وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 19 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 217 – 220 أبواب معرفة الله، التوكل علم وحال وعمل ولابدّ من معرفة المُوَكّل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.


  التَّوكّل عِلْمٌ وحال وعمل:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع عشر من سورة الشُّعراء.

في الدرس الماضي تمّ بِفَضل الله عز وجل شرْحُ طرفٍ من معاني التّوكّل التي ورد الحديث عنها في قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ .

يا أيها الإخوة الأكارم؛ التَّوكّل عند بعض العلماء عِلْمٌ وحال وعمل، فالتَّوَكُّل لا يكون ولا يَصِحّ إلا إذا عرفْتَ الله سبحانه وتعالى، وقد يسأل سائل: كيف أتعرَّفُ على الله تعالى؟ قبل كلّ شيء، لابدّ من اقْتِطاعٍ وقتٍ من أوقاتك الثَّمينة للتَعَرّف إلى الله عز وجل، أما أن تمتص الحياةُ الدنيا كلَّ وقْتِك فإنَّك لن تستطيع التَّعَرّف إلى الله عز وجل، لابدّ من تخصيص وقْت لِمَعرفة الله، كيف تعرف الله عز وجل؟ إنَ التَّوَكُّل مرتبِطٌ بِمَعرفة الله، إنَّك لن تتوكَّل إلا على القويّ، لن تتوكَّل إلا على الغنيّ، لن تتوكل إلا على القدير، لن تتوكل إلا على الحكيم، لن تتوكل إلا على الرحيم، لن تتوكَل إلا على العزيز، إذًا: معرفة الله أوَّلاً ثمَّ التوكُّل عليه ثانيًا.  


أبواب معرفة الله آياته القرآنية والتكوينية وأفعاله:


هناك أبواب ثلاث لِمَعرفة الله، الله سبحانه وتعالى خَلَقَ الخلْق، وجعلهم مَظْهرًا لأسمائِه الحسنى وصفاته الفضلى، والله سبحانه وتعالى أنْزَلَ هذا الكتاب، وهذا الكِتاب لو قرأْتَهُ، لو تلَوْتَهُ حقَّ تِلاوتِهِ، وتدبَّرْتَهُ حقَّ تَدَبُّرِهِ، لَعَرَفْتَ عظمة الله عز وجل من خلال هذا الكتاب.

وشيءٌ آخر؛ ما يجْري في الأرض من أفعال، هذه أفعال الله، الكون خلقهُ، وهذا كلامه، وهذه أفعاله، خلقهُ يدلّ عليه، وكلامه يدلّ عليه، وأفعاله تدلّ عليه، فإذا شئْت أن تعرف الله عز وجل فحَسْبكَ الكون، وإذا شئْتَ أن تعرف الله عز وجل فحَسْبُك هذا الكتاب، وإذا شئْتَ أن تعرف الله عز وجل فَسِرْ في الأرض، وانْظُر كيف كان عاقبة المكَذِّبين، هذه أبواب معرفة الله عز وجل.

قد يقول قائلٌ: معرفة أمره لا يكفي، هناك خَلْقٌ، وهناك أمْر، وهناك ربّ عظيم، فهناك عِلْمٌ بأمر الله، وهناك عِلْمٌ بِخَلقه، وهناك عِلْمٌ به، فالعِلْم بِخَلقِهِ كما يحْدثُ في شتَّى بِقاع الأرض، بَحْثٌ ودرْسٌ واكْتِشاف واخْتِراع؛ هذا كلّه معْتَمِدٌ على معرفة القوانين الدقيقة التي تنْظِمُ علاقة الأشياء المادِّيَّة بعضها ببعض، هذا عِلم خلق الله.  

الظَّواهر الفيزيائيَّة، والظَّواهر الكيميائيّة، والظواهر النفسية الاجتماعيَّة والاقتِصاديّة والفَلَكِيَّة، الظواهر المادِيَّة، الرِّياضيات، الفيزياء، الكيمياء، التاريخ، الجغرافيا، علم النَّفس، عِلم الاجتماع، هذه كلّها عِلومٌ من خلق الله، وقد تَفَوَقَتْ بعض البلدان في هذا المِضْمار تفوُّقًا كبيرًا، هذا علم بِخَلق الله، أما أنّ الإنسان إذا اسْتغرق في هذا العلم، وبقِيَ محصورًا به، ونَسِيَ خالقه ومُربِّيه، هذا العلم لا ينفعُهُ شيئًا، من هنا قال عليه الصلاة والسلام عن زيد بن أرقم :

(( لَا أَقُولُ لَكُمْ إلَّا كما كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ؛ كانَ يقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِنَ العَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا.))

[  صحيح مسلم : خلاصة حكم المحدث: صحيح ]

العِلْم بِخَلق الله مُتَعَلِق بالدنيا إذا أردْت به الدنيا، ويتعلَّق بالآخرة إذا أردْتَ به الآخرة، فإذا درسْتَ الفلَكَ لِتَكْتشف العظمة الكامنة في خلق السماوات والأرض، فهذا العِلْم المتعلِّق بِخَلْق الله يوصِلُ إلى الله عز وجل، إذا درسْتَ تشْريح الإنسان، وأجهزته، وأعضاءهُ، وبُنْيتَهُ، وعلم وظائفه، من أجل أن تبْحث عن عملٍ تقْتاتُ بِرِزْقه فهذا عِلمٌ أوْصَلَكَ إلى الدنيا، أما إذا اتَّخَذْت من هذا العِلْم سبيلاً إلى الله عز وجل كي تعرف عظمة خلقِه، ورَوْعَة صَنْعته، وإتقان خلقه، فهذا العِلم؛ عِلم التشريح وعِلم وظائف الأعضاء يوصِلُك إلى الله عز وجل، أيّ شيءٍ خلقه الله عز وجل إما أن ترْقى به إلى الله، وإما أن تهْوي به إلى الدنيا، وأنت حرّ، وأنت مُخَيَّر، حتى العلوم المتعلِقة بِخَلْق الله، إنَّك إذا تأمَّلْت في قوانينها، ودرسْت خواص الأشياء، وخصائص المادّة، فإنَّ هذه العلوم تكشف لك عن جانبٍ كبير من عظمة الله عز وجل، هذا عِلْم خلْق الله. أما العِلم بأمر الله تعالى، هذا القرآن الكريم، وهذه السنَّة المطهَرة، إذا تلَوْت القرآن حقَّ تِلاوته، وتدبَّرْت آياته حقّ تدبّره، تكشف لك هذه الآيات عن جانبٍ عظيم من جوانب أسماء الله الحسنى، وصفاته الفضلى، وإذا تأمَّلت في الخلق، تأمَّلت في الحركة التي تجري بينهم، تأمَّلت في تصرّف الله عز وجل فيما يتعلَّق بشؤونهم، إنَّك إذا تأمَّلْت في هذا أيضًا تعرّفت إلى الله عز وجل، فهذه المصادر الثلاث؛ خلقُهُ: الكون، وكلامه: القرآن، وأفعاله: الحوادث، خَلْقُهُ يدلّ عليه، وكلامه يدلّ عليه، وأفعاله تدلّ عليه. 

 

لكل إنسان مرتبة في معرفة الله:


لكلّ إنسان في الأرض مرتبة في معرفة الله، فكلما ازْدَدْتَ تفكُّرًا في آيات الله، وتتبُّعاً لأفعاله، وتدبّرًا لكلامه كلّما ارْتَفَعَت مرتبتُك عند الله عز وجل، وقد ورد:"لا بورك لي في يوم لم أزْدَدْ فيه من الله عِلْمًا".

 

العلم هو قيمة الترجيح بين الخَلق:


كما قلتُ من قبل: القيمة الوحيدة التي اعْتَمَدَها القرآن الكريم كَقيمة وحيدة للتَّرجيح بين خلقِهِ إنها العِلم، فإذا أردْت الدنيا فَعَلَيك بالعِلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعِلم، ويظلّ المرء عالمًا ما طلب العِلم، فإذا ظنَّ أنَّهُ قد عَلِم فقد جَهِل، والعِلم لا يُعطيك بعضهُ إلا إذا أعْطَيْتَه كلّك، فإذا أعْطيْتَهُ بعضك لم يعْطِكَ شيئًا.

إذاً أردتُ من هذا الكلام أن أقول لكم: إنَّ التَّوَكُّل لا يكون، ولا يصحّ إلا إذا عرفْت الله عز وجل، تتوكَّلُ على مَن؟ على العزيز الرحيم، على الخَلّاق العليم، على مَن بِيَدِهِ كلّ شيء، على القويّ، على القادر، على الغني، على السميع، على البصير، إذاً لا بدّ من معرفة الله عز وجل، وقد قيل: أصل الدِّين معرفة الله، والذي جاء النبيَّ عليه الصلاة والسلام وقال له:" جئْتُكَ لِتُعَلِمني من غرائب العِلم، فقال عليه الصلاة والسلام: فماذا صَنَعْت في أصل العلم؟ قال: هل عرفْت الربّ؟" هناك في الدِّين شيءٌ ليس ظاهرًا ظُهورًا صارخًا، كالبناء الشامخ، بناءٌ مؤلَّف من طوابق عديدة، إنَّ في هذا البناء شيئًا أساسيًّا خطيرًا جدًا، إنه  الأساس، الأساس تحت الأرض، الذي يبْدو لك هذه الطَّوابق، لو لم يكن هناك أساس متين لانْهار البناء.

 

السور المكية دعوة إلى التفكر والتأمل:


لذلك الإنسان إن لم يعرف الله حقَّ المعرفة فشَهْوَةٌ صغيرة تُفْسِدُ أخلاقه، تحت تأثير أيّ ضغط قليل يخرج عن اسْتِقامته، هو مُعَرّض لإغراءٍ أو لِضَغْطٍ، الإغْراء جاذب، والضَّغط مانِع، فحياة الإنسان مَشْحونة بالضُّغوط والمُغْرِيات، فما لم يكن هناك إيمان كبير بالله عز وجل أساسه البحث، والتَّدقيق، والمعرفة، والتَّفَكُّر، والتَأمّل، والدَّرس، ما لم يكن هناك إيمان قويّ فإنَّ الإنسان ينْهار لِضَغْط يسير، أو لإغراءٍ قليل، وعندها يفْقد إيمانه، وقد وصف عليه الصلاة والسلام إيمان الناس في آخر الزمان فقال: عن أبي هريرة :

(( بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا. ))

[ صحيح مسلم : حكم المحدث: صحيح ]

لماذا؟ لأنَه ما عرف الله عز وجل، أي المشكلة التي يُعانيها المسلمون هو أنّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاء بالإسلام أمضى مع أصحابِهِ ثلاث عشْرة سنةً في مكَة يدْعوهم إلى معرفة الله عز وجل، وإذا شئْتم فاقْرؤوا السُّوَر المكِيَّة، تقرؤون ماذا؟ قال تعالى: 

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)﴾

[ سورة الشمس  ]

 وقال تعالى: 

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)﴾

[ سورة الليل  ]

 وقال تعالى:

﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)﴾

[ سورة الفجر  ]

إذا قرأتم السُّوَر المَكِيَّة فلا تجدون فيها إلا الآيات الكونِيَّة، تقريباً تكاد السُّوَر المَكِيَّة تقريبًا تتحدَث عن شيئين؛ عن الإيمان بالله من خلال آياته الكونية، وعن اليوم الآخر، هذا هو أساس الإيمان، فإذا عَلَّمْتَ الناس الأحكام الشَّرْعِيَّة قبل أن يعْرفوا المُشَرِّع، علَّمْتهم الأمر قبل أن يعرفوا الآمر، علَمْتهم أحكام الدِّين قبل أن يعرفوا خالق الكون، عندئذٍ لا يستقيمون على أمر الله، آيةٌ كريمة مِن أدقّ الآيات التي وردَت في أواخر سورة الطَّلاق، يقول الله عز وجل:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[ سورة الطلاق  ]

أيْ خلْق السماوات والأرض من أجل أن تعلم، عِلَّة خلْق السماوات والأرض أن تعلم: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ .

 

من صدق في معرفة الله فالله يهديه إليه:


يجب أن تعرف اسم العليم، واسم القدير، يجب أن تعرف أنَّ علمه يطولك، وأنّ قدرته تَطُولك، من أجل أن تستقيم على أمره، أي إذا بقيَ الإسلام في حَيِز التّفْكير، وحيِّز الثَّقافة لا يقطف الإنسان ثماره، وإذا بقي الإنسان في حيِز العواطف لا يقطف الإنسان ثماره، لن يقطف الإنسان ثمار الدِين فيَسْعَدَ به في الدنيا والآخرة إلا إذا أحاط به من كلّ جوانبِهِ؛ فهذا خلْقُهُ، وهذا القرآن كلامه، وتلك الحوادث أفعاله، من خلال القرآن تعرف الله، ومن خلال الكون تعرف الله، ومن خلال الحوادث تعرف الله، تعرف الله إذا تأمَّلْت، وتعرف الله إذا قرأْت، وتعرف الله إذا اسْتَمَعْتَ، لك أن تُفَكِّر، ولك أن تقرأ، ولك أن تسْتَمِع، كلها طرقٌ موصِلَةٌ إلى الله عز وجل، لذلك من أجل أن تكون أقوى الناس، ومن أجل أن يصِحَّ تَوَكُّلك لا بدّ من أن تعرف ربَّك، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: عن عبد الله بن مسعود :

(( إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ كَذّابًا. ))

[ صحيح مسلم  : خلاصة حكم المحدث: صحيح ]

إذا صدَقْت في معرفة الله فإنَّ الله سبحانه وتعالى يهْديك إليه، قال تعالى: 

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

لمُجَرَّد أن تنعقِد إرادة ورغْبة صادِقة مُصَمِمة على أن تعرف الله عز وجل ربّنا سبحانه وتعالى يُريك آياته الكَوْنِيَّة، يُلْهِمُكَ أن تفكِّر بها، يُسْمِعُكَ الحقّ من أهل الحقّ، يجْمعك مع أهل الحقّ في مكانٍ حقٍّ وهو المسجد. 

 

التَّفَكُّر عِبادة من أرقى العبادات:


إذًا في التَّوَكّل أشياء ثلاث، هذا مُلخَّص الدَرسين السابقين؛ في التَّوَكُّل عِلم، وفي التَّوكّل حال، وفي التَّوكل عمل، فالعلم هو أن تعرف الله، وهذا أساس الدِّين، ابن آدم اطلبني تَجِدني، فإذا وَجَدْتني وجَدْت كلّ شيء، وإن فِتُّكَ فاتَكَ كلّ شيء، وأنا أحَبُّ إليك من كلّ شيء، أصْلُ الدِّين معرفة الله تعالى، إذاً التَّفَكُّر عِبادة من أرقى العبادات، بل إنَّها لا تقِلُّ خطورة عن الصَّوم والصَّلاة، والآيات التي تحضّ على التَّفَكّر لا تُعدُّ ولا تُحْصى، اِقرأ القرآن قال تعالى:

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[ سورة يونس ]

قال تعالى:

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾

[ سورة عبس ]

 قال تعالى:

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)﴾

[  سورة الطارق  ]

هذه كلّها آياتٌ تحضكم على التَّفَكّر في خلْق السماوات والأرض، لأنَّك لن تتوكَل على الله إلا إذا عرفْته، هذا جانب من جوانب الموضوع. 

 

الشطر الثاني للتوكل هو الحال:


الجانب الآخر أنَّ التَوَكُّل حال، كيف؟ الجواب: لو أن أحدنا له قضِيَّة فيها خُصومة، ووكَّلَ مُحامِيًا بارعًا، قَوِيًّا، مُتَفَهِمًا للقوانين، ضليعًا في حِرْفَتِهِ، طليقًا في لسانه، له مكانة كبرى في القصْر العدلي، إذا وكَّلْت هذا المحامي فإنَّك تشْعر بشيءٍ من الطّمأنينة؛ فكيف إذا كان الذي يتولَى عنك كلّ شيء هو خالق السماوات والأرض، الله سبحانه وتعالى يقول:  

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾

[  سورة الحج  ]

يُدافعُ عنك، يتولَى أمْرك:

﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾

[  سورة البقرة ]

إذا كان الله معك فمَن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ما من مخلوق يعتصِمُ بي من دون خلقي أعرف ذلك مِن نيّته فتكيدهُ أهل السماوات والأرض إلا جَعَلتُ له من بين ذلك مَخْرجًا، وما من مخلوقٍ يعتصم بِمَخلوقٍ دوني أعرف ذلك مِن نِيَّته إلا جعلْتُ الأرض هَوِيًّا تحت قدَمَيه، وقطَّعْتُ أسباب السماء بين يديه.

 

ثمار التوكل:


حالة المتوكِل حالة التَّسليم، وحالة الرِّضا، وحالة الطمأنينة، وحالة السكينة والتَّفويض، هذه كلّها ثِمار يانعة للتَوَكُّل، شتَّان بين إنسانٍ مقْهورٍ خائفٍ قلق ومضطربٍ يشعر بالقهْر، يشعر بالذلّ، يشعر بالخنوع، يشعر بخَوفٍ يأكل نفسه، وبين إنسانٍ آخر يشْعر بالأمن، والعافية، والصحة النفسية، والسلامة، والرِّضا، والتفويض، والتَّسليم؛ فرْق كبير، لذلك ربّنا عز وجل لما قال:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية  ]

من رابع المستحيلات، بل من سابع المستحيلات، بل من كل المستحيلات أن تكون حياة المؤمن النَّفْسِيَّة كَحَياة الكافر النَّفْسِيَّة؛ هذه نفْسٌ قلقة، مضْطربةٌ، يائسة، مقْهورة، خانعة، ذليلة، وهذه نفْسٌ مطمئنة، آمنة، ربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾

[  سورة الأنعام  ]

ما قولك بهذه الآية؟ أولئك؟ لو أنَّ الله عز وجل قال: أولئك الأمن لهم، أي لهم ولغيرهم، أما حينما قدَم الله عز وجل لهم على الأمن أي الأمن لا يحسّ به أحدٌ سِواهم، الأمن خاص بهم، الأمْنُ لهم وحْدهم فقط، لا يشْعر بالأمن إلا المؤمن، لا يشعر بالطمأنينة إلا المؤمن، لا يشعر بالسَّكينة إلا المؤمن، هذه من ثمار التَّوَكّل، بِشَكل بسيط جدًّا أنت جنديّ وأعلى رتبة في هذا الجيش يحِبُّك حبًّا جمًّا، ويحْرصُ عليك حِرْصًا بالغًا، انتهى الأمر، لا تخاف شيئًا، هذا حال سيّدنا هود، حينما قال كما قال تعالى:

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

إذا عرفْتَهُ توكَلْت عليه، فإذا توكَلْت عليه شعرْت بالأمْن والطُّمأنينة. 

 

الشطر الثالث للتوكل هو العمل:


لكن الشَطْر الثالث في التَوَكّل هو العمل، ربّنا عز وجل خَلَقَ الكون وخلقهُ وفْق سُنَن دقيقة، وأيْضًا أشار في كتابه إلى سنن أخرى في التعامل مع عباده، فَمِن لوازم العبودِيَّة لله عز وجل أن تتأدَّب مع هذه السُّنَن، الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيءٍ سببًا، جعل لكلّ هدفٍ طريقًا، جعل لكلّ غايةٍ وسيلةً، جعل لكلّ شيءٍ خِطَّةً، فأنت حينما تكون عبْدًا لله عز وجل حقًّا تأخذ بهذه الأسباب، تأخذ بهذه الوسائل، تحترم هذه السُّنن، تُطَبِّقها، لذلك كما قال العلماء: لا يتناقض التَّوَكُّل مع الأخذ بالأسباب بل إنَّ الأصحّ مِن هذا أنَّ الأخْذ بالأسباب من لوازم التَّوَكّل، ما من طريقٍ يرفعُ المسلمين، ويجعلهم قادةً في الأرض إلا أن يأخذوا بهذا المعنى؛ التَوَكّل محَلُّهُ القلب، والجوارح محلّها السَّعي، فإذا نقلْتَ التَّوكّل من القلب إلى الجوارح فقد قعدْت عن الأخذ بالأسباب، وأكلَ قلبَك الخوف، وهذا ما يقعُ عند الناس، هناك كسلٌ، وهناك التِباس بين التَّوَكّل وبين القعود، أو بين التَّوكّل والتَّواكُل، فالذي يجب أن نعلمَهُ عِلْم اليقين أنَّ التَّوكّل عِلمٌ وحال وعمل كالتوبة تماماً، علم يجب أن تعرف الله من أجل أن يكون التوكل صحيحاً، وحالٌ الشُّعور بالأمْن، والطمأنينة، والسّكينة، وهذا من ثِمار التَّوكّل، والأخذ بالأسباب في كلّ حقل من حقول الحياة؛ في عملك، وفي الطريق إلى الله. 

هذا الذي يقول: نحن عبيد إحسان، ولسْنا عبيد امتحان، هذا الذي يرْجو الجنَة من دون عمل، هذا الذي لا يُقدِم شيئًا للمجتمع، يكتفي أن يقول: سبحان الله، ربّ اغْفر لي ذنوبي ـ ماذا قدَّمْت؟ ماذا فعلْت؟ لماذا أنت في الدنيا؟ الإنسان بلا عمل لا قيمة له، قيمة المرء ما يُحْسِنُهُ، بل إنَّ عملك الصالح هو الذي يُحدِّد مكانتك عند الله عز وجل والدليل قوله تعالى: 

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾

[ سورة الأنعام ]

إذاً حينما قال الله عز وجل: ﴿وَتَوَّكَّل﴾ فقد أمرَكَ بالتَّوَكّل، وكلّ أمر في القرآن يقتضي الوجوب، ولكنَّ الله عز وجل كما قلتُ في الدرس الماضي: اخْتار من بين أسمائِهِ الحسنى كلّها اثْنَين، لم يقُلْ لك: وتوكَّلْ على القويّ، قال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ، وقد بيَّنْتُ لكم في الدرس الماضي أنَّ العزيز كما شرحَ هذا الاسم الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: أن العزيز هو الشيء الذي ينْدُر وُجوده، وتشْتدّ الحاجة إليه، ويصْعب الوُصول إليه، وكمال هذه الصِّفات الثلاثة الشيء الذي يندر وُجوده حتى لا يكون غيره؛ لا إله إلا الله، وتشْتدّ الحاجة إليه حتى تكون جميعُ المنافع بيَدِهِ، المنافع كلَّها في الدنيا، ويصعب الوُصول إليه، لا يستطيعُ مخلوقٌ أن ينالَ جانبهُ، فإذا كان الله سبحانه وتعالى أحدٌ صمَد، فرْد لا إله إلا الله، لا مثيل له، ليس كمثله شيء، ينْدر وُجود مثله، بل لا إله إلا الله، ليس كمثله شيء، وتشْتدُ الحاجة إليه، جميعُ المنافعِ المادِّية والمعْنَوِيَة، الحقيرة والجليلة، الدُّنيَوِيَّة والأُخرَوِيَّة بيَدِهِ، وتشْتدّ الحاجة إليه، ويصْعُب الوُصول إليه، إذا كان الله كذلك فلمَ لا نتوكَل عليه؟ ربّنا عز وجل يقول: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ .

 

صور الرحمة وآثارها:


كلمة الرحيم، يُعَذِّب من يشاء، ويرحم من يشاء، معنى الرَّحيم هو الذي يسوق الخير للناس، إذا كنتَ في برْدٍ شديد ودخلْت غرفةً دافئةً شعرْتَ بالدِّفْء يسْري في عُروقِك، فالدِّفْءُ رحمة، وإذا كنت في حرّ شديد، ودخلْتَ غرْفةً مُكَيَّفةً، وشعرْت بالبرود يسْري في أوْصالك فالبرود هنا رحمة، وإذا كنت في جوعٍ شديد، وأكلْتَ طعاماً شهياً، شبِعْتَ به، وسَكَنَتْ جوارحُك بهذا الطَّعام، فهذا الطَعام رحمة، وإذا كنتَ في عطشٍ شديد يكاد الإنسان يأكل الثرى من العطش، وشرب ماءً فراتاً عذْبًا باردًا شعر بالريّ فهذا الريّ رحمة، وإذا كان الإنسان وحيدًا لا أسرة له، وأكْرمَهُ الله بِزَوجة صالحة سكَنَ إليها؛ فهذه الزوجة رحمة، وإذا وهبَهُ الله طِفْلاً صغيرًا كان قرّة عينٍ له، فهذا الطِّفل رحمة، إذا رزقَهُ عملاً مُريحًا يدر عليه رزقًا معقولاً يكفي حاجاته من دون أن يُنافق، ومن دون أن يبذل ماء وجهه فهذا الرِّزق رحمة، إذاً أيّ شيءٍ تسْعَدُ به في الدنيا هو من رحمة الله عز وجل، رحمة الله في الدنيا، ورحمة الله في الآخرة، و إذا جاء ملكُ الموت بِشَكل أحبّ الناس إلى الإنسان، وانتَقَلَ من دار الدنيا إلى الدار الآخرة من دون خوفٍ ولا وجل، من دون اضْطراب، فهذه النَقلة رحمة، وإذا اتَّسَعَ القبر فصار كالروضةً من رياض الجنَة، فهذا القبر رحمة، وإلا قطَع الإنسان الصِّراط المستقيم سريعًا من دون وجل ولا خوف أو عُسْرٍ فهذا رحمة، فأيّ شيءٍ يُسْعِدُك هو رحمة. إذاً الرَحيم هو الذي يُعطي، الذي يُسْعِد، الذي يرْحم، الذي يُخَفِّفُ المتاعب، الذي يُزيل المصائب، الذي يُبْعِدُ الخوف والقلق هو الرحيم، أي صفة العزيز تنتزِعُ إعْجابك، وصفة الرحيم تنتزعُ قلبك، إنَك تُعَظِّم الله بالقَدْر الذي تُحِبُّه، الإنسان في الدنيا أحيانًا يُحِبُّ مخلوقًا ولا يُعْجَبُ به، أو يُعْجَبُ بمَخلوقٍ ولا يُحِبُه، قد تلتقي بِمُدرِّسٍ ذكيّ جدًا، مُطَّلِعٍ، خبير، ضليعٍ في اخْتِصاصه، يتَّقد ذكاءً ولكنَّه قاسٍ في المعاملة؛ إنَّك تُعْجَبُ به ولكن لا تُحِبُّه، وقد تلتقي بإنسان لطيفٍ وديعٍ لكنَّه في مجال اطِّلاعه على العلوم مُقَصِّر كثيرًا إنك تُحِبُّه ولا تُعْجَبُ به، ولكنَ الله تعالى حينما حدَّثنا عن ذاته العظيمة قال تعالى:  

﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)﴾

[  سورة الرحمن ]

أي أنت تُجِلُّه، فالإجلال ينتزِعُ إعجابك، والإكرام ينتزعُ محبَّتك فتُجِلُّهُ وتُحِبُّه، لذلك ربنا عز وجل من أسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى اخْتار هذين الاسْمَين؛ العزيز الرحيم..﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ﴾ العزيز الفرْد الصَّمَد، الذي لا مثيل له، الحوائج كلّها إليه، بيَدِهِ كلّ شيء، لا يستطيعُ أحدٌ أن يصل إليه، هذا الشَّرح لهذا الاسم ينْتزِعُ كلّ إعجابك، وكلّ تقديرك، ولكنَ الرّحيم ينْتزِعُ كلّ محبَّتِك، يرْحمك وأنت جنين في رحمِ أُمِّك، يرحمك بأن خلق لك أُمًّا وأبًا، قال تعالى:

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾

[ سورة طه ]

اُنظر إلى الأُمَّهات والآباء؛ حياتهم كلّها، وقتهم كله، تِجارتهم، سَعيُهم، هواجسهم، خواطرهم، همومهم من أجل أولادهم. كيف رحِمَ الله عبيده؟ بهذه الطريقة؛ جعلَ الأمّ والأب رمْز حنان الله عز وجل ورحمته، لذلك: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ أيْ وضعت في قلب الأمّ وقلب الأب هذه المحبّة، محبَّة الله تَجَسَّدَتْ على شكل محبّة الأم والأب، إذًا ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ اسمٌ يشدّ إعْجابَكَ، واسْمٌ يشدّ محبَّتَك، هذا الإله العظيم العزيز الرحيم تَوَكَل عليه.. 

وسلم إلينا الأمر في كل ما يكـــــن           فما القرب والإبعاد إلا بأمـــــــــــــرنــــا

ولا تعترضنا في الأمور فكل مـــــن           أردنـــــاه أحببنــــــــــاه حتى أحبنـــــــــــا

ينادى له في الكون أنا نحبـــــــــــــه           فيسمع من في الكون أمر محبنـــــا

أَطِـعْ أمْـرنا نرفع مِـن أجلـك حُجْبنا           فإنـــــَا منَحْنـــــــا بالرِّضا مَن أحبَّنــــــا

ولُـذْ بِحمـانـــــــا واحْتَمِ بِجـنابنــــــــــــــا           لِنَحمـيــــك مِمَّا فيه أشـرار خلقنـــــــــا

* * *

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ .

 

ملخص التوكل:


إذًا التَّوَكّل عِلمٌ، وحال، وأخْذٌ بالأسباب، هذا الملخَّص، والصحابة الكرام وصلوا إلى ما وصلُوا إليه بِسَبب حُسْن توكُّلهم على الله عز وجل، والمسلمون الذين جاؤوا بعد قُرون عِدَّة ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من التَخَلّف بِسَبب تواكلهم على الله لا توكُّلِهِم. 

 

التوكل على الله لأنه معنا دائماً:


العزيز الرحيم يراك حين تقوم، أنت في بيتك تقوم إلى عملك يراك، تقوم إلى صلاتك يراك، تقوم إلى شيءٍ مُباح يراك، تقوم إلى صلاة الليل يراك، تقوم إلى خِدمة إنسان يراك، تقوم إلى عملٍ لا يرضى عنه يراك، تقوم إلى عملٍ يُؤْذي بعض العباد يراك، قال تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾ إذا خَصَّصْناها بالنبي عليه الصلاة والسلام، النبي عليه الصلاة والسلام يقوم حصْرًا لِخِدمة الخَلق، وللاتِّصال بالحقّ، وإذا وسَّعْناها فأيُّ قِيامٍ يراك الله به، إذًا لا ينبغي أن تتوكَل على الذي لا يراك لأنَّك عندما تشْتدُ الحاجة إليه لا يراك، غائبٌ عنك، أمّا ربّنا سبحانه وتعالى مادام يراك حينما تقوم فهو معك إذًا، إذاً تَوَكَّلْ على مَن هو معك دائمًا، ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾ لذلك اُعْبد الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، وفي الدُّعاء النبوي الشريف: اللهمّ اجْعَلنا نخشاك حتى كأنَّا نراك، وأسْعِدْنا بِلُقْياك ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾ ، وبعضهم قال: هذه متعلِّقة بالصَّلاة فقط حينما تقوم إلى الصلاة، والأولى أن تُوَسَّع، تقوم إلى أي عمل.

 

لكل إنسان مقام عند الله لا يزيد ولا ينقص:


﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ .. التَّقلُّب هو التَنَقّل من حال إلى حال، والساجدون لهن لهم مراتب كثيرة، أنت لك عند الله تعالى حَجم، الله سبحانه وتعالى يعْرفُهُ حقّ المعرفة، هناك إنسان قد يغْمطُك حقّك، قد يرفعُك إلى مستوى أنت لسْتَ فيه، أو قد يغضّ من شأنك وهو لا يعلمُ مِقدار حجْمك، قال تعالى:

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾

[ سورة الإسراء ]

أما الذي يرى تقلّبك في الساجدين، يرى مقامك الحقيقيّ، يرى الدَّرجة التي أنت فيها هو الله عز وجل، فإذا اطمأنَّ الإنسان إلى أنَّ الله يعرف مقامه عنده، فما بالهُ يتألَّم إذا أنكرَ الناس حقّه؟! وما باله يفْرح إذا رفعهُ الناس فوق المكان الذي هو فيه؟! معك كيلو غرام معدن، توهَم الناس أنَّه ذهب ! فأثْنَوا عليك، وعلى هذه الثَّرْوَة وهو من التَنَك، من هو الخاسر؟ أنت، ولو أنّ هذا المعدن أوهمت الناس أنه ذهب وهو ليس كذلك؛ كذلك أنت الخاسر، إذا ظنَّه الناس أنه معدن خسيس وهو في الحقيقة معدن نفيس، من هو الرابح؟ أنت، فهذه الآية: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)﴾ هناك عارفون بالله، بعض الفِرَق الإسلاميَّة رفعتْهم فجَعَلتْهم في القِمّة، الشيخ محي الدين، وبعضهم جعلوه في الحضيض، قالوا: الشيخ الأكْفَر، وبعضهم قال: الشيخ الأكبر ! يا تُرى تقْييم هؤلاء أو تَقييم هؤلاء هل يرفعُ من رتبته أو يخْفضها؟ لا، كلّ إنسانٍ له عند الله تعالى مقام لا يزيد ولا ينقص، فإذا اطْمَأننْت أنت إلى أنَّ مقامك عند الله مَبْنِيّ على أساس دقيق جدًا فهذا مِمَّا يُريحُ قلْبَكَ.  

 

أهل السنَة والجماعة لا يُعَطِّلون الصفات:


﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)﴾ ، قال الله عز وجل:

﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾

[ سورة طه  ]

وكما قلتُ من قبل: إنّ الله يسمع ويرى:

﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) ﴾

[ سورة الفجر ]

وإذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا، ويد الله فوق أيديهم:

﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)﴾

[ سورة المائدة ]

 فهذه الآيات أهل السنَة والجماعة لا يُعَطِّلونها، ولا يُجَسِّمون هذه الكلمات بحيث يصبح الله سبحانه وتعالى مُشابهًا لِخَلْقِهِ، عقيدة أهل السنَّة والجماعة لا نُجَسِّد ولا نُعطِّل، وقول الإمام مالك هو أجْمل قَولٍ في هذا الموضوع؛ قال:"الاسْتِواء معلوم، والكَيْف غير معقول، والإيمان به واجب، والسُّؤال عنه بِدعة" ! وانتهى الأمر، هذا شيء فوق مستوى عقولنا ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)﴾ أي إذا تكلَّمت يسمعُك، وإذا سكتّ يعلم ما في قلبك، الإنسان إن تكلّمْت سمِع، وإن سكتَّ جَهِلَ، فلان غامض لا يتكلم، أما الله تعالى إن تكلَّمْت سمِعَك، وإن لُذْتَ بالصَّمْت علم الحقيقة، علم ما في قلبك، فلذلك أن تقول شيئًا أو ألا تقولهُ سيَّان.

 

أعلى درجة من درجات الإيمان أن تشْعر أنَّ الله معك وهو عليك رقيب:


هذا ينقلنا إلى قوله تعالى:

﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)﴾

[ سورة البقرة ]

إن أبْدَيتهُ أو أخْفَيْتَهُ فهو سيَّان عند الله تعالى، لأنّ نفْسكَ مَكشوفةٌ أمام الله عز وجل كالصًّفحة البيضاء. سميعٌ لِقَولك عليم بِحالك، سَميعٌ لِدُعائِك، عليم بِخفايا نفسِك، سميعٌ لِتَوَسُّلاتك، عليم بِنَواياك، أي الذي يخفى على الناس يعلمُه الله، والذي تُبْديهِ يسْمَعُهُ، فلذلك أعلى درجة من درجات الإيمان أن تشْعر أنَّ الله معك قال تعالى: 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[   سورة الحديد  ]

وأن تشعر أنَّ الله عليك رقيب، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾

[ سورة النساء  ]

وأن تشعر أنَّ الله بالمرصاد، إذا شعرْت أنَ الله بالمرصاد، وأنَّه رقيب عليك، وأنَه معك أيْنما كنت، عندئذٍ لابدّ من أن تسْتحي منه، ابن آدم استحي منِّي فأنا أسْتحي منك، هذا الحال عبَّر عنه الصُّوفيُّون بالمُراقبة، لو أنَّ إنسانًا راقَبَ إنسانًا، هذا الإنسان ينضبط، لو شعر المؤمن أنَّ الله تعالى يُراقبُهُ في خَلْوَتِهِ وفي جَلْوَتِهِ، في جِدِّه وفي هَزْلِهِ، مع أهله ومع الناس، في حضره وفي سفرهِ، مع إخوانِهِ ومنْفَرِدًا، هذا الشُّعور مستمر.

 

علامات الإخلاص:


لذلك قالوا: من علامات الإخلاص أن يسْتوي عملك في السر والعَلَن، من علامات الإخلاص أن تستوي السريرة والجهيرة، والباطن والظاهر، هذا من علامات الإخلاص، أن تُصلِّي صلاةً منفرِدًا كما لو تصليها مُجْتَمِعًا: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)﴾ .

 

اتهام الكفار النبي بأن الإسلام ما هو إلا رُؤى رآها أو أمْلاها عليه الشياطين: 


﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)﴾ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، صناديد الكفْر في مكَة كانوا يتَّهِمون النبي عليه الصلاة والسلام بأنَّ هذه الرِّسالة وهذا الوحي إن هو إلا رُؤى رآها، أو أمْلاها عليه الشياطين، فالله سبحانه وتعالى دافَعَ عنه وقال: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)﴾ الأفّاك هو الذي يختلق الكذب، والأثيم هو المنْحَرف، ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ .

بقي علينا إن شاء الله هذه الآيات الأخيرة: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(227)﴾ أرجو الله سبحانه وتعالى أن يُمَكِّننا من تفسير هذه الآيات، ويكون الدَّرْس القادمُ هو الدرس الأخير من سورة الشعراء، وننتقل بعدها إلى سورة النَّمل.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور