وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 19 - سورة النحل - تفسير الآيات 91 – 94 ، عن الوفاء بالعهد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع عشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91)﴾

[ سورة النحل ]


وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا


ما هو عهد الله ؟

 عهد الله، العهد الذي عاهده الإنسان في عالم الأزل، يوم قال الله عز وجل للخلائق:

﴿  وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)﴾

[  سورة الأعراف ]

 وإذا عاهدت ربك في الدنيا على الطاعة، وعلى العمل الطيب فهذا هو العهد المعني في هذه الآية، وإذا عاهدت رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من ينوب مكانه في تبليغ العلم، إذا عاهدت رسول الله عليه الصلاة والسلام على السير في طريق الإيمان، وعلى الالتزام بأوامر الدين، وعلى الاستقامة على أمر الله، وعلى فعل الخيرات، وترك المنكرات فهذا هو العهد المعنيّ في هذه الآية.

 إذا عاهدت النبي عليه الصلاة والسلام، أو من ينوب منابه في تبليغ العلم، فهذا العهد مَعْنِيُّ في هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ .


وجوب الوفاء بالعهد :


 وإذا اتفقت مع مسلم على بيع، أو شراء، أو أجار، أو استئجار، أو هبة، أو وديعة، أو أمانة، أي عقد عقدته مع مسلم وِفق الدين، يجب أن تلتزم به، لحديث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((  الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ  ))

[ البخاري ]

 طبعاً فيما لا يتعارض مع أوامر الدين؛ لو أنك أبرمت عقداً مع إنسانٍ على أن تعصي الله فهذا العهد لا ينبغي أن تفي به، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((  مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ.  ))

[ البخاري ]

 فعهد الله عز وجل الذي يجب عليك أن توفّيه هو العهد الذي قطعته على نفسك حينما خُلقت في عالم الأزل، حينما قال الله عز وجل : ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ﴾ أو إذا عاهدته في الدنيا على التوبة. 

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)﴾

[ سورة الصف ]

 وقال سبحانه:

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾

[ سورة التوبة  ]

 الإنسان أحياناً في ساعات الشدة، في ساعات الضيق، في أوان المصائب، قد يتوجه إلى الله عز وجل، ويقول له: يا رب، أعاهدك على الطاعة، أعاهدك ألا أعصيك، ثم الله عز وجل بكرمِه، ولطفه، ورحمته، وحكمته، يرفع هذه الشدة؛ فإذا رفع عنك الشدة إياك أن تنقض عهد الله عز وجل، إن ساق الله لك شدة، وكبرت عليك، وطلبت من الله عز وجل أن تستقيم على أمره على أن يرفعها عنك، ورفعها، إياك أن تنقض عهد الله عز وجل، إنك إذا فعلت ذلك كالمستهزئ بربه. 


الوفاء والسماحة مروءة ورجولة :


 ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ شابان في عهد عمر رَضِي اللَّه عَنْه دخلا عليه وهما يسوقان رجلاً قتل أباهما، فعقد هذا الخليفة العظيم مجلساً للحكم في هذه الجريمة، عقد مجلساً لمحاكمته، وبعد سماع أقوال الشهود، وإقرار القاتل، حكم عليه بأن يُقتَل.

﴿  وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)﴾

[ سورة البقرة  ]

 القتل أنفى للقتل، إذا علم القاتل أنه لابد من أن يُقتَل يُحجِم عن القتل، فيحقن دمه ودم المقتول، إذاً: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ هذه من الآيات البليغة.

 فسيدنا عمر رَضِي اللَّه عَنْه حكم على هذا القاتل بعد أن اعترف وأقرّ، والقصة طويلة، أن يُقتل، لكن المحكوم عليه بالقتل طلب مهلة ثلاثة أيام، كي يذهب إلى أهله، ليعطيهم مالاً كان قد خبأه لهم، وليودع أولاده، وليكتب وصيته، فقال له عمر: ومن يضمنك؟ نظر إلى من حوله، بقي الجميع ساكتين، لا أحد يعرفه، ليس من المدينة، فلم يتكلم أحد، لأن أحداً لا يعرفه، فما كان من أبي ذر رَضِي اللَّه عَنْه إلا أن قال: أنا أكفله يا أمير المؤمنين، والكفيل قد يُنفَّذ فيه حكم القتل، ومضت الأيام الثلاثة، وحضر الشابان ليشهدا مقتل قاتل أبيهما، لكن الرجل لم يحضر، إلى أن كادت الشمس أن تغيب، ثم غابت، وكاد سيدنا عمر ينفذ حكم القتل في أبي ذر، لأنه الكفيل، ثم لاح بالأفق شبح بعيد، انتظَروا، فإذا الرجل الذي عاهد الله أن يعود ليُقتل، وهاهو ذا قد عاد، قبيل تنفيذ حكم الإعدام، سأله عمر: يا هذا، لِمَ وفيت بوعدك وأنت تعلم أنه القتل؟ فقال هذا الرجل: إنما جئت ووفيت بوعدي لئلا يقال: إن الوفاء قد مات.

 عندئذ التفت سيدنا عمر إلى أبي ذر رَضِي اللَّه عَنْه وقال: يا أبا ذر لِمَ ضمنته، وأنت لا تعرفه؟ فقال سيدنا أبو ذر: إنما ضمنته وأنا لا أعرفه لئلا يقال: إن المروءة ماتت، وعندئذ قال الشابان: ونحن عفونا عنه، فقال عمر رَضِي اللَّه عَنْه: لمَ عفوتما عنه؟ فقالا: لئلا يقال: إن السماحة ماتت.

 وفاء، ومروءة، وسماحة؛ وفاء بالذي ذهب، وعاد ليُقتل، ومروءة بهذا الصحابي الجليل الذي ضمنه، وسماحة من هذين الشابين، لأنهما ما أرادا أن يكون الرجلان أكثر سماحة ووفاء ومروءة منهما!!

 أيها الإخوة الأكارم، لو أخذ الناس بهذه الثلاثة؛ بالوفاء والمروءة والسماحة، ما كان بينهم جائع، ولا عريان، ولا مغبون، ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، ولاطمأنت الجنوب في المضاجع، ولمحت الرحمة الشقاء، كما يمحو نور الصبح الظلام. 


الوفاء بالعهد ضمان لسلامة المجتمع ببقاء الثقة :


 ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ لماذا أمرنا الله عز وجل أن نفي بعهد الله إذا عاهدنا؟

 لأن المجتمع الإنساني لا يستقيم، بل لا يقوم إلا على الثقة، إذا حُذفت الثقة من مجتمعنا انهار المجتمع، لن يقوم عمل، لن تقوم تجارة، لن تقوم زراعة، لن تقوم صناعة، لن تقوم علاقة، إلا على الثقة بين البشر، فإذا مُحيت هذه الثقة، إذا نُزعت هذه الثقة فقد انهار المجتمع.

 يروى أن رجلاً كان يقطع رمال الصحراء المحرقة على فرس له، رأى في الطريق رجلاً بائساً فقيراً يمشي حافي القدمين، ويكاد الرمل لشدة حره يحرق رجليه، فحنَّ له، وعطف عليه، ودعاه إلى ركوب الفرس، ما إن ركب الفرس هذا الذي دُعي لركوبها حتى ألقى صاحبها أرضاً، وعدا بها لا يلوي على شيء، فقال له صاحب الفرس: يا هذا، لقد وهبت لك الفرس، ولن أسأل عنها بعد اليوم، ولكن إياك أن يشيع الخبر في الصحراء، فتذهب منها المروءة، وبذهابها يذهب أجمل ما فيها.

 في الزواج لو فقدت الثقة أصبح البيت جحيماً، لو أن الزوجة تفقد ثقتها بزوجها، أو أن الزوج يفقد ثقته بزوجته، لأصبح الزواج جحيماً لا يطاق، لا يقوم الزواج إلا على الثقة، يذهب إلى عمله، وهو واثقٌ أن زوجته عفيفة، حَصَان، شريفة، كريمة، تحفظه في نفسها وماله.

 لولا الثقة لم تقمْ علاقة بين شريكين، ما الذي يمنع أحد الشريكين أن ينافس شريكه في العمل نفسه، وأن يربح من وراء ظهره؟ الثقة والعهد الذي قطعاه على أنفسهما في الزواج، في الجوار، في التجارة، في أي عمل، حينما يأتي المريض إلى الطبيب، بماذا يأتي؟ يأتي بثقة يمنحها إياه، يصف له الدواء الصحيح، ولا يكلفه ما لا يطيق.

 إذا أتى الإنسان إلى محامٍ؛ ما الشيء الثمين بينهما؟ الثقة، أنه لا يعمل عملاً من وراء ظهره، لا يخونه في قضيته، لا يأخذ من خصمه، وينكل معه.

 فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ هذه آية واسعة، عهد الله في الأزل، إلى عهده في الدنيا، إذا عاهدته على الطاعة في الدنيا، إلى أنك إذا عاهدت رسوله على الاستقامة على أمره، وعلى العمل بموجب كتاب الله، وسنة رسوله، إلى العقد الذي توقعه، إلى الوعد الذي تقطعه، إلى أية علاقة تقوم بين اثنين هي في أساسها علاقة مبنية على عهد الله. 


ما هي الأيمان ؟


 ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ الأيمان جمع يمين، فالذي يحلف بالله أن يفعل كذا ولا يفعل فقد حنث، والذي يحلف بالله ألا يفعل وقد فعل، فقد حنث، لذلك قسم العلماء اليمين إلى أقسام ثلاثة؛ هناك يمين لغوٌ، كقولك: إي والله، لا والله، وأنت لا تنوي حلف اليمين، إنما سبق لسان، أو عادة كلامية سيئة تجري على ألسنة الناس في كل حالاتهم، وفي بيعهم وشرائهم ووعودهم؛ هذه اليمين يمين لاغية، قال الله عز وجل:

﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) ﴾

[  سورة المائدة ]

 إذا قلت: واللهِ، وأنت تنوي حلف اليمين، وأنت تقصد حلف اليمين فهذه اليمين منعقدة، إذا حنثت بها فعليها كفارة، وكفارة اليمين عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو صوم ثلاثة أيام، العتق والإطعام على الخيار، ولكن الإطعام والصوم على الترتيب ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ .


عهد الله نوع من اليمين :


 ومن العلماء من استنبط أن العهد بحد ذاته يمين، لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ يعني: ولا تنقضوا عهد الله، فعهد الله نوع من أنواع اليمين؛ لكن الفرق بين العهد وبين اليمين أن اليمين لها كفارة، ولكن العهد إذا نُقض لا كفارة له، بل إنه يخرج صاحبه من الإسلام، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قَالَ:

((  لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ  ))

[ أخرجه أحمد في مسنده  ]


لا إيمان لمن لا عهد له :


 سبحان الله! ما لهؤلاء الناس فصلوا بين الإيمان وبين الخُلُقِ، مع أن الإيمان والخُلُق شيئان متلازمان، قال عليه الصلاة والسلام:

((  الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفعا جميعاً  ))

[ الحاكم في المستدرك عن ابن عمر ]

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾

[ سورة الماعون ]

(لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ) هناك أحاديث كثيرة: 

(( ليسَ منَّا منْ وسَّعَ اللهُ عليهِ، ثمَّ قترَ على عيالِهِ ))

[ السيوطي عن جبير بن مطعم وهو ضعيف ]

فالبخيل ليس من أمة سيدنا محمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((  لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ.  ))

[ أبو داود، أحمد ]

 عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((  لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ.  ))

[ أبو داود ]

 عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((  مَنْ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا  ))

[ الترمذي وابن ماجه ]

 أو أشار بالنهب أو السلب.

 هناك أحاديث كثيرة مطلعها ليس منا، معنى ذلك أن هناك تلازمًا ضروريًّا، أو ترابطًا وجوديًّا بين التدين الصحيح والخُلق القويم.

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((  أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.  ))

[ مسلم ]

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ :

((  يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ :هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ : هِيَ فِي الْجَنَّةِ  ))

[ أحمد ]

 الفرض فقط، الخمسة فروض، من دون صلاة الضحى وقيام ليل، والزكاة فقط، ورمضان فقط: (وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ) أحسن المسلمين إسلاماً أحسنهم خلقاً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((  أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا  ))

[ الترمذي وأحمد ]

(( وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، ))

[ صحيح الترمذي ]

كما قال عليه الصلاة والسلام، فكيف فصل الناس بين الإيمان الصحيح وبين الخلق القويم؟ أمر إلهي: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ عاهدت الله، أوفِ بعهدك، عاهدت رسول الله أوفِ بعهدك، عاهدت من ينوب عن رسول الله بإلقاء العلم، عاهدته على الطاعة لله ورسوله أوفِ بعهدك، وقعت عقد بيع أوفِ بعهدك، الأسعار ارتفعت، لا أكتب البيت باسمك إلا إذا قبضت 100 ألف زيادة، أنت قبضت ثمن البيت كاملاً! في الوقت الذي كان السعر نفسه!! البيع تم من أربع سنوات، وقبضت المبلغ بأكمله، وبقي الإفراغ! تقول: لا أفرغ لك إلا بمئة ألف؟ أنت حر، أين العهد؟ صار هدف الناس الكسب غير المشروع.

 العرب في الجاهلية كانوا يقولون: "المنية ولا الدنية"، قد يأتي زمان تصبح الدنية ولا المنية، فهو مستعد أن ينقض عهده في هذا البيع، ويجعل سمعته في الوحل من أجل أن يكسب مئة ألف ليرة زيادة.

﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ في البيع، في الشراء، في كل شيء تَعِدُ به، أو تصدر وعداً للناس.


معنى توكيد الأيمان :


 ﴿وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ قال بعض العلماء: توكيد الأيمان أن تعيدها مرتين، تقول: وَاللَّهِ، وَاللَّهِ، هذا هو التوكيد، أو أن تعقد العزم على أن تفعل هكذا كما قلت، فإذا لم تفعل فقد نقضت هذا اليمين، إذا صممت على ألّا تفعل، وفعلت فقد نقضت اليمين.


وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا


معنى كفيلا :

 ﴿وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ عامة الناس في البيع والشراء يقولون: الله وكيلك، لو عرف الناس معنى هذه الكلمة لارتعدت فرائصهم، الله وكيلك، خالق الكون الذي يعلم السر وأخفى! تجعله وكيلاً لهذا الشخص؟! ثم تغشه؟! ثم تكذب عليه؟! اليمين الكاذبة منفقة للسلعة، ممحقة للبركة، ومعنى قوله:( كفيلا )؛ أيْ حافظاً، وضامناً، وشهيداً.

﴿وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ أجدادنا السلف الصالح كانوا بخير، لأن الكلمة كانت صادقة؛ إذا وعد وفى، وإذا أؤتمن لم يخن، إن أفضل الكسب كسب التجار؛ الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته.

 المؤمن إذا قرأ هذه الآية، واستشعر أن الله سبحانه وتعالى ـ الذي خلقه ـ يأمره أمراً قطعياً بأن يفي بعهد الله، وعهد الله؛ أي عهد تقطعه على نفسك، أيّ اتفاق بين مسلمين، أيّ وعد جرى بين مسلمين، فضلاً عن عهدك لرسول الله أن تطيعه، فضلاً عن عهدك لله أن تستقيم على أمره، فضلاً عن العهد الذي قُطع عليك في عالم الأزل، حينما قال الله عز وجل: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ .


كسب المال بنقض العهود حرام وسحتٌ :


 ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ لكنه ـ وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ـ إذا بدا لك أنك نقضت العهد، كسبت مئة ألف ليرة ـ وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ـ إنك إذا كسبتها كسباً غير مشروع، لسوف تدفع أضعافها في طريق غير مشروع؛ لأن هذا الكسب حرام، آلاف العقود التي نقضت؛ عقود البيع لا لشيء، إلا لأن الأسعار قد ارتفعت، والمشتري لن يتمكن من هذا البيت، أو من هذه الدكان، أو من هذه الأرض، أين العهد؟ إلا إذا كان هناك لم يدفع الثمن، تم العقد، ولم يدفع الثمن، وارتفع السعر، فهذا موضوع خلاف، لم أقصد هذا الموضوع، أما إذا دفع الثمن بكامله عداً ونقداً، بالتمام والكمال، وبعد سنوات جاء وقت الإفراغ، ثم تقول له: أنا لا أفرغ لك إلا بمبلغ من المال، ما السبب؟ أين العهد؟ وأنت أمضيت.

﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ كان السلف الصالح الواحد منهم بألف، و صار الناس في زمنٍ، الألف منهم بأف.


تهديد ووعيد :


 ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ يعلم خبايا أعمالكم، خبايا نواياكم، أحياناً يأتي النقض بشكل آخر، أنه وَاللَّهِ هذا البيت ليس لي؛ وصاحبه لم يوافق على السعر، أنا معي وكالة فيه، يعطيك كلاماً فيه نقض للعهد؛ لذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ هذا الذي تقوله حينما تُزمِع نقض العهد؛ هذا الذي تقوله إن كان مطابقاً للحقيقة أو غير مطابق، الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ذلك. 

﴿  وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(92) ﴾

[ سورة النحل   ]


وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ


ناقض العهد كناقضة الغزل :

 امرأة حمقاء تغزل الخيوط، وبعد أن تنتهي من غزلها، تنقضها لتعود كما كانت! ما الذي حدث؟ جهد ضائع! جهد كبير ذهب أدراج الرياح! عمل عظيم صار هباءً منثوراً!

فهذه: ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ أحياناً الإنسان يعاهد، يبرم اتفاقاً، أو يعقد عقداً، أو يعاهد عهداً، يلوح له بعد حين، زيادة أو ربحاً فينتهز الفرصة.

 مثلاً: باع البيت، بعد أيام وقَّع عقداً، وقبض دفعة أولى، وانتهى كل شيء، جاءه رجل، وقال له: أنا أشتريه منك بمئة ألف زيادة، ما الذي جعله ينقض العهد؟ هذا الإغراء، فربنا عز وجل يقول: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ .


معنى : دَخَلًا بَيْنَكُمْ


 معنى دخلاً؛ دغلاً، والدغَل هو الغش والخديعة، يعني حلفت، وعقَّدت اليمين، وعزمت على تنفيذ ما قلت، لاح لك مكسب مادي، فنقضت العهد!!

 طبعاً من أسباب نزول هذه الآية أن بعض القبائل عاهدوا رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رأوا قريشاً أكثر عدداً، وأكثر عدةً وأقوى جمعاً، ندموا على عهدهم، فنقضوا عهدهم مع رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفاوضوا مع قريش، وانضموا إليها، فليس المقصود ـ وإن كان لهذه الآية أسباب نزول ـ ليس المقصود خصوص السبب؛ بل المقصود عموم اللفظ، فأي مغنم يلوح لك، وكنت قد أبرمت عهداً ووثقته، لا ينبغي أن تنقضه لمكسب مادي لاح لك سريعاً.


اليمين على نية المستحلف لا على نية الحالف :


 ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ لذلك قالوا: اليمين على نية المستحلِف؛ لا على نية الحالف، إنسان استحلفك يميناً؛ هذه اليمين على نية المستحلِف؛ لو أنها على نية الحالف بطل مفعول اليمين، تحلف بالله العظيم، وتنوي شيئاً مغايراً لهذا الذي استُحلفت من أجله، لذلك قالوا: اليمين على نية المُستحلِف، لا على نية الحالف.


إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ


﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ﴾ أربى: أي أغنى، أو أكثر عدداً، طبعاً الله عز وجل قال:

﴿  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)  ﴾

[  سورة العنكبوت ]


الابتلاء يكشف حقيقة الإنسان :


 الله عز وجل لحكمة بالغة يضعك في ظرف صعب؛ تبرم عقداً، بعد العقد يأتي إنسان يقول لك: أنا أشتري منك هذا الشيء بأغلى من ذلك، هذا امتحان من الله عز وجل، امتحان من الله بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ابتلاء، فلذلك يقول المؤمن: لا، أنا بعت، وانتهى الأمر، وَاللَّهِ سبحانه وتعالى يعوضني خيراً من هذا، ومن ظن بالله هذا الظن الحسن فالله سبحانه وتعالى لا يخيب ظنه.

 أعرف أسرة خُطِبت ابنتهم لشاب دَيِّن، مستقيم، له دخل جيد، يقيم في قطر عربي، جاءهم بعد أن تم العقد، وسافر الخطيب إلى بلده، ليمهد لاستقدام خطيبته، جاءهم خطيب أغنى، فنقضوا عهدهم معه، وانقطعوا عن مراسلته، وأعلموه أنه لابد من الفراق والمخالعة! وكان من نتيجة ذلك أن الثاني طلقها، ثم خُطبت لثالث، والثالث طلقها، والآن مطلقة من رجلين، ومخلوعة من رجل، هذه خيانة، صار هناك عقد، ورضيت بهذا الخطيب زوجاً لابنتك، وهو جيد وديِّن، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((  إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ  ))

[ الترمذي، ابن ماجه ]

 جاء خطيب غني، طمع الأهل في غناه، فنقضوا عهدهم مع الأول، فكان من جرّاء ذلك أن الله سبحانه وتعالى عاقبهم بأن الثاني طلق ابنتهم، زُوّجت من ثالث طلقها الثالث، وهي الآن مطلقة؛ هذا هو عقاب نقض العهد، وإذا تصورت أنك بنقض العهد سوف تحصّل مالاً كثيراً، هذا هو عين الخطأ، المال يذهب، ويبقى نقض العهد، فإذا توكلت على الله، وأبرمت العقد، فالذي فاتك من حفاظك على العهد سيأتيك أضعافاً مضاعفة من طريق آخر.

 فالإنسان في كل علاقاته، في علاقاته الشخصية، وعلاقاته التجارية، وعلاقاته مع الناس، إذا عاهد عهداً يجب أن يوفيه؛ وهذا من خلق المؤمن، ولا ينقض العهد إلا منافق، نقض العهد خصلة من خصال المنافق: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ﴾ امتحان، هذا الامتحان؛ إما أن تنجح، وإما أن ترسب، فإذا رسبت فهذه هي الطامة الكبرى، لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه، أهون من أن يسقط من عين الله! الذي ينقض عهده مع ربه يسقط من عين الله! لا شأن له عند الله.  

﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ﴾

[ سورة الكهف  ]

﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿  إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(92)﴾

[ سورة النحل ]


وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ


اعلموا أن هناك يوما للحساب فلماذا تعصي الله من أجل دنيا زائلة ؟

 الحقيقة أن الناس خُلقوا في الدنيا ليحاسبوا عن أعمالهم كلها؛ صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، ما قولك أن يقف الإنسان يوم القيامة بين يدي الله عز وجل ليحاسبه عن أعماله كلها؟ لماذا نقضت العهد معه؟ ألم تعلم أني أنا الرزاق ذو القوة المتين؟ ربنا عز وجل أوقف رجلين من أهل الغنى، فقال لأحدهما: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ فقال: يا رب، لم أنفق منه شيئاً على أحد مخافة الفقر على أولادي من بعدي، فقال الله عز وجل ألم تعلم بأنني: 

﴿  إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)  ﴾

[  سورة الذاريات ]

 إن الذي خشيته على أولادك من بعدك، قد أنزلته بهم.

 وسأل عبداً آخر، قال: يا عبدي، أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ قال: يا رب، أنفقته على كل محتاج ومسكين، لثقتي أنك خيرٌ حافظاً، وأنت أرحم الراحمين، فقال: يا عبدي، أنا الحافظ لأولادك من بعدك. 

تعاهد الله عز وجل! تعاهد خالق الكون! رافع السماء بلا عمد، تعاهد الديان، تعاهد الحي الذي لا يموت، تعاهد الذي مصيرنا إليه جميعاً. 

﴿ إنّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)  ﴾

[ سورة الغاشية : 25 ـ 26 ]

 كلمة واحدة ليس لها جواب: لماذا نقضت عهدك يا عبدي مع فلان؟ ما الذي فعله حتى نقضت عهدك معه؟ ينسحب على هذا؛ أن الذي يتزوج يجب أن تكون نية الزواج على التأبيد؛ فلو أن الزوج أضمر في نفسه أنه بعد كذا من السنين يطلقها، فهو زانٍ في كل مدة قضاها معها، هذا عهد أيضاً! هذه الفتاة التي خطبتها من بيت أهلها كانت في دَعة، وراحة، وطمأنينة، غررت بها كي تجعلها بعد أيام مطلقة، أو بعد أشهر، أو بعد سنوات. 

﴿  وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(93)﴾

[ سورة النحل ]


وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ


هذه الآية دليل على أن الإنسان مختار غير مجبَر :

 مثل هذه الآيات في القرآن الكريم تعني أن الإنسان مخير، لولا أنه مخير، لكان الناس أمة واحدة، متشابهين، كمعمل يُصنّع بضاعة، يصنع مئة ألف قطعة، مئتي ألف قطعة، متشابهة، كلها على شكل واحد، ومن نمط واحد، لكن الإنسان مخير، لولا اختياره لكان الإنسان أمة واحدة، لكن الإنسان ما الذي يرفعه عند الله عز وجل؟ أنه مكلف.

﴿  إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 الإنسان مكلف أن يعرف الله عز وجل، وأن يستقيم على أمره، في الإسلام عقيدة، وفي الإسلام شريعة؛ العقيدة يجب أن تؤمن بها بعد بحث ودرس، لأنه كما قال علماء الأصول: لا يُقبَلُ التقليد في العقيدة، وهناك شريعة؛ يعني تنظيمات دقيقة جداُ؛ في حياتك الشخصية، وفي زواجك، مع جيرانك، في بيعك، في شرائك، في تجارتك، في صناعتك، في زراعتك، في الزكاة، مع الفقراء، علاقات دقيقة الإسلام عقيدة وشريعة.

 الإسلام إيمان وعمل صالح، وربنا عز وجل قرن بين الإيمان والعمل الصالح في أكثر آيات القرآن الكريم: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ لولا أنكم مخيرون لكنتم أمة واحدة، لولا أنكم تتفاوتون في اختياركم لكنتم أمة واحدة، ولو أنكم أمة واحدة لما استحققتم هذا العطاء الكبير، طالما أنه لا اختيار معنى ذلك أنه لا رقي. 


الاختيار يرفع الناس في الجنة ويسعِدهم :


 ما الذي يرفع الناس في الجنة؟ أنهم جاؤوه مختارين، لو أن الله عز وجل أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أنه أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، و لو أنه تركهم هملاً لكان هذا عجزاً منه، لم يتركهم هَمَلاً، و لم يجبرهم على طاعته، ولا على معصيته، بل جعلهم مُكلَّفين، ومعنى مكلفين أيْ مخيَّرين.

 أنت في المناقشة إذا قلت لصانع عندك في المحل: تعال باكراً، بربك قل لي: أليس معنى قولك لهذا الصانع: تعال باكراً؛ أنه يستطيع أن يأتي متأخراً؟ لماذا قلت له: تعال باكراً؟ لأنه مخير، لأنه بإمكانه أن يأتي باكراً، أو أن يأتي متأخراً، فهذا الأمر منك يقتضي أنه مخير، لأنك أمرته فهو مخير، وإذا قلت لصانعك: لا تفعل كذا، لا تعمل كذا، أليس بإمكانه أن يعمل كذا؟ لمجرد أنك نهيته عن هذا العمل؛ هذا النهي عن العمل يقتضي أنه يستطيع أن يفعل ضده، فالإنسان مخير، ما دام هناك أمر ونهي، إذاً: هناك تخيير.

 ذلك: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ غير مخيرين، وإذا كنتم غير مخيرين فأنتم لا تسعدون في الجنة بهذا المستوى الرفيع الذي أعده الله لكم.


الضلال الاختياري والضلال الجزائي :


 ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هذه الآية لها معانٍ عدة، أبسط معانيها، هناك ضلال ابتدائي من اختيار الإنسان، وهناك ضلال جزائي، يعني لو أصر الابن أن لا يدرس، بعد محاولات يائسة من الأب، أصر على عدم الدراسة، عندئذٍ يخرجه الأب من المدرسة، ويدفعه إلى عمل معين، هل نقول: إنّ الأب جنى عليه فأخرجه؟ لا، إخراج الأب لابنه من المدرسة جزاء إصراره على عدم الدراسة، فهذا الضلال الذي في هذه الآية، ضلال جزائي سبقه ضلال ابتدائي اختياري، اختار العبد الضلال، فأضله الله عز وجل.


من شاء الضلال أضله الله ، ومن شاء الهدى هداه الله :


 ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وقد تُحمَلُ على أن الذي يشاء الضلال، هناك طريق للضلال، ومن يشاء الهدى، هناك طريق للهدى.

﴿  إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)  ﴾

[ سورة الإنسان ]


الأعمال لها حساب :


 ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ هذه الأعمال سوف نُحاسَب عليها حساباً دقيقاً.

﴿  فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)  ﴾

[ سورة الحجر  ]

﴿  وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾

[ سورة الأنبياء ]

﴿  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾

[  سورة الزلزلة ]

 عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ :

((  يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ  ))

[  مسلم  ]

﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أنت مخير: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أنتم لستم كذلك، لأنكم مخيرون اختلفتم؛ هذا آمن، وهذا كفر، وهذا أحسن وهذا أساء، وهذا شكر، وهذا لم يشكر، هذا كان أميناً، وهذا كان خائناً، وهذا كان صادقاً، وهذا كان كاذباً، لأنكم مخيرون اختلفتم؛ لو أنكم غير مُخيَّرين لمَا اختلفتم ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ .


الاختيار يقتضي المسؤولية :


 الاختيار يقتضي المسؤولية والتبعة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطعْ مُكرَهاً.

 جيء برجل شارب خمر إلى أحد الخلفاء فقال: والله يا أمير المؤمنين إن الله قدر عليَّ ذلك، فقال: أقيموا عليه الحد مرتين! مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله!

 لذلك يقول الله عز وجل:

﴿  أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾

[ سورة القيامة  ]

 هو مخير، ومكلف، وسوف يُحاسب.

﴿  أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى(39)﴾

[ سورة القيامة ]

﴿  أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

 هذه الآية تعني أن الإنسان مخير، وسوف يُحاسَب على اختياره، لِمَ فعلت كذا؟ ولِمَ لمْ تفعل؟ 

﴿  وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(94)﴾

[ سورة النحل ]


وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ


إيّاكم واليمينَ الغموس :

 الإنسان يحلف يميناً كاذبة، العلماء قالوا: هناك اليمين الغموس؛ واليمين الغموس هي اليمين التي تحلف بها لتقتطع حق امرئ مسلم، أحياناً قد تدّعي في القضاء على إنسان أن لك عنده مئة ألف ليرة، ولا تملك إيصالاً، أو سنداً، أو وثيقة، فحينما يُدعى هذا المَدين إلى القضاء، وليس عليه دليل مادي، يدعوه القاضي لحلف اليمين؛ هذه اليمين تُسمى اليمن الحاسمة، فإذا حلفها انتهى كل شيء، لا شيء عليه، فإن لم يحلفها يعد عدم حلفه لها دليلاً على ثبوت هذا المبلغ، فلذلك قيل للكذاب: أتحلف اليمين، قال: جاء الفرج، نعم أحلف اليمين.


اليمين الغموس سببٌ في زوال القدم بعد ثبوتها :


 ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ زلة القدم؛ أن تقع في المعصية، لذلك اليمين الغموس لا كفارة لها، لماذا؟ لأنها تغمس صاحبها في النار، قولاً واحداً، لكن هناك ملاحظات، هناك من يحلف يميناً غموساً، وتمضي الشهور والسنوات، ولا يحدث له شيء! وهناك من يحلف يميناً غموساً، ولا يغادر قاعة المحكمة إلا وقد أُصيب، كلتا الحالتين مذكورتان في القرآن الكريم.


سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواـ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا


  ربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)  ﴾

[ سورة الأنعام ]

 "ثم" تفيد الترتيب على التراخي.

 والآية الثانية : 

﴿  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(69)  ﴾

[ سورة النمل ]

 الفاء للترتيب على التعقيب، فقد تكون الحكمة أن يُؤخَّر له في العقاب، وقد تكون الحكمة أن يُعجَّل له في العقاب.

 على كلٍ؛ اليمين الغموس، تلك اليمين التي يحلفها المرء ليقتطع بها حق امرئٍ مسلم لا كفارة لها، لأنها تغمسه في النار. 


الطاعة تثبيت والمعصية زلزال وزوال للإنسان :


 ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ الإنسان باستقامته يثبت في الإيمان، فإذا عصى الله عز وجل زلّت قدمه، وطُرد من دولة الإيمان. سيدنا عمر ـ رَضِي اللَّه عَنْه ـ كان إذا أصابته مصيبة كان يقول: "الحمد لله إذ لم تكن في ديني"، كله سهل، ذهاب المال سهل، احتراق البيت، احتراق المحل، مصادرة المال، كل شيء لا علاقة له بالدين، فمصيبة هينة، فكان عمر رَضِي اللَّه عَنْه إذا أصابته مصيبة يقول : "الحمد لله إذ لم تكن في ديني"  ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ أُلهمت الصبر عليها". 


ما علاقة الصد عن سبيل الله بحلف اليمين الكاذبة ؟


 ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ يا الله! هذه الآية دقيقة جداً، ما علاقة الصد عن سبيل الله بحلف اليمين الكاذبة؟ لا أرى علاقة.

﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ واضحة ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ليس له علاقة بالموضوع هذا! هو حلف يمين كاذبة، كيف بهذه اليمين صد عن سبيل الله؟ هذا الإنسان الآخر الذي يراك دَيّناً، والذي يظن بك أنك مؤمن، وحلفت أمامه يميناً كاذبة، كفر بالدين من أجلك، صددته أنت عن سبيل الله، صغَّرت الدين في عينيه، جعلت الدين تجارة تتاجر بها، أنت إذا حلفت يميناً كاذبة، ويعرف الناس عنك أنك دَيَّن، فقد جعلتهم يكفرون بهذا الدين، فقد جعلتهم يقولون: هؤلاء الذين يَدَّعون أنهم ديِّنون هم كاذبون، لا تثقوا بهم، لا تصدقوهم.

 لو أنك ألقيت ـ وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وأنا واثق من هذا الكلام ـ ألف محاضرة في الصد عن سبيل الله، ما بلغت في الناس كما لو أسأت معاملتهم، لذلك قال الإمام الأوزاعي: " كان يقال: أنت على ثغرة من ثغر الإسلام، فلا يؤتين من قِبَلك".

 إياك أن تسبب للإسلام اتهاماً من قِبَلك؛ من نقضك العهد، من بعض الكذب، من بعض الإساءة، الآية دقيقة جداً: 

﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إذا حلفت يميناً كاذبة صددت الناس عن سبيل الله، جعلتهم يرون الدين خرافة، أهذا هو الدين؟ أهكذا يأمرك الدين؟ أن تحلف يميناً كاذبة؟ لذلك هذا الذي يسيء معاملة الناس ويصلي أمامهم هو الذي يبعدهم عن الصلاة! هو الذي يقول لهم: الصلاة كذب، أنا أصلي وها أنا ذا أسيء لكم، هذا الذي يغش الناس في بيعه وشرائه، هذا الذي ينقض عهده مع الناس، هذا الذي يحتال عليهم، هذا الذي يغشهم، ويصلي أمامهم؛ إنه يصدهم عن الصلاة، يجعل الصلاة في نظرهم صغيرة، شيئاً لا قيمة له، يصلي ويفعل كذا؟! لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((  من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً  ))

[ القضاعي في مسند الشهاب عن ابن مسعود وهو ضعيف ]

 إذا استقمت على أمر الله تكون داعية إلى الله من دون أن تشعر، ولو لم تنطق بكلمة، ولو لم تنبث ببنت شفة، لو بقيت ساكتاً، وأحسنت للناس.

 الآن في إندونيسيا تقريباً حدثني أخ: هناك حوالي مئة وخمسون مليون مسلم، نحن كأمة عربية مئة مليون، إندونيسيا فقط مئة وخمسون مليون مسلم، كلهم أسلموا عن طريق التجار، لم يسلموا عن طريق الدعاة، ولا عن طريق الفتوحات؛ بل أسلموا عن طريق التجار!

 هذا التاجر الصدوق الذي لا يكذب، لا يغش، لا يحتال، لا يرفع السعر من أجل أن يرهق الناس، لا يحتكر البضاعة، لا يفرح أن يعيش هو وحده، ويشقى الناس،

(( التاجر الصدوق الأمين، مع النبيين والصديقين والشهداء ))

[ الترمذي عن أبي سعيد الخدري ]

(( أطيبُ الكسبِ كسبُ التجارِ الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا, وإذا ائتمنوا لم يخونوا ,وإذا وعدوا لم يُخلِفوا وإذا اشتروْا لم يَذُمُّواو إذا باعوا لم يُطروا وإذا كان عليهم لم يمطُلوا وإذا كان لهم لم يُعسِّروا. ))

[ الألباني عن معاذ بن جبل وهو ضعيف ]

 بلاد في شرق أسيا أسلمت جميعاً من خلال المعاملة الطيبة، أنت بالذات أين تسكن؟ بأي حي؟ إذا كنت جاراً مستقيماً تغض بصرك، وتحسن إلى جيرانك، لا بد من أن يقول لك بعض الجيران: خذنا معك إلى المسجد، أنت إنسان عظيم، أنت إنسان مستقيم، فإذا أسأت إليهم، وذهبت أمامهم إلى المسجد، ربما كرهوا المساجد، وكرهوا الصلاة من أجلك، أليس كذلك؟ هذه الآية: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ .

والحمد لله رب العالمين.

 الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم اجز عنا سيجنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهله، واجز عنا صحابته الكرام ما هم أهله، واجز عنا مشايخنا ومن علمنا ومن له حق علينا، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه، اللهم ألزمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا إلى صالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور