وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 16 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 214 - 216 خفض الجناح والتواضع للمؤمنين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

 

الأقربون أولى بالمعروف:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس عشر من سورة الشُّعراء.

في الدرس الماضي وصلنا إلى قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾ .. النبي عليه الصلاة والسلام أُمِرَ في هذه الآيات أن يُنْذِرَ عشيرته الأقربين، والأقربون أولى بالمعروف، الأقربون إليك أولى بِتَوجيهك، الأقربون إليك  أولى بِعِنايتِك، الأقربون نسبًا، والأقربون مكانًا، والأقربون في العمل، أي المؤمن يبدأ بِمَن حوله، يبدأ بأهله، يبدأ أولاده، يبدأ بِإخوته، وأخواته، يبدأ بِعَشيرته، يبدأ بأبناء حَيِّه، يبدأ بِزُملائِهِ في العمل، يبدأ بِجيرانِهِ، هكذا كان توجيه الله تعالى لِنَبيِّه صلى الله عليه وسلّم، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ أي هناك أُناسٌ يَدَعون بلدهم، ويبحثون عن عملٍ صالح في مكان آخر، بلدهم أوْلى بهم، هذا الأصل، أقْرباؤُهم أولى بهم، عشيرتهم أولى بهم، البلد الذي احْتضنهم أولى بهم: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ أي ما مِن علاقة طيبة أوْقَعُ في النَّفس من علاقة الإيمان بين الأقارب، إذا كان أخوك مؤمنً، وكانت أخواتك الإناث مؤمنات، وكان أولادك على الطريق الصحيح فهذه سعادة ما بعدها سعادة، وهذا يُستنبط من قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ .

 

اللهِ تعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام بخفض الجناح والتواضع:


الآن الآية التي تليها: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .. بادئ ذي بدْء، هذا تَوْجيه من الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام في الطريقة التي ينبغي أن يُعامِلَ بها أصحابهُ، هذا توجيه، أو تربيَةٌ، أو تأديب، حينما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا الأدب الرفيع الذي يتحلَّى به فما زاد عن أنْ قال:  أدَّبني ربِّي فأحسن تأديبي، وهذه الآية مِن تأديب الله سبحانه وتعالى.

 

معنى خفض الجناح:


﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .. خفْض الجناح كِنايةً، والكناية هي التَّعبير عن الشيء بِبَعْض لوازِمِه، إذا أردْت أن تُعَبِّر عن كرم إنسان قد تستخْدمُ أُسلوبًا غير مباشر، الكريم من لوازمهِ أنَّ بابه لا يُغْلَق، دائمًا الضُّيوف تدخل منه، فإذا عبَّرْتَ عن الكرم بِطريقةٍ مباشرة تقول: فلان كريم، هذا الأسلوب اسمُهُ: الأسلوب المباشر، أما إذا أردْتَ أن تعبِّرَ عن كرم هذا الإنسان بِطَريقةٍ غير مباشرة فتسْتخدم الكناية، تقول:  فلان بابهُ لا يُغْلَقُ، أي كريم، إذا أردْتَ أن تُعَبِر عن أنَّ هذا الإنسان قد نَدِمَ، وقلتَ: فلان نَدِم، اسْتخدمْت الأُسلوب المباشر، أما إذا أردْت أن تستخدم الكناية تقول: فلان عضَّ على أصبعه ! قال تعالى: 

﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)﴾

[  سورة الفرقان  ]

والعض على الأصبع هذا كنايةٌ عن النَّدَم الشديد، وخفضُ الجناح كِنايةٌ عن التواضع، وقد ورد: "تواضعوا لمن تُعَلمون" ، الله سبحانه وتعالى يُوَجِّه النبي عليه الصلاة والسلام، أو يؤدِّبُهُ، أو يُرَبِّيه كي يكون متواضِعًا مع أصحابه ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .

 

فوائد خفض الجناح:


يبْدو أنَّ خفْض الجناح يؤلّف القلوب، يبدو أن خفْض الجناح يُعين على المحبَّة، والمحبّة أساس في الدَّعوة إلى الله. أحدُ المُعلِّمين القدامى الذين جاؤوا في العصور الساحِقَة في التاريخ القديم وهو أفلاطون اسْتَدعى ولِيًّا من أولياء تلاميذه، وقال له:  خُذْ ابنَكَ عنِّي إنَّه لا يُحِبُّني ! أي التَّعليم أساسه المحبّة، التَّعليم بالقهْر وبالإلزام هذا التعليم لا يُجدي، خُذْ ابنَكَ عنِّي إنَّه لا يُحِبُّني، كما قال أحد العلماء:  "يا بني، نحن إلى أدبك أحْوج مِنَا إلى عِلْمك!" أي هذا الأدَب، وذاك العطف، وذاك التواضع من المعلِّم يجعل قلوب المتعلِّمين تميل إليه، لذلك قال ربنا عز وجل: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]

وقبلها يقول عزَّ وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ ، هذه الرحمة التي اسْتكنَّتْ في قلبك كان من آثارها هذا اللِين؛ لينُ الجانب، خفض الجانب فاجتمعوا عليك، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ .

 

من صفات الداعية المسلم خفضُ الجناح:


الآن نحن أمام آية من آيات تربيَة الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام، يجبُ أن نأخَذ بها نحن، كلّ من دعا إلى الله، كل من تصدَّى إلى هِداية الناس، كلّ مَن نصَّبَ نفسهُ إمامًا، كلّ مَن نصَّبَ نفسهُ داعِيَةً، لا بدَّ من أن يتخلَّق بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، وإلا تأتي دعوته جَوفاء لا جَدوى منها.

 ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾ خفْضُ الجناح كِناية عن التواضع: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، هذه الآية وردَتْ في صيغةٍ أخرى في مكان آخر من هذا الكتاب الكريم، هنا: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، الآية الأخرى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾ قاطبةً، أيْ أنت أيّها الأخ إذا دَعَوْت إلى الله فلا ينبغي أن تزدري مؤمنًا ليس من جماعتك، هذا ضيقُ أُفُق، هذه نظرةٌ ضيِّقَة، هذه تُثير مشاعر العِداء، ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾ ولو لم يتبعوك، ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾ مطلقة، أي المؤمن الصادق لا يغمط الناس حقَّهم، والمؤمن الصادق يعرف لكلّ ذي حقّ حقَّه، والمؤمن الصادق ليس ضيِّق الأُفق، ولا محدود النَّظرة، وليس يَعنيه إلا مَن حولهُ، لا، والله للجميع، وفوق الجميع، وبابهُ مفتوح للجميع، ورحمته لكلّ الناس، هذا الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال: عن أبي هريرة : 

(( قَامَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صَلَاةٍ وقُمْنَا معهُ، فَقَالَ أعْرَابِيٌّ وهو في الصَّلَاةِ:  اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومُحَمَّدًا، ولَا تَرْحَمْ معنَا أحَدًا. فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ:  لقَدْ حَجَّرْتَ واسِعًا ! يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ. ))

[ صحيح البخاري ]

رحمة الله واسعة ! فالفرْق بين الآيتين، الآية الأولى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، والآية الثانية: 

﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[  سورة الحجر ]

في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام كان بعض المؤمنين في مكّة كانوا عَيْن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان إيمانهم في قلوبهم، والنبي يعرف ذلك، لذلك هؤلاء الذين آمنوا بِقُلوبهم، واقْتَضَتْ المصْلحة ألا يظْهروا مَشْمولون بهذه الآية: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ قاطبة، أكان إيمانه ظاهرًا أم غير ظاهر، أكان معك أو ليس معك، أما نحن الآن فالمؤمن الصادق لا يغمط الناس حقَّهم، لا يزْدري الناس إن لم يكونوا من جماعته، هذه نظْرةٌ ضيِّقة محدودة لا تصلح إطلاقًا، ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾

 

صور من تواضع النبي عليه الصلاة والسلام:


شيء آخر، مما يؤكد تمسك النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الأدب العظيم، مِمَّا يؤكِّد اسْتجابته لهذا التَّوجيه الكريم، مِمَّا يؤكِّد حِرْصه على التمسك بهذا التَّأديب مِن قِبَل الله عز وجل، كان عليه الصلاة والسلام إذا اجْتَمَع بأصْحابه كأنَّه كأحدهم، والدليل:  إذا دخل عليهم رجل يُريدهُ، يدخل على أصحابه والنبي عليه الصلاة والسلام معهم، ولا يعرفُهُ فيقول:  أيُّكم محمَّد؟‍! ماذا نستنبط من هذا؟ أنَّه كان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع أصحابه فهو كأحدهم تمامًا، وإذا سار مع أصحابه كان كأحدهم أيْضًا، وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يعطي لِنَفسه امْتِيازًا أبدًا، والقصّة المشهورة التي تعرفونها جميعاً حينما كان النبي مع أصحابه الكرام في مكان وأرادوا أن يأكلوا فقال أحدهم: عليّ ذبح هذه الشاة، وقال الثاني: عليّ سلخها، وقال الثالث: عليّ طبخها، وقال عليه الصلاة والسلام: وعليّ جمع الحطب، فقال أحد الصحابة الكرام: نكفك ذلك، قال: أعرف ذلك ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه، هذا هو خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام، والقصَّة التي تعرفونها كذلك، وأتلوها على مسامعكم دائمًا يوم بدر حينما كانت الرواحل قليلة وحينما أمر النبي أن يتناوب كل ثلاثة على راحلة:  فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : 

(( كنَّا يومَ بَدْرٍ نَتَعاقبُ ثلاثةٌ على بَعيرٍ، فكان عَليٌّ وأبو لُبابةَ زَميلَيْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكان إذا كانت عُقْبةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولانِ له:  اركبْ حتَّى نمشيَ، فيقولُ:  إنِّي لستُ بأَغْنَى عنِ الأَجرِ مِنْكُما، ولا أنتما بأَقْوى على المَشيِ مِنِّي. ))

[ المستدرك على الصحيحين :  خلاصة حكم المحدث :  صحيح الإسناد ]

﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إذا أردت أن يُحِبَّك الناس فتواضَعْ لهم، إذا أردْت أن تكون طريقهم إلى الله فاخْفِض جناحك لهم، هذا وصْفٌ، في هذه الآية جاء توجيهٌ يُسَمِّيه علماء التفسير: تربية الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام، وقد يأتي وصْفٌ، وقد تكون هذه التربيَة تعليمًا لنا، فكلّ من دعا إلى الله عز وجل لو أردْت أن تدعو إلى الله صديقك الذي في العمل فاخْفِض جناحك له، اجْلِس معه، تأدب معه، لا تسْتعلِ عليه، لا تقل له:  أنا أعلم، وأنت لا تعلم، هذا يُنَفِّر قلبهُ منك، دع الحديث عن نفسك كليًّا، من أنت؟ حدِّثْهُ عن الله عز وجل، وعن رسول الله، واكْتَفِ بهذا، دع نفْسَكَ في الظَّل، دع نفسك بعيدًا عن الأضواء حتى يُحِبَّك الناس. النبي عليه الصلاة والسلام تَطبيقًا لهذا التَّوْجيه الإلهيّ العظيم كان يخْصفُ نعْلَهُ بيده، ويخيطُ ثَوْبهُ، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم، بل كان يكْنسُ بيتهُ، ويحلبُ شاته، ويخْدم نفسهُ، إذا كانت الزَّوجة نائمة فاخْدِمْ نفْسَكَ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام عن يحيى بن أبي كثير : 

(( آكُل كما يأكلُ العبدُ ، وأجلِسُ كما يجلسُ العبدُ ، فإنَّما أنا عبدٌ. ))

[ صحيح الجامع :  خلاصة حكم المحدث :  صحيح ]

وفي معظم وقتِهِ كما وصفه العلماء كان في مهْنة أهله، أيْ في خدمة أهله، فإذا حضَرَت الصَّلاة خرج إلى الصلاة، وكانت الأمَة أي الجارية الصغيرة – الطفلة الصغيرة -  تأخذ بيَدِهِ فتنطلقُ به حيث تشاء، الطفلة الصغيرة تمسك بيده صلى الله عليه وسلم وتنطلق به حيث تشاء، هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلّم، وكان عليه الصلاة والسلام تَطْبيقًا لهذا التوجيه الكريم يمرّ بالصِّبْيان فَيُسَلِّم عليهم، ولو لم يعرف أسماءهم، يقول:  السلام عليكم يا صِبْيان. ومن هذا التَّوجيه الكريم كان إذا أكَلَ لعَقَ أصابعه الثلاث، لعق الأصبع مِن السنَّة، ومن تَوجيه الله الكريم أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام ما رُئِيَ مادًّا رجْليْه قطّ، سيّد الخلق، وحبيب الحقّ، وما عابَ طعامًا قطّ من تواضعه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ينتَقِمُ لِنَفْسِهِ قطّ، إنَّما يغضَب إذا انْتُهِكَت حُرْمةٌ من حرمات الله تعالى، وكان عليه الصلاة والسلام يأكل مع الخادم، ويُجالس المِسكين، ويمْشي مع الأرملة واليتيم، وكان يبدأ من لَقِيَهُ بالسَّلام، ويُجيبُ دَعْوةَ من دعاه، ولو إلى أيْسَر شيء، قال مرَّةً:  عن أبي هريرة رضي الله عنه : 

(( لو دُعيتُ إلى ذِراعٍ أو كراعٍ لأجَبْتُ، ولو أهْدِيَ إليّ ذِراعٌ أو كُراعٌ لأجَبْتُ. ))

[ صحيح البخاري ]

هذه أخلاقه صلى الله عليه وسلّم، كان يعود المريض، ويشْهد الجنازة، ويرْكب الدابة، طبعاً في وقْته أن ترْكب حِصانًا غاليَ الثَّمَن شيءٌ يدْعو إلى الشُّعور بالتَّفَوّق، أما أن تركب دابَّة قميئة فهذا شيء لا يفعلهُ إلا أواسط الناس، كان عليه الصلاة والسلام يركبُ دابَّة مِمَّا يرْكبهُ عامَّة الناس، من تواضعه صلى الله عليه وسلّم أنَّ امرأة كانت تخدمُ المسجد، امرأة فقيرة لا يعرفها أحد، بل لا أحدٌ يعرف اسمها، كانت تخدم المسجد وتوفيت، يبدو أن أصحاب النبي رأَوا أنَّها أقلّ شأنًا من أن يذْكروا للنبي أنّها ماتَتْ، ماتَتْ ودَفَنوها، فلمَّا سأل عنها النبي عليه الصلاة والسلام، وأجابوه بأنَّها ماتَتْ ودُفِنَتْ تألَّمَ ألمًا شديدًا، وقال: عن أبي سعيد الخدري : 

(( ألا آذَنْتُموني؟ فخرج بأصحابِه فوقف على قبرِها، فكبَّر عليها و الناسُ خلفَه، و دعا لها، ثم انصرف. ))

[ صحيح الترغيب :  خلاصة حكم المحدث :  صحيح لغيره ]

فتوجَّه إلى قبرها، واسْتغفر لها. هذه أخلاقه، إذا كنت من المؤمنين الصادقين فهذه أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .

 

شمائله عليه الصلاة والسلام:


بعض علماء السيرة جمعوا بعض شمائله في نصِّ متَّصل، من المناسب أن أقرأهُ لكم في مناسبة هذه الآية: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .. كان عليه الصلاة والسلام جمَّ التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسَّلام، وينصرِفُ بِكُلِه إلى مُحدِّثِهِ صغيرًا كان أم كبيرًا، أحيانا يحدِّثك ابنك مرَّةً، ومرَّتين، وثالثة، ثمَّ تقول له:  ماذا قلْتَ لي؟ لم أفهم عليك، النبي عليه الصلاة والسلام مِن أدبِهِ الرَّفيع أنَّه ينْصرفُ بِكُلّه إلى محدِّثه، صغيرًا كان أم كبيرًا، ويكون آخر من يسْحب يدهُ إذا صافحَ، إنسان يكون من أقل الناس شأناً يجلس إلى جانبه رجل تجده يبتعد عنه تأففاً أما النبي عليه الصلاة والسلام آخر من يسْحب يدهُ إذا صافحَ، وإذا تصدَّق وضَعَ الصَّدَقة بِيَدِهِ في يد المسكين، لا يلْقيها له إلْقاءً، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلّم، وإذا جلس جلسَ حيث ينتهي به المجلس، لماذا لم يتركوا لي مكاناً فارغاً؟ اجلس حيث ينتهي بك المجلس، هذا أدب النبي عليه الصلاة والسلام، لم يُرَ مادًّا رِجْليْه قطّ، ولم يكن يأْنفُ من عمل لِقَضاء حاجته، أي من حمَلَ حاجته بيَدِهِ برئ من الكِبْر، أو حاجة صاحبٍ أو جار، فكان يذهب إلى السوق، ويحملُ بِضاعته ويقول:  أنا أولى بِحَمْلها، ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، وكان يُجيب دعْوة الحرّ والعبْد والمِسكين، وكان يقْبلُ عُذْر المعْتذر، وكان يرْفو ثوْبهُ، ويخصف نعلهُ، ويخدم نفسهُ، ويَعْقِلُ بعيره، ويكنسُ داره، وكان في مهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضَّعيف والبائس، وكان يمشي هَوْنًا خافض الطَّرف، متواصل الأحزان، دائمَ الفِكرة، لا ينطق من غير ِحاجة، طويل السُّكوت، إذا تكلَّم تكلَّم بِجَوامع الكلِم، وكان دَمِثًا أي لطيفًا، ليس بالجاحفِ ولا المُهين يُعظِّمُ النِّعَم وإن دقَّتْ، فلو أنَّه شرب كأس ماء قال:  الحمد لله رب العالمين الذي جعل هذا الماء مسْتساغًا، وجعل طريقه سالكًا، لا يذمّ من هذه النِّعَم شيئًا، هناك من يكشّر حينما يأكل طعاماً، وكأنَّه قد اشْمأزّ منها، لا يذم منها مذاقاً ولا يمدحه أيضاً، أحياناً السهرة كلها عن الطعام، الكوسا وحجمها وكذا، ولا يمدحه، ولا تُغْضِبُهُ الدنيا، ولا ما كان منها، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضَّ بصرهُ، كان يؤلِّفُ ولا يُفَرِّق، يقرِّب ولا يُبَعِد، يُكَرِّم كريم كلّ قوم، ويولِّيه عليهم، يتفقَّد أصحابه، يسأل الناس عمَّا في الناس، أحياناً هناك قضايا تقلق الناس، يسأل الناس عمَّا في الناس، كيف حالكم؟ كيف أعمالكم؟ كيف أهلكم؟ هل أنتم مرْتاحون؟ يسأل الناس عما في الناس، يُحَسِّنُ الحسَنَ ويُصَوِّبُهُ، ويُقَبِحُ القبيح ويوهِّنُهُ، لا يُقَصِّر عن حقّ ولا يُجاوِزُهُ، ولا يحْسب جليسهُ أنَّ أحدًا أكرم عليه منه، من سأل حاجةً لم يردّه إلا بها، أو ما يسرّه من القول، كان دائِمَ البِشْر، سَهل الخُلُق، ليِّن الجانب، ليْس بِفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب ولا فحَّاش، ولا عيَّابٍ ولا مزَّاحٍ، يتغافل عمَّا لا يشتهي، ولا يُخَيِّبُ فيه مؤمِّلاً، وكان لا يذمّ أحدًا ولا يُعَيِّرُهُ، ولا يطلبُ عَوْرتُه، ولا يتكلَّم إلا فيما يُرْجى ثوابُهُ، يضْحك مِمَّا يضحك منه أصحابه، ويتعجَّب مِمَّا يتعجَّبون، ويصبر على الغريب وعلى جَفْوَته في مسألته، ومنطقِهِ، لا يقْطعُ على أحدٍ حديثاً حتى يجوزهُ، والحديث عن شمائلِهِ صلى الله عليه وسلّم لا تتَّسِع له المجلَّدات، إذا شخص قرأ كتاب الجامع الصغير يجد في آخره أكثر من مئة حديث عن شمائله صلى الله عليه وسلّم، كان جلّ ضَحِكِه التَّبسّم، كان يفعل كذا وكذا، كان يأكل كذا وكذا، كان إذا دخل بيْتهُ لفَّ ثوْبهُ، كان إذا دخل بيْتهُ  بساماً ضحاكاً أي هذه شمائلهُ صلى الله عليه وسلّم إذا اطَّلَعَ الإنسان عليها ينبغي أن يجعلها طريقًا له في حياته. 

 

الاقتداء به عليه الصلاة والسلام:


الآن الشيء الذي يعْنينا هو أنَ الله سبحانه وتعالى وجَهَ النبي عليه الصلاة والسلام، أو أدَّبَهُ، أو ربَّاه بِهذه الآية: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .. سؤال:  هل في القرآن الكريم آياتٌ أخرى تؤدِّب النبي عليه الصلاة والسلام وتكون هذه الآيات أيضًا منهجًا لنا في معاملة الناس؟ الحقيقة في القرآن الكريم ما يزيد عن سبْع عشرة آية تخْتصّ بِتَأديب النبي عليه الصلاة والسلام، من هذه الآيات: 

﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)﴾

[ سورة التوبة ]

أيْ يستمِعُ إلى الناس، ويُصْدرُ أحكامهُ ارْتجالاً من دون بحْثٍ أو تدقيق، يستمع إلى كلام الآخرين، ويتصرّف من دون دِرايةٍ، هكذا يتَّهِمُهُ أعداؤُهُ، الله سبحانه وتعالى علَّمه أن يُجيبهم عن هذا النَّقْد الجارح إجابةً لطيفةً هادئة: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُل – يا محمد -  أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ ، أنا أسْتَمِعُ لِقَضاياكم ولمُشكلاتكم، ولا أتِّخِذُ قرارًا من دون تحقيق أو بحْثٍ أو تبصّر، والله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾

[  سورة الحجرات ]

فربنا عز وجل أدبه وقال حتى النَّقْد الجارح، حتى النَّقْد القاسي، إذا نُقِد به النبي عليه الصلاة والسلام علَّمهُ الله سبحانه وتعالى أن يُجيب عليه إجابة هادئةً لطيفةً لا تجْريح فيها، ﴿وَيَقُوُلون هُوَ أُذُنٌ قُلْ – يا محمد - أُذُنُ خَيْرٍ﴾ لكم أنا، أنا أستمع لخيركم، أستمع لأنْفعَكُم، أسْتَمِعُ لآخُذَ بيَدِكم، ولا أُبادِرُ إلى عمل من دون تدقيق أو بحثٍ أو دراسة أو متابعةٍ. 

 

توجيهات الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام:


شيءٌ آخر؛ الله سبحانه وتعالى وجَّهَ النبي عليه الصلاة والسلام: 

﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)﴾

[  سورة المائدة  ]

هذا موقف دقيق، أحيانًا تتمنَّى أن تتساهل مع زيْدٍ من الناس، لعلّه يأتي إلى المسجد، لعلّه يصبحُ من إخوانك، لعله يستقيم، إذا تساهلْت معه في الباطل، أي إذا أفْتَيْتَ له فتيا لا ترضي الله، وترضيهِ هو، فهذا لا يصحّ في الدَّعوة إلى الله عز وجل: ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ ، أي لا تتَّبع أهواءهم لعلهم يؤمنون.

أي من صفات الدَعوة إلى الله أن تردّ على الإساءة بالإحْسان، أنت فوق مستوى الانتقام، أنت فوق أن تردّ على السيّئة بسَيِّئة مثلها، لأنَّك تنصب نفسك مثلاً أعلى للناس ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ ، من توْجيه الله عزَّ وجل للنبي عليه الصلاة والسلام: 

﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)﴾

[  سورة فصلت  ]

هذا توجيه وتعليم لنا، الحقيقة إنه سميع لاسْتِعاذتك، ولكن كلمة عليم تعني أنَّ الاستعاذة باللِّسان لا تكفي، الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم لا تكفي باللسان أبدًا، لا بدّ من أن تكون في القلب أيضًا، لابدَّ من أن تتَّجِه النَفس كلّها لِرَبِّها ملتجِئَةً إليه حتى تُقْبَلَ استعاذتها، لذا أحياناً أسمعُ قِصَصًا كثيرة عن كوابيس في الليل، أو عن تعاوُنٍ بين الإنس والجنّ فأقول له: ليس عندي إلا هذه الآية: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ ، فيجيبني:  اسْتَعَذْت فلم أستفد شيئاً ! هذا الجواب؛ لم يحدث شيء لأنَّك اسْتَعَذْت بِلِسانك فقط، ولكن يجب أن تتَّجه النَّفس بِكُلِّيَتها، بِكُلّ مشاعرها، بكلّ طاقاتها إلى الله عز وجل مستعيذةً به، حتى يحْمِيَكَ الله من نزْغ الشيطان: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ إنه سميع عليم لما في قلبك. 

تَوْجيهٌ آخر من الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام: 

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)﴾

[  سورة الحجر  ]

ما هو الصَّفْحُ الجميل؟ هو الصَّفْح الذي لا غضب فيه، ولا تذمر، ولا كِبْر.

هذه توجيهات الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام، إنَّها توجيهات وتعليم لنا في الدرجة الأولى.

وتوجيه آخر من هذه التوجيهات، وهذه التوجيهات كلّها على شاكلة: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، قال تعالى: 

﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)﴾

[  سورة طه  ]

أي لا تَطْمع بما عند الناس، أو لا تتمنَّ ما أعطى الله بعض الناس من متاع الحياة الدنيا، هذا شأن من دعا إلى الله عز وجل، ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ سيّدنا عمر دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقد استلْقى على حصير، وقد أثَّر الحصير في خدِّه الشريف، فقال سيدنا عمر: رسول الله ينام على الحصير وكِسْرى ملك الفرس ينام على الحرير؟! فقال عليه الصلاة والسلام: عن عمر بن الخطاب : 

(( أوَ في شكٍّ أنت يا بنَ الخطابِ؟! – أي في شك أنت من نبوتي - أولئكَ قومٌ عُجِّلَتْ لهم طَيِّبَاتُهم في الحياةِ الدنيا. ))  

[ صحيح الجامع:  خلاصة حكم المحدث :  صحيح  ]

وإنما هي نبوة وليست ملكاً، إذاً: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ ، قال تعالى: 

﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) ﴾

[ سورة المدثر ]

وهذا توْجيهٌ آخر، أيْ لا تستكثر الناس بِعَطائك، لا تُعَلِّق أمَلاً على أنَّ هذا العطاء يجعل الناس يلتفتون إليك ويُحِبُّونك، أعْطِهم لله دون أن تنتظر منهم ولاءً ولا إقبالاً ولا التِفاتًا، ولا تمْنُن تسْتَكْثر بِمَنِّكَ هذا الناس حولك: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾   ولْيَكُن صبْرُك لله عز وجل، لا لِجِهة أخرى: 

﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)﴾

[  سورة النحل  ]

 ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾ ، قال تعالى: 

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾

[ سورة الأعراف ]

وهذا توجيه آخر من توجيهات الله عزَّ وجل للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي يدْعو إلى الله ينبغي أن يتَّسِمَ بالعَدل، والصَّفْح، لأنَّ الصِّفَة التي تُخالف هذه الصِّفة لا تليق بِمَن دعا إلى الله سبحانه وتعالى.

توجيهٌ آخر، وما أكثر التَّوجيهات ! ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ ، النبي عليه الصلاة والسلام شاوَرَ أصحابه قُبَيل معركة بدر، وشاورَهم قُبيل معركة أحد، وشاورهم قبل معركة الخندق، وكان يُشاورُهم دائماً مُشاورَةً حقيقيَّة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أمرهُ أن يُشاورَهم، ومن اسْتَشار الرِّجال اسْتعار عُقولهم.

وشيءٌ آخر من توجيهات الله عز وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

كان حياؤُه صلى الله عليه وسلّم يغْلب عليه، كان يسْتحي أن يُواجِهَ أحداً بما يكْره، كان يستحي أن يُنبِهَ أحدًا إلى عملٍ يؤذي النبي، يحْتَمِلُ الأذى، ويخشى أن يُكَلِّمَهُ كلمةً تؤذيه: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ﴾ الله عز وجل تولَّى عنه تنبيه أصحابه بِبَعض ما كان يؤذيه فيسْتحي من أصحابه.

 

تلخيص لما سبق:


هذه الآيات التي وجَّه الله بها النبي عليه الصلاة والسلام أنْ شاورْهم في الأمر، وتحدَث عن حيائِه، وأمره بالعفو، وأن يعرض عن الجاهلين، وأمرهُ أن يصبر لله عز وجل، وأمره ألا يمدنَّ عينيه إلى ما متع الله به أزواجاً منهم، وأمره أنْ يصْفح الصَّفْح الجميل، وأمرهُ أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لسانًا وقلبًا، وأمرهُ أن يدْفعَ بالتي هي أحْسن، وأمره ألا يحْزنَ عليهم، وأن يترفَّعَ عن عطاياهم، وأن يحكم بينهم بما أنزل الله، ولا يتَّبع النبي أهواءهم، ونهاه عن أن يتبع أهواءهم، هذه التوجيهات يجب أن يأخذ بها كلّ إنسان أراد أن يُحدِّث الناس عن الله عز وجل،.

على كُلٍّ ذكرْتُ هذه التوجيهات اسْتدراكًا للتوجيه الذي ورد في هذه الآية: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)﴾ .

في الدرس القادم إن شاء الله سيكون مركز الثِّقل في هذه الآيات بحْث التَّوَكّل، متى يكون التوكل صحيحًا؟ متى يكون التوكل تواكلاً؟ متى يُذمّ الإنسان على تواكله؟ ومتى يُمْدح على توكله؟ موضوع دقيقٌ إن شاء الله نجعلهُ موضوع الدرسِ القادمِ، وهو حول الآية الكريمة: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور