وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 18 - سورة الشعراء - تفسير الأية 217 شروط ولوازم التوكل-علاقة التوكل بالتوحيد - اسم الله العزيز.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

 

تذكير بما سبق:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن عشر من سورة الشُّعراء.

في الدرس الماضي وقفنا عند قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ .. وبيَنْتُ لكم بِفَضل الله تعالى بعض المعاني التي تنضَوي تحت مفهوم التَّوكّل، وكيف أنَّ الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بالتّوكّل، وأنَّ من لوازم الإيمان التَّوكّل، فمن توكّل فَتَوَكُّلهُ علامةٌ قاطعة على أنَّه مؤمن، وأيُّ مؤمن يجب أن يتوكَّل على الله، إن توكَلْت فأنت مؤمن، وإن آمنْتَ فيجب أن تتوكَّل، ولكن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدَّرس والبحث. 

 

التوكل حالٌ قلبيٌّ لا عبارات مردَّدة:


الحقيقة أن التَّوَكّل حالٌ قلبي؛ أن تقول شيئًا بِلِسانِك هذا لا يُقدِّم ولا يؤخِّر، حينما أصبحَ الإسلام عِباراتٍ تُردَدُ في الأفواه، رأيْتُم كيف أن حال المسلمين ظلَّ على ما هو عليه، ربّنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور ]

هذه وُعودٌ قَطْعِيَّة مِن قِبَل الله عز وجل، قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[  سورة التوبة  ]

قال تعالى:

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[ سورة النساء ]

إلا أنّ الأمر هو أن الفريق الآخر وهُم المؤمنون أخَلُّوا بما عليهم، فكان الله سبحانه وتعالى في حِلٍّ من وُعوده الثَّلاث، إذًا حينما أصبَحَ الإسلام كلامًا، وألفاظًا، وحركاتٍ، وسكناتٍ، وفُرِّغ من مضمونه العلمي والأخلاقي عندئِذٍ أصْبحت كلمة المسلمين ليْسَت هي العليا، ولو أنّنا كُنَّا مع الله لكان الله معنا. 

 

معية الله نوعان عامة وخاصة:


ثمة شَيْءٌ دقيق جدًا هو أنَ مَعِيَّة الله عز وجل كما تعلمون مَعِيَتان؛ مَعِيَّة عامَّة، ومَعِيَّة خاصّة، ربّنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4) ﴾

[ سورة الحديد ]

هذه مَعِيَّة عامَّة؛ أي هو مع كُلِ مَخلوق، مع كلِّ كائِن، مع كلّ حيوانٍ، مع كل نبات، مع كلّ إنسان، مع كلّ كوكبٍ، مع كل ذرَّة:

﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)﴾

[  سورة الأنعام  ]

آيةٌ بِنَصِّ القرآن الكريم، لكنَّ المَطلوب ليْسَتْ هذه المعِيَّة العامّة، المطلوب تِلْك المَعِيَّة الخاصَّة، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾

[  سورة المائدة  ]

العلماء قالوا: مَعِيَّة الله الخاصَّة حِفْظُهُ وتأييدُه ونَصرُهُ، ولكن  مَعِيّة الله الخاصَّة لها ثمن، ثمنها أن تستقيم على أمره، وأن تستجيب له، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال  ]

 

الإيمان ليس بالتَّمَني ولا بالتَّحلّي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقهُ العمل:


إذًا الشيء الذي أُحِبّ أن أقوله قبل متابعة الحديث عن التَّوكّل؛ الإيمان ليس شَكْلاً، وليس كلامًا، وليس حركاتٍ، وليس مظاهر، إنَّما هو شيءٌ آخر، فقد ورد: "ليس الإيمان بالتَّمَني ولا بالتَّحلّي". ما من مخلوق على وجْه الأرض إلا ويتمنَّى أن يكون مؤمنًا، يتمنَّى أن يكون صدِّيقًا، ولكن ليس الإيمان بالتَّمَني ولا بالتَّحلّي؛ لا أن ترتدي ثِيابًا إسلامِيَّةً، ولا أن ترتاد المساجد وأنت مُعطَّر، مهفْهَف، ثمّ تعود إلى بيْتِك وتتحدث عن هذه الخطبة، وأنت في واد والإسلام في واد، ليس هذا هو الإسلام، ليس الإيمان بالتَّمَني ولا بالتَّحلّي، ولكن ما وقر في القلب، وأقرّ به اللِّسان، وصدَّقهُ العمل، معنى ذلك أن الإنسان إذا خلا قلبهُ من التَّوَكُل فهو يعتمِدُ على زيْد أو عُبَيد، يعتمد على ماله، أو على صِحَّته، أو على فلان، أو على عِلاَّن، أو على هذه الجِهة القوِيَّة، أو على هذه المكانة، إذا خلا قلبهُ من التَوكّل، ومن الرِّضا، ومن الصَّبْر، ومن التَسْليم، ومن التَفْويض، فماذا بَقِيَ من إيمانه؟! بَقِيَ هَيْكلاً بلا مَضْمون، لذلك حينما نتحدَّث بالتَّفْصيل عن معاني التَّوَكُّل فهذا مِن صُلْب الإيمان، الحديث عن التَّوَكُّل له وظيفتان؛ أوَّلاً: أن تعرفَ من هو المتوكَل عليه؟ ما صفاته؟ وثانيًا: لِيَكون هذا البحث مِقياسًا لك، وهدفًا لك، مِقياسًا تقيس به نفْسَكَ، وهدفًا تجْعلُهُ نُصْبَ عَيْنَيك، هذا ما نقْصِدُ بالتَوَكُّل، ربّنا عز وجل يقول: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ .


  عقْربَ التَّوَكّل يُتابِعُ عقْربَ التوحيد:


الآن هناك نقطة دقيقة جداً، إذا صح أن للتّوحيد عدَّاداً له عقْرب، وإلى جانبِه عدَّاد آخر للتَوَكّل وله عقرب، يجب أن تعلمَ عِلْم يقين أنَّ عقْربَ التَّوَكّل يُتابِعُ عقْربَ التَوحيد، إذا ارْتَفَعَت إبْرةُ التَّوحيد ترتفِعُ معها إبْرةُ التَّوَكُّل، كلّما علا توحيدك علا توكُّلك، إذا انْخفض التَّوحيد انْخفضَ التَوَكُّل، لأنَّ هذه فِطرتُك، لأنَك لن تتوكَل على ضعيف، لن تتوكَل إلا على قويّ، ولن تتوكَّل على جِهةٍ لسْتَ متأكِدًا أنَ الأمر بيَدِها، متى تتوكَّل على إنسان؟ إذا أيْقَنتَ أنَّهُ قويّ، وأنَّ الأمر بيَدِهِ، عندئذٍ تطرُقُ بابه، وتتوسَلُ إليه، وتُلْقي عليه بِكُلّ ثِقَلِك، أما إذا كنتَ مُتَرَدِّدًا أو مرتابًا في قدرته على حلّ هذه المشكلة، أو كنت مرتابًا في ولائِهِ لك، أو في عِلْمِهِ، أو في صلاحِيَّتِهِ، فأنت لن تتوكَّل عليه، أي التوكل من السَّذاجة أن تظنّ أنَّك إذا قلتَ: يا ربّ توكَلْتُ عليك، لقد توكَلْت، لا والله، أنت ما فعلْتَ شيئًا، لأنَ التَّوَكّل ليس كلامًا تقولهُ بلِسانِك إنَّهُ حالٌ قلبي، إذا قلتَ توكَّلتُ عليك وقد تكون في الحقيقة معْتَمِدًا على زيد، أو عُبَيد، أو فلان، أو عِلاَّن، وأنَك واضِعٌ كلّ ثقتك فيهما، أنت لسْتَ متوكِّلاً ولا مرة، ولو أعْلَنْتَ بلِسانك أنَّك توكّلْت على الله ألف مرَّةٍ ومرَّة! الكلام اللَّفظي لا قيمة له إطلاقًا، ولا يُقدِم، ولا يؤخِر، إذا بَقِيَ الإسلام ألفاظًا تُرَدَّد، وأعمالاً تُقام، ومظاهر تُبْتغى، فاقْرأ على الأمّة السَّلام الإسلام مضمون فِكري، مضمون عقيدي، مضمون أخلاقي، إذا كان كذلك فهذا هو الإسلام. 

 

من شروط التوكل معرفة الله:


اليوم نتحدَث عن التَّوَكّل، الشيء الأوّل؛ لن تتوكَّلَ على الله إلا إذا عرفْتهُ، أحيانًا يُصاب الإنسان بِمَرض عُضال يظنّ أو يعتقد أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يستطيعُ أن يشْفِيَهُ من هذا المرض، ثلاثون طبيبًا قالوا: ليس لِهذا المرض دواء، وبلغ الدرجة الخامسة، ولا يمكن أن تُحلّ هذه المشكلة، إذا كنتَ معْتقِدًا أنّ الله لا يستطيع أن يشْفِيَكَ من هذا المرض العُضال الذي أجْمعَ الأطِبَاء على أنَّه لا شِفاء له فكيف تتوكَّل عليه؟ هنا المشكلة! لن تتوكَّل على الله إلا إذا عرفْتهُ، يجب أن تعرفهُ خالقًا، يجب أن تعرفهُ مُربِّيًا، يجب أن تعرفهُ مُسيِّرًا، يجب أن تعرف قدرتهُ؛ كُنْ فيكون، زلْ فيَزُول، لا توجد كلمة ثانية، آلاف الحالات من الأمراض التي أجمع الأطِبَّاء على أنه لا يمكن أن يبرأ منها صاحبها، ومع ذلك شُفيَتْ شِفاءً تامًّا فصَعِقَ الأطِبَاء، وقالوا هذه حالة جديدة لا نعرفها، سمَّوْها: الشِّفاء الذاتي؛ إنَه شفاء الله عز وجل، هناك حالات صِحِّيَّة مُسْتعصِيَة، كيف تتوكَّل عليه وأنت لا تتأكد لا تعلمُ أنّهُ بِقُدْرته أن يشْفيك؟! فالحديث عن التَّوَكّل هو حديث لا جَدْوى منه ما دامَتْ معرفة الإنسان قاصرة، ما دامَتْ معرفة الإنسان بالله محدودة، ما دامَتْ معرفتُهُ بالله لم تبْلُغ حدَّ التَّوحيد، فالتَّوَكُّل تشوبهُ شوائبُ كثيرة، إذاً العلماء قالوا: لا بدَّ من أجل التَّوَكّل على الله حقّ التَّوَكل من أن تعرفهُ، هنا السُّؤال الدقيق؛ هاتوا لي طالبًا نالَ شهادةً عليا من دون أن يبْذِلَ من أجلها لا وقتهُ ولا جهده ولا تعبه ولا ماله! هذا من سابِعِ المسْتحيلات، يجب أن تعرف الله، سؤال خطير؛ متى يجب أن تعرفه ووقْتُكَ كُله من أجل الدنيا؟ يقول لك: لا وقت لدي، احضَر هذا الدَرْس يقول لك: ليس عندي وقت! عندي سهرة بالمحل، عندنا محاسبة، عندنا ميزانية، عندنا كذا، عندي دروس إضافية، كل إنسان عنده مشاغل، إذا امتص عملك وقتك كله فأنت أكبر خاسِر، نضْربُ على هذا مثلاً، لو أنَ طالبًا ذهب إلى بلدٍ أجنبي لِيَدْرس، وقد أُرسل هذا الطالب بحيث لو نال هذه الشهادة فلهُ في بلدهِ أعلى منصب، وأعلى ميزة، وأعلى إمكانية، فذهبَ للدِّراسة، وهو مضْطرّ لِيَعمل ويدْرس، فإذا كان يكفيه ألف ليرة مثلاً، أو ألف فرنك فرضًا، وهناك عمل بِساعَتين، أجرة هذا العمل ألف فرنك، وجدَ عملاً ثلاث ساعات بألف وخمسمئة فطَمِعَ في المبلغ، وجد عملاً آخر لمدة أربع ساعات بألفين، عمل خامس خمس ساعات بألفين وخمسمئة، سبع ساعات بثلاثة آلاف، عشر ساعات بخمسة آلاف، عشرون ساعة بعشرة آلاف كل يوم فرضاً، فإذا امْتصَّ عملهُ كلّ وقْته، وضيَعَ دِراستَهُ، ونَسِيَ مهمَّتهُ، ونسِيَ البعثة والدِّراسة، ونسي آماله العريضة فهل هذا العمل الذي درَّ عليه مبلغًا كبيرًا في مصلحته أم لم يكن في مصلحته، أنا أقول لكم: أيّ عملٍ مهما علا شأنهُ، مهما كثُرَ دخْلُهُ، مهما رفعَ صاحِبَهُ إذا امْتصَّ وقْتَكَ كلَّهُ فأنت أكبر خاسِر، إنَّك مخلوقٌ في هذه الدُنيا من أجل أن تعرف الله سبحانه وتعالى، لأنّك إذا عرفْتهُ صحَّ عملك، إذا عرفْتهُ عبدْتَهُ، إذا عبدْتهُ سَعِدْتَ بِقُرْبِهِ في الدنيا والآخرة، لا يصحّ العمل إلا بالمعرفة، هذه نقطة مهمّة جدًّا الآن، أي العمل أساس التَّصوّر.

 

صحةُ العمل أساسه صحة التصور:


أيّ عمل صالح أو طالح، حقير أو خطير، مُجدٍ أو غير مجدٍ، سيّئ أو جيّد، العمل أساسه تصَوّر، هذا الذي يسرق لماذا يسرق؟ لأنّهُ يتصوَّر أنَّ السرقة عملٌ يعود عليه بالنَّفْع، دَخْلٌ كبير، وجُهْد قليل، هذا الذي يكذب لمَ يكذب؟ هذا الذي يزني لمَ يزْني؟ هذا الذي يأكل الرِّبا لِمَ يأكل الربا؟ ما من إنسان يعمل عملاً إلا وقبل هذا العمل تَصَوّر انطلق منه لهذا العمل.  

إذًا إذا صحَّ تصوّرك صحَّ عملك، وإذا فسد تصوّرك فسدَ عملك، إذا اعْتَقَد إنسانٌ أنَّ هذا الضوء الأحمر في ساعة السيارة إذاً تألّق فمعنى ذلك أنَّه من أجل يُسَلِّيك في الطريق! وهو ضوء الزَيت، هذا التَّصَوُر يجعل هذه السيارة تقف وتدفعُ من أجل إصلاحها عشرات الألوف، أما إذا تصوَّرْتَ أنَّ هذا الضَّوْء إذا تألّق معنى ذلك أنَ الزَّيْت قد انتهى، وأن السير ولو لمتر واحد فيه خطر كبير تقف فجأةً.

أنا أقول لكم هذا الكلام من أجل أن نعتقِدَ جميعاً أنَّ صِحَّة المعرفة أساسها صحّة التَّصوُّر، وصِحَّة التَّصوّر أساسها معرفة منهج الله عز وجل، لأنَّ الجِهة الوحيدة في الكون التي يمكن أن تعْطِيَك الحقيقة الصافِيَة، قال تعالى: 

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر  ]

ليس في الكون إلا الله ينبئك بالحقيقة الصحيحة القَطْعِيَة في ثبوتِها ودلالتها، إذًا المشكلة أنه يجب أن تعرف الله حتى تسْتقيم على أمره، وحتى تتقرَّب إليه، وحتى ترْجو ما عنده، وحتى تخاف عذابهُ، يجب أن تعرف الله من أجل أن تتوكَّل عليه، من أجل تُفَوِّض له الأمر، من أجل أن تستسْلِمَ له، من أجل أن تُحِبَّهُ، من أجل أن ترضى بِقضائِه وقدرهِ، من أجل أن ترضى عن أفعاله، حجرُ الزاوية، ركن الأركان، أساس البنيان أن تعرف الواحد الدَّيان، هذا يحتاج إلى وقت، وإلى جُهد، وإلى مال، قد تضْطر إلى أن تركبَ سيارة لِتَحضر هذا الدرس، قد تضطرّ أن تنفق من مالك في سبيل الله، قد تضطرّ أن تشتري كتاباً، قد تضطرّ أن تعمل صالحًا بِمالك، فإذا ظَنَنْتَ أنَّكَ تعرف الله وأنت في راحتك التامّة، وأنت في عملك، وأنت تعمل لِمَصلحتك، ولأجل بيْتِك، إذا أردْتَ ذلك فهذا من رابِع المستحيلات، لذلك أوَل نقطة في هذا الدّرس لن تستطيع أن تتوكَّل على الله إلا إذا عرفْتهُ، أما إذا عرفْتهُ وتوكَّلْت عليه فأنت أقوى الناس، وأغناهم، وأكرمهم، وتشعر بِمَشاعر لو اطَّلَعَ عليها المُلوك، والله الذي لا إله إلا هو لقاتلوك عليها بالسَّيف، يُلقي الله في قلبك من الأمْن، والطُّمأنينة، والرضا، والشُعور بالراحة، والشُّعور بالفوز، والفلاح، والنَّجاح ما لو وُزِّعَ على أهل بلْدةٍ لكفاهم:

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾

[ سورة الرعد  ]

لكن بشرْط أن تعرف من هو الله؟ هل هذا الأمر عائدٌ له؟ بيَدِهِ الأمر؟ إذا رأيْتَ أنَّ الأمر كلّه إليه، ليس لك من الأمر شيء، قال الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام:

﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)﴾

[  سورة آل عمران  ]

الأمر كله لله، هذا الذي أتمنَّى عليكم أن يكون واضحًا في أذْهانكم؛ التَّوَكّل على الله إذا شبَّهْناه بِعَدَّاد له إبرة، وإلى ِجانِبِهِ عدَّاد آخر، فعدَّاد التَّوحيد وعدَّاد التَّوَكّل إنَّ الإبرتين تتحرَّكان معًا، فكلَّما ارْتَفَعَ مُسْتوى توحيدِك ارْتَفَعَ مستوى توكّلك، ولن تتوكَّل إلا على الله الواحد الأحد؛ في أمر الصِّحة، في أمر العمل، في أمر الزَّواج، في أمر الخصومات، في أمر الأعداء، الأصدقاء، في أمر كسْب المال، في أمر إنفاقه، في أيّ شيءٍ، إلهي أنت مقصودي ورِضاك مطلوبي، وحدوا، والتوحيد هو مُلَخَّص الأديان كلّها:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

[ سورة الأنبياء  ]

معرفة الله عز وجل، أي الصَنْعة تدلّ على الصانع، والخلْقُ يدلّ على الخالق، والأقدام تدلّ على المسير، والماء يدلّ على الغدير، والبعْرة تدلّ على البعير، أفسَماءٌ ذات أبراج وأرض ذات فِجاج ألا تدلان على العليم الخبير؟! 

 

إعجاز الله في خلقِ الإنسان:

 

1 ـ حاسة الشم:

تحدَّثْتُ اليوم في خطبة الجمعة عن الشمّ، من مِنَّا يصدِّق أنَّ في كلّ شقٍّ من شِقَي الأنف مئة مليون خليّة شَمِيَة، ومئة مليون، مئتا مليون خلية شمْيّة في الأنف، ويخرج من هذه الخلايا الشميّة عدد كبير جدًّا من الخيوط العصبية، خمسون مليون خيط عصبي، بِخَمسين مليون خيط عصبي، ثمَّ تقلّ هذه إلى خمسين ألفاً، أي العصب الشمِّي ضمنه مئة ألف عصب، والشيء الذي يَلفِتُ النَّظَر أنَ الشمّ شخصي، بينما السَّمع والبصر موضوعي، أي إذا وضعنا لوحةً كُتِبَتْ عليها آية، لو رآها الناس جميعًا لقرؤوا الآية نفسها، لو حدثَ صوْتٌ لسَمِعَهُ الناس بِشَكل واحِد، ولكن لكلّ إنسانٍ بُنْيةٌ خاصَّة في شمِّهِ، هذا يُحِبّ هذه الرائحة، وهذا لا يُحِبّها، وهذا يحبّ هذه الأكلة لِنَكْهتها، وهذا لا يحبّها بهذه النَكهة، فالشمّ شيءٌ عجيب.  

2 ـ الكريات الحمر:

قبل أسابيع حدَّثتكم عن الكريات الحمراء، الكُرَيَّة الحمراء سبعة ميكرون، أي سبعة أجزاء من الألف من الميليمتر، ثخنها اثنان ميكرون، عددها خمسة وثلاثون مليون مليون، في كلّ ميليمتر مكعَّب خمسة ملايين، تعيش الكُريَة مئةً وعشرين يوماً، تقطع مئة وسِتِّين ألف رِحلة، تقطع مئة وخمسين كيلو متر، تمرّ بِأوْعِيَة تتناهى في الدِّقة والضِّيق إلى حجْم الكريّة الحمراء، هناك أوْعِيَة دموية لا تسمح إلا بِمُرور كُرَيَّة كُرَيَّة، أي لمعة هذا الوعاء سبْعة ميكرون، وهناك أوعيَةٌ أضْيَق من سبعة ميكرون، هذه الكريّة تنضغِط، وتتطاوَل، وتمشي في هذا الوريد، صُنْعُ مَن؟ يدُ مَنْ صنَعَتْ؟ فالحديث عن الشمّ وعن السَّمع لا ينتهي.  

3 ـ  حاسة الأذن:

الأُذن الوُسطى فيها جهاز بالغ التَّعقيد يُضَعِّف الصَّوت القويّ، ويُكَبِّر الصوت الضعيف، وأنت لا تدري، قد يأتي الصَّوت ضعيفًا فهذا الجِهاز يُكَبِّر الصَّوت، قد يأتي قوياً فَيُضَعِّفُهُ وأنت لا تدري.   

4 ـ  حاسة العين:

الحديث عن العين لا ينقضي، عَمَلِيَّة المطابقة في العين تُبيِّنُ لِكُلّ ذي لبّ عظمة الله عز وجل.  

5 ـ  الكـبد والمعدة والقلب:

أما الكبد فله خمسة آلاف وظيفة، المعدة، الأمعاء، القلب هذا الذي يضخّ في اليوم ثمانية آلاف لتر أي ثمانية أمتار مكعَّبة، كلّ متر مكعَّب خمسة براميل!! ما هذا؟   

6 ـ العضلات:

العضلات ثلاثة أنواع؛ عضلات إرادِيَّة مخطّطة، وعضلات لا إرادية ملساء، ونوعٌ ثالث مُعقَّد جدًّا هو عضلة القلب؛ يعمل بلا كلل، ولا ملل، ولا راحة، ولا مراجعة، لا يغفل ولا يسْهو، منذ أن يكون الإنسان في بطْن أُمِّه جنينًا، وإلى أن يحين حينُهُ، من دون تعب.  

 

التوكل على الله يكون بحجم معرفته سبحانه:


إذا فكَّرْتَ في جِسمك، إذا فكَّرْت فيما حولك؛ في هذا الطَّعام، في هذه الأزهار، في هذه الطيور، في هذه الثِّمار، في هذه الخضراوات، في هذه المحاصيل، في هذه الجِبال، في هذه التِّلال، في هذه الوِدْيان، في هذه المعادن، في أشباه المعادن، فيما هو جميل، فيما هو قاسٍ، فيما هو متين، فيما هو كثير، فيما هو قليل، في هذه العصافير اللَّطيفة، في هذه الأسماك الرائِعَة؛ أسماك للزِّينة، وأسماك للزيت، وأسماك للطّعام، شيءٌ لا يُصدَّق، لذلك يجب أن تعرف الله تعالى قبل أن تتوكَّل عليه يجب أن تعرف من هو الله، لأنَ على حجْم معرفتك تتوكَّل عليه.

 

من لوازم التوكل معرفةُ قدرةِ الله وكفايته وقيوميته:


شيءٌ آخر ينقلنا إلى أن تعرفَ قدْرتَهُ، وكِفايتَهُ، وقيُّومَتَهُ، ما معنى قيومته؟ 

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255 )﴾

[  سورة البقرة  ]

قيام كلّ شيءٍ بالله تعالى، هذه الطاولَة لولا أنَّ الله سبحانه وتعالى أقامها لما قامَتْ، لا جبل، ولا أرض، ولا سماء، ولا كوكب، ولا شمس، ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هو قيُّوم السماوات والأرض، أي كلّ شيءٍ قائمٌ به، كُنْ فيكون، زُلْ فيزول، فإذا كان الله قيُّوم السماوات والأرض فلماذا لا تتوكَّل عليه؟ يجب أن تعرف قُدرتهُ، وكفايتَهُ، وقيُّوميتهُ، وانتِهاء الأمور إلى عِلْمه، أحيانًا تتمنّى على فلان أن يعلمَ هذا الموضوع، ولكن لا يعْلمُه، وأنت لا تُحِبّ أن تُعْلِمَهُ إيّاه، لكنه لا يعلمه، لكن يجب أن تعلَمَ أنّ الله يعْلم كلّ شيء، إذًا قبل التّوكّل تكون المعرفة، والمعرفة لها أبواب كثيرة، يمكن أن تعرف عظمة الله عز وجل من خلقهِ، ويمكن أن تعرف عظمة الله من شرْعِهِ؛ خلْقُهُ وشرْعُهُ يُنبئانك بعظمته، فإذا عرفْتَ عظمته عندئذٍ تعُدّ للمليون قبل أن تعْصيه، تفقدُ كلّ شيء، تفْقِدُ هذا الحِفْظ، هذه المَعِيَّة، هذه الرِّعاية، هذا التَّأييد، هذا النَّصْر، هذا التَّجَلِي، هذا الإقبال، كلّ هذا تفقدُهُ فجأةً، لذلك لأَنْ يُقَطَّعَ جسدُ المؤمن إربًا إربًا أهْوَنُ عليه من أن يعصي الله عز وجل، المنافق يعْصي الله بِيُسْرٍ، بسُهولة، بِسُرْعة، يبْدو ذنب المنافق كالذُّبابة، وذَنْبُ المؤمن كالجبل جاثمٌ على صدْره، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ ، وهناك آية أخرى تُحَيِّر، الآية تؤكِد أنَك إذا ذَكَرْتَ الله تعالى وَجِلَ قلبك، اضطرب، طبْعًا اضْطِراب القلب إذا ذَكَرْتَهُ يعني أن تنظر إلى الآخرة، وما فيها من أهوال، وما فيها من نعيم مُقيم، فهل نَجَوْتُ من النار؟ وهل أنا مؤهَّل للجنَّة؟ وإذا ذكرْتَ الله اطْمأنَّ قلبك للدنيا، لأنَّ الله عز وجل لم يجْعل الدنيا عقبةً بينك وبين الله، قال الله عز وجل:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

وقال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت  ]

 

معرفة الله بالتفكر في خَلقه وكلامه وأفعاله:


إذاً هذا حديث يطول، يمكنك أن تعرف الله من خلْقه، فالتَّفَكُّر إذًا عِبادة كالصَّلاة، لماذا أنت تُصَلِّي؟ لأنَّها فرْض، ولأنَّ الله تعالى أمَرَ بها أمْرًا مقطوعًا به، الفرض هو الأمر قطعيّ الثبوت، وقَطعيّ الدلالة، كم آية يوجد على التَّفَكّر؟ إذًا تفكُّرك في خلق السماوات والأرض من أجل أن ترى عظمة الله، من أجل أن تزداد معرفتك بالله، هذا فرْض آخر، بل إنَّ بعض العلماء جعل التَّفَكّر فريضة من أجَلِّ فرائِضِ الدِّين، إذا درسْتَ شريعة الله عز وجل فإنّك تعرفُه أيضًا، لكنَّك تعرفُه الآن من جهة أخرى، لأنَّ هذا الكتاب كلامه، وهذا الكون خلقهُ، وهذه الأفعال أفعاله، فَيُمكن أن تعرفهُ من خلال خلقه:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[  سورة آل عمران ]

ويمكن أن تعرفهُ من كلامه، من شريعته، لأنَّ هذا القرآن كون ناطق، ويمكن أن تعرفهُ من نبيِه عليه الصلاة والسلام، لأنَّ القرآن خُلقهُ؛ تعْرفُه بالأُسوة، وتعرفه بالخَلق، وتعرفُهُ بِكَلامه وشرْعِهِ، ويمكن أن تعرفهُ بأفعاله في الدنيا:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾

[ سورة الأنعام ]

إذًا من أجل أن يكون التَّوَكُل صحيحًا لابدّ من أن تعرف الله عز وجل، اِعْرِفْهُ وتوكَّل عليه. 

 

التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب:


الشيء الثاني: أجْمَعَ العلماء أيها الإخوة على أنَّ التّوكُّل لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب، من قال لك: إنَّ التَّوَكّل يتناقض مع الأخذ بالأسباب فهذا جاهل، وما سبَّب تأخير المسلمين وغلبة أعدائهم عليهم إلا هذا الوَهْم الباطل الذي روَّجَهُ إبليس، لأن الله عز وجل حينما خلق الكون صمَّمَهُ وفْق قوانين، فإذا احْترمْتَ هذه القوانين وعملت بها فهذا جزء من إيمانك بالله، فإذا احْتقرْتها ولم تُبال بها، وجمَدْتها، ولم تأخذ بها فهذا جهل منك بالله، إنَّ بعض العلماء يقولون: لا يصِحّ التَّوَكّل إلا بالأخذ بالأسباب، فالطالب الذي يقول: أنا توكلت على الله، أنا مؤمن، أنا أخدم هذا الجامع، سوف يُنَجِّحُني الله ولا يدرس، هذا كلام فارغ، تاجر يختارُ بِضاعة سيّئة من دون جهد، ولا يهتم بِسِعرها، يضعها بمحله ولا تباع، ويقول: أنا متوكَّل على الله، الله تعالى أمرك أن تبْحث، أمرك أن تختار البِضاعة الجيِدة، والسِّعْر المناسب، أيّ عمل تهْملُ فيه الأسباب فأنت لسْتَ متوكِلاً على الله أبدًا: 

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)﴾

[ سورة الكهف  ]


  من موجبات التوكل الأخذ بالأسباب:


أجْمَعَ العلماء على أنَّ التوكّل لا يتناقض مع الأخذ بالأسباب، كما أنّهم أجمعوا على أنَّه من موجِبات التَّوكّل الأخذ بالأسباب، الصانِعُ في مصْنَعِهِ، والتاجر في متْجرهِ، والزارعُ في مزرعته، والموظَّف وراء طاوِلَتِه، والمُعلِّم في قاعة تدْريسه، والطبيب في حِرْفَتِهِ، والمهندس في مكتبه؛ هؤلاء جميعاً يجب أن يدْرُسوا تلك الأسباب التي وضَعها الله عز وجل، وأن يأخذوا بها، أُريد أن أُوضِّح لكم هذه الحقيقة: السُّقوط له قانون، عرفه العلماء، ودرسه الطلاب في الثانويات والجامعات؛ هذا القانون قائِم، نافِذ، إنْ أعْجَبَكَ أو لم يُعْجِبْك، إن آمنْتَ به، أو كفَرْتَ، إن أرْضاك أو أغْضَبَكَ، إن انْتَبَهْتَ إليه أو غفلْتَ عنه، إن اعْتَرَفْتَ به، أو لم تعترف، فلو أنَّكَ واقف في طائرة، وكُلِّفْت أن تسقط منها لِمُهمَّة، فإذا آمنْتَ بِقانون السُّقوط تستخدمُ المِظَلَّة، لأنّ المِظَلَّة مَبنِيَّة على أساس قانون السُّقوط؛ وزْنُ هذا المِظَلِي، واتساع رقعة المِظَلَّة، ونوع قِماشها المُحكم الذي لا ينفذ منه الهواء، والأربطة المحكمة، هذه المِظَلَّة مَبنِيَّة على أساس قانون السُّقوط، فإذا قلت: أنا لا أعْترف بها القانون! لم يُقْنِعني، لا أرضى عنه، وما قيمة هذا القانون؟ دَعُوهُ جانبًا!! نقول له: تفضَّل وانْزِلْ، اسْتهزئ بهذا القانون وانْزل من الطائرة من دون مِظَلَّة وسوف ترى ما سيَكُون، قوانين الله عز وجل هكذا؛ قائمة، موجودة، نافذة، عرفْتَ أم لم تعْرف، رضيتَ أم لم ترْض، أعْجَبَكَ أم لم يُعْجِبْك، في كلّ الأحوال، إما أن تأخذ بها فَتَنْجو، وإما أن تُهْمِلَها فتَهْلكَ، وهذا مُلَخَّصُ المُلَخَّص، أي إذا أردْتُم أن تضْغطوا هذا الدّرس كلّه في كلمات إنَّ لله عز وجل في كونه وفي خلْقه سُنَن، إما أن تأخذ بها فَتَنْجو، وإما أن تُهْمِلَها فتَهْلكَ، إنك إذا أهْمَلْتَ هذه السُّنَن، لو بكَيْتَ، ورَجَوْتَ، ودَعَوْتَ، ورفعْتَ صوتك بالدُّعاء، كلّ هذا كلامٌ فارغ، أعمال لا جدْوى منها، حركات زائدة عن الحدّ المعقول، هذا الذي أتمنَّى عليكم أن يكون واضِحًا بين أيديكم، العلماء قالوا: إنَّ مِن موجِبات التَّوَكُّل الأخذ بالأسباب، وهذا الكلام للطُّلاب، للمُدرِّسين، للمهندسين، للأطِبَاء، للمحامين، لأصحاب الحرف، للصُّناع، للمزارعِين، للموظّفين، لكلّ إنسان، هذا إهْمال العمل، عدم الأخذ بالأسباب، تُقدِم عملاً ناقِصًا من دون دِراية، أخي أنا مسلم، دع الأمور لِسَيِّدك!! هذا كلام زعْبرة! وليس له أيّ معنى إطلاقًا.

إنَّ مِن موجِبات التَّوَكُّل الأخذ بالأسباب، وما تخلّف المسلمون إلا بِهذا المفهوم المغلوط، لأنّهم جعلوا التَّوَكّل في الجوارح، ولم يجْعلوه في القلب، التَّوَكُّل حال نفسي مكانه القلب، وأما الجوارح فيجب أن تعمل، فإذا أهْملْت العمل أي توكَّلْتَ بِجَوارحك فليسَتْ الجوارح مكان التَّوَكّل بل القلب مكان التوكل، الله عز وجل جعَلَ إنْجاب الأولاد يتمّ عن طريق الزَّواج، وجَعَلَ الشِّبَع يتمّ بِتَناول الطَّعام، وجعَلَ الوُصول إلى بلد يحتاج إلى رُكوب مركب أو دابة أو شيء ما، كلّ شيء له سبب، أنت أيُّها الإنسان مَقْهور بالعِلَة الغائِيَّة، لا تستطيعَ أن تأكل شيئًا إلا إذا زرعْتَهُ، لكنَّ الله وحْده وهو خالق الكون أعمالهُ مُنَزَّهة عن العِلَّة الغائِيَّة، الله تعالى يقول للشيء: كُنْ فيَكُون، أما أنت فلابدّ من أن تزْرع هذه الفاكهة حتَى تأكلها، هذا درْسٌ بليغٌ يوضع بين أيديكم. على من التَّوَكُّل؟ لنا عَوْدة لهذا الموضوع في الدرس القادم.

 

معاني اسم العزيز:


﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ .. الآن دخلنا في اسم العزيز، من هو العزيز؟ 

المعنى الأول: القرآن الكريم فيه آيات كثيرة جدًّا طافحة بهذا الاسم الكريم، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ، وقال تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ، العزيز مأخوذ مِن عزَّ يَعِزُّ بكَسْر عَيْن الفِعْل، وهو بِمَعنى نَدَرَ، أيْ لا مثيل له، ولا نظير، فالله عزيز لأنَّه لا مِثْل له، ولا شبيه، وكلّ ما خطَرَ بِبَالِكَ فالله خِلاف ذلك، الله سبحانه وتعالى لا يُشْبهُ شيئًا من خلْقه، إذاً عزيز، لا مِثْل له، لا نِدَ له، لا إله معه، مِن عزَّ يَعِزُّ. 

عندنا فِعْلٌ آخر، هو عَزَّ يَعُزُّ، بِمَعنى غَلَبَ يغْلب، مثلٌ عربي شهير يقول: مَن عزَّ بزّ، أي من انْتَصَرَ وغلبَ له الحقّ أن يأخذ المال والغنائم والآية الكريمة: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ أي غلبني في الخِطاب، إذاً عَزَّ يَعُزُّ أي غلبَ يغلب، فالعزيز يعني أنَّهُ لا مِثْل له، ولا شبيه له، من عزَّ يعِزّ، ويعني أنَه القاهر فوق عباده، من عزَّ يعُزُّ. 

وعندنا فِعْلٌ ثالث، هو عَزَّ يَعَزُّ، بِمَعنى اشتدَّ وقوي، والدليل: 

﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)﴾

[ سورة ص ]

بقي علينا؛ لماذا قال الله عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ؟ الله سبحانه وتعالى له تِسْعةٌ وتسعون اسْمًا، لماذا اخْتار من بين أسمائِهِ كُلِها اسم العزيز، وقال لك: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ؟

أُعِيدُ عليكم مرَّةً ثانية: الموضوع دقيق جداً، عندنا في اللُّغة ثلاثة أفعال: عزَ يَعِزُّ، وعزَّ يعُزُّ، وعزَّ يَعَزُّ، فالأوَّل: بمعنى ندر ينْدر، شيء عزيز أي نادر، غير موجود، قليل جداً، والثاني: بمعنى غَلَبَ يغلب ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ أية كريمة أي غلبني في الخِطاب، والثالث: بِمَعنى اشْتدَّ وقويَ ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ ، نقول: تعزيز بِمَعنى مُعاونة، مُساعدة، تأكيد، تدعيم، فالله سبحانه وتعالى عزيز من عزَّ يَعِزّ أي لا مثل له ولا نظير، وعزيز مِن عزَّ يَعُزُّ أي يغلبُ ويقْهر، وعزيز مِن عزَّ يعَزّ أي اشْتدَّ وقَوِيَ.

الآن الاسم الأوَّل للتَّنْزيه، عزَ يعِزُ أي لا مثيل له ولا نظير، سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، الاسم الثاني والثالث من صِفات الذات الذي يغلبُ، الذي يقْهر، قال تعالى: 

﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)﴾

[ سورة الأنعام ]

وهو القويّ المتين. المعنى الثاني والثالث من أسماء الذات. 

وهناك معنى رابِع العزيز بمعنى المُعِزّ، كأن تقول: هذا جرحٌ أليم بِمَعنى مُؤْلِم، وزن فعيل بمعنى مُفْعِل، العزيز بمعنى المُعِزّ، هذا من أسماء أفعاله، عندنا أوَّل اسم تنْزيهي، واسمان من أسماء الذات، واسم من أسماء الأفعال، هو عزيز ليس كمثله شيء، وعزيز يغلب ويقهر من سِواه، وعزيز قويّ، وعزيز يُعِزّ، هذه معاني العزيز.  

 

رأي الإمام الغزالي في معنى العزيز:


لكنّ الإمام الغزالي له تحليل رائِع جدًّا لهذا الاسم، يقول: العزيز الشيء الذي يقلّ وُجود مثله، وتشتدّ الحاجة إليه، ويصْعب الوُصول إليه، فإذا اخْتلّ أحد هذه الشروط لا يسمَّى هذا الشيء عزيزًا، إذا قلّ وُجود مثله، واشْتدَّت الحاجة إليه، ولكن سَهُل الوُصول إليه فليس عزيزًا، إذا قلّ وُجود مِثْله، وصَعُب الوُصول إليه، ولكن لم نكن بِحاجة إليه، فهذا ليس عزيزًا، لو أنَّهُ صعُب الوُصول إليه، واشْتدَت إليه الحاجة، لكنَّه كثير مبذول، فليس عزيزًا، فلا يُسمَّى الشيءُ عزيزًا إلا إذا قلّ وُجود مثله، واشْتدَّت الحاجة إليه، وصعُب الوصول إليه، أيْ لا يُنال جانبهُ، هذه صفات الأشياء إذا سمَّيناها عزيزة، أما إذا أردنا أن نفهم اسم الله العزيز، يَقِلّ وُجود مثله حتى لا يوجد إلا هو لا إله إلا الله، وتشْتدّ الحاجة إليه، كلّ شيءٍ بيَدِهِ، ويصْعبُ الوُصول إليه، لا يستطيع أحدًا أن ينال منه، الأمور كلّها إليه، وليس في مقْدور أحد من خلقه أن ينال منه، وليس كمثله شيء، متفرّد في ذاته، وفي صفاته، وفي أسمائه، وفي أفعاله. 

كمالُ نُدْرة وُجودِه أنَّه واحِد، ليس كمثله شيء، وكمال الصِفة الثانية شِدَّة الحاجة إليه، جميع المنافع عائدة إليه، وكمال أن يصْعب الوُصول إليه أنَه يصل إلى كل خلقه، ولا أحد من خلقه يصل إليه، بمعنى أنَّه ينالهُ، لذلك قال بعضهم: العزيز هو الذي لا يُدْركُهُ طالبوه، ولا يعْجزهُ هارِبوه، هذا الاسم العزيز واحِدٌ ليس كمثله شيء، كلّ الحاجات إليه، كلّ المنافع بيَدِهِ، ولا يستطيعُ أحدٌ من خلقِهِ أن ينال منه، قال: على العزيز توكّل، بيده كل شيء، وليس كمثله شيء، ولا شيء يصل إليه. 

هل أدْركتم معي لماذا قال الله عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ؟ لماذا انتقى الله عز وجل من أسمائِهِ كلّها اسم العزيز؟ لأنه لا يوجد غيره، توكل على غيره لا يوجد بيده شيء غيره، لا يوجد غيره أساساً، غيره لا شيء، غيره وهم، غير الله وهم، خيال، صورة، أما الحقيقة هو الله عز وجل، وغيره ليس بيدِه شيء، وغيرهُ مقهور، أما الله عز وجل فلا شيء قبله، ولا شيء بعده، ولا شيء مثله، ولا شيء نظيره، والمنافعُ كلّها إليه، ولا أحد ينال منه، لا يُدركُهُ طالبوه، ولا يُعْجزهُ هارِبُوه، لذلك ورد: "من جلس إلى غنيّ فتضَعْضع له من أجل ماله ذهب ثلثا دينه" ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ﴾ .

 

تلخيص لما سبق:


إن شاء الله في الدرس القادم نتابع معاني التوكل ونتابع معنى الرحيم، قال الله:  ﴿عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ بآن واحد، عزيز ورحيم، نتابع بقية معاني التوكل ونتابع معنى الرحيم أما العزيز من عزَّ يعِز، وعزّ يعُز، وعزّ يعَز، والعزيز هو المعز، أربعة معان لاسم العزيز، الأولى لا شبيه له، ولا نظير له، وليس كمثله شيء، والثانية الذي يغلب كل شيء، والثالثة الذي يقوي كل شيء، وهو المعز، ويقل وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه، عزيز الله عز وجل، أحياناً إنسان تتكلم معه كلمة قاسية تحجمه، تنال منه، أحياناً تؤذيه، أحياناً تضعف له مكانته، أما الله عز وجل عزيز لا يستطيع أحد من خلقه أن ينال منه، والله عز وجل عزيز فعّال لما يريد، هو القاهر فوق عباده، والله عزيز ليس كمثله شيء، على العزيز توكل، إذاً من حكمة الله البالغة أنه اختار للتوكل اسم العزيز:

اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبتُ           فإذا اعتززت بمن يموت فإنك عزك ميتُ

* * *

 

الله عز وجل فضلهُ مبذول لِكُلّ الخلق:


لكن هناك آية دقيقة جدًّا يقول الله عز وجل:

﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)﴾

[ سورة المنافقون ]

إذا اعْتَزَزْتَ بالعزيز فأنت عزيز، الله عز وجل يُعطيك شيئًا من هذا الاسم، يرفعُ مكانتك، يمْنَع الناس عن أن ينالوا جانبك، تشْتدُّ الحاجة إليك، يجعل الخير بيَدَيْك، إذا أحبَّ الله عبْدًا جَعَلَ حوائج الناس إليه، إذا أقْبَلْتَ على العزيز مُنِحْت شيئًا من هذا الاسم العظيم، والدليل قول الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي أنت تكتسب شيئاً طفيفاً من هذا الاسم العظيم، تتميَّز: 

﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾

[ سورة الشرح  ]

وتشْتدُّ الحاجة إليك، يجعل الله حوائج الناس عندك، ويحْميكَ مِن خُصومك، لا ينالكَ أحد، إذا اعتَززْتَ بالعزيز فأنت عزيز، والدعاء المشهور الذي يدعا في صلاة الصبح كل يوم: سبحانك إنَّه لا يعزّ من عاديت، ولا يذلّ من واليْتَ، الذي تُواليهِ يا ربّ يزْدادُ عِزًّا، والذي تُعادِيه يزْدادُ ذُلاً، كُنْ مع العزيز تَكُن عزيزًا، كُن مع الذليل تَكن ذليلاً، الله عز وجل قال: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾

[  سورة المائدة ]

المؤمن عزيز، ولا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، وابْتَغوا الحوائِج بِعِزَّة الأنفس، فإنَّ الأمور تجري بالمقادير، وشرف المؤمن قِيامُهُ بالليل، وعِزُّه اسْتِغْناؤُهُ عن الناس، واحْتجّ إلى الرجل تكن أجيرهُ، وتكن أسيرَهُ، واسْتَغْنِ عنه تكن نظيرهُ، وأحْسِن إليه تكن أميرهُ، فلذلك الله عز وجل جعَلَ فضلهُ مبذولاً لِكُلّ الخلق، قال تعالى: 

﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)﴾

[ سورة النساء ]

قل لمن بات لي حاسِــدًا         أتدري على من أسأتَ الأدب؟

أسأْتَ على الله في فِعلِهِ         إذْ لــمْ ترْضَ لـــــــــــــــي مـا وهَـبَ

ملِكُ الملوك إذا وَهَــــــــــب         قُــــــــــــــــــم فاسْــألنَّ عن السَّــبب

* * *

أنت عبده والله ربك، كما أنه رب فلان هو ربك، كما أن فلاناً عبده أنت عبده أيضاً:

ملِكُ الملوك إذا وَهَــــــــــب         قُــــــــــــــــــم فاسْــألنَّ عن السَّــبب

الله يعطــــي ما يشـــــــــاء          فَـقـــــــــِفْ عـلــى حــــــــــــدّ الأدب

* * *

فالعزيز اسم دقيق جدًّا، وأتمنَّى عليكم أن تزيدوا هذا الاسم بحثًا ودرْسًا لعلّ الله عز وجل ينفعَكم بهذا الاسم العظيم﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾، وإلى درس آخر إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور