وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 15 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 201 - 214 عذاب الله بغتة في ساعة غفلة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.


  العاقل لا يدفع ثمن تعلمه الحقائق باهظاً:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس عشر من سورة الشُّعراء.

كان الدرس الماضي قد وصل إلى قوله تعالى: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ .. مِن شأن الإنسان الذي كرَّمه الله عز وجل بِالعَقل ألا يدْفَعَ الثَّمَن غالِيًا للحقائق التي يتعلّمها، فهل من الضروري أن ينفجر البيت حتى توقِنَ أنَّ الغاز مادّة خَطِرة أم من الضروري أن تأخذ الاحتياطات والتعليمات من دون أن تدفعَ ثمن هذا الدرس باهظاً؟ حياتنا حياة فيها شروط مُعقَّدَة جداًّ، فلأن الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان بالعقل، وبالعقل يستطيع أن يكتشف الخطر قبل وُقوعهِ، ما الفرق بين البهيمة والإنسان؟ البهيمة لا تكتشف الخطر إلا عند وُقوعه، لكنَّ الإنسان بما أكرمه الله به مِن عَقلٍ يستطيعُ أن يكتشف الخطر قبل وُقوعِهِ، فالعاقل هو الذي يحتاط للأمور قبل وُقوعها، أما الله سبحانه وتعالى نعى على هؤلاء الكفار أنهم لا يؤمنون به حتى يرَوا العذاب الأليم، هل من الضروري من أجل أن تكتشف أنَّ الربا يمحق المال أن يُدَمّر المال؟ إذا دُمِّر المال كلّه، وكُشِفَ لك في النِّهاية أنَّ الربا يُدمِّر المال، هذا الدرس دَفَعْتَ ثمَنَهُ باهظًا، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى بِما أنْعَمَ عليك من نعمة العقل يمكنك أن تكتشف به أنَّ الآية الكريمة قَطْعِيَّة الثبوت، وأنَّ معناها قَطعِيّ واضِح، وأنَّ هذا كلام الله عز وجل، وأنَّ الله سبحانه وتعالى إذا قال فَعَلَ، فلذلك إذا حكَّم الإنسانُ عقلهُ، وقرأ كتابهُ، وتَعَرَّف إلى القوانين القَطْعِيَّة والثابتة، عندئذ بدَلَ أن يدْفَع ثمن المعرفة باهظًا يدْفَعُ الثَمَن قليلاً، هل من الضروري من أجل أن تكتشف أنَّ الاختِلاط حرام أن يُضَحِي الإنسان بِزَوْجَتِهِ؟ 

 

عذاب الله بغتة في ساعة غفلة:


لذلك من يعطِّل فكره، من يُجَمِّدُ عقْلَهُ، هذا الذي لا يؤْمِن بالقرآن حتَّى يرى العذاب الأليم، فنحن المؤمنين إن شاء الله تعالى ينبغي أن نتعرَّف إلى الخطر قبل وُقوعِهِ، من خِلال كتاب الله عز وجل: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)﴾ .

هذه ساعة الغَفلة، أحيانًا يظنّ الإنسان أنَّ الأمور تجري هكذا، إلى ما لا نهاية، هذا خطأٌ كبير، هذا وهم كبير، الله سبحانه وتعالى يُرْخي الحبل إلى أن يظنّ الإنسان أنَّه لا حِساب، وأنَّه لا مسؤوليّة، وأنّه يفعَلُ ما يشاء، وأنّ الحق للقويّ، وأنّ السماوات والأرض هكذا خلقت، عندئذٍ يأتي عِقاب الله عز وجل بغْتةً فيَعْرف أنَّ في السماء إلهًا لا يغْفَلُ عن كلّ منْحَرِف، لذلك: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)﴾ عندئذٍ حينما يأتي العذاب بغْتةً، قد يكون العذاب مرضاً عُضالاً، وقد يكون فقْد حُرِيَّة، وقد يكون عذاباً، وقد يكون هَواناً وإهانةً، الإنسان حينما تأتيه المصائب عندئذٍ يرْجو ربَّهُ أن يؤخِّر له هذا العذاب، قال تعالى: 

﴿ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)﴾

[ سورة الدخان  ]

﴿ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)﴾

[ سورة الدخان ]

 

استعجال العذاب استهزاء:


﴿فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾ .. لكنَّ هؤلاء الكفار لِشِدّة كفرهم، ولشدة جُحودهم، ولبُعْدِهم عن ربِّهم، ولجهلهم بأسماء الله الحسنى يسْتعْجِلون بالعذاب اسْتِهزاءً:

﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)﴾

[ سورة الشعراء ]

 

الاستدراج مِن سنة الله في الكافرين:


جاء الجواب، هذا الجواب: سيّدنا عمر بن عبد العزيز كان إذا قام أو قعد، إذا دخلَ مجلس الخِلافة، قبل أن يحكم بين الناس يتلو هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ .. أحيانًا يقع الإنسان في شبهة، ما هذه الشبْهة؟ قد يرى أهل الدنيا يتمتَّعون بِصِحَّة جيّدة، وبأموال طائلة، وبِبُيوت فارهة، وبِمَركبات، يقول: ما هذه المُفارقة؟ المؤمنون مُعَذَّبون، ضِعاف، مستضْعفون، وهؤلاء الكفار المنافقون، الجاحدون، الملحدون، غارقون في النعيم وفي العِزّ وفي الجاه وفي كل ما لذَّ وطاب، هذه مِن حكمة الله عز وجل، الجواب في قوله تعالى: 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام  ]

هل من آية في القرآن الكريم أوْسعُ من هذه الآية؟ أبواب كلّ شيء، كلّ شيء له باب، أبواب المال، أبواب الملذَات، أبواب الجاه، ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ .

 

متاع الدنيا غرور قليل:


﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾

[  سورة آل عمران ]

المؤمن العاقل لا يمكن أن يتمنَّى أن يكون في وضْعٍ من الدُّنيا ممتازٍ على حِساب دينه، ما من إنسانٍ فيه ذرّة من إيمان لا يرضى ولا يتمنَى أن يكون مكان هذا الإنسان الغارق في ملذّاته، ولكن مكانه في جهله بالله، وفي جحوده، الآية الكريمة: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ الإنسان يعيش سنواتٍ معدودة، خمسون، خمس وخمسون، ستون، خمس وستون، سبعون، خمس وسبعون، خمس وثمانون، تسع وتسعون، مئة وخمس عشرة،  سنين، المئة والخمس عشرة سنين، ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ أي إنسان عاش عمرًا مديدًا من دون مرض، ولا ألمٍ، ولا فقْر، ولا همّ، ولا حزن، ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ ربنا عز وجل قال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)﴾ ، في آية أخرى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[ سورة النساء ]

خالق الكون يقول لك: قليل، ألسْتَ مُصَدِّقًا له؟! ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾.

آية ثالثة ؛ قال سبحانه وتعالى:

﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)﴾

[  سورة القصص ]

تملك أكبر شركة في العالم، شيء، تحتلّ أرقى مكانة في المجتمع، شيء، تملك أكبر رصيد في العالم ؛ شيء: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ قال تعالى: 

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[  سورة القصص ]

أي إذا أنت مؤمن خالق السماوات والأرض وعدك بالخير، وعدَكَ بالسَّعادة، وعدكَ بالجنة، وعدك بالرِّضْوان، وعدك بالقُرب، وعدك أن ترى وجهه الكريم: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ﴾ قطعاً:

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[ سورة النساء ]

وقال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[  سورة التوبة ]

﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ خُذْ من المال ما شئْت، وخُذْ من الجاه ما شئْت، وخُذْ من الصحة ما شئْت، وخُذْ من القوَّة ما شئْت وخُذ من الوسامة ما شئْت، لكنّ المصير إلى النار:

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)﴾

[  سورة آل عمران  ]

لمَّا خرج قارون بِزينته: 

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

[  سورة القصص ]

بالتَّعبير الفصيح هنيئًا له ! أحيانًا يرى الإنسان متاع الدنيا يسيل له لعابهُ، النبي الكريم علَّمنا أنك إذا رأيت بيتًا فخْمًا، مركبةً فارهةً، شيئًا من متاع الدنيا، كان يدعو ويقول: اللهمّ لا عَيْش إلا عَيْشُ الآخرة ! ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ .

 

الإنسان بِضْعة أيام والموت في النهاية مصيره:


﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ﴾ لذلك هؤلاء أهل الدنيا الذين أعرضوا عن الله عز وجل قد يُعطيهم الله الدنيا بحذافيرها، لكن ينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)﴾ .. الأيام تسير هكذا؟ الأمور تسير هكذا؟ كل يوم الإنسان يستيقظ صحيح الجِسم إلى ما شاء الله؟! تخطَّى الخمسين، تخطّى الستين، تخطَّى السبعين، لابدّ مِن يومٍ يشْكو ألمًا في أحد أعضائِه، هذا الألم يتفاقَم إلى أن يودِي بِحَياته، من هنا ورد: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا؟ أَوِ الدَّجَّالَ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ" ، ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)﴾ سنين معدودة ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ والإنسان بِضْعة أيام، كلَّما انقضى يوم انقضى بِضْعٌ منه.

إلى متى أنت باللَّـذات مَشْــغـول                 وأنت عن كلّ ما قدَّمْت مسؤول؟

* * *

 

البطل مَن يعد العدّةَ لساعة الفراق:


 ﴿ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ .. البطل هو الذي يُعِدّ العُدَّة لِساعة فِراق الدُّنيا، البَطَل هو الذي يُعِدّ العُدَّة لِنُزول القبر، البطل هو الذي يُعِدّ جوابًا لِكُلّ شيء لله عز وجل، لماذا فعلْت كذا؟ يا ربّ فعلْتُ هذا مِن أجلك، لماذا أعْطَيْتَ فلاناً؟ لماذا منَعْتَ فلانًا؟ لماذا غَضِبْتَ؟ لماذا ابْتَسَمْتَ؟ لماذا أنفقت؟ لماذا مَنَعْت؟ لماذا وَصَلْت؟ لماذا قَطَعْت؟ هذا هو السَّعيد، الذي يُعِدّ العدَّة لِخَالقِهِ:

﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾

[  سورة المطففين  ]

ورد في الأثر أنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: عن عائشة رضي الله عنها:

(( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، فسألَت السيّدة عائشة رضي الله عنها النبي عليه الصلاة والسلام قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! فَقَالَ: الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكَ . ))

[  صحيح البخاري ]

أي من دون طهور أيضاً، وقد سألتْهُ مرّةً ثانية: يا رسول الله أيَعرفُ بعضنا بعضًا يوم القيامة؟ قال: نعم يا أم المؤمنين إلا في ثلاثة مواضِع ؛ عند الصِّراط، وعند الميزان، وإذا الصّحف نشِرَت ‍! في هذه اللَّحظة لو وقعَتْ عَين الأم على ابنها، أو عَيْنُ الابن على أمِّه لا يعرفها، ولا تعرفهُ، وفيما سوى هذه المواقف قد يعرف الابن أمَّه، وقد تعرف الأمّ ابنها، تقول له: يا ولدي لقد كان صدري لك سِقاءً، وحِجْري وِطاءً، وبطني وِعاءً، فهل مِن حسنةٍ منك تجود بها عليّ؟ ماذا يقول الابن؟ ليْتني أستطيعُ ذلك يا أُمَّاه، إنَّني أشْكو مِمَّا أنت منه تشْكين.

 

لا ينفعك في الآخرة إلا عملك الصالح:


لذلك ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾ .. ماذا ينْفَعُكَ مالكَ حينما تُغادر الدنيا؟ ماذا تنفعُكَ اللَذائذ التي أمْضَيْت بها سنوات طويلة؟ ماذا ينْفعُكَ أصحابك؟ ماذا ينفعُكَ أهلك؟ ماذا ينفعُك من حولك؟ ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ لذلك أحد الصالحين اشْترى قبرًا، وكان يجْلسُ فيه كلَّ خميس، ويتْلو فيه قوله تعالى: 

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

فيخاطب نفسه ويقول: قومي لقد أرجعناك ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾ .. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))

[ المنذري : الترغيب والترهيب:  خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن ]

فلْينْظر ناظرٌ بِعَقْلِهِ أنَّ الله أكْرمَ محمَّدًا أم أهانهُ حين زوى عنه الدُّنيا؟ فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمَهُ فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا، لا شأن لها عند الله ؛ تافِهَةٌ؟

 

مِن عدل ورحمةِ الله بعباده الإنذارُ قبل الإهلاك:


﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾ .. لا بدّ من أنْ يسْبِقَ الإهلاك إنذارًا، وهذا من رحمة الله عز وجل، ﴿ذِكْرَى﴾ ننذرها ذكرى، نذكرها ذكرى ﴿ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾  الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس مثقال حبّة من خردل، يُروَى أنَّ سيّدنا عمر جاءهُ رجل قد سرق، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذه أوّل مرَّة قال: كذبْت ! هذه المرّة الثالثة ؛ إنَّ الله لا يفضح مِن أوَل مرَّة، فالله سبحانه وتعالى ينذر، يحذّر، حينما يُصِرّ الإنسان على خطئِهِ عندئذٍ يأخذه الله عز وجل بِذَنْبِهِ، وبعض الشُّعراء قال: 

نهارك يا مغْرور سَهْوٌ وغفلــــــــةٌ          وليـلـكَ نـومٌ والرَّدى لـــــــــــــــك لازِمُ

فلا أنت في الأيقاظ يقْظان حازم          ولا أنت في النُّوام ناجٍ فســــــــــالمُ

تُسَرُّ بما يفنى وتفرح بالمُنـــــــــى          كما سُرَّ بالـلَّـذات في النوم حــالِم

وتسعى إلى ما سوف تكْرهُ غِبَّــهُ          كذلك في الدنيا تعيش البهائـــــــمُ

[ الشاعر: عبد الله بن عبد الأعلى الشيباني ]

* * *

هذا الذي يعيش لِوَقته، للذَّتِهِ، لا يعي على خير، لا يرى ما سيكون، لا يُعْنى بالمستقبل، لا يفكر بِساعة اللِّقاء، هذا إنسان عطَّلَ تفكيرهُ، هذا مثلهُ كمثل البهيمة. 


  لا حظ للشيطان في نزول القرآن:


﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ﴾ .. هذا القرآن الكريم ما تنزَّلَت به الشياطين، إنَّه لقَول رسول كريم، قل: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)﴾، ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)﴾ لا ينبغي ولا يستطيعون: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ هذا الشيطان إذا أراد أن يسترق السَّمع يأتيه شِهاب ثاقب فَيُحْرقُهُ ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾

 

خطورة الشرك بجميع أنواعه:


﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ هذه الآية مركز الثِّقل في هذا الدرس، إنَّها تدور حول الشِّرْك. 

أوَّلاً: العلماء اتَّفقوا على أنَّ الشِّرك نوعان ؛ شِرْك جليّ وشِرْك خفي، شرْك ظاهر وشرك باطن، شرْك كبير وشرك صغير، ما هو الشِّرْك الجليّ؟ و ما هو الشِّرْك الكبير؟ و ما هو الشِّرْك الظاهر؟ الشِّرك الظاهر أنْ تدَّعِي جِهةً ؛ جمادًا أو حيوانًا أو إنسانًا أو كائنًا أن تدّعي أنه إله وتُسَوِّيهِ بِرَبِّ العالمين، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)﴾ .. كيف التَّسْوِيَة؟ أغلب الظنّ أنَّ هذا الذي يعبد صنمًا من دون الله لا يُصدِّق نفسهُ أنَّ هذا الصَّنَم يُسيِّر السماوات والأرض، ولكن كيفَ يُسَوِّي هذا الإنسان تلك الآلهة التي ادَّعاها من دون الله؟ إنَّ التَّسْوِيَة كما قال بعض العلماء في المحبّة والتَّعظيم والعبادة، إذا أحْببْتَ هذه الجِهة ولْتَكُن إنسانًا، إذا أحْببْتَها وعظَّمْتها وأطعتها فقد سوَّيْتَهَا بِرَبِّ العالمين، لأنَّ الجهة الوحيدة التي لا ينبغي أن يكون هذا لِسواها، إن الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُعظَّم، وأن تُحَبّ، وأن تُطاع هي الله سبحانه وتعالى، فأيُّ مخلوقٍ يتَّجِه إلى ما سوى الله تعظيمًا ومحبَّة وطاعةً فقد أشْركَ شِرْكًا كبيرًا، من علامات المُشْرِك أنَّكَ إذا تكلَّمْتَ عن إلهِهِ المزعوم اسْتشاط غضبًا، وأنَّكَ إذا دَغْدَغْتَ أفكارهُ ومشاعِرَهُ بالثَّناء عليه انتشى طربًا، هذا من علامات المشرك:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾

[  سورة النساء  ]

لكنَّ العلماء حمَلُوا هذه الآية على معنًى مُضْمر وهو: إن لم يتوبوا ‍! إن لم يتوبوا إن الله لا يغفر أن يشرك به.

الحقيقة أصْلُ الشِّرْك اعتِقادُ المُشْرك أنَّ هذا الذي يعْبُدُه من دون الله يستطيع أن ينقذهُ عند المِحَن، ويستطيع أن يشْفعَ له، هذا هو أصل الشِّرك، هؤلاء الذين يعتقدون أنَّ زَيْدًا أو عُبَيْدًا، أو أنَّ هذا الصَّنَم، أو أنَّ هذا النَّوْء، أو أنَّ هذا الحيوان بإمكانه أن يُبارك حياتهم، أو ينقذَهُم من المهالك، إذاً هم يعتقدون بهذه الأصنام أنّها تشفعُ لهم وتنجيهم من عذابٍ مُحَقَّق، هذا أصْل الشِّرْك، اعتقادُ الشَّفاعة، أصْل الشِّرْك فماذا يقول الله عز وجل عن الشَّفاعة؟ قال الله عز وجل: 

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255 )﴾

[  سورة البقرة  ]

إذاً ليس في الكون كله جهة تستطيع أن تنقذكَ، أو أن تشْفَعَ لك، أو أن ترقى بك إلا الله عز وجل، فكلّ من يعتقِد أنَّ جهةً من دون الله تستطيعُ أن تُنْجِيك، أو أن ترفعَكَ فهذا شِرْك.

 الآية الثانية:

﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

سبحان الله ! في القرآن ثلاث آيات مترابطة، الآية الأولى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ متى يأذن؟ عندما يَرْضى عن عمل الإنسان، وعن قوله، ومتى يرضى عن عمله وعن قوله؟ إذا كان مُوَحِّدًا لله تعالى، طائعًا له، سلسلة نُعيدها ثانيةً، كلُّ ما سِوى الله لا يستطيعُ أن يشفع لك عند الله، إلا إذا أذِنَ الله، متى يأذن الله عز وجل؟ إذا رضي عنك،  رضي عن عملك وعن قولك، متى يرضى عن قولك وعن عملك؟ إذا كنتَ موحِّدًا وطائعًا، إذاً:

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾

[ سورة الزمر  ]

 

مفهوم الشفاعة: 


شيء آخر ؛ أما شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام هذه لا علاقة لها بهذا الموضوع، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام سئل: يا رسول الله، من أسعد الناس؟ دقِّقوا في هذا الحديث، لأنَّ مفهوم الشفاعة مفهوم في أصله صحيح، ولكن أصاب هذا المفهوم تشْويهٌ وتزوير وتعطيل إلى الدرجة التي أصبحَت الشفاعة تُسبِّب للإنسان كسلاً، وقُعودًا، وتساهلاً في طاعة الله عز وجل، هذا الذي يعتقدُ خطأً، ويعتقِدُ متوهِّمًا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لن يدخل الجنَّة حتى يُدْخِلَ أُمَّتَهُ قبله ؛ على معاصيهم، وعلى انْحِرافاتهم، وعلى أغلاطهم، وعلى شرْكهم، وعلى عُدْوانهم، وعلى ظلمهم، فهو إنسانٌ واقعٌ في وهْمٍ كَبير كبير ؛ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . ))

[ صحيح البخاري ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام : مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، ولأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى بعضٍ من أُمَّتِهِ يوم القيامة، 

(( فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ الآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ:  عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة, فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله, ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله, كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم, ألا هلم, ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا. ))

[ صحيح مسلم  ]

والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ هذه آية أصْلٌ في نَفْي المفهوم الساذج والسَّخيف والمحدود في الشفاعة، ولكنَّ شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام حقّ، من يسْتَحِقّها؟ يسْتحِقّها مَن نجا مِن الشِّرْك، جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ:

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ. ))

[ صحيح البخاري  ]

خالصًا بها أيْ حَجَزَتْهُ عن محارم الله تعالى، كما ورد "من قال: لا إله إلا اللهُ مخلصًا دخل الجنةَ. قيلَ: وما إخلاصُها؟ قال: أنْ تحجزَهُ عنْ محارمِ اللهِ". 

إذاً الشَّفاعة لها معنى صحيح، ورَدَت فيها أحاديث صحيحة، إلا أنّ العامَّة والجهلة فَهِموها فهْمًا مُزَوَّرًا عطَّلوا بها العدالة الإلهِيَة، وعطَّلوا بها سَعْي الإنسان لِمَرضاة ربِّه، إذا مات الإنسان غير مشرِكٍ، إذا كان موحِّدًا، مخلصًا في توحيده اسْتحقَّ شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام.

ربّنا سبحانه وتعالى لِهَؤُلاء الذين اتَّخذوا أنْدادًا من دون الله يحِبُّونهم كَحُبّ الله، لهؤلاء الذين عبدوا من دون الله جِهاتٍ لا تنفعهم ولا تضرّهم، قال الله عز وجل:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا غُلامُ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ. ))

[ صحيح الترمذي ]

والآية الكريمة:

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

هذا الشِّرْك الجليّ، هذا الشِّرْك الكبير، هذا الشِرْك المهْلِك، هذا الشِرْك الذي يتناقض مع العِبادة، يتناقض مع الدِّين، فما هو الشِّرْك الخفيّ الذي يقع من معظم الناس؟!! 

 

الشرك الخفي صُوَرُه وآثاره السيئة:


الشِّرْك الخفيّ تُؤكِده آيةٌ كريمة وهي قوله تعالى: 

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾

[  سورة يوسف  ]

1 ـ عدم التوحيد في الأفعال:

يؤمن بالله وهو مشرك، آمن بالله تعالى خالقًا، آمن بالله مربِّيًا، آمن بالله مُسَيِّرًا، لكنَّه لم يُوَحِّد ربَّهُ في الأفعال، قال: فلان أزْعجني، فلان أغضبني، فلان أعطاني، فلان حرمني، إذا لمْ يُوَحِّد في الأفعال، ويراها كلّها من الله عز وجل فقد وقعَ في نوْعٍ من الشِّرْك الخفيّ.  

2 ـ الرياء اليسير:

ما هو الشِّرك الخفيّ؟ العلماء قالوا: الرِّياء اليسير، تقول: هذا من أجل زَيْد، وهذا من أجل عُبَيْد، وتقول هذا الكلام وأنت لسْتَ قانعًا به من أجل فلان، وتغضَبُ غضبًا متصنَّعًا وأنت لست غاضباً من أجل علان، فالرِّياء اليسير نوعٌ من أنواع الشِّرْك الخفيّ.   

3 ـ التصنُّع للخَلق:

التَّصَنُّع للخَلْق، كأن تُصَلِّي صلاةً مُتْقَنَةً أمام الناس، وقد تكون غير ذلك فيما بينك وبين نفسك، هذا من الشِّرْك الخفي، التَّصَنُّع للخَلْق تُظْهر الورع والعفة إذا كنت تحت أنظار الناس، فإذا خَلَوْتَ تساهلْتَ في هذا الأمر، فالتَّصَنُّع للخَلْق نوعٌ مِن أنواع الشِّرْك الخفيّ.   

4 ـ الحلف بغير الله:

الآن: مَنْ حلفَ بِغَير الله فقد وقعَ بالشِّرْك الخفيّ، كأن يحلِفَ بأُمِّه أو أبيه أو أولاده، بأعزّ ما يمْلك مثلاً، لذا مَن كان حالفًا فلْيَحْلف بالله تعالى، لكنَّ الله عز وجل يقول: 

﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)﴾

[  سورة المائدة  ]

أما أن تحلف بغير الله فهذا نوعٌ من أنواع الشِّرْك الخفيّ. 

5 ـ ربط مشيئة الله مع مشيئة العبد:

إذا قلتَ: ما شاء الله وشئْت، ما أراد الله وأردت، هذا شِرْك لأنَّ رجلاً جاء النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: ما شاء الله وشئت، فغضب النبي أشد الغضب وقال: عن ابن عباس:

(( أجعلتني لله ندّا؟ قل: ما شاء الله وحده. ))

[  الأدب المفرد للبخاري بسند صحيح: ثابت ]

 فكلمة: ( ما شاء الله وشئت ) نوعٌ من أنواع الشِّرْك الخفيّ.  

6 ـ نسبة البلاء إلى العبد:

وكلمة هذا من الله ومنك ؛ أنت أصل البلاء، تعتقدُ اعْتِقادًا جازمًا أنَّ هذا البلاء جاءك من فلان بالذات، هذا شِرْكٌ خفيّ، أين الله؟ كيف سمح له أن يفعَلَ هذا؟ كيف سمَحَ له أن يطولك بِكَلماته أو أفعاله؟ إذا اعتقدْت أنَّ فلانًا أو عِلاَّنا بإمكانه أن يصيبَكَ بِشَيء فهذا شرْك خفيّ، هذا من الله ومنك شرك خفي. 

7 ـ التوكل على العبد:

إذا قلت: أنا بالله وبك – داخل عليك - هذا شِرْكٌ خفيّ، إذا قلتَ: ليس لي إلا الله وأنت، شِرْك خفيّ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ ، إذا قلتَ: أنا متوكِّلٌ على الله وعليك، قال الله عز وجل في الحديث القدسي:

(( عن أبي هريرة : قال اللهُ تعالَى : أنا أغْنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّركِ ، مَنْ عمِلَ عملًا أشركَ فيه معِيَ تركتُهُ وشِركَهُ. ))

[ صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث : صحيح: أخرجه مسلم باختلاف يسير  ]

8 ـ المبالغة في تعظيم غير الله تعالى:

إذا قلتَ: لولا أنت لم يكن كذا وكذا !! لولا هذا الطبيب لمات الابن،  هذا المحامي لخَسِرنا الدَّعْوَى، ولضاعَ البيت، لولا فلان لكُنتُ في حالةٍ صعبة، إذا عَزَوْت النَّفْع أو الضَّرر إلى إنسان فهذا شِرْكٌ خفيّ، إذا قال شخصٌ لفلان: أنا تائبٌ إليك، فهذا شِرْك، المبالغة في تعظيم غير الله تعالى شِرْك خفيّ .  

9 ـ التوبة لغير الله:

أن تعتقد أنَّ هذا الإنسان تنتهي عنده آمالك وهو يرْفَعُك أو يخْفضك فهذا شِرْك، وقعَ أسيرٌ في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام فقيل له: تُبْ، فقال هذا الأسير: اللهمّ إنِّي أتوب إليك ولا أتوب لِمُحمَّد ! فعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، وَلا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن الأسود بن سريع :

(( أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أُتيَ بأسيرٍ فقالَ : اللَّهمَّ إنِّي أتوبُ إليكَ ولا أتوبُ إلى محمَّدٍ . فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : عرفَ الحقَّ لأهلِهِ. ))

[ أحمد شاكر : عمدة التفسير : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]

فقال عليه الصلاة والسلام وهو راض بهذا الكلام: عرف الحق لأهله، لا يُتاب إلا لله عز وجل.  

10 ـ النذر لغير الله:

مَنْ نذر لغير الله فقد وقعَ في الشِّرك الخفيّ، لأنَّ النَّذر يجب أن يكون لله وحده، هناك آيات كثيرة: 

﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)﴾

[ سورة الإنسان  ]

النَّذْر لله، من نذَرَ لغير الله فقد أشْركَ، الآن: من توكَّل على غير الله، من اعْتَمَدَ على غير الله، من أرْضى غير الله، من أراد غير الله، من توجَّه إلى غير الله ؛ هذا كلّه شرْك خفيّ، ونرْجو الله سبحانه وتعالى أن ننْجُوَ منه جميعًا.  

11 ـ التذلل لغير الله:

الآن: التَّذَلُّل لغير الله شرك، الخضوع شرْك، أن تبتغي مرضاة زَيْد شِرْك.   

12 ـ حمدُ غير الله على ما أعطاك: 

أن تحمَدَ الناس على ما أعطاك الله شرْك، أن تذمَّهم على ما منَعَكَ الله شرْك، ورد: "إنه من ضعف اليقين أن ترضي الناس بِسَخط الله، وأن تذمّهم على ما لم يعْطِكَ الله"

13 ـ  طلب الحوائج من الموتى: 

ومن هذا القبيل طلبُ الحوائج من الموتى، إنسان ماتَ، والإنسان إذا مات انْقَطَعَ عمله، فإذا وقفْت على شُبَّاك وليّ، وأمْسَكْتَ بالنافذة، وهززْتها بِعُنْف، وقلت: يا فلان، فهذا شرْك خفيّ، ماذا يفعل هذا الوليّ العظيم القابعُ في قبره؟ والدليل إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال الله في حقِّه:

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾

[ سورة الأعراف  ]

إذا كانت هذه حال النبي عليه الصلاة والسلام، قل لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً، وهناك آية ثانية: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا﴾ قال العلماء: إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يملكُ لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فَلأنْ يعجز عن أن يمْلِكَ للناس النَفع والضرّ فهذا من باب أولى، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، قل: لا أعلم الغيب، انتهى الأمر، فأيّ مخلوقٍ يدَّعي ذلك فهو كاذِب، أيّ مخلوق يدَّعي أنَّ بإمكانه أن يفعل شيئاً، أن يملك ضرّاً، أن يملك نفعاً فهو كاذب، فعَنْ أَبِي عن عبد الله بن مسعود عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( مَنْ أَتَى عَرَّافًا أو ساحراً أو كَاهِنًا فسأله فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.))

[ صحيح الترغيب: صحيح موقوف  ]

هذا كلّه من الشِّرك الخفيّ. 

14 ـ الاعتماد الخالص على الأسباب:

بقي في الشِّرْك الخفيّ موضوع قصير، هو أنَّ بعض العلماء ومنهم الشَّيخ الأكبر في كتابه الوصايا يقول: "الشِّرْك الخفيّ أن تعتمِدَ على الأسباب" ، المال سبب، فالذي معه مال وفير إنه معتمدٌ على ماله، واثق من كثرة ماله، يعلم أنَّ المال يحل كلّ مشكلة، هذا الذي يعتمد على الأسباب وقعَ في الشِّرْك الخفيّ وهو لا يدري، اعتمادك على الأسباب، فلان قويّ البُنيَة، اعْتَمَدَ على قوته، وهو يعتني بصحته اعتناء لا حدود له، اعتمد على صحته وظنَّ أنَّ عمرهُ مديد وقعَ في الشِّرْك الخفيّ، اعتمد على ماله، اعْتَمَد على جاههِ، اعتمد على قوته، اعتمدَ على مَنْ حوله، على جماعته، حينما تعتمد على الأسباب قد وقعْت في الشِّرْك الخفيّ.

 

العلاقة بين المعصية ونتائجها:


ما معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ ؟ الحقيقة هناك معنى دقيق جدًّا، هناك علاقة بين المعصِيَة وبين نتائِجِها، إنّ هذه العلاقة هي علاقة عِلْمِيَّة، أيْ علاقةُ سبب بِنَتيجة، علاقة المعصِيَة بِنتائِجِها علاقة عِلْمِيَّة أي علاقة سبب بِنَتيجة، فما معنى قوله عز وجل: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ ؟ مَن اعتمد على ماله فقد وقعَ في شرْكٍ خفيّ، لماذا يُعَذَّب؟ في حال وُجود المال، يخاف أن يفْقِدَهُ، فَتَوَقُّعُ المصيبةِ مصيبةٌ أكبر منها، في حال وُجوده في هذا المنصب الرفيع يخاف أن يفْقِدَهُ، خَوفُ فقْدِ هذا المنصب هو عذابٌ مستمرّ ؛ لأنَك من خَوْف الفقْر في فقْر، ومن خوْف المرض في مرض، وتوقّع المصيبة مصيبة أكبر منها، إذاً الإنسان الذي أشْرك بالله فاعْتَمَدَ على بعض الأسباب يُعذَّب لأنَّه قد يتوهَّم فقْدها في حال وُجودها، وإذا فُقِدَتْ منه فعْلاً يُعَذَّب بِفَقْدها، فأنت في حال وُجودها تتوهَّم زوالها فَتَعَذَّب، وفي حال زوالها فتُعَذَّب بفقدها، أما إذا اعْتَمَدت على الله عز وجل:

﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)﴾

 سورة القصص 

مَنْ اعْتمَدَ على ماله ذلّ، ومن اعتمَدَ على نسبه اخْتلَّ، ومن اعْتمَدَ على الله لا ذلّ ولا اخْتلّ، لذلك: 

اجْـعَل لـربِّك كلّ عِزّك يستقرّ ويثبـــــتُ             فإذا اعْتَزَزْتَ بِمَن يموت فإنَّ عِزَّكَ ميِّــــتُ

* * * 

 

جوهر القرآن التوحيد:


لو تتبَّعْتَ القرآن الكريم في أكثر آياته، تجد أنَّ جوهر القرآن هو التَّوحيد، قال تعالى:

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

هذا هو التوحيد:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

[ سورة الأنبياء ]

الدِّين كلّه توحيدٌ وطاعة، توحيدٌ وعبادة، أما الشِّرْك فيُسَبِّب الحِقْد، الشِّرْك يُسَبِّب النِّفاق، الشِّرْك يُسَبِّب المعْصِيَة، الشِّرْك يُسَبِّب الحُزْن، والألم، والقهْر، أما إذا وحَّدْت الله عز وجل فقد أُزيحَتْ عنك جِبال من الهموم، لذلك أعراض الشِّرْك كثيرة جداً، كلها أعراض لمرضٍ واحد ألا وهو الشِّرْك، والشِّرك عِلاجه التوحيد، والتوحيد عِلاجه التَفكّر في خلق السماوات والأرض، ومعرفة كتاب الله عز وجل. 

 

الفرق بين اتخاذِ الأسباب والاعتمادِ على الأسباب:


في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نُتابع قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)﴾. . تعقيب صغير، لا يعني أن تتعطل الأسباب، لَكَ أن تأخذ بالأسباب، لك أن تأخذ من كلّ شيءٍ سببًا، لك أن تعالج ابنك عند الطبيب، هذا كله لا يتعارض مع التوحيد، واعلم أنّ التوحيد أن تأخذ بالأسباب، والشِّرْك أن تعتَمِد على الأسباب، قضية نفسية، وفرْق كبير بين أن تأخذ بها وبين أن تعتمد عليها، إنَّ الأخذ بالأسباب دين، من أنتم؟ سيدنا عمر سأل جماعة فقراء – قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله، هذا التوكل، إنه أخذ بالأسباب ولم يعتمد عليها، لِمُجَرَّد أن تعتمد على الأسباب فقد أشْركت، لمجرد أن تأخذ بها فقد وحدت، لماذا؟ لأنَّ الله سبحانه وتعالى خلقَ الكون وَفْقَ نِظام دقيق، وهذا النِّظام لن يُخْرق من أجلك، فإذا أراد الإنسان أن يُقيم مشروعًا توفَّرت له أسباب النجاح، مكان المشروع له قيمة، حجم رأس المال له قيمة، طُرُق التَّعامل لها قيمة، نوع البِضاعة لها قيمة، إن لم تأخذ بالأسباب سُبِقْت، وحينما تخلَّف المسلمون عن ركْب بقِيَّة الأُمم فإنَّما تخلَّفوا بسبب فهْمِهم السَّقيم للتَّوكل، التوكّل محلّهُ القلب، لكن الجوارح محلها الأخذ بالأسباب. 

كأنَّني أريد أن أقول لكم: إيَّاكم أن تفْهموا من التَّوحيد ترْك الأخذ بالأسباب، التوحيد أن تأخذ بالأسباب، ولكنَ الشِّرك أن تعتمد عليها، وتنسى الله عز وجل، والقصص التي لا تُعدُّ ولا تُحصى مفادُها أنَّ الإنسان لِمُجرَّد أن يعتمد على ماله، أو على قوَّتِهِ، أو على صِحَّته، أو على أهله، أو على مَنْ حوله، أو على جماعته، عندئذٍ يؤدِّبه الله عز وجل، وإليكم هذه القصَّة الخِتامِيَّة: أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام هم أشْرفُ البشر بعد الأنبياء، باعوا أنفسهم لله عز وجل، فَدَوْا نبِيَّهم بأرواحهم، اتَّبعُوه في ساعة العُسْرة، ومع ذلك خاضوا معه بدْراً وأحداً والخندق، وهاجروا، وتركوا أموالهم وأولادهم، وأطاعوا ربّهم، وحينما قالوا والنبي معهم في حنين: لن نُغْلَبَ مِن قِلَّة – أصبحنا كثيرين -  واعْتَمَدوا على عددهم، وعلى قوَّتهم بعد فتْح مكَّة كما قال تعالى:

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾

[ سورة التوبة  ]

هذا ملخَّص الملخَّص، إذا كان أصحاب النبي صلوات الله عليه ورضي الله عنهم قد عالجهم الله من الشِّرْك الخفيّ، فَمَن نحن حتى لا نعالج؟!! فلِمُجَرَّد أن تقول: أنا، وقعْتَ في الشِّرْك، وقعت في المطبّ، قل: الله، قل: هذا من فضل ربِّي عليّ، لقد أكرمني ربّي، لقد تفضل عليّ، لقد أرشدني، لقد ألهمني، لقد أعانني، لقد ساعدني، لقد نوَّرني، فلذلك الطبيب الماهر قبل أن يُعالج المريض يقول: اللهمّ إنِّي تبرَّأْتُ من حولي، وقوَّتي، وعلمي، والْتَجَأتُ إلى حولك، وقوَّتك يا ذا القوَّة المتين، الطبيب والمعلِّم والمحامي والتاجر، وأيّ إنسان في أيّ عمل، صاحب الصنعة، قبل أن تقدم على العمل أعلن براءتك من حولك وقوتك، أعلن براءتك من علمك، وقل: يا ربّ، ليس لي إلا أنت، هذا هو التوحيد، فما دُمْت معه فهو معك، كن مع الله تر الله معك، فإذا قلتَ: أنا، وانْفَصَلت عنه، واسْتَغْنَيْت عن الله، واتَّكَلْت على نفْسِك أوْكَلَك الله إيَّاها، هذا شيء مهمّ ودقيق في عالم الإيمان ؛ التَّوْحيد، والذي يتناقض معه هو الشِّرك، نعوذ بالله من الشِّرْك الخفيّ والجليّ.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور