وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 17 - سورة الشعراء - تفسير الأية 217 حقيقة التوكل- التوكل وعلاقته بالإيمان وما قال العلماء عنه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

 

حقيقة التوكل:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع عشر من سورة الشُّعراء.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)﴾ .. أيّها الإخوة الأكارم؛ وعدْتكم في الدرس الماضي أن يكون الموضوع في هذا الدرس حول التَّوَكّل لِوُرود هذه الآية الكريمة التي فيها أمْرٌ من الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام، والله سبحانه وتعالى أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين، فأيّ أمْرٍ مُوجَّه إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو في الوقت نفسِهِ مُوَجَّه إلى كلّ مؤمن، فأنت أيها المؤمن أمام نصّ قَطْعِيّ الثُّبوت، قَطْعِيّ الدلالة، يأْمُرُكَ بالتَّوَكّل، ما هو التوكّل؟  الله سبحانه وتعالى تحدَّث في القرآن الكريم عن التوكّل في آياتٍ كثيرة، من أبْرز هذه الآيات: 

﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)﴾

[  سورة آل عمران  ]

هذه آية صريحة، المؤمنون يجب أن يتوكَّلوا على الله، إذا فهمْنا من قول الله عز وجل في سورة الشعراء: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ على أنَّها موجَّهةٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأيُّ أمْرٍ يقتضي الوجوب موجَّه إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو بالتَّبَعِيَّة مُوَجَّه إلى المؤمنين، ففي هذه الآية نصّ صريح يؤكِّد أن على كلّ مؤمن أن يتوكَّل على الله.

الإيمان كما يعرِّفُه بعض العلماء:  إقْرار باللِّسان، وعمل بالأركان، واعتقاد في القلب، هناك جانب داخلي، وجانب كلامي، وجانب سلوكي، يبْدو أنَّ الناس قد يُعَلّقون أهَمِيَّة كبرى على الجانب السُّلوكي، وقد يُغْفِلون ما يجب أن يكون في نفْس المؤمن من أحوال، من لوازم المؤمن أنّه متوكّل، والتوكّل سعادة، من لوازم المؤمن أنّه مسْتَسْلِم، أنه راضٍ، أنه مُفَوِّض، فلذلك إن لم نعْرف دقائق هذه المشاعر، وكيف الحصول عليها، وما السبيل إليها، فنحن لا تتوافر فينا صفة الإيمان، الإيمان مجموعة من الحقائق التي يجب أن تعتقد بها، ومجموعة من الأحوال التي يجب أن تشعر بها، ومجموعة من الأقوال التي يجب أن تنطق بها، ومجموعة من الأعمال التي يجب أن تفعلها، التَّوَكّل حالة نفْسِيَّة تُلازم المؤمن، فما التوكّل؟ قبل كلّ شيء نحن إما بالتَّبَعِيَّة لقول الله عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ، أو بالأصالة مأمورون بالتَّوكّل، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ، هذه اللام لام الأمر، إذا اقْترنَتْ بالفِعْل المضارع تجعله في المعنى فِعْل أمر، عندنا فِعل اُكْتُب فِعْل أمر، عندنا فعل ماض كتَبَ، وهناك مضارع يكْتب، لو جاءَت لام الأمر مع الفعل المضارع يُصبحُ هذا الفعل في المعنى فعلَ أمر: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾

[  سورة البقرة  ]

حيثما اقْترنتْ لام الأمر بالفعل المضارع جعلتْهُ في المعنى فعل أمر، وحيثما اقْترنَتْ لم بالفِعل المضارع جعلتْه في المعنى فعلاً ماضيًا؛ لم يجْتهد، لم ينْجح، لم يفعل:

﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)﴾

[ سورة البقرة ]

وحيثما اقْترنَتْ لن بالفعل المضارع جعلتْهُ للمستقبل، لم مع المضارع تجعله للماضي، ولن مع المضارع تجعله للمستقبل، واللام لام الأمر مع المضارع تجعله في المعنى فعل أمر، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ، بل إنَّ التَّوَكّل شرْط لازمٌ غير كافٍ للإيمان، والدليل قول الله عز وجل:

﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)﴾

[ سورة المائدة  ]

فإن لم تتوكَلوا فلسْتُم بِمُؤمنين. 

 

الناس مع التوكل قسمان:


كأن التوكّل يفْرز الناس إلى قِسمَين:   قسْم مؤمنٍ إيمانًا حقيقيًّا، وقِسْم آخر إيمانهُ شَكلي لا يُقدِّم ولا يؤخِّر، فالذي لا يتوكَّل على الله ليْسَ مؤمنًا به، ولا يعرفُه أساسًا، من علامة أنّك تعرف الله، وأنّك مؤمن به أن تتوكَّل عليه،  ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ، فإن لم تكونوا مؤمنين فلن تتوكلوا، فإن لم تتوكَلوا فلن تكونوا مؤمنين، هناك علاقة ترابطيّة بين الإيمان والتَّوكّل، إذا توكَّلْت فأنت مؤمن، وإذا آمنْتَ فأنت متوكِّل، إذا توكَّلْت فأنت مؤمن قطعاً.


 مقاييس التوكل كما جاءت في القرآن والسنة:


النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث يُعطينا مقاييس، فقد ورد: برئ من الشحّ من أدى زكاة ماله، هذا مقياس دقيق. برئ من الكِبْر من حَمَلَ حاجتهُ بيَدِهِ، و:  من أكثر من ذِكر الله فقد برئ من النِّفاق، وهذا مِقياس، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إن كنتَ مؤمنًا فلا بد من أن تتوكَّل على الله، وما أكْثر الهموم! وما أكثر أشْباح المصائب! وما أكثر المُقْلِقات في الحياة الدنيا! والله سبحانه وتعالى هكذا جَعَلَ الدُّنيا؛ مَشْحونةً بالمُقْلِقات، بالمَخاوِف، من أجل أن تلْتجئ إليه، فما هذه المشكلات؟ وما تلك المخاوِف؟ وما هذه أشباح المصائب إلا من أجل أن تنْدفِعَ إلى بابه، وأن تقف على بابه، وأن تُمَرِّغَ جبْهتك في أعْتابه، هذه حِكمة المصائب، من أجل أن تندفِعَ إلى الله عز وجل، إذًا ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إن كنتَ مؤمنًا فتَوَكَّل على الله، إن كنت متوكِّلاً على الله فأنت مؤمن، هناك علاقة ترابطِيَّةٌ بين الإيمان والتَّوَكّل. 

شيءٌ آخر: 

﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾

[  سورة الطلاق  ]

أي: يَكْفيه، أحيانًا تُوَكِل أخًا لِحَلِّ قَضِيَّة، قد تُفاجأ أنَّ هذا الأخ الذي وكَّلْتَهُ بِهذه القضِيَّة ليس في المستوى المَطلوب، دون المستوى المطلوب، خَسِرت هذا الموضوع، قد تضَعُ ثِقَتَكَ بإنسانٍ فإذا هذا الإنسان ليْسَ في المستوى المطلوب لا إخلاصًا ولا علمًا ولا قُدْرةً، قد ينقُصُه الإخلاص لك فَيُهْمِلُ هذا التَكليف، قد يكون مخْلِصًا لك، ولكن ينْقصُه العِلم الغزير، فَيُخْفِقُ مَسْعاه، وقد يكون مخْلِصًا لك، ويتمتَّعُ بِعِلْمٍ غزير، ولكنَّ قدْرتهُ محدودة على حلّ هذه المشكلة.

 

رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بالخَلق:


لكنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ .. الله سبحانه وتعالى خَلَقَ العِباد لِيَرْحمهم، فهو الذي يُحِبُّهم، وهو الذي خلقهم لِيُسْعِدَهم، وما رحمة العباد فيما بينهم إلا جزءٌ يسيرٌ يسير من رحمة المولى القدير، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ أيْ بِرَحمةٍ جُزْئِيَّة، هذا تنكير التَّقليل، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ ، والشيء الثابت أن أرحم الخلق بالخلق هو النبي عليه الصلاة والسلام، أرحم بِنا من أنفسنا، أرْحمُ بالابن مِن أُمِّه: 

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128)﴾

[  سورة التوبة ]

كلّ هذه الرَحمة التي يمتلئ بها قلبُ النبي عليه الصلاة والسلام جزْءٌ يسير يَسير من رحمة الله عز وجل، والدليل قول الله عز وجل: 

﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)﴾

[  سورة الكهف  ]

هذه الألف واللام تُفيد الاسْتغراق، أيْ الرحمة كلّها عند الله عز وجل، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو في الطائف، وقد وصَلَها مَشيًا على قَدَمَيْه هو وغلامهُ زَيْد، وقد ردَّ أهلها عليه ردًّا قبيحًا، ردًّا غليظًا، ردّاً كافراً، ردًّا مُجافيًا، كذَّبوهُ وسَخِروا منه، وأغْرَوا به صِبْيانهم، وألجؤوه إلى حائط، وجاءهُ جبريل عليه السلام وقال:  يا محمّد، أمرني ربي أن أكون طَوْع إرادتك، لو شئْتَ لأطْبقْتُ عليهم الأخْشبَيْن! أي الجبلين، ماذا فعَل النبي عليه الصلاة والسلام؟ 

(( عن عائشة رضي الله عنها ... هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ؟ فقالَ :  لقد لقيتُ مِن قومِكِ ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلالٍ ، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي ، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ ، فرفعتُ رأسي ، فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني ، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ ، فَناداني فقالَ :  يا محمَّدُ ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ ، وما ردُّوا عليكَ ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ :  فَناداني ملَكُ الجبالِ :  فسلَّمَ عليَّ ، ثمَّ قالَ :  يا محمَّدُ :  إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ ، وأَنا ملَكُ الجبالِ ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ ، وبما شئتَ ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ :  بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا )). ))

[ ابن خزيمة:  التوحيد لابن خزيمة .  خلاصة حكم المحدث:   صحيح ]

الواحدُ مِن الناس إذا مَسَسْتَهُ بِسُوء يتمنَّى أنْ يُمَزِّقَكَ إربًا إِربًا، إنْ مسَسْتَ مكانتَهُ، إن مسسْتَ سُمْعتَهُ، إن مسسْتَ ماله، إن مسسْتَ حاجاته، هذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء ليَهْديهم فكان هذا ردّهم قال:(( فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا ))

هذه رحمته:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]

أما الله سبحانه وتعالى: 

﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)﴾

[ سورة الكهف  ]

الرّحمة كلّها عنده.

 

الله عز وجل إذا توكَّلْت عليه لا يُخَيِب ظنَّكَ أبداً:


إذًا: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ ، يُحِبُّنا، رحيمٌ بنا، علمهُ لا حدود له، أحيانًا تُعطي هذه الآلةً لإنسانٍ تتوهَّم أنَّ فيه العِلم الكافي لإصلاحها، فإذا هو يُفْسدها، يُخَيِّب ظنَّك، توكَّلْت عليه فأفْسَدَ لك الآلة، إذًا عِلْمهُ ليس في المستوى المطلوب، عِلْمُ الله عز وجل ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .

وأحيانًا تضعُ هذه الحاجة في رقبة زَيْد، وزيْدٌ يُحِبّك، مخْلصٌ لك، وزيْدٌ علْمهُ غزير، ولكنّ قدْرتَهُ محدودة، يقول لك: يا أخي هذه ليْسَت في طاقتي، هذه تحتاج إلى توقيعٍ من فلان، وفلان لا يُوَقّعُها، حاوَلْتُ وصلت إليه فَرَفَضَ، توسط له فرفض. أما ربّنا عز وجل فكل شيء بين أُصبعيه، القلوب بين أُصبُعَيه كما قال عليه الصلاة والسلام، كُنْ فيَكُون، زل فيَزُول، إذًا محبَّتُهُ وعِلْمُهُ وقُدْرتُهُ، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ لذلك قالوا:  إذا أردْتَ أن تكون أقوى الناس فَتَوَكَّلْ على الله، أنت مُجَنَّد في ثكنة، وكان لك رفيق عِرِّيف، وهو يستطيع أن يتغاضى عنك إذا غبْتَ، وتنتهي هنا مسؤوليَّته، لكنّ هناك قضية تحتاج أكثر من عِرِّيف، لك ملازم رفيقك، سلطتهُ أوْسَع لكن محدودة، فما قولك إذا كان قائِدُ الجيش مِن طرفك؟ أيُّ شيءٍ يعْسُر عليه في الأنظمة النافذة، كلّما كان الذي توكَّلْت عليه عظيمًا كلَّما أوْرَثَكَ أمْنًا واطْمِئْنانًا، كلّما رفعْتَ المسْتوى توسَّعت في الراحة، فلِذلك: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ هناك آية أخرى تُفيد المعنى نفسه: 

﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)﴾

[ سورة النساء ]

يكْفيك أنّ الله عز وجل إذا توكَّلْت عليه لا يُخَيِب ظنَّكَ، لذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:  عن واثلة بن الأسقع الليثي أبو فسيلة المحدث : 

(( أنا عند ظنِّي عبدي بي فليظن بي ما شاء. ))

[ صحيح ابن حبان ]

ولا تقل: هذا شيء صعب، ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ الأشياء التي تبْدو لك مستحيلة هذه مسْتحيلة بِحُكم العادة، ولكنَّها على الله ليْسَت مسْتحيلة، وسَل الأطِبَّاء عن الحالات التي تمَّ فيها الشِّفاء بعد أن كان الشِّفاء ميْئوسًا منه؟ يقولون لك:  هناك آلاف الحالات، يا أيها الأطباء ماذا تسمون هذه الحالات؟ قالوا: الشفاء الذاتي، مرضٌ مَيْئوسٌ منه، ومع ذلك إذا تدخَلَتْ قدرة الله عز وجل أصْبح السقيم صحيحًا، والفقير غنِيًّا، والطريد آمِنًا، ولكن إيَّاك أن تتوكَّل على الله عز وجل في باطل، يا محمَّد - هكذا قال بعض من حَوْل النبي - مثِّلْ بهم، هؤلاء كُفَّار قريش الذين أخْرجوك، وعذَّبوا أصْحابك، وقاتلُوك، وكادوا لك، وشَتَموك، واتَّهَمُوك بالسِّحر، وبالجنون، وبالشِّعْر، هؤلاء قد قتلْتهم بِبَدْر مثِّلْ بهم، فقال عليه الصلاة والسلام: لا أُمثِّلُ بهم فيمَثِّل الله بي، ولو كنتُ نبيًّا!  هذه النّقطة أتمنَّى أن تقفوا عندها، أي أن تتوكَّل على الله لِتُؤْذيَ الناس، لتأخذ ما عندهم، لِتَنال شيئًا ليس لك؛ هذا شيءٌ مستحيل، إذا كان بعض البشر يُحابون أتباعهم على باطل، فهذا ليس من صفات الله عز وجل:

(( عن عائشة رضي الله عنها :  أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا:  ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا:  ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:  أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ:  إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. ))

[ صحيح البخاري ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))

[ صحيح البخاري ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :  قال النبي صلى الله عليه وسام :  مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم... لا محاباة في الدِّين أبداً. 

(( لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ - :  إلَّا بالتَّقوَى ، النَّاسُ من آدمُ ، وآدمُ من ترابٍ. ))

[ شرح الطحاوية  :  خلاصة حكم المحدث :  صحيح ]

(( عن أبي هريرة :  لينتَهينَّ أقوامٌ يفتخرون بآبائِهم الَّذين ماتوا إنَّما هم فحمُ جهنَّمَ ، أو ليكونَنَّ أهونَ على اللهِ عزَّ وجلَّ من الجُعلِ الَّذي يُدهِدُه الخُرْءُ بأنفِه إنَّ اللهَ أذهب عنكم عبيَّةَ الجاهليَّةِ وفخرَها بالآباءِ . إنَّما هو مؤمنٌ تقيٌّ ، وفاجرٌ شقيٌّ ، النَّاسُ بنو آدمَ ، وآدمُ خُلِق من ترابٍ. ))

[ الترغيب والترهيب  : خلاصة حكم المحدث :  إسناده صحيح أو حسن التخريج :  أخرجه الترمذي ]

الخَلْقُ كلّهم عِيال الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لِعِياله، الله سبحانه وتعالى لا يُحابي أحدًا. قال سيدنا عمر رضي الله:  << يا سعْدُ، لا يغرنَّك أنَهُ قد قيل:  خال رسول الله ‍>> ! لا يوجد إنسان، لا يوجد صحابي قال له النبي صلى الله عليه وسلّم: عن علي بن أبي طالب : 

(( ما رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يقولُ:  ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وأُمِّي. ))

[ صحيح البخاري ]

إلا سيدنا سعد، كان إذا دَخَلَ سعْدُ، يقول:  هذا خالي أروني خالاً مثل خالي، هل بعد هذه المحبّة محبّة؟ هل بعد هذا الإيثار إيثار؟ هل بعد هذا التَّكريم تكريم؟ ومع ذلك سيّدنا عمر الذي عرف الله عز وجل قال:  يا سعْدُ، لا يغرنَّك أنَهُ قد قيل خال رسول الله! - لا تغترّ بهذه - فالخلْق كلّهم عند الله سَوَاسِيَّة، وليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له، هذه المعاني تبثّ الطمأنينة في النَّفس، يقول لك:  أنا مَنْسوب!! ورد: أنا جدّ كلّ تقيّ ولو كان عبْدًا حبشِيًّا، و:  سلْمان مِنَّا آل البيت، سلمان الفارسي، قال تعالى: 

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)﴾

[  سورة المسد  ]

أبو لهب عمّ رسول الله!! << يا سعْدُ، لا يغرنَّك أنَهُ قد قيل:  خال رسول الله! فالخلْق كلّهم عند الله سَوَاسِيَّة، وليس بينهم قرابة إلا طاعتهم له >>

 

من كان على الحق فليتوكل على الله:


إذاً هذا الكلام كلّه تمهيد لهذه الآية:  

﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾

[  سورة النمل  ]

إذا كنتَ على الحقّ فتوكَّل على الله، وإن كنتَ على خِلاف الحق، فإن توكَّلْتَ أو لم تتوكَل فلن يكون الله معك، قال تعالى: 

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾

[  سورة المائدة  ]

معِيَّة الله مَشْروطة، لا يوجد مَعِيَة مطلقة، إن فَعَلْتُم كذا وكذا فأنا معكم وإلا فلا!! ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ .

فيا أيّها الإخوة الأكارم؛ اِجْتهَدوا أن تكونوا على الحقّ المبين، في بيعِكَ وشِرائِك كن على الحق، لا يوجد غِشّ، لا يوجد تدْليس، لا يوجد غَدْر، لا يوجد اسْتِغلال جهْل الشاري، غبْن المسترسل ربا وحرام! في علاقتك بِزَوْجَتِك لا تكن ظالمًا، إذا كنتَ على الحقّ المبين فتوكَّل على الله، في أيّ حركاتك، في أيّ نشاط، وفي أيّ تصرف، كُنْ على الحقّ، ولا تخْشَ في الله لوْمة لائم، قال تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ ، أحيانًا يكون للإنسان صاحب وثيق الصِّلة به، وهذا الصاحب له شأن كبير في المجتمع، هذا الصاحب يُدْخل على قلبهِ الطمأنينة، يقول لك:  أنا فلان صاحبي،  هاتف فقط وتحل أعسر قضية، فإذا مات هذا الإنسان ماذا تفعل؟ ربّنا عز وجل قال: 

﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)﴾

[ سورة الفرقان  ]

هؤلاء يموتون، قد يموت قبل أن يُعْطيكَ ما وعَدَك به، قد تُعَلِّقُ على صُحْبتِهِ آمالاً عريضة، فيموت بِحادِث، أين آمالك؟ ضاعَت مع هذا الحادث، قد تُعَلِّقُ عليه أحلامًا فتقول:  وعدني بهذا المنصِب، وعدني بهذه الأرض، وعدني بِمُوافقته على سفري، فإذا ماتَ فجأةً أين هذه الوعود؟ لكن:  

اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبتُ           فإذا اعتززت بمن يموت فإنك عزك ميتُ

* * * 

لذلك: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾ .

 

كلّ عملٍ في الأرض لا ينْجح إلا بِشَرْطَين:


 الآية الأخيرة في التوكّل: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[  سورة آل عمران ]

 معنى ذلك أنَ كلّ عملٍ في الأرض لا ينْجح إلا بِشَرْطَين؛ أن تأخذ بالأسباب التي رسمها الله عز وجل، وأن تتوكَل على الله عز وجل، الذي يحدث أنَّ هناك من يأخذ بالأسباب بِكُلّ طاقاته، ولكنَّه لا يتوكّل فَيُخْفِق، وهناك من يتوكَّل ولا يأخذ بالأسباب فيُخْفِق، إذًا الأخْذ بالأسباب والتَّوكّل كلاهما شرط لازمٌ غير كافٍ، خُذْ بالأسباب وتوكَّل على الله، لذلك: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ هذا الطبيب، المحامي، المهندس، المُدرّس، البائع، التاجر، الصانع، قبل أن تقول : خطَّطْت، وأتقنت، ودرستُ السوق، والأسعار، والمواد؛ قُلْ:  اللهمّ لا سَهْل إلا ما جعلتهُ سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئْت سهلاً، واللهمّ إنِّي تبرَّاْتُ من حولي وقوَّتي، والْتجأْتُ إلى حولِك وقوَّتك يا ذا القوّة المتين، قبل أن تقول:  أنا، أعْلِنْ افتقارك إلى الله عز وجل حتى تسْتحِقَّ المعونة؛ لأنَّه من اتَّكَلَ على نفْسِهِ أوْكلَهُ الله إيَّاها، ومن شُؤْمِ العَبْد أن يعْتدَّ بِنَفْسِهِ فيَكِلُهُ الله إليها:  

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

[  سورة المعارج  ]

لأنَّهم متوَكِّلُون.  


صور عملية لحقيقة التوكُّلِ والأخذِ بالأسباب:


النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح يقول:  عن عمر بن الخطاب: 

(( لو أنَّكم توَكَّلتم على اللهِ حقَّ توَكُّلِهِ، لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ، تغدو خماصًا ، وتروحُ بطانًا. ))

[ صحيح ابن ماجه :  حكم المحدث: صحيح ]

هناك توكّل هوائي، هناك توكّل فارغ، هناك توكّل شكلي، هناك تواكل، هناك توكل تلبسة، في حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:  

(( من قال لا إلهَ إلَّا اللهُ صادقًا من قلبهِ  دخل الجنَّةَ. ))

[ ابن عبد البر : الاستذكار :  حكم المحدث: صحيح ]

قيل: وما حقها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله:

(( لو أنَّكم توَكَّلتم على اللهِ حقَّ توَكُّلِهِ، لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ، تغدو خماصًا ، وتروحُ بطانًا. ))

[ صحيح ابن ماجه :  حكم المحدث: صحيح ]

معنى راحَ في الحديث السابق بمعنى عاد إلى بيْتِهِ، على خِلاف اسْتِعمال العامّة لهذه الكلمة، فلو طرقَ الإنسان بابك، وقال ابنك للطارق:  راح بابا‍!! وكنت أنت داخل البيت، فابْنُكَ صادِق وليس كاذباً، لأنَّ راحَ بِمَعنى عاد إلى البيت وغدا ذهب إلى عمله، لكنَّهُ كاذِبٌ شرْعًا لأنَ السائل فَهِمَ أنَّه ليس في البيت، صادقٌ لغةً، وكاذِبٌ شرْعًا، فكلمة غدا ذهب إلى عمله، وراح عاد من عمله، ((لو أنَّكم توَكَّلتم على اللهِ حقَّ توَكُّلِهِ، لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ، تغدو خماصًا ) أي جائعة، بطنها فارغ، وتعود بطانًا أيْ ممْتَلِئَة، فهل يُفْهم من هذا أنَّ الطَّيْر بَقِيَتْ في أعْشاشِها وجاءها الرِّزْق؟ قلَّما من ينتبِه لهذا الحديث، عامَّة الناس يظنون أنَّه يأتيها رزقها رغَدًا، هذه الطَّيْر تركَت عشَّها، وطارَتْ تبْحثُ عن رِزْقها، إذاً التَّوَكُّل يُرافقهُ السَّعي، والسيّدة مريَم، أليس الله سبحانه وتعالى قد تكفَّلَ بِرِزْقها؟ ولكن ما قال لها:  كُلِي، قال: 

﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)﴾

[  سورة مريم  ]

يحتاج الأمر إلى حركة وهزَّة، فالسيّدة مريم أُمِرَتْ أنْ تهزّ جِذْع النَّخْلة، وهذه الطَّيْر تغْدو خِماصًا، يوجد حركة، اخرج من بيتك، اسأل، ابْحَث، أما يقْبعَ في بيته، ويتمنَى أن يأتيه رزقه فهذا سوء أدبٍ مع الله عز وجل.

النبي عليه الصلاة والسلام مِن أدْعِيَتِهِ الشَّريفة يقول: "اللَّهمّ إنِّي أسْألك التَّوفيق مِن محابِّك من الأعمال، وحُسْن الظنّ بِك، وصدق التوكّل عليك"..  أي هناك توكّل كاذب، وتوكّل صادق، فإذا قلْتَ: توكّلْتُ على الله، وآمالك كلّها معْقودة على زَيْد أو عُبَيْد، هذا توكّل كاذب، توكَّلْتُ على الله، وأنت متوكِّل على فلان؛ هذا توكّل كاذب، النبي عليه الصلاة والسلام  يدعو ربه فيقول: "اللَّهمّ إنِّي أسْألك التَّوفيق مِن محابِّك من الأعمال، وحُسْن الظنّ بِك، وصدق التوكّل عليك" يكون التوكل صادقاً، روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: 

(( حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، قالَهَا إبْرَاهِيمُ عليه السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، وقالَهَا مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حِينَ قالوا:  {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:  173]))

[  صحيح  البخاري ]

كان من الممكن لسيدنا إبراهيم أن ينْجُوَ من القبْض عليه، لا قُبض عليه، وكان من الممكن ألا يُفكِّر قومه بإحراقه بالنار، لا، فكروا أن يحرقوه بالنار، وكان من الممكن أن تسقط أمطار غزيرة تُطفئ النار، مكَّنَ الله قوْم إبراهيم من القبْض عليه، ومكَّنهم مِن جمْع الحطب وإشعال النِّيران، ومكَّنهم من أنْ يضعوه بِطَريقةٍ تجعله في وسط النار، كلّ هذا من أجل أن تكون هذه القِصَّة شيئًا صارخًا جدًّا جدًّا على مدى الأجيال، أي إذا الإنسان أُضرِمَت له النِّيران بِشَكل مُخيف وأُلْقِيَ فيها فهذا موتُهُ مُحَقَّق، لكنَّ النار عند أهْل السنَّة والجماعة لا تُحْرقُ بِذاتها، لا تُحْرقُ إلا إذا سمَحَ الله لها أن تُحْرق، لذلك علماء التَّوحيد يُلخِّصون هذه العقيدة بِكَلمتين، يقولون:  عندها لا بها، فالنار تُحْرق عند مشيئة الله لا بِقُوَّة مودَعةٍ فيها، والدَّواء لا يشْفي إلا عند مشيئة الله لا بِقُوَّة مودَعةٍ فيه، وهذه الخلايا لا تنْمو نُمُوًّا عَشْوائيًّا إلا بِمَشيئة الله لا بِقُوَة مودعةٍ فيها، وهذا الدَّسام يضيقُ بِمَشيئة الله لا بِقُوَة مودعةٍ فيه، يجب أن تعْتَقِد أنّ كلّ شيءٍ لا يقعُ إلا بِمَشيئة الله، عندها لا بها، لذلك جاءهُ جبريل، قال له:  ألَكَ حاجة؟ قال:  منك؟ قال:  لا، من الله عز وجل، قال:  "علمه بِحالي يُغني عن سؤالي!" قال:  حسبنا الله ونعم التوكل فنجَّاهُ الله من النار، أي موت محقق.

 وإنسانٌ يُقْذَفُ في الماء فيلْتَقِمهُ الحوت! والله هذا شيءٌ مستحيل، قد يركب الإنسان مركبةً، ويكون احتمال عشرة بالمئة أمل بالنجاة، في أثناء تدهْوُر هذه المركبة يأتي على المقاعد فيصاب برضوض، هناك عشرة بالمئة أمل بالنجاة، لو أنَّ واحدًا ركِبَ طائرةً، واحْتَرَقَتْ في السماء، ومقعده في مكان انْشِطارها، فنَزَلَ هذا الراكب من ارْتِفاع ثلاثة أربعين ألف قدم، فالأمل بالنَّجاة صِفْر!! لكنه نزل بِغابات سويسْرا بالشِّتاء، ولكن سماكة الثلج على أغْصان الصَّنوبر خمسة أمتار، فهذه الأغصان مع الأمتار الخمس امتصَّت الصَّدْمة فَنَزَلَ واقِعًا على قدَميْه، ممكن، أما إذا وقعَ الإنسان في الماء، والْتَقَمَهُ الحوت، وكان في ظلمات ثلاث؛ في ظُلْمة البحر، وظلمة الليل، وظُلمة بطْن الحوت، فكم الأمل؟! صفْر.

 

التَّوَكُّل يبث في النَّفْس الطمأنينة والراحة والرِّضا:


ربّنا عز وجل قال: 

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

القصَّة انْتَهتْ، بدأ التَّعليق الذي قلَبَها إلى قانون: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، فكُلَّما واجَهَك أمرٌ صعب تذكَّر سيّدنا يونس، وهو في بطن الحوت في ظلْمة بطْنِهِ، وفي ظلْمة الليل، وفي ظلمة البحر، ولم يجعلها الله تعالى خاصَّة به، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ واضحة مثل الشمس، وكلَّما ألمَّ بك أمْر لن يكون أمرك أصْعب من سيدنا إبراهيم وُضع في النار، قال تعالى: 

﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

لولا كلمة سلامًا لمات من البرْد وهو في النار، فالتَّوَكُّل يبث في النَّفْس الطمأنينة، يبثّ الراحة، يبث الرِّضا، يبثّ أنّ الله يُحِبُّك، وأنَّك بِعَيْنِهِ: 

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[  سورة الطور  ]

وقالها النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه حينما قيل لهم: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ﴾ أحيانًا يقولون لك:  احْذَر! العين حمراء عليك، يخيفك، قرأت بعيني شيئاً ضِدَّك، انتبه، ولكنك تسلك سبل الحق، فقُل له:  حسبنا الله ونِعم الوكيل، الله عز وجل بِيَدِهِ كُلّ شيء، خُصومك بيَدِهِ، حُسَّادُك بيدِهِ، أعداؤُك بيَدِهِ، أنفاسهم بيَدِهِ، قلوبهم بيَدِهِ، حركاتهم بيده، سكناتهم بيَدِهِ، إلْهاماتهم بيَدِهِ، أفكارهم بيده، قُدراتهم بيَدِهِ، قال تعالى: 

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

أنت علاقتك ليس مع الدَّواب المربوطة، ولكن مع من يمسكها بيَدِه! فإذا قرَّبها أرخى الرسن تأتي لعندك شيء يخيف، كل كلب عقور مخيف: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ علاقتك مع من بيَدِهِ زِمام هذه الوُحوش، ربّنا عز وجل قال: 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾

[ سورة الفلق ]

هناك أشخاص يُحِبُّون إيقاع الأذى، وُحوش فِعْلِيَّة في الصَّحراء، هناك حشرات مُخيفة، هناك ثعبان، هناك أفعى، هناك عقرب، هناك إنسان كالعقرب يُحبّ أن يوقِعَ فيك الأذى: 

أَطِعْ أمْرَنا نرْفَعْ لأجلِكَ حُجْبنا          فإنَ منَحْنا بالرِّضا من أحبَّـــنا

ولُذْ بِحِمانا واحْتَــــــمِ بِجَنابِنـــــا          لـِنَحْميك مِمَّا فيه أشرار خلقنا

* * *

هؤلاء الأشرار لهم دَوْر كبير جدًّا، دورهم أنَّهم يُقَرِّبونك من الله عز وجل، كلَّما خوَفُوك تُقَرِّب من الله عز وجل أكثر، لهم دَوْر إيجابي بالنسبة لك، الإنسان بخاف يلتجئ إلى الله عز وجل. أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كانَ يقولُ: عن عبد الله بن عباس: 

(( اللَّهُمَّ لكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بعِزَّتِكَ -لا إلَهَ إلَّا أَنْتَ- أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الحَيُّ الَّذي لا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ. ))

[ صحيح مسلم ]

لخَّص هذا كلّه بِدُعاءٍ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استفتَح الصَّلاةَ كبَّر ثمَّ يقولُ :  عن علي بن أبي طالب :

(( وجَّهْتُ وجهيَ للَّذي فطَر السَّمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا مِن المُشرِكينَ إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي للهِ ربِّ العالَمينَ لا شريكَ له وبذلكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ المُسلِمينَ اللَّهمَّ أنتَ الملِكُ لا إلهَ إلَّا أنتَ أنتَ ربِّي وأنا عبدُكَ ظلَمْتُ نفسي واعترَفْتُ بذَنْبي فاغفِرْ لي ذُنوبي جميعًا لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ لبَّيْكَ وسعدَيْكَ والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ والشَّرُّ ليس إليكَ أنا بكَ وإليكَ تبارَكْتَ وتعالَيْتَ أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ. ))

[ صحيح ابن حبان :  خلاصة حكم المحدث :  أخرجه في صحيحه ]

أي أنا بك، عِلمي بك، قُدْرتي بك، حِلْمي بك، رزقي بك، وإليك أنت الهدف الأكبر، والنبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا هذا الدُّعاء؛ قال: عن أبي هريرة: 

(( من قال إذا خرج من بيتِه: بسمِ اللهِ توكلتُ على اللهِ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، يقالُ له: هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطانُ. ))

[  ابن القيم :  زاد المعاد:  خلاصة حكم المحدث :  حسن ]

الإنسان يخرج من البيت صباحًا، يا ترى يرجع من دون مشكلة؟ قد تأتي مشكلة كبيرة بالنَّهار، يذهب ماله كلّه، وقد يتعرض لحادث ما فيفقد بعض الأعضاء، وأنت تمشي بشكل جيد، تمشي إلى جهة اليمين، شخص بالطريق غافل، هناك مشكلاتٌ لا تعَدّ ولا تُحْصى، فإذا خرج الإنسان من بيته وقال:  توكَّلت على الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله، يُقال له: هُديتَ، ووُقيتَ، وكُفيتَ، حتى إنّ بعض العلماء قال:  إنَّ التوكّل هو نصف الدِّين! من أين لك هذا؟ قال لأنَّ الله عزَّ وجل يقول: 

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾

[  سورة الفاتحة  ]

القرآن كلّه جُمِعَ في الفاتحة، والفاتحة كلّها جُمِعَتْ في: إياك نعبد وإياك نستعين، وإياك نعبد وإياك نستعين كلمتان أحدهما الطاعة، والثانية التَّوَكُّل، نصف الدِّين هو التَّوَكّل. 

 

التوكّل عامٌّ:


بل إنَ بعض العلماء يقول:  التوكل عامّ، أي ما مِن إنسان إلا ويتوكَّل، لكن هناك إنسان يتوكَل على الله لِيَستقيم على أمْرهِ، يتوكَّل عليه لِيصْلح حاله مع ربّه، ومنهم من يتوكَل على الله من أجل الرِّزْق؛ يا فتَّاح، يا عليم، يا رزَّاق، يا كريم، التاجر يتوكَّل على الله  فلعلَّ الله سبحانه وتعالى يَجْبُر عنه هذه البِضاعة، والمُزارع يتوكَل على الله فلعلَّ الله عز وجل يُنْبتُ له الزَّرْع والزَّيْتون فيجني هذه الثمار ويعيش طوال العام، والصانع لعلّ الله عزَّ وجل يُوفِّقُني إلى بيع هذه الصِّناعة، المعمل يحتاج إلى مواد أوَّليَّة، وله إنتاج، وعمَّال، وأُجور، ويحكي لك همومًا لا تنتهي، فكلّ إنسان له عند الله تعالى هُموم. 

هناك من يتوكَّل على الله في أمْر آخرته، يا ربّ اِهْدِني، واهْدِ بي، يا ربّ أصْلِح حالي معك، يا ربّ ألْهِمني السداد والرَّشاد، ألْزِمني سبيل الاستقامة، هناك من يتوكَّل على الله لِصَلاح أمْر آخرتِهِ، قال: هذا أعلى أنواع التَّوكّل، وأسماها، وأقْدَسها، وهناك من يتوكَّل على الله من أجل دُنياه، اللهمّ أصْلِح لنا ديننا الذي هو عِصْمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، يحتاج إلى رزق، هذا يحتاج إلى زوجة صالحة يأمرها فَتُطيعُه، وينظر إليها فتَسُرُّه، ويغيبُ عنها فتَحْفظهُ، وهذا يحتاج إلى بيت مُشْمس يأوي إليه، مساحته مئة وعشرون متراً، له مواصفات، هناك من يتوكل على الله في أمر دنياه، على العين والرأس، لكن هناك من يتوكَّل على الله في المعاصي، أحيانًا يتلبَّس بِمَعْصِيَة فإذا كُشِف فالوَيْل له والثُّبور، يقول:  يا ربّ!! ما هذه يا رب؟! لا معنى لها، تتوكل عليه في معصية تعصيه بها، فالتَوكّل عام، لكن هنيئًا لمن كان توكُّله فيما يُرْضيه، في الدَّرجة الأولى لِمَن كان توكّله لأمر الآخرة، وفي الدرجة الثانية لمَن كان توكّله في الدنيا المباحة المَشروعة، أما الذي يتوكل عليه قال أحدهم: أريد أن أعْصِيَ الله، فقال له:  خمسُة أشياء إن فعلْتها لا تضرّك معْصِيَة، فقال له:  ما هي؟ قال له:  إذا أردْتَ أن تعصي الله عز وجل فلا تسْكُن أرضَهُ، فقال: وأين أسْكُن إذًا؟! فقال له: أتسْكُن أرْضَهُ وتعْصيهِ! أنت بالأرض تتنفس هواء خلقه الله، تشرب الماء الذي هو من خلْق الله عز وجل، أتسْكُن أرْضَهُ وتعْصيهِ! فقال:  هاتِ الثانِيَة؟ قال له:  إذا أردْت أن تعْصيه فلا تأكل رزْقهُ! فقال:  ماذا آكلُ إذًا؟! قال: أتسْكن أرضهُ وتأكل رزقه وتعْصيه؟!! فقال: هات الثالثة؟ فقال: إذا أردْت أن تعْصيهِ فاعْصِهِ في مكانٍ لا يراك فيه! فقال:  إن الله بأيّ مكانٍ هو معنا، فقال: أتسْكن أرضهُ وتأكل رزقه وتعْصيه وهو يراك؟! لذلك سيّدنا بلال يقول:  لا تنظر إلى صِغَر الذَّنْب ولكن اُنْظر على مَن اجْتَرَأْتَ!  

تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه           هذا لعمري في المقال بديعُ

لـو كان حُبُّك صادقًا لأطعْتـــــهُ           إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبّ يُطيعُ

* * * 

 

أقوال العلماء في التوكل:


الأئمّة الكِبار لهم أقوال في التَّوَكّل، لا مانِعَ من أن نسْمعها.

الإمام أحمد بن حنبل يقول: "التَّوكّل عمل القلب، وليس من عمل اللّسان، وليس من عمل الجوارح"، يا ربّ توكَّلتُ عليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، التوكّل بالقلب، فاللِّسان لا يُقدِم ولا يؤخِّر، قد تنطق بِلِسانك بِصِيَغ التَّوكّل، وأنت غير متوكِّل على الله عز وجل، القلب في أعماقهِ يجب أن يكون مطمئنًّا إلى الله عز وجل، راضِيًّا بِحُكمه، هذا هو التوكل، ليس التَّوكّل كما يقول الإمام أحمد من عمل اللّسان وليس من عمل الجوارح، أي الجوارح الأعضاء يجب أن تسْعى بالأسباب، أما التوكّل فمحلّه القلب، في تخلّف المسلمين صار التَّوكّل في الجوارح، والشِّرْك في القلب، أي يوجد كسل، ترَكُوا الأخْذ بالأسباب، ثمّ يقولون:  توكَّلْنا! لا، أنت ما توكَّلْت، فالتَّوَكّل محلّه القلب أمـا الجوارح فيجب أن تأخذ بالأسباب. 

بعضهم قال:  التَّوَكّل عِلم القلب بِكِفاية الربّ للعبد، قال تعالى: 

﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)﴾

[  سورة الزمر  ]

هو الذي يكْفيك.

بعضهم قال: التَّوَكّل سُكون القلب، فالاضْطراب والقلق والخَوف، فلان يوافق أم لا يُوافق، ماذا سيفعل؟ لا أنام الليل!! ليس هذا هو المتوكِّل، المتوكِّل ساكن القلب.

ترْك الاختيار والاسْتِرسال في مجاري الأقدار، أنت مُخَيَر، ولكنَّ المتوكِّل يُسَلِّم اخْتِيارهُ إلى الله، أنا مختار، واخْتَرْتُ يا ربّ أن تختار لي أنت ما تريد، في شؤون الزَّواج، في شؤون العمل، اللهمَّ خر لي واختر لي. 

 

تعريفات التوكل:


التَوَكُّل في تعريفاته الدَّقيقة "الرِّضا بالمقدور" ، فهذا الذي لم يرْضَ بِفِعْل الله عز وجل ليس مُتَوَكِّلاً، فهناك توكّل كاذِب، قال بعض العلماء:  تتوكَلُ على الله وأنت تكذبُ عليه! قال:  وكيف؟ قال:  من توكَّل على الله رَضِيَ بما يفْعلُ الله، مِن علامات التَّوَكُّل أن ترْضى عن الله، قال أحد الأشخاص وهو في طوافه حول الكعبة:  يا ربّ، هل أنت راضٍ عنِّي؟ كان وراءهُ الإمام الشافعي، فقال له الإمام الشافعي:  وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرْضى عنك؟ فقال:  سبحان الله! ومن أنت يرحمك الله؟ قال:  أنا محمَّد بن إدريس! قال:  كيف أرْضى عنه وأنا أتمنَى رِضاه؟ فقال له:  يا هذا، إذا كان سرورك بالنِّقْمة كَسُرورِكَ بالنِّعْمة فقد رضيت عن الله تعالى، وإذا رضيتَ عن الله رَضِيَ الله عنك، اي هل ترى أنّ يد الله رحيمة؟  حكيمة؟ عليمة، عادلة؟ لطيفة؟ هذا مِن فِعْل الله، واصْبِر لِحُكم ربِّك. 

قال: متى يكون الرّجل متوكِّلاً؟ قيل:  إذا رضي بالله وكيلاً، مِن معاني التَّوَكُّل الثِّقة بالله، يقول لك: هذه من غير المعقول أن تحدث، كأنَّك تُبْرِزُ عَجز الله عز وجل، الله عز وجل إذا توكَّلْتَ عليه فهُوَ حسْبُك، الثقة بالله، والطُّمأنينة إليه، والسُّكون إليه. 

ذو النُّون المِصري يقول:  التَّوكّل ترْك التَّدبير، والانْخِلاع من الحَول والقوّة، أيْ تَرْك التَّدبير النَفسي الداخلي، تسْعى، أما أن تعتمد على حَوْلِكَ وقوّتك فأنت لسْتَ متوكِلاً، وبعضهم قال:  التَّوكّل هو التَّعلق بالله في كلّ حال، في الرِّضا وفي الغضب، في البحبوحة وفي الضِّيق، وفي الصِّحة وفي المرض، في الخوف وفي الطمأنينة، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، وفي العلوّ والانخِفاض، في كلّ شيء، التَّعلق بالله في كلّ حال.

بعضهم قال:  التَّوكّل نفيُ الشُّكوك والتَّفويض إلى ملك الملوك، ومن توكّل على الله لو كاد له من في السماوات والأرض فإن الله سبحانه وتعالى يُنَجِّيه، فتكيده السماوات والأرض إلا جعل له من بين ذلك مَخْرجًا، أما من توكَل على زيد أو عُبَيد جعل الله الأرض هَوِيًّا تحت قدَمَيْه، وقطَّع أسباب السماء بين يديه. 

إن شاء الله في الدرس القادم نُتابِعُ موضوع التَّوكّل، ونصل إلى موضوع العزيز الرحيم، ماذا يعني اسم العزيز لِقَول الله عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ؟ الحديث القدسي الذي ذكرتُهُ قبل قليل نصه الدقيق: ما من مخلوقٍ يعْتصِمُ بي من دون خلقي أعرفُ ذلك مِن نِيَّتِه، فتكيدُهُ أهل السماوات والأرض إلا جعلْتُ له من بين ذلك مخرجًا، وما من مخلوقٍ يعْتصِمُ بِمَخلوقٍ دوني أعرفُ ذلك من نيَّتِهِ إلا جعلتُ الأرض هَوِيًّا تحت قدَمَيْه، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه.

ملخَّص الدرس؛ إذا أردْتَ أن تكون أقوى الناس فتوكَلْ على الله، وإذا أردْت أن تكون أغنى الناس فَكُن بِما في يدي الله أوْثَقُ منك بما في يديك، وإذا أردْت أن تكون أكرم الناس فاتَق الله.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور