وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 20 - سورة النحل - تفسير الآيات 97 – 112 ، عن العمل الصالح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً


أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العشرين من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: 

﴿  مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)﴾

[ سورة النحل ]


ما هو العمل الصالح ؟


﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾ العمل الصالح؛ هو العمل بما جاء به القرآن الكريم، والسنة المطهرة، هو العمل بشرع الله سبحانه وتعالى، هو الانصياع لأمر الله سبحانه وتعالى، لذلك ربنا سبحانه وتعالى ذكر العمل الصالح مع الإيمان في أكثر آيات القرآن، مبيناً أن العمل الصالح من دون إيمان لا يكون، وأن الإيمان من دون عمل جنون، وأن العمل الصالح والإيمان متكاملان.

فلذلك قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾ .


العمل الصالح يشترك فيه الذكر والأنثى :


كلمة "مَنْ" تعني الذكر والأنثى، لو أن الله سبحانه وتعالى قال: من عمل صالحاً وهو مؤمن، معنى ذلك: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى، لماذا ذكر الله الذكر والأنثى؟ ليؤكد لنا أن المرأة والرجل متساويان في أشياء كثيرة، متساويان في التكليف، متساويان في التشريف، أما في الطبيعة فللمرأة طبيعة، وللرجل طبيعة، هنا يختلفان، لا ينبغي أن يُوضَع الرجل مكان المرأة، ولا أن توضع المرأة مكان الرجل.

امرأة جاءت النبي عليه الصلاة والسلام تشكو إلى الله، وتستفتي النبي عليه أتم الصلاة والتسليم، فعَنْ عَائِشَةُ قَالَتْ : 

((  تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي، وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ  ))

[ ابن ماجه ]

أريد من هذه القصة أربع كلمات؛ لها منه أولاد، إن تركَتْهم إليه ضاعوا، وإن ضمَّتهُم إليها جاعوا، معنى ذلك أن الرجل مكلف بكسب الرزق، والمرأة مكلفة بتربية الأولاد، مكانه الطبيعي خارج المنزل، لكسب الرزق، ومكانها الطبيعي تربية الأولاد، لو أن الأولاد تُرِكوا إليه لضاعوا، لأنه مشغول بكسب الرزق عن تربيتهم، ولو أن الأولاد ضُموا إليها لجاعوا، لأنها مشغولة بتربية الأولاد عن كسب الرزق.

إذاً هناك مساواة في البدايات، وهناك مساواة في النهايات، هناك مساواة في التكليف، وهناك مساواة في التشريف، لكن المرأة امرأة، والرجل رجل، ولعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، وللرجل مجال حيوي، وحقل للعمل لا تستطيع المرأة أن تنافسه فيه، وللمرأة مجال حيوي وحقل للعمل لا يستطيع الرجل أن ينافسها فيه، فإذا نافست المرأة الرجل خسرت مرتين؛ خسرت السباق، وخسرت أنوثتها. 

فربنا سبحانه وتعالى قال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾ كان يكفي أن يقول: من عمل صالحاً فلنحيينه حياة طيبة، ولكنه قال: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾ .


الذكر والأنثى مكلَّفان على السواء :


أي: إن الذكر مكلف بمعرفة الله معرفة يقينية، وبطاعته طاعة تامة مخلصة، وإن المرأة مكلفة بمعرفة الله معرفة يقينية، وبطاعتها لربها طاعة تامة مخلصة، متساويان في التكليف، ومتساويان في التشريف، من حيث الكرامة الإنسانية؛ المرأة كالرجل، إنسان يتمتع بكامل حقوقه، لكن لها وظيفة، ولزوجها وظيفة، والقيادة للزوج. 

﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) ﴾

[  سورة البقرة ]

لهن حقوق كما عليهن واجبات ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ درجة واحدة، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾ أما: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾ حينما تكون الفطرة سليمة كل واحد منا يعرف العمل الصالح من الطالح؛ بفطرته، بحسه، بإحساسه، بحدسه، بضميره، يعرف أن هذا العمل صالح، وأن هذا العمل سيئ، هذا معروف، وهذا منكر، هذا عمل جميل، وهذا عمل قبيح، هذا عمل حق، وهذا عمل باطل، هذا عمل خيّر، وهذا عمل شرير، بالفطرة؛ لكن إذا انطمست الفطرة تأتي الشريعة.


العمل الصالح له مصادر :


هذا العمل له ميزان دقيق هو الشريعة، هناك آيات القرآن الكريم، ما كان منها محكماً، وما كان منها متشابهاً، وهناك السنة المطهرة، وهناك إجماع الأمة، وهناك القياس؛ هذه مصادر التشريع في الإسلام. 

إن هذه المصادر يتفرع منها أحكام تفصيلية لا حدود لها، تغطي كل نشاطات الإنسان؛ في بيته، وفي عمله، في حِلّه وترحاله، في سِلْمه، وفي حربه، وفي كل نشاطاته، لذلك؛ إذا انطمست الفطرة فهناك الشريعة، استفتِ هذا العمل أيوافق عليه الشرع أم لا يوافق؟ ما حكم هذا العمل؟ ما من تصرف يقوم به إنسان على وجه الأرض إلا ويجب أن يكون منضوياً تحت خمسة أحكام؛ إما أن يكون واجباً، وإما أن يكون مندوباً، وإما أن يكون مباحاً، وإما أن يكون مكروهاً، وإما أن يكون محرماً.

الأصل في الأشياء الإباحة، هناك واجب يُعاقَب تاركه، وهناك حرام يُعاقَب فاعله، وهناك مندوب يُثاب فاعله، وهناك مكروه يُؤاخَذ فاعله، وهناك مباح يستوي فيه الفعل والترك، ما من حركة، ولا سكنة، ولا كلمة، ولا تصرف، ولا عمل صغير أو كبير، سري أو علني، إلا وينضوي تحت هذه الأحكام الخمسة، فالعمل الصالح هو ما جاء به القرآن الكريم. 

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83) ﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) ﴾

[  سورة آل عمران ]

﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)﴾

[  سورة النساء ]

﴿ لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) ﴾

[  سورة النساء ]

﴿  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(128)﴾

[  سورة النحل ]

آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي العظيم مقياس دقيق للعمل الصالح.

عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الأسَدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَابِصَةَ : 

((  جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالإثْمِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ، قَالَ : فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ، وَقَالَ : اسْتَفْتِ قلبك، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ، ثَلاثًا، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ  ))

[ أخرجه الدارمي  ]

عندك مُفتٍ ينطق بالحق:

(( الإِثْمُ ما حَاكَ في صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ. ))

[ صحيح مسلم ]

و(الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ) تستطيع أن تخدع الناس كلهم بعض الوقت! وتستطيع أن تخدع بعض الناس طول الوقت! ولكنك لن تستطيع أن تخدع نفسك ولا ربك، ولا ثانية من الوقت، ولا ثانية واحدة . 

﴿  بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)  ﴾

[  سورة القيامة  ]

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾ قد يقول لك قائلٌ: أخي أنا عملي طيب، القضية ليست بالصوم والصلاة! ولا بالإيمان! ولا بحضور مجالس العلم؛ القضية بالصدق، وبالوعد، والعهد، أنا خيّر، وهذا الذي يصلي يكذب، أنا لا أصلي، لئلا أكون مثله، هذه مقولة الشيطان. 

العمل الصالح لا يُقبَل منك إلا إذا كنت مؤمناً بالله، لأنك إذا كنت غير مؤمن فهذا العمل نوع من التصرف الذكي، نوع من التكيف مع البيئة، نوع من تحقيق الأهداف الدنيوية بأيسر السبل، يجب أن يكون العمل الصالح مبنياً على أساس من الإيمان، ومعرفة الله عز وجل، ومعرفة التكليف، ومعرفة العبادة، لذلك: 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ القرآن على إطلاقه. 


الحياة الطيبة عامة :


ما الحياة الطيبة؟ أهي في وفرة المال؟ أم في تمام الصحة؟ أم في وجود الزوجة المطواعة؟ أم في وجود الأولاد الأبرار؟ أم في وجود المنزل الواسع؟ أم في وجود المركب الهين؟ وفي بعض الأحاديث عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ  ))

[ أحمد في المسند ]

يا ترى أهذه هي الحياة الطيبة؟ ألا ترون مؤمناً معسراً في المال؟ ألا ترون مؤمناً سقيماً في الصحة؟ يعني لو أننا حصرنا الحياة الطيبة، بالبحبوحة، والصحة، ورفعة الشأن، والزوجة الصالحة، والأولاد الأبرار، لأخرجنا من الإيمان من كان يعاني بعض المشكلات، من كان ضَيَّق ذات اليد، من كان في مشكلة، في مصيبة، في ابتلاء، في امتحان. 

لذلك، ذهب بعض المفسرين إلى أن الحياة الطيبة هي اللذة التي لا توصف، حينما يحصلها الإنسان من طاعته لله عز وجل، ومن عمله الصالح.

إن السعادة التي يجنيها المؤمن حينما يشعر أنه مستقيم على أمر الله، وأن الله راضٍ عنه، وأن خالق الأكوان ممتن منه، وأن الله عز وجل يجعل له وُدّاً، وأنه يدافع عن الذين آمنوا، إن هذا الشعور بصرف النظر عن طبيعة الحياة، عن كونها قاسية أو رغيدة، حلوة أو مرة، إن شعور الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى راضٍ عنه، لعمري تلك هي الحياة الطيبة : 

فليتك تحلو والحياة مريــرة    وليتك ترضى والأنام غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامر    وبيني وبين العالمين خـرابُ

***

الإمام الشافعي رَضِي اللَّه عَنْه استنبط من قوله تعالى: 

﴿  وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)﴾

[  سورة المائدة  ]

استنبط الإمام الشافعي رَضِي اللَّه عَنهْ أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحبابه، قد يمتحنهم، وقد يبتليهم، وقد يضيق عليهم لبعض الوقت، ولكن لا لطول الوقت، فحياتهم تستقر على الإكرام، تستقر على الإحسان، فالحياة الطيبة لك أن تفهمها حياة مادية؛ وفرة في الدخل، صحة في الجسم، زواج سعيد، أولاد أبرار، رزق في البلد نفسها، ولك أن توسع المعنى، فتفهم الحياة الطيبة أنها الأنسُ بالله، الإقبالُ على الله، أن يكون القلب مهبطاً لتجليات الله، أن تشعر أنك أعظم الناس، وأسعد الناس، لأنك عرفت ربك، وعملت بطاعته.

فلذلك؛ الذين يطيعون الله عز وجل، ويعملون الصالحات تقرباً له، تتأتى على قلوبهم سعادة لا يعرفها إلا من ذاقها، ولا ينكرها إلا من حُرِمها. 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ هذه الآية فوق المكان والزمان، يعني في أي مكان أنت؛ الآية مطبقة، أما أن تطبق هذه الآية في مكان دون مكان؛ مستحيل؟! في بلد دون بلد؟ مستحيل! في زمان دون زمان؟ مستحيل! في ظرف دون ظرف؟ مستحيل! في بيئة دون بيئة؟ مستحيل! كلام رب العالمين مطلق، لا يحده شيء، والآية ليست مقيدة، في أي بلد كنت، وفي أي زمان وُجِدت، وفي أي بيئة عشت، وفي أي ظرف تعاني، إنك إذا كنت مؤمناً يجب أن تحيا حياةً طيبة، ويجب أن تقول، ويا ليتك تقول: ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني؛ هذا مقياس إيمانك: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ تطيب بها النفس.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ : 

((  يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ.  ))

[ الترمذي وأحمد ]

سمعة طيبة، تنتزع ثقة الناس، ثقة الناس لا تقدر بثمن، الناس جميعاً يثقون بك، يحبونك، يصدقونك، لست عندهم بكاذب، يأتمنونك على أموالهم، وعلى أعراضهم، هذه ثروة كبيرة، لا يعرفها إلا من ذاقها.


وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ


﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لذلك يموت المؤمن بعرق الجبين، وما عرق الجبين؟ حينما يأتيه ملك الموت، ويطلعه على مقامه في الجنة، يخجل، لأن كل عمله مجتمعاً لا يعدل هذا المقام الرفيع في الجنة. ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

ثم قال عز وجل: 

﴿  فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98)﴾

[ سورة النحل ]


كيف يعيش الغني معيشة ضنكا ؟


قبل أن ننتقل لهذه الآية هناك آية أخرى، حينما تُذكر هذه الآية: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يجب أن نذكر تلك الآية: 

﴿  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)﴾

[  سورة طه ]

بعض المفسرين تساءل: كيف يعيش الغني معيشة ضنكاً؟ والمال بين يديه كالتراب، يستطيع أن يأكل ما يشتهي، وأن يلبس ما يشتهي، وأن يسكن في أي مكان يشاء، وأن يذهب حيث الجمال، وحيث الرفاه، فأيّ عيشة ضنك يعيشها هذا الغني؟ 

أجاب المفسرون رَضِي اللَّه عَنْهم بأن المعيشة الضنك هي ضيق القلب، في قلب المُعرِض عن الله عز وجل ضيق لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم، يضاف إلى هذا الضيق المعاناة المادية، إنك إذا قرأت القرآن قد يأتي الشيطان ليوسوس لك، قد يأتي الشيطان ليحول بينك وبين فهم كتاب الله، وبين العمل به، ليحول بينك وبين تدبره، تأتيك الوساوس وأنت تقرأ القرآن، لذلك: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ .


فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ


استنبط العلماء أن هذه الآية مطلقة في أحكامها، حتى لو وقفت في الصلاة، أول شيء تقوله بعد دعاء الثناء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ يقول تعالى بعد هذه الآية: 

﴿  إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)  ﴾

[ سورة النحل ]


إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ


كلام واضح كالشمس، كلام لا يحتاج إلى تفسير، كلام مفَّسر. 

﴿إِنَّهُ﴾ أي: الشيطان ﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ .


ليس للشيطان سلطان على المؤمن :


لذلك هذا الذي يقول: لعن الله الشيطان، ليلعن نفسه! لأن الشيطان ليس عليه سلطان. 

﴿  إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ(100)  ﴾

[ سورة النحل ]


إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ


معنى تولّي الإنسان للشيطان :

هذا الذي يتولى الشيطان، معنى يتولى الشيطان أيْ: يطيعه، يستجيب لوسوسته، لا تصلِّ لئلا يؤخذ عنك فكرة ما، فلا يصلي، أفطِرْ في رمضان لتثبت لهم أنك كذا وكذا، فيفطر، هذا الذي قبل واستجاب لأمر الشيطان الآن أصبح للشيطان عليه سلطان، يسيّره حيث يشاء، إذا رأيت إنساناً قد عُلِّق على حبل المشنقة، قل: هذا من عمل الشيطان، تولاه، فتسلط عليه ـ تولاه الإنسان بمعنى أطاعه ـ فتسلط عليه فأهلكه في الدنيا، وأشقاه في الآخرة. 

﴿  الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268)﴾

[  سورة البقرة ]

وقال سبحانه: 

﴿  إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)﴾

[  سورة آل عمران  ]


وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ


﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ يعني يشركونه مع الله، يُعزون إليه الفعل، يصدقون أنه بيده شيئاً يفعله. 

﴿  وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22) ﴾

[ سورة إبراهيم  ]

ثم قال عز وجل: 

﴿  وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)  ﴾

[ سورة النحل ]


وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ


الآية دليل على حكم النسخ في القرآن :

المفسرون حملوا هذه الآية على النسخ في القرآن الكريم، في القرآن الكريم آيات نُسِخت، وبقي لفظها لحكمة بالغة أرادها الله، مرحلة معينة تقتضي هذه الآية، هذه الآية استُنفِذت وظيفتها، فنُسخت وحل محلها تشريع آخر، فحينما ذُكرت، ذُكرت لتنسخ، بمعنى ذكرت لينتهي حكمها، ويأتي حكم آخر، الله سبحانه وتعالى حرّم الزواج بالكتابية في وقت معين، ولحكمة بالغة، ثم سُمح الزواج بالكتابية، والقِبلة كانت نحو بيت المقدس، ثم حُوِّلت إلى الكعبة المشرفة لحكمة بالغة، لو كان هناك وقت لبحث هذا الموضوع بالتفصيل لبحثناه؛ فما من آية ذُكرت ثم نُسخت إلا وهناك حكمة من نسخها، وحكمة من بقاء ذكرها. 

قد يقول قائل: ما دامت قد نسخت لِمَ لمْ تُمحَ؟ هناك حكمة من ذكرها أولاً، وحكمة من نسخها، وحكمة من بقاء لفظها، هذا ما عليه أهل السنة والجماعة. 


لماذا كان القرآن معجزة النبي عليه الصلاة والسلام ؟


﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ بعض العلماء قالوا: لماذا كانت آية رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الكتاب؟ ولماذا كانت آية موسى أن تكون عصاه ثعباناً مبيناً؟ وأن يُشَق البحر له؟ لماذا بدل الله الآيات المتعلقة بخرق قوانين الأرض؟ لماذا جاء محلها آيات متعلقة بالإعجاز البلاغي والتشريعي؟ كأن هناك من يعترض، لِمَ لم يكن مع رسول الله معجزات كمعجزات موسى؟ لِمَ لم تكن مع رسول الله معجزات كمعجزات عيسى عليه السلام؟ هذا المعنى الآخر للآية. 

﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ هذه الآية الرد: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾


الله هو المنزِّل ، والنبي ليس مفتريًا :


هو الحكيم، هو الإله القدير، لا نحيط بعلمه، ولا نرقى إلى حكمته. 

﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾ هذه من عندك، ما جاءت في كلام الله، أنت الذي نسختها، أنت الذي حوّرتها ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .

﴿  وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ(15) ﴾

[  سورة يونس  ]

مستحيل! شيء لا يمكن أن يقع ! أنا نبي مكلف برسالة، ليس في صلاحيتي أن أبدل آية مكان آية، ﴿أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ ثم يتابع تعالى الآيات فيقول: 

﴿  قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102)﴾

[ سورة النحل ]


قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ


روح القدس هو جبريل :

"القدس" الشيء الطاهر، أو كأن تقول: الروح المقدسُ، والمقصود بروح القدس سيدنا جبريل عليه والسلام، إنه سيد الملائكة. 


موضع بيان لتوحيد الربوبية :


﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ لم يقل: مِن الله عز وجل؛ لأن مناط الربوبية تربية الإنسان، وتوضيح الحقائق له، وتقديم التشريع له، والأخذ بيده، ومعالجته، هذا كله من صفات الربوبية. 

﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ حينما يكون هذا الكلام من عند الله عز وجل وفيه حقائق؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يهدي للتي هي أقوم، قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، غنىً لا فقر بعده، ولا غنىً دونه، حينما يكون الكتاب كذلك، فيه قواعد ثابتة، فيه قوانين حتمية، فيه طريق إلى الله عز وجل، فيه ذكر الحلال والحرام، والخير والشر، والحق والباطل، فيه منهج الإنسان إلى دار السلام، حينما يكون القرآن كذلك فإنه: 


القرآن تثبيت وهدى ورحمة للمؤمن :


﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ من الأشياء المضحكة أن كفار قريش أرادوا أن يثيروا الشكوك برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، هناك غلام نصراني يتقن اللغات الفارسية، والرومية، كان مقيماً بمكة، يبدو أن النبي عليه الصلاة والسلام التقى به، فقالوا: عرفنا السر، إن هذا الغلام هو الذي يعلم رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذًا هذا القرآن قد أخذه من عند هذا الغلام، شيء مضحك، تهمة لا تقف على قدميها. 

﴿  وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(103)﴾

[ سورة النحل  ]


وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ


النبي أميٌّ لم يعلِّمه أحد من البشر :

أبى القرآن أن يذكر اسم هذا الغلام؛ لأن الغلام ليس مقصوداً، لا يمكن لبشر كائناً من كان أن يعلم النبي العدنان، ليس المقصود هذا الغلام بالذات، لا يمكن لبشر أن يعلم هذا النبي، هذا النبي جعله الله أمياً ليقطعه عن ثقافة البشر، وليجعل كلامه كله من وحي الله عز وجل. 

﴿  وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾

[  سورة النجم  ]

لذلك كل ما أقره النبي عليه الصلاة والسلام فهو تشريع.

كان عند أحد أصحابه، وقد توفي، اسمه أبو السائب، فعَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : 

((  طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتْ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، قَالَ : وَمَا يُدْرِيكِ ؟ قُلْتُ : لَا أَدْرِي وَاللَّهِ، قَالَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، قَالَتْ : أُمُّ الْعَلَاءِ : فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ، قَالَتْ : وَرَأَيْتُ لِعُثْمَانَ فِي النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ : ذَاكِ عَمَلُهُ يَجْرِي لَهُ. ))

[ البخاري ]

لو أن النبي عليه الصلاة والسلام سكت لكان هذا الكلام صحيحاً، لكنه صاحب التشريع قال: (وَمَا يُدْرِيكِ) بأن الله أكرمه؟ (إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ ... أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ)

﴿  وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)  ﴾

[  سورة الحجر  ]

(وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) إنّ كل أقواله، وإن كل أفعاله، وإن كل إقراراته وحي غير متلو، لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ .


كيف يعلِّم الأعجميُّ العربيَّ ، والقرآن عربي ؟!!


﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾ هذا الغلام أعجمي، لا يعرف العربية، ولا بيانها، ولا بلاغتها، ولا إعجازها.

﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ ألا يكفي ذلك؟ 

﴿  إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104)﴾

[ سورة النحل ]


إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ


هل تعلم الطريق الوحيد الموصِل إلى الله ؟

هذه الآية خطيرة جداً، تبين أن الطريق الوحيد إلى الله عز وجل، تبين أن الطريق الوحيد إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، التفكر في آياته الكونية، أو تدبر آياته القرآنية. 

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ هناك الآيات الكونية، الشمس والقمر، والليل والنهار، والنبات والحيوان، والسهل والجبل، والأسماك والأطيار، وخلق الإنسان، وما في الكون من آيات دالات على عظمته، أو آيات القرآن الكريم، مَنْ لم يؤمن بآيات الله الكونية بالتفكر، ومن لم يؤمن بآيات القرآن الكريم بالتدبر، فإن الله سبحانه وتعالى لا يهديه، الطريق مسدود.

طريق معرفة الله الكون، وهذا الكتاب، إن لله في أرضه كتابين، الكون، والقرآن، فالكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، و يمكن أن تضيف باباً ثالثاً لمعرفة الله عز وجل، ألا وهي آيات الحوادث، إن ما يجري في الحياة من إكرام المستقيم، ومن معاقبة اللئيم، ومن إكرام الشاكر، ومن محق الكافر، من توفيق المصدق، وتعسير المكذب، إن الحياة طافحة بالدروس والعبر.

﴿  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(69)  ﴾

[  سورة النمل  ]

﴿  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)﴾

[  سورة الأنعام  ]


الكافر بآيات الله له عذاب أليم في الدنيا والآخرة :


﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وإذا قال العظيم: إن العذاب أليم، فيجب أن تعرفوا ماذا تعني كلمة أليم، العظيم يقول عن هذا العذاب: إنه عذاب أليم، يعني حينما يُقطَع عصب الضرس حين قلعه تعرف ما هو العذاب الأليم، لو قُلع الضرس من دون مخدر، ألم الضرس وحده، ألم الرمال في الكليتين، ألم الاضطراب في الأمعاء، ألم الأورام الخبيثة، نعوذ بالله منها، هناك آلام لا تحتمل! هذا عذاب أليم في الدنيا، فكيف الآخرة ؟!. 

﴿  إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ(105)﴾

[ سورة النحل ]


إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُون


ليس النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يفتري الكذب، حاشا لله ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ﴾ .

الكافر كاذب :

الكذاب هو الكافر، لأنه بنى حياته على الكذب، بنى حياته على أفكار غير صحيحة، حينما انطلق إلى الدنيا وحدها، وقال: هي كل شيء؛ فهذا كذب، حينما ظن أن الله لن يحاسبه فهذا كذب، حينما ظن أن الله يسوي بينه وبين المؤمن، فهذا كذب، حينما ظن أنه ليس في الأرض حق، كل إنسان يقول: أنا على حق، الأمور فوضى، لا‍‍. 

﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾

[  سورة البقرة ]

فلابد من أن يكون في الأرض من هو على حق. 

﴿  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

هذه مقولات الكفار هي الكذب، الذي يبني حياته على الكذب، وعلى أفكار كاذبة؛ هو الكذاب، إذا بنيت حياة الكافر على الكذب فأقواله كذب، إن قال لك: الدنيا هي كل شيء، اقتنص كل اللذائذ قبل أن يأتي الموت؛ هذا كذب؛ لأنه عد الموت نهاية الحياة، الموت بداية وليس نهاية، إذا قال لك: إن لم تملك المبلغ الضخم فلا قيمة لك، هذه هو الكذب، هذه فكرة كاذبة، هناك مصائب لا ينفعها المال. 

إن شعور المؤمن بطاعة الله عز وجل يفوق شعور الغني بالغنى، ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس. 

﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ﴾ من بنى حياته على الكفر، وعلى الكذب، وعلى معتقدات زائغة، وضالة، وغير صحيحة؛ هو الكذاب المبين. 

﴿  مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)﴾

[ سورة النحل ]


مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ


هدف الأديان السماوية الحفاظ على الكليات الخمس :

الإسلام والأديان، الإسلام بشكل خاص، والأديان بشكل عام، جاءت لتحفظ خمسة أشياء؛ لتحفظ الدين، وتحفظ العقل، وتحفظ النفس، وتحفظ المال، وتحفظ العِرض، فمن اعتدى على الدين بالارتداد، ومن اعتدى على المال بالسرقة، ومن اعتدى على العِرض بالزنى، ومن اعتدى على النفس بالقتل، ومن اعتدى على العقل بالخمر، فللخمر حد، وللزنى حد، وللسرقة حد، وللقتل حد، وللارتداد حد. 


خطورة الكفر بعد الإيمان :


﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ من كان كافراً ولم يؤمن شيء، ومن كفر بعد الإيمان شيء آخر، من كفر بعد الإيمان فهذا اعتداء على الإيمان، اعتداء على الشريعة، اعتداء على الدين. أما أن يبقى الإنسان كافراً: 

﴿  غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)﴾

[  سورة الفاتحة  ]

لكن دخل في الدين ثم خرج منه، هذا عدوان. 


إذا هُدِّدت حياة الإنسان جاز أن ينطق بكلمة الكفر غير معتقد بها :


﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ إذا هُدِّدت حياة الإنسان، إذا خاف الإنسان على حياته خوفاً حقيقياً، لا خوفاً واهماً! إذا كان الذي يهددك في حياتك من الذين يفعلون ما يقولون، إذا غلب على ظنك أن حياتك مهددة، أو أن أحد أعضائك مفقود، أو أن مالك كله مستباح، أجاز لك الشرع أن تنطق بكلمة الكفر! لكن الكلام دقيق، إذا غلب على ظنك أن حياتك مهددة بالقتل، وأن أحد أعضائك مهدد بالبتر، أو مالك كله، هذه الشروط الثلاثة، غلب على يقينك، والذي تخاف منه يفعل ما يقول، عندئذ أجاز لك الشرع أن تنطق بكلمة الكفر! أو ما دونها، مثل أن تأكل لحم الخنزير. 

﴿  إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(173)﴾

[  سورة البقرة  ]


الضرورات تبيح المحظورات :


لم يأكل زيادة عن الحد المطلوب، حفظ نفسه من الموت ﴿فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ هذه الضرورات ـ قاعدة فقهية ـ الضرورات تبيح المحظورات، أي ضرورة هذه ؟ هنا المشكلة، توسع بعض الناس في الضرورات، حتى جعل لوم الناس من الضرورات، إنما هي: خوف فقد الحياة، أو خوف فقد أحد الأعضاء، أو خوف تضييع المال كله، هذه هي الضرورات فقط، ولا شيء سواه، ويجب أن يغلب على ظنك أن هذا الذي تخافه يفعل ما يقول، عندئذ لك أن تنطق بكلمة الكفر، أو ما سواها من المحظورات. 

أما الحاجات غير الضرورات، أما المتممات، مثلاً ينقصه مكيّف، هذه متممات، والحاجات، تناول الطعام الأساسي، والضرورات حفظ الحياة، فعندنا ضرورات، وحاجات ومتممات، كلمة الكفر، أو فعل المحرمات، ليست مغطاة إلا في حالة تهديد الحياة، أو بتر العضو، أو مصادرة المال. 


الاجتهاد في الأخذ بالرخصة أو العزيمة :


﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ الصحابة اجتهدوا؛ بعض أصحاب رسول الله قُطِّعوا إرباً إِرباً، ولم ينطقوا بكلمة الكفر، هكذا اجتهدوا، يا خبيب أتحب أن تكون في أهلك وولدك وعندك عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة؟ قال: والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة، وقتلوه!

صحابي جليل كان عند ملك الروم، وأراد أن يحمله على ترك دينه، فأوقد ناراً، وجعل فوقها قِدْراً كبيراً فيها زيت مغلي، وجاء بأسير، وألقاه في هذا القِدْر، إلى أن ظهرت عظامه وحدها، ذاب لحمه، وظهرت عظامه، فجعل هذا الصحابي يبكي، ففرح ملك الروم، وظن أنه قد انهارت قواه، قال له: ما لك تبكي؟ قال: أبكي لأن للإنسان نفساً واحدة، كنت أتمنى أن تكون لي أنفس عديدة، تموت هذه الميتة كل مرة، فأكسب عند الله أجراً عظيماً، عندئذ تركه.

هنا اجتهاد؛ إن حفظت حياتك فهذا اجتهاد مباح لك، وهو مغطى شرعاً، وإن آثرت أن تكون كسيدنا بلال، وضعوا الصخرة على صدره، ليحملوه على الكفر فقال: أحد أحدٌ، فرد صمد، حتى جاء سيدنا الصديق، واشتراه من أمية بن خلف، قال له أمية: والله لو دفعت به درهماً واحداً لبعتكه! قال الصديق: والله لو طلبت به مئة ألف درهم لدفعتها لك! أخذ بيده، وقال: هذا أخي حقاً، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: 

((  أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا. ))

[ البخاري ]

حتى إن سيدنا عمر رَضِي اللَّه عَنْه كان إذا علم بقدوم بلال إلى المدينة خرج إلى ظاهر المدينة لاستقباله.

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ هذا مستثنى من الحكم.


من الكفر انشراح الصدر بالكفر :


﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ أما هذا الذي يرتاح لأفكار الكفر؛ يرتاح للكافرين، يأنس بهم، يحب أن يكون منهم، يحب أن يجلس معهم، يجاملهم إلى أقصى الحدود، قد يسبقهم في مجاملته لهم، هذا الذي يرتاح للكفر، ولأهل الكفر، وينساق معهم في حديثهم، وفي أمسياتهم، وفي حفلاتهم، وفي نزهاتهم، وهو منهم، وهم منه! هذا هو المعني بالآية: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ العظيم يقول عن العذاب: إنه عظيم، فما مستوى هذا العظيم؟ 

﴿  ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(107)﴾

[ سورة النحل ]


ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ


الميل إلى الكفار لهدف الدنيا ومفاتنها :

لماذا جاملوا الكفار؟ وعاشوا معهم؟ وسايروهم؟ وماشوهم؟ وسهروا معهم؟ وذهبوا إلى متنزهاتهم؟ وأقروهم على انحرافاتهم؟ وقدموا لهم كل غالٍ ورخيص؟ ونفس ونفيس؟ 

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾ دخل أبو حنيفة رَضِي اللَّه عَنْه على أبي جعفر المنصور فقال له المنصور: يا أبا حنيفة، لو تغشيتنا؟ قال: ولِمَ أتغشاكم، وليس لي عندكم شيء أخافكم عليه؟ وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ ربنا يقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾ سيدنا الحسن البصري قيل له: "بمَ حصّلت هذا العز، وهذه المكانة؟ قال: بشيئين؛ لحاجة الناس إلى علمي، واستغنائي عن دنياهم"، استغنى عن الدنيا، زهد بها، فرفعه الله عز وجل، لذلك احتج إلى الرجل تكن أسيره، واستغنِ عنه تكن نظيره. 

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ هذا الذي آثر الدنيا على الآخرة، الطريق إلى الله مسدود. 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ : 

((  كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ يَا عُمَرُ  ))

[ البخاري ]

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ثم قال تعالى: 

﴿  أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(108)﴾

[ سورة النحل ]


أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ


الطبع الابتدائي والطبع الجزائي :

كما قلت لكم سابقاً: هناك طبعٌ ابتدائي، وهناك طبعٌ جزائي، يعني حينما لا يداوم الطالب في المدرسة ولا يوماً واحداً، يصدر مدير المدرسة أو رئيس الجامعة قراراً بفصله، وبحرمانه من الجامعة، هل هذا المدير، أو هذا الرئيس في الجامعة قد تجنّى عليه؟ إن قراره مبني على عمل الطالب، فهناك طبع جزائي، وهناك طبع ابتدائي .

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) ﴾

[  سورة الصف ]

فطبع على قلوبهم، لأنهم أعرضوا عن الله عز وجل، اتجهوا إلى الدنيا، انغمسوا فيها، جعلوها كل همهم، جعلوها مبلغ علمهم، لذلك طبع الله على قلوبهم. ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ﴾ .

﴿  لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ(109) ﴾

[ سورة النحل  ]


لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ


طعم الخسارة مؤلم :

الخسارة مؤلمة، لا يعرفها إلا من ذاقها، قد يشتري التاجر بضاعة، وتبقى عنده سنوات وسنوات، يبيع منها، ويحصل ثمنها، وينقلها، ويخبئها، ثم يخسر فيها! طعم الخسارة مر، إذا خسرت المال، فالمال شيء جزئي، وإذا خسرت من تحب، فمن تحب جزء من كيانك، أما إذا رأيت أنه لا حياة إلا الحياة الآخرة، وأنها إلى الأبد، وأنك قد خسرتها؟! شيء يصعب تصوره، خسارة كل شيء وإلى الأبد ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ .


الخسارة الحقيقية هي خسارة الآخرة :


قال تعالى: 

﴿  قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾

[ سورة الكهف ]

وقال سبحانه: 

﴿  أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1) حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5) لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6) ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8) ﴾

[  سورة التكاثر  ]

﴿  ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(110)﴾

[ سورة النحل ]


ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا


الله غفور رحيم لمن تاب وجاهد وصبر :

حينما يتوهم الرجل أن الله غفور رحيم من دون جهد، من دون شيء إطلاقاً، فقط غفور رحيم، افعل ما بدا لك، وهو غفور رحيم، هذا معنى ساذج، هذا معنى شيطاني. 

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اجمع آيات المغفرة تجد أن الله عز وجل غفور رحيم من بعد التوبة والإقلاع.

﴿  إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(146)﴾

[  سورة النساء  ]

﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تابوا، وآمنوا، وعملوا الصالحات. 

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقال سبحانه : 

﴿  نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ(50) ﴾

[ سورة الحجر  ]

إن لم تعد إليه فعذابه أليم .

﴿  قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ(56)﴾

[  سورة الزمر  ]

﴿  يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(111)﴾

[ سورة النحل ]


يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون


كل نفس يوم القيامة تدافع عن نفسها :

لو اتُّهم إنسان بتهمة كبيرة، وسيق للتحقيق ماذا يفعل؟ يدافع عن نفسه بشكل مضطرب، خوف العقاب! يقول كلاماً صحيحاً وغير صحيح، معقولاً وغير معقول! مقبولاً وغير مقبول. 

﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا﴾ تدافع عن نفسها، بغية أن تنجو من عذاب الله ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ .


الحساب بالتمام والكمال من ظلمٍ :


بالتمام والكمال. 

﴿  وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ( 70) ﴾

[  سورة الزمر  ]

﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ يبدو أن الله سبحانه وتعالى قد يعطي المؤمن في الدنيا عطاءً تشجيعياً، لكن أجره الكبير مُدَّخَر له في اليوم الآخر. 

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)﴾

[  سورة آل عمران  ]

الغنى والفقر بعد العرض على الله. 

﴿  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) ﴾

[ سورة النحل  ]


وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ 


أيّ قرية تنطبق عليها المواصفات تدخل في هذا المثل :

ليست قرية بعينها، أية قرية. 


الرزق الوفير يُجبى إلى هذه القرية من جميع البلدان :


﴿قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ أمن، وطمأنينة، وخيرات من كل حدب وصوب، وتجارات رائجة، وبيوت فخمة، ومواد متوافرة، وغذاء رخيص، ولباس أنيق، وبيت فخم.

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ قال نبي الله شعيب عليه السلام لقومه: 

﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) ﴾

[  سورة هود ]

قال بعض المفسرين: توافر المواد ورخص الأسعار ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ .


المعاصي والكفر والذنوب تُذهِب النعم :


﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ أدارت ظهرها للدين، ضربت بأحكامه عرض الطريق، لم تقم حياتها وفق شريعة الله، لم تحكم بما أنزل الله، عدّت الدين شيئاً قديماً بالياً لا يصلح لهذا الزمان، أخذت عن الغرب فسقه وفجوره، وانحطاطه الخُلقي، وإباحيته. 


هذا هو جزاء هذه القرية فاعتبروا يا أولي الأبصار :


﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ والأدلة والشواهد حولنا: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ الجوع والخوف. 

﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)  ﴾

[  سورة قريش  ]

هذه أذاقها، ما أذاقها الجوع والخوف، يا ليت! أذاقها لباس؛ يعني أن الجوع والخوف لباس ثابت لا يُنزَع عنهم، والخوف حيث ما تحركوا، وأينما اتجهوا. 

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور