقر: خلاصة حكم المحدث: صحيح: أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار))   ]

باب الله مفتوح، ثمن الدخول العمل الصالح، والعمل الصالح يرفعك: 

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) ﴾

[ سورة الأحقاف ]

لذلك هناك من يريد الله ويريد ما عنده، وهناك من لا يريد الله ولا يريد ما عنده، وهناك من يريد ما عند الله، هذا الذي يتاجر بالاستقامة، يتاجر بها، الاستقامة من أجل أن يرزقه الله رزقاً كثيراً، أي يبحث كلّ استقامته معلولة بعلل تجعلها ليست خالصة لوجه الله عز وجل.

 

من تعظيم أمرِ الله تعظيمُ آياتِه :


شيءٌ آخر؛ من تعظيم أمر الله تعظيم آياته، مثلاً: سئل الإمام مالك رَضِي اللَّه عَنْه هذا السؤال: " ما معنى الرحمن على العرش استوى " ؟ سُئِل: كيف استوى؟ أطرق مالك مليّاً، وتصبب عرقاً، ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، هذا كلام دقيق جداً، أي ربنا عز وجل كيف يعلم؟ كيف هو حي؟ ما معنى أنه قادر؟ ما معنى أنه مريد؟ كيف؟ وكما جاء في الحديث: 

(( ينزلُ اللهُ كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا، حين يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ ، فيقولُ: من يدعوني فأستجيبُ له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرُني فأغفرُ له. ))

[ تمام المنة: خلاصة حكم المحدث: متواتر ]

كيف يغضب الله عز وجل؟ كيف يرضى؟ كيف يرحم؟ كيف يضحك؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(( عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل. ))

[ صحيح البخاري ]

 فكلمة العجب، وكلمة الضحك، وكلمة الرضا، وكلمة الغضب، وكلمة العلم، والإرادة، والسمع، والبصر:

﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾

[ سورة طه ]

كل هذه الكلمات التي وصف ربنا بها نفسه يجب أن تقف موقف الإمام مالك، الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإذا أردت أن تسأل كيف يعلم الله عز وجل؟ كيف يرى؟ كيف يسمع؟ هذا السؤال يقودك إلى ذات الله، والبحث في ذات الله خطر جداً، النبي عليه الصلاة والسلام نهانا عن أن نخوض في ذات الله،  وقد ورد: " تفكروا في المخلوقات، ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا "، فمن لوازم العبودية  هناك موضوعات خارج الخط الأحمر، هذه محظورٌ على العبد أن يخوض فيها، لأن الخوض فيها مزلة قدم، وهلاك محقق، لذلك من تعظيم كلام الله أن تقف عند الأوصاف التي وصف بها نفسه مِن دون تعطيل، أو من دون تجسيم، أوضح لكم ذلك: العصمةُ النافعة في هذا الموضوع أن تصف الله عز وجل بما وصف نفسه قال: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾   كيف؟ لا أعرف، لكنه يسمع ويرى. 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[ سورة الفتح ]

هكذا قال الله عز وجل، كيف؟ لا أعلم، فيجب أن تثبت أسماء الله وصفاته من دون تشبيه، ويجب أن تنفي عن الله عز وجل كل ما يُشبه مخلوقاته، يجب أن تثبت من دون تشبيه، ويجب أن تنفي من دون تعطيل، ويجب أن تقول: ليس كمثله شيء، هذه صفة الموحد، لذلك أهل السنة والجماعة لا يشبهون، ولا يعطلون، لا يجسدون، ولا يعطلون، الآية لا نعطلها، لما قال ربنا عز وجل: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ هذه لا تعطّلها، لكن أيضاً لا نشبه الله عز وجل بمخلوقاته، أهل السنة والجماعة لا يشبهون ولا يعطلون، هذا الموقف المعتدل، كل ما وصف الله به نفسه تؤمن به كما جاء في القرآن، وكما جاء في سنة النبي العدنان، من دون زيادة ولا نقصان، هذا الموقف المعتدل، هذا من تعظيم أمر الله. 

أول تعظيم: أن يكون خالصاً من الطمع، والخوف، والمراءاة، والتعظيم الثاني: ألا تجسد، وألا تعطل، وأن تؤمن بما وصف الله نفسه، وبما وصف النبي ربه جل وعلا، من دون زيادة ولا نقصان، أنت إنسان لا يمكن أن تحيط بالواحد الديان، مستحيل، إذاً قف في حدود الأدب، وكن في حد النص.

 

من تعظيم حرمات الله الأدب مع الله :


شيء آخر يتعلق بالأدب مع الله عز وجل، من تعظيم حرمات الله، قوم لوط استخفوا بأوامر الله، وخرقوا الحدود، فأهلكهم الله عز وجل، قال العلماء: إذا استقام الإنسانُ على أمر الله، وعمل صالحاً ارتقت نفسه في سلم المعرفة، فإذا اتصل بالله عز وجل شعر بالسرور، وتجلى الله عليه باسم الباسط، أي تجده مسروراً، لكنْ هنا مزلقٌ خطير، ما هو هذا المزلق؟ المزلق الخطير أن يكون مع الانبساط جرأة، جرأة تخرجك عن عبوديتك، فإذا الإنسان سُرَّ، صلى قيام الليل، تجلى الله على قلبه، بكى بكاءً شديداً، ذابت نفسه محبة لله، لا ينبغي أن يقوده هذا الانبساط إلى الجرأة على الله عز وجل، مِن أخطار الانبساط الجرأة، أحياناً تقرِّبُ إنساناً وتكرمه فيتطاول عليك بعد ذلك، يتكلَّم كلمةً زائدة يتجاوز بها حده، أمّا كلما قرّبته يزداد أدباً هذه أعلى درجة في العبودية لله عز وجل، فالإنسان بحالات التقريب الإلهي لا ينبغي أن يتكلم كلمة مع خلق الله، لا ينبغي أن يحتقر خلق الله، لا ينبغي أن يدِلّ على الله بعمله، لا ينبغي أن يتيه على الناس باستقامته، بإقباله، بصلاته، بحفظه لكتاب الله، بأعماله الصالحة الكبيرة التي مَنَّ الله بها عليه، فمِن تمام الأدب مع الله أن الله عز وجل إذا تجلى عليك باسم الباسط أي إذا كنت في حالة الانبساط لا ينبغي أن يقودك الانبساط إلى سوء الأدب مع الله عز وجل.

هناك أشخاصٌ ينجذبون، يقول لك: سبحاني، هذه كلمة فيها سوء أدب مع الله، ما أعظم شأني، أي بساعة الإقبال الشديد، بساعة الغيبوبة غاب عن الوعي، فقال: سبحاني، ما أعظم شأني ! هذا الانبساط قاده إلى الجرأة.

 

من تعظيم حرمات الله أن السرور بالاتصال بالله يحمل الإنسان على الشعور بالأمن :


من تعظيم حرمات الله أن السرور بالاتصال بالله عز وجل قد يحملك على الشعور بالأمن، أمنٌ معه راحةٌ ومعه كسل، أي عَمِلَ أعمالاً صالحة، اتصل بالله اتصالاً شديداً، فاسترخى، شعر بالأمن، لذلك قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قبل أن يموت كلمات شَكَّ تلامذته في أحواله، قبل أن يموت كان يقول: " كلا بعدُ، كلا بعدُ، كلا بعدُ، قالوا: ما هذا؟! كأنهم خافوا على إيمانه، ثم توفاه الله عز وجل، رآه أحد تلامذته، قال: يا سيدي ماذا فعل الله بك؟ وما قولك: كلاّ بعدُ؟ فقال: جاءني الشيطان، وقال لي: لقد دخلت الجنة، فقلت: كلا بعدُ حتى يُخْتَم عملي " هناك شخص يعمل أعمالاً صالحة، يلازم مجالس العلم، فيكتفي، يقول: أنا ضمنت الجنة، مَن قال لك ذلك؟ يجب ألا تأمن، لا تأمن إلا إذا دخلت الجنة، ما دمت في الدنيا فأنت في دار ابتلاء، ما دمت في الدنيا فهناك أخطار، مادمت في الدنيا فهناك مزالق، لذلك عن أنس بن مالك:

(( كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثرُ أن يقولَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك فقلت يا نبيَّ اللهِ آمنَّا بك وبما جئتَ به فهل تخافُ علينا؟ قال نعم إن القلوبَ بينَ إصبعينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ. ))

[ صحيح  الترمذي ]

 

من تعظيم حرمات الله عزوُ الفضل إليه سبحانه :


الشيء الأخير؛ من تمام الأدب مع الله عز وجل أنك إذا أكرمك الله بعمل طيب، إذا أكرمك بحال طيب، إذا أكرمك بقلب سليم، إذا أكرمك بتجلٍّ كبير، إذا أكرمك بإقبال شديد، فلا ينبغي أن تعزو هذا إليك، أنا أخي جهودي الكبيرة الجبارة في هذه السنوات الماضية قادتني إلى هذا الحال الطيب، لا، هذا من فضل الله عليك: 

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾

[ سورة النساء ]

وقال سبحانه: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)﴾

[ سورة النور ]

لذلك من سوء الأدب مع الله أنك في ساعات الإقبال تنسى أن هذا من فضل الله عليك، تعزوه إلى قدرتك، إلى استقامتك، إلى بطولتك، هذا من سوء الأدب مع الله، فالذي ساقنا إلى هذا المَوْضِع هو أن قوم لوط لماذا عصوا ربهم؟ استخفّوا بالله عز وجل، استخفّوا بأمره، استهزؤوا بقوانينه، لم يعبؤوا بوعده ولا بوعيده، ففعلوا خلاف ما أمر؛ وخرجوا عن مقتضى حال بني البشر، وأساؤوا، وتجاوزوا الحدود، واعتدوا فأهلكهم الله عز وجل، أمّا المؤمن فالحالة الصحيحة عنده أنه يعظم حرمات الله ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ .

أول تعظيم: أن تكون طاعتك خالصة عن الطمع، والخوف، والمراءاة. 

وثاني أنواع التعظيم: أن تقف في آيات الكتاب الكريم عند الحدود التي قالها الله عز وجل، من دون تجسيد ولا تعطيل. 

والشيء الثالث: ألا يقودك الانبساط إلى الجرأة، وألا يقودك السرور إلى الأمن، وألا يقودك الشهود إلى أن تعزو هذا إليك. 

 

مَن والى قومًا فهو منهم :


﴿رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ(171)﴾. . امرأتُه والتْ قومها، أحبّتْ قومها، شيء خطير، ورد: " من هوي الكفرة حشر معهم، ولا ينفعه عمله شيئاً " أي الإنسان إذا رأى إنساناً منحرفاً أحبَّه، وأخلص له، وأقام بينه وبينه علاقة حميمة، فهذا دليل المجانسة، لأنه مَنْ جانَس جالس، ومن جالس جانس، فمَن هَوِيَ قوماً حشر معهم، مَن هوِيَ الكفرة حشر معهم ولا ينفعه عمله شيئاً، فهذه امرأة لوط خانتْ زوجها خيانةَ الدعوةِ، ومالت إلى قومها المنحرفين، فاستحقت الهلاك. 

 

عاقبة قوم لوط : 


﴿إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)﴾ .. يقول المفسرون: إن الله سبحانه وتعالى خسف بهم الأرض، وأمطر عليهم حجارة من السماء، لذلك الأئمة أئمة الفقه استنبطوا من هذه الآية أن عقوبة من يفعل فعل قوم قوط أن يلقى من شاهق أو أن يضرب بالحجارة حتى يموت،  والنتائج الطبيعية لهذا العمل مرض الإيدز، ذلك الشبح المخيف الذي يهدد أمن البشرية الآن، أي في المجتمعات الغربية، وفي أمريكا، وفي أوروبا، وفي أفريقيا، يوجد إصاباتٍ بأعداد مخيفة، وحتى الآن ليس هناك دواء ناجح، وهذه عقوبة عاجلة. وفي بعض الأحاديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: 

(( يا مَعْشَرَ المهاجرينَ ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم ، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا ، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم ، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم ، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم. ))

[ صحيح الجامع:  خلاصة حكم المحدث: صحيح: أخرجه ابن ماجه ]

وكلكم يقرأ، ويسمع، ويطالع عن هذا المرض الخطير، مرض نقص المناعة، وربنا سبحانه وتعالى جعل هذا المرض الخطير عقاباً عاجلاً لهؤلاء المنحرفين، والإحصائيات الدقيقة أن تسعين بالمئة من حالات هذا المرض بسبب فعل قوم لوط، تسعون بالمائة , وهناك قسم قليل للمخدرات ومعاقرة الخمر والزنا، لكن هذه المعاصي الكبيرة في مقدمتها فعل قوم لوط، ومصيرُ هذا مرض خطيرٌ خطير، أي شبح مخيف، تئنَّ تحت وطأته نفوس الملايين من الذين ألقوا أوامر الله عُرْضَ الطريق ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ(173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)﴾ هذا كلام الله عز وجل، أيُّ انحرافٍ في علاقة الرجل بالمرأة أو بغيرها مصيرُه إلى هذا المصير.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور