وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الحجر - تفسير الآيات 1 – 3 الآيات الدالة على الله عز وجل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 

 

الآيات التي تدل على الله سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الأول من سورة الحجر :

 بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ﴾ ، فالكتاب كما قال بعض العلماء ينطبق على كل كتاب سماوي ، مطلق الكتب المنزلة على أنبياء الله سبحانه وتعالى ، الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ، وأنزل عليهم الكتاب ، خلقهم ، وأنزل إليهم منهاجهم ، فلذلك تأتي كلمة الكتاب في القرآن الكريم بمعنى يشمل كل الكتب السماوية . 

﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾ .. الآيات جمع آية ، والآية هي الدليل والعلامة ، فاصفرار الفاكهة علامة نضجها ، وظهور بعض السحب في السماء علامة للمطر الكثير ، ربنا سبحانه وتعالى جعل لكل شيء علامة ، وقال : 

﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)  ﴾

[ سورة النحل  ]

البلوغ له علامة ، والنضج له علامة ، واقتراب الشتاء له علامة ، واقتراب فصل الربيع له علامة ، ونضج الفواكه لها علامة ، وكل شيء له علامة ، هذه علامات على أشياء  فما الدلائل أو العلامات الدالة على الله سبحانه وتعالى  ؟ 

الآيات التي تدل على الله سبحانه وتعالى على ثلاثة أنواع ؛ هناك الآيات الكونية ، خلقُك دليل على أسماء الله الحسنى ، هذا القلب الذي بين جوانحك يضخ في كل نبضة سبعين سنتيمتراً مكعباً ، اضرب هذه السبعين في ستين مرة كي تعرف كم ينبض في الدقيقة ، اضرب هذا الرقم بستين كي تعرف كم يضخ في الساعة ، اضرب الناتج الأخير في أربع وعشرين ، بعضهم بدأ يضرب إلى أن ضرب الرقم الأخير بعمر تقريبي ، فكان حجم الدم الذي يضخه القلب طيلة في عمر الإنسان شيء لا يصدق ، الرقم لا يصدق ، هذا القلب ، هذه الآلة التي بين جوانحنا لا تفتأ عن الضخ ، لا تكل ، لا تتعب ، لا تقف ، القلب آية من آيات الله سبحانه وتعالى .

اللسان آية ، كل حرف ينطق به اللسان تسهم في صنع هذا النطق سبع عشرة عضلة ، فالكلمة المؤلفة من خمسة حروف كم عضلة تسهم في صنعهاا ؟ والدرس الذي يلقى خلال ساعة كم مرة تحركت العضلات بشكل أو بآخر حتى جعلت هذا الكلام يلفظ فيسمعه الناس .

فالآيات على ثلاثة أنواع ، آيات كونية ، أي شيء حولك ينطق بعظمة الله ، حيثما التفت ، إلى أين نظرت ، إلى السماء ، إلى الأرض ، إلى الجبل ، إلى البحر ، إلى الأطيار ، إلى الأسماك ، إلى الهواء ، إلى الماء ، الماء كما قال بعض العلماء لا ينضغط ، ولأنه لا ينضغط فله وظائف كثيرة يؤديها ، الماء إذا بردته إلى درجة +4 يزداد حجمه ، ازدياد حجم الماء تتوقف عليه الحياة على وجه الأرض ، فازدياد حجم الماء في هذه الدرجة بالذات دليل وآية على عظمة الله عز وجل ، فحينما وصلت إلى كلمة : ﴿ تِلْكَ آيَاتُ ﴾ الآيات على ثلاثة أنواع :  الآيات الكونية ، كأس الماء آية كونية ، رغيف الخبز آية كونية ، البذور آية كونية ، النبات آية كونية ، تخزين الماء آية كونية ، الأنهار آية كونية ، الينابيع آيات كونية ، هذه عناوين موضوعات . 


ضرورة التفكر في آيات الله الكونية :


المؤمن الصادق لا يمر على هذه الآيات مراً سريعاً ، يقف عندها ، يتأمل فيها ، يتعرف إليها ، يستنبط أن لها خالقاً عظيماً ، هناك من يأكل كما تأكل الأنعام ، هناك من يتعامل مع المخلوقات كما تتعامل الأنعام مع بعضها بعضاً ، همه أن يأكل ، وأن يشرب ، وأن ينام ، ولا يعرف أن هذا الصوف الذي ينام عليه من خلق الله سبحانه وتعالى ، وأنه خلق خصيصاً له ، ولا يعرف أن هذا الثوب الصوفي الذي يقيه البرد إنما هو من خلق الله سبحانه وتعالى ، وأن شعرة الصوف صنعت بشكل عجيب ، صنعت مجوفة ، وبطول محدود يعين على غزلها ، فإذا غزل الصوف بهذا الطول له فوائد يعرفها الخبراء بالخيوط ، لذلك الآن الخيوط الصناعية التي يمكن أن تنتج مستمرة تقطع إلى أطوال تساوي أطوال الصوف ، من أجل أن تكون هناك ميزة في غزلها ، فماذا أقول لكم  ؟ 

وفي كل شيء له آية        تدل على أنه واحد

[ لبيد بن ربيعة  ]

هذا الموضوع لا حد له ، لا يحصر بكلمات ، لكن الذي يعنينا منه أن كل مؤمن مدعو إلى التفكر في آيات الله الكونية ، ليتفكر بعينه ، هذه العين ، جميع خلايا الجسم البشري تتغذى عن طريق الشعريات الدقيقة ، إلا قرنية العين يتم غذاؤها بطريقة عجيبة ، بطريقة الحلول ، الخلية الأولى تأخذ الغذاء فينتقل غذاؤها وغذاء جارتها عبر الغشاء الخلوي إلى الخلية الثانية ، كل هذا من أجل الرؤية الصافية .

العين في شبكيتها مئة وثلاثون مليون مخروط ، الذي عدّ هذه المخاريط نال جائزة نوبل في عام 1967 ، مئة وثلاثون مخروطًا وسبعة ملايين عصية من أجل استقبال المؤثرات الضوئية ، ونقلها إلى الدماغ كي تنقلب إلى صور ، فالعين آية ، العصب البصري مؤلف من أربعمئة ألف عصب .

السمع آية ، الشم آية ، اللمس آية ، القلب آية ، جهاز الهضم آية ، جهاز التنفس آية ، جهاز الدوران آية ، جهاز التصفية آية ، الجهاز التناسلي آية ، العضلات آية ، العظام آية ، قال لي طبيب : إن عظم الجمجمة مشدود إلى الداخل بحيث لو استطعنا أن نتمكن من بعض سطوح الجمجمة ، وأردنا أن نسحب هذه السطوح المتداخلة إلى الداخل أن نسحبها إلى الخارج لاحتجنا إلى قوة تزيد عن أربعمئة كيلو غرام ، أي هذه السطوح الثلاث في الجمجمة  التي ركّبت بشكل مفصل متداخل مسنن هذا التركيب مشدود إلى داخل الجمجمة ، ولا يفك إلا بقوة كبيرة ، هذا إذا استطعنا أن نمسك ببعض هذه السطوح ، لذلك في عمليات فتح الدماغ أهون على الطبيب أن ينشر العظام نشراً من أن يفك هذه المفاصل ، وهذه المفاصل عند الولادة تتداخل بعضها ببعض ، فإذا لم تتداخل لا يوجد جهة في الأرض حتى الآن تستطيع أن تصنعها ، أي سطوح مسننة تتداخل مع بعضها بعضا ، تتعشق كما يقول الميكانيكيون ، إذا تعشقت كانت مفصلاً ثابتاً ، ما فائدة هذا المفصل الثابت ؟ لمص الصدمات ، حينما يقع الطفل على الأرض تسمع رنين رأسه على البلاط بشكل واضح ، ما الذي يقي هذا الرأس من أن يُكسر ؟ هذه المفاصل الثابتة . 

﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)﴾

[ سورة الأنعام ]

والله الذي لا إله إلا هو لو بقينا سنوات متصلات نتحدث عن آيات الله لا نقضي منها شيئاً .

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)  ﴾

[ سورة البقرة ]

لكنني والله الذي لا إله إلا هو وأنا ناصح لكم أدعوكم إلى التفكر في هذه الآيات .

لماذا كان غضروف الأنف في الطفل قاسياً وبعدئذ يصبح غضروفاً ليناً ؟ لمَ لم يكن عظم الأنف إلى هنا ؟ لماذا كان عظم الأنف إلى هنا والقسم الباقي غضروفي ؟ هذا سؤال أجب عنه وحدك .

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[  سورة آل عمران ]

يتفكرون ، هؤلاء المتقون ، هؤلاء المؤمنون يتفكرون في خلق السماوات والأرض ، هذا الكأس من الماء الذي تشربه كان ملحاً أجاجاً فصار عذباً فراتاً ، قدرة من حولته من هذه الحال التي تمجها النفس إلى تلك الحال التي تستسيغها النفس ؟ الله سبحانه وتعالى .

هذا القسم الأول هو الآيات الكونية ، وربنا عز وجل ذكر بعضها ، وترك لنا التفكر بالباقي .

 

آيات القرآن الكريم آيات دالة على عظمة الله سبحانه وتعالى :


وأما الآيات الثانية فهي الآيات القرآنية . 

هناك آيات كونية ، وهناك آيات قرآنية ، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، هل يوازن خالق بمخلوق ؟ كذلك لا يوازن كلام الله بكلام الناس ، فالذي يمضي حياته في دراسات تتعلق بكلام الناس فقد ضيع عمره سدى ، والذي يمضي حياته بفهم كلام الله ، والتعرف إلى دقائقه ، ومدلولاته ، واستنباط القواعد الثابتة ، ومعرفة طريق سعادته فهو من السعداء ، آيات القرآن الكريم آيات دالة على عظمة الله سبحانه وتعالى ، حتى إن بعض العلماء قال : القرآن كون ناطق ، والكون قرآن صامت ، وبعض العلماء يقول : إن لله في خلقه كتابين ، الكون كتاب ، والقرآن كتاب .  

 

الحوادث آيات دالة على عظمة الله :

 

وأما الآيات ذات النوع الثالث فهي الحوادث ، الحوادث أيضاً آيات دالة على عظمة الله سبحانه وتعالى :

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾

[ سورة الأنعام ]

تتبّع إنساناً مؤمناً ، تتبّع حياته الخاصة ، تَتَبَّع حياته العامة ، تَتَبَّع حياته النفسية ، تَتَبَّع حياته الاجتماعية ، تَتَبَّع علاقاته العامة تر أنه سعيد ، تَتَبَّع حياة المنحرف العاصي الشقي تر أنه في جحيم لا يطاق ، فهذه الحوادث التي يصنعها الله سبحانه وتعالى قرآن ثالث ، قرآن مطبق ، أيّة آية في كتاب الله هناك ما يدل عليها في الكون ، وهناك ما يدل عليها في الحياة .

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) ﴾

[ سورة الزخرف  ]

هذه آية قرآنية ، لو تتبعت الحياة الاجتماعية لوجدت أن الله موجود مع الناس يحاسبهم ، يقضي بينهم بالحق ، يثيب محسنهم ، يعاقب مسيئهم ، من كان ماله حراماً أتلفه الله ، ومن كان ماله حلالاً رزقه الله ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ. ))

[ صحيح البخاري  ]

 فهذه الآيات مطبقة أيضاً في الأرض .

 

آيات القرآن الكريم آيات بينات واضحات :


 عودة إلى هذه الآية ، الآية هي العلامة ، التفاح يكون أخضر اللون ، فإذا اصفر وشح بلون أحمر فهذا الاصفرار وهذا الوشاح دليل أنه قد نضج ، فعلامة نضجه اصفراره ، فالاصفرار علامة أو هو دليل .

 الآن الآيات الدالة على عظمة الله سبحانه وتعالى آيات الله في الكون المجرات ، المجموعة الشمسية ، الشمس والقمر ، النجوم ، الأرض ... إلخ ، القرآن آيات ، وأفعال الله في الأرض آيات . 

﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ﴾ .. معنى مبين مِن أبان بمعنى وضّح ، فالآيات واضحات ، عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ :

(( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ . ))

[ صحيح الجامع الصغير ]

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ  ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ  ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ  ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ  ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ  ، كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى  ، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ  ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى  ، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ  ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً  ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ  ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ  ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ . ))

[  صحيح البخاري ]

الحلال بين ، الحرام بيّن ، الشرع بيّن ، ما أمر الله به بيّن ، ما نهى عنه بيّن ، هذا القرآن بيّن ، أي حينما قال الله عز وجل : 

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)  ﴾

[  سورة الزلزلة ]

آية واضحة كالشمس.

وقد ورد بأن إعرابياً سأل رسول الله: يا رسول الله عظني وأوجز ؟ فقال له الرسول الكريم : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) قال الأعرابي : قد كفيت .

أنا أؤكد لكم أن آية واحدة تكفيكم جميعاً طوال الحياة ، آية واحدة هي :

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[  سورة طه  ]

ضمانة ، من اتبع هدى الله عز و جل فهو في ضمانة الله عز وجل ، ضمانة من الله خالق الكون لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، ومن منا لا يتوق إلى هاتين المرتبتين ؟ ألا يضل ، وألا يشقى . 

 

ربّ حرف من حروف الجر يفيد التكثير كثيراً والتقليل قليلاً :


﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ(1)رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ .. أقف قليلاً عند كلمة : ( رُبَّ ) ، لأن بعض الناس إذا تعلموا العربية في المدارس تعليماً ناقصاً يتوهمون أن كلمة ( رُبَّ ) تفيد التقليل ، أينجح فلان ؟ ربما ينجح ، هذا العلم ناقص ، رجعت إلى كتب النحو حول كلمة ( ربّ ) ، فربّ من حروف الجر :

                با من إلى عن لم عـــــــلى              في ربّ حتى واو وتا

                من منذ حاشا الكاف عدا             لــــــــــــــــولا لعل كيف لا

                                            ***

فربّ من حروف الجر ، وهذا الحرف كما جاء في أوسع كتاب للنحو يفيد التكثير كثيراً ، ويفيد التقليل قليلاً ، كلمـة (ربّ ) تشابه كم الخبرية ، كم كتاب عندي ؟! أي ما أكثر الكتب التي عندي ! فربنا سبحانه وتعالى قال : ﴿ رُبَمَا ﴾ ، الأساس ( ربّ ) ، ( ربّ ) لا تدخل إلا على الأسماء ، ربّ ضارة نافعة ، فإذا أردنا أن ندخلها على الأفعال تحتاج إلى ( ما ) ، تقول : ربما قام فلان ، ربما سافر فلان ، لكن ربّما لا تدخل على الفعل المضارع أبداً إلا في كتاب الله ، لماذا أدخلت في كتاب الله على الفعل المضارع ؟ لأن المضارع في القرآن كالماضي تماماً ، من باب تحقق الوقوع ، أي إذا وعدك الله بوعد في المستقبل فكأنه قد وقع ، فقد يعبر الله سبحانه وتعالى عن شيء سيقع يوم القيامة بالفعل الماضي ، وتوجيه هذا التعبير أنه من باب تحقق الوقوع ، فربنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿ رُبَمَا ﴾ والأكثرون على تشديدها (ربّما يود ) ، وبعضهم ( ربَما ) على التخفيف ، لكنها في قراءة عاصم جاءت مخففة ، ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ هذه آية أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني إلى توضيح مدلولاتها .

 

مدلولات قوله تعالى : ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ :

 

1 ـ  ندم الكافر حينما يرى نتائج عمله فيتمنى لو كان مسلماً :

﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي كثيراً ما يتمنى الذين كفروا لو أنهم كانوا مسلمين مثلاً ، بعض العلماء قال : هذا التمني في الدنيا ، أي الكافر الذي جمع مالاً حراماً فأتلفه الله في ساعة خيبة الأمل ، وفي ساعة الإحباط ، وفي ساعة المصيبة ، وفي ساعة الندم يتمنى لو كان مسلماً فكسب المال الحلال ، وبارك الله له فيه ، وعاش حياة سعيدة رغيدة .

قد يتزوج الكافر امرأة تعجبه ، ولا يبالي بدينها ، فإذا اقترن بها ، ورأى من فظاظتها ولؤمها وانحرافها وميوعتها ما أقضّ مضجعه عندئذ يتمنى لو كان مسلماً ، فيهيئ الله له زوجة صالحة مثله يسعد بها ، هذا المعنى الأول ، أي كلما وقع الكافر في مصيبة ، في ماله إن كان حراماً ، في بيته إن كان اختياره للزوجة على أساس غير ديني ، من تزوج المرأة لجمالها أذله الله ، ومن تزوجها لمالها أفقره الله ، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءة ، فعليك بذات الدين تربت يداك ، فهذا الكافر كثيراً ما يتمنى لو أنه مسلم ، لو كان مسلماً لكانت حياته طيبة : 

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[  سورة القصص ]

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[  سورة طه  ]

إذاً : الكافر وهو في الدنيا حينما يرى نتائج عمله ، نتائج المال الحرام الذي كسبه ، كيف دمره الله ، ودمر أولاده ، حينما يرى نتائج الزواج الفاسد ، حينما يرى نتائج الخوض فيما لا يعنيه ، حينما يرى نتائج الكذب يتمنى لو كان مؤمناً ، بل كثيراً ما يتمنى لو كان مسلماً . 

2 ـ تمني الكافر حينما يعرض على النار أن يكون مسلماً :

﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ .. قيل : هذا في الحياة الدنيا ، ربما يتمنى الكافر يوم القيامة أن يكون مسلماً ، حينما يعرض على النار :

﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) ﴾

[ سورة الأنعام  ]

﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) ﴾

[  سورة الفرقان  ]

حينما يعرض على النار :

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)  ﴾

[ سورة المؤمنون  ]

﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)  ﴾

[ سورة المؤمنون  ]

الكافر حينما يعرض على النار ، حينما يرى مصيره يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقتهم ، والكافر أيضاً يتمنى لو كان مسلماً وهو على فراش الموت ، يُختم عمله  ، ويرى مقامه ، ويطالع ما أعدّ الله له من عذاب أليم ، لذلك أهل الكفر حينما يأتيهم ملك الموت تمتقع ألوانهم ، يضطربون ، يصيحون ، يستنجدون ، يستغيثون ، ولكن لا مغيث ، هذه فرصة أعطيت لنا ، هذا الكلام يقال ونحن في بحبوحة ، ونحن فينا قلب ينبض ، ما دام الإنسان حيًّا فكل شيء له حلّ ، ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ .

3 ـ تمني الكافر لو كان مسلماً ولو بمثقال ذرة من إيمان كي يدخل الجنة :


شيء آخر في معنى كلمة ( ربَما ) ، النبي عليه الصلاة والسلام بيّن لنا أن أهل النار وهم يصيحون فيها قد يجتمع في النار المشرك ومن آمن بالله ثم انحرف عن طريق الحق ، أي آمن ولم يستقم على أمر الله ، آمن وفعل السيئات ، قد يشمت المشرك بهذا المؤمن ، يقول له : ما نفعك إيمانك شيئاً ، بعض الآثار تروي أن الله سبحانه وتعالى بعد حقب طويلة جداً يخرج المؤمن من النار ، ويدخله الجنة ، عندئذ يتمنى الكافر أن لو كان مسلماً في الدنيا ، ولو بنوع ما من الإسلام ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : 

(( لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من خردلٍ من كبرٍ ولا يدخلُ النَّارَ من كانَ في قلبِه مثقالُ حبَّةٍ من خردلٍ من إيمانٍ . ))

[ صحيح ابن ماجه : خلاصة حكم المحدث : صحيح : أخرجه ابن ماجه واللفظ له ، وأخرجه مسلم ]

مثقال ذرة من إيمان يدخل بهذه الذرة الجنة ولكن متى ؟ لا يعلم إلا الله ، بعد مليون سنة ، بعد ألف مليون سنة ، بعد ألف مليون مليون مليون مليون سنة ، لكن في النهاية يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، حتى هذه الذرة من الإيمان يتمناها الكافر ، وهو في النار ، ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ هذا المعنى الثالث .

4 ـ بشارة للنبي أن الله سينصره نصراً عزيزاً :


والمعنى الرابع : في هذه الآية بشارة للنبي عليه الصلاة والسلام ، أي يا محمد لا تثريب عليك ، لا بدّ من أن يأتي اليوم الذي ينصرك الله فيه نصراً عزيزاً ، وعندئذ يتمنى الكفار لو كانوا مسلمين .

عكرمة بن أبي جهل أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمه ، فلما فتحت مكة هام على وجهه ، وتمنى لو كان مسلماً ، صفوان بن أمية ، هند التي كادت للنبي عليه الصلاة والسلام تمنت يوم فتح مكة أنها لو كانت مسلمة ، الكفار الذين كادوا للنبي عليه الصلاة والسلام ، أخرجوه من بلده مكة ، عذبوا أصحابه ، ائتمروا على قتله ، عندما فتحت مدينتهم ، وكانوا في قبضة النبي عليه الصلاة والسلام تمنوا لو كانوا مسلمين . 

5 ـ من يسلم في وقت متأخر يتمنى طوال حياته لو أسلم في وقت مبكر :

المعنى الذي بعده أن الكافر لو أنه أسلم ، وحسن إسلامه ، يتمنى لو أنه أسلم في وقت مبكر ، أي هذا الذي أسلم ، وعرف الله ، واستقام على أمره ، وهو في ريعان الشباب ، فأفنى عمره في طاعة الله ، وأفنى وقته في العبادات والقربات وحضور مجالس العلم ، أما الذي عرف الله في سن متأخرة ، عرف الله في الأربعين ، في الخمسين ، يتمنى دائماً وأبداً لو كان مسلماً في سن مبكرة فيحظى بشرف الإسلام في الشباب .

 فيا أيها الشباب ، إن كنتم كما يريد الله عز وجل فاشكروا الله ، وإلا فالإيمان في سن مبكرة لا يعدله شيء ، من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ، لأنه من شبّ على شيء شاب عليه ، كل حياته ألِف أن ينظر إلى النساء ، وفي سن الخمسين أصبح من الصعب أن يغض بصره ، أخي والله ليس بيدي ، عيني تشرد لا أستطيع ، أما إذا نشأ الشاب على غض البصر بعد سنوات يصبح هذا السلوك بنية من بناه النفسية ، وانتهى الأمر ، من شبّ على شيء شاب عليه ، ومن شاب على شيء مات عليه ، ومن مات على شيء حشر عليه ، ألِف طوال حياته أن يتسلى بلعب الطاولة ، جاءه ضيف أخي اجلس هات الطاولة ، أول جولة ، ثاني جولة للساعة الثالثة ليلاً ، ماذا استفدت ؟ في الأربعين إذا أراد أن يرجع يذكر الله ، ويقرأ القرآن ، يقول : النبي قال : ساعة لك ، وساعة لربك ، هذا ليس حديثاً ، من قال لك : إنه حديث ؟ من قال لك : إن هذا الكلام حديث  ؟ فمن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ، فهذا الذي يسلم في وقت متأخر يتمنى طوال حياته لو أسلم في وقت مبكر ، لأن سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظلّ إلا ظله ، شاب نشأ في طاعة الله ، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب المؤمن يقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي ، ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب مستقيم ، التوبة حسن ، لكن في الشباب أحسن ، الباب مفتوح ، أبواب رحمة الله مفتحة على مصارعها ، الدنيا مطية الآخرة ، بها ترقى ، بالدنيا بهذه الشهوة التي أودعها الله فيك ترقى عند الله .

بحبك للمال تنفقه في طاعة الله ، تنفقه على الفقراء والمحتاجين ترقى ، بحبك للنساء تغض البصر عنهنّ ترقى ، تتزوج وفق ما أمرك الله ترقى . ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ .

6 ـ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ تثبيت للنبي :

والمعنى الذي بعده أن هذه الآية تثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام ، أيها النبي لا بدّ من أن ينصرك الله عز وجل ، وهذا الكلام لنا الآن ، أيها المؤمن لا تهن ، لا تضعف ، لا تيئس ، لا تقنط ، هذه الآية تثبيت لك ، إن كنت مسلماً فأبشر بأنه سيأتي على الناس ساعة يتمنون جميعاً أن يكونوا مثلك ، أنت من النوع النادر ، وفي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَطَلَعَتْ الشَّمْسُ ، فَقَالَ :

(( طوبى للغرباءِ ، قيل : من الغرباءُ ؟ قال : ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسِ سوءٍ كثيرٍ من يعصيهم أكثرُ ممن يطيعُهم . ))

[ المتجر الرابح : إسناده جيد : خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد : أخرجه أحمد  ، والطبراني ، والبيهقي في ((الزهد الكبير)) ]

هؤلاء الذين يحبهم رسول الله عليه الصلاة والسلام سمّاهم أحبابه ، وصفهم فقال : القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ. ))

[ صحيح الترمذي ]

لو أن الشاب المؤمن أراد أن يقيم أمر الله في بيته من يعارضه ؟ أقرب الناس إليه ، أمه تقول له : ما ألفنا هذا الدين ، هذا تزمت ، يا أمي هذه آية في كتاب الله ، لا ، لا تشذ عن قواعد الأسرة ، من يعارضه ؟ أبوه ، جاره ، صاحبه ، زميله ، قريبه ، ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ إن كنت مسلماً حقاً فأبشر ، لأن هؤلاء الناس الذين تقع عينك عليهم لا بدّ من أن تأتي عليهم ساعة ، ويا هول تلك الساعة ، يتمنون لو كانوا مسلمين ، ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ الكافر يتمنى أن يكون مسلماً في الدنيا حينما يفشل في زواجه ، وحينما يدمر ماله ، وحينما يصاب بمرض عضال يجعله مفتقراً لكل إنسان ، ويتمنى أن يكون مسلماً عند الموت حينما تلوح له نهايته الحزينة ، ويتمنى أن يكون مسلماً حينما يعرض على الله عز وجل ، وحينما يعرض عمله على الله عز وجل ، ويتمنى أن يكون مسلماً حينما يعرض على النار .

﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾

[ سورة غافر 46 ]

وهذه الآية بشارة للنبي عليه الصلاة والسلام ، ولكل مؤمن في هذا الزمان ، أبشر ، اصبر ، اثبت ، فلابدّ أن يأتي على الذين يخاصمونك ، يعادونك ، لابد من أن يأتي عليهم ساعة يتمنون أن يكونوا مسلمين . 

 

الأمل مرض خطير يصيب من امتنع عن الهداية فيتولى الله معالجته :


﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ(2)ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ معنى ( ذرهم ) هذا تهديد ، تقول أحياناً لابنك : افعل ما تريد ، هل تأمره أن يفعل ؟ لا والله ، إنك تهدده ، ذرهم يا محمد ، دعهم يأكلوا ، يختاروا أطيب الأطعمة ، دعهم يجلسوا في أجمل الأماكن ، ويأكلوا في هذه الأماكن ما لذّ وطاب ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، هم يحسبون أنهم قد أفلحوا ، وقد فازوا ، وقد تفوقوا ، وقد نجوا من الفقر ، ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ﴾ بنسائهم اللاتي تحل لهم ، أو باللاتي لا تحل لهم ، يتمتعون بكل شيء ، بالمناظر الخلابة، بالشهوات الدنيئة ، بالانحرافات بكل شيء ، ذرهم يأكلوا ويتمتعوا .

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)  ﴾

[ سورة الأنعام  ]

( ذرهم ) اتركهم ، أنت وعظتهم ما فيه الكفاية .

﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ – من عباده -  وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) ﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) ﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)  ﴾

[ سورة القصص  ]

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾

[ سورة الغاشية  ]

﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا - اتركه ، دعه لي - (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)﴾

[ سورة المدثر  ]

دعه لي ، أنا أتولى معالجته ، دعه ، ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ﴾ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( تعِس عبدُ الدينارِ  ، تعِس عبدُ الدرهمِ  ، تعس عبدُ الخميصةِ  ، تعس عبدُ الخميلةِ  ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ . ))

[ أخرجه البخاري ]

دعهم يأكلوا ، ويتمتعوا بالدنيا ، بمباهجها ، بنزهاتها ، برحلاتها الطويلة ، بفنادقها الفخمة ، ذرهم يتمتعوا بهذه الحياة ، ذرهم يسبحوا مختلطين ، يتمتع بعضهم ببعض ، ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الْأَمَلُ ﴾ .. ولو شققت على خاطر كل منهم لوجدت نفسه مفعمة بالآمال ، هذا ينام على مخطط لبيت جميل في مقصف جميل ، يحلم به طوال سنوات طويلة ، كيف سيجعل أرضه ؟ كيف سيجعل التبريد فيه ؟ كيف سيجعل التدفئة في الشتاء ، لو أنه ذهب إلى هذا البيت شتاءً ينبغي أن يكون دافئاً ، كيف يفعل هذا ؟ كيف ستكون الحديقة أمام البيت  ؟ ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الْأَمَلُ ﴾ إذا جلست في فراشك ما الذي يخطر في بالك ؟ هذا يحلم ببيت ، وذاك يحلم بمتجر في شارع جيد، والآخر يحلم بعمل يدر عليه أرباحاً طائلة يعينه على التمتع بالدنيا ومباهجها ، وكل هذه آمال ، الأمل مرض خطير، أن يعيش الإنسان لوقت قد لا يدركه ، ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها .

جلست مرة مع شخص خلال ساعة قال لي بالحرف الواحد : سئمت هذه الوظيفة ، وسوف أطلب إعارة إلى بلد في الجزائر ، وسأمضي فيه خمس سنوات ، قال لي : أما في الصيف فلن آتي إلى هنا ، سأمضي كل صيف في بلد أوربي كما يحلو لي ، سأمضي صيفاً كاملاً في فرنسا أتمتع بها ، بمناظرها ، بمتاحفها ، بمقاصفها ، أطلع على الحياة الاجتماعية هناك ، على ، على ، ذكر لي ، وفي الصيف الذي بعده سأمضيه في إيطاليا ، وهكذا ، وحينما أعود إلى بلدي أقدم استقالتي من وظيفتي ، وأتقاعد ، وأكون قد جهزت مبلغاً معقولاً أفتح به محلاً تجارياً أبيع فيه التحف والهدايا ، لأن هذه لا تكسد ، وأجلس في هذا المحل ، ويكون أولادي قد كبروا ، يجلسون معي في هذا المحل ، وعندئذ أمضي حياة سعيدة أنا وزوجتي ، والله هذا الذي يقول مثقف ثقافة عالية ، وله اختصاص ، تركته ، وذهبت إلى البيت ، وبعد قليل نزلت إلى البلد لشأن من شؤوني ، وفي طريق عودتي والله الذي لا إله إلا هو وجدت نعوته على الجدران ، هذا الأمل ، عشرون سنة يمشي إلى الأمام ، وعشيةً نام في القبر . 

 

البطل من يعرف الله قبل فوات الأوان :


﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ .. سوف يعلمون أنهم كانوا مخطئين ، وسوف يعلمون أنهم كانوا مغبونين ، وسوف يعلمون أنهم لن يفلحوا ، لم يكونوا أذكياء ، والله الذي لا إله إلا هو لو اطلعت على حياة أغنى أغنياء العالم كيف يأكل ، وكيف ينام ، كيف ينتقل من جزيرة إلى جزيرة ، كيف يمضي الليالي الحمراء ، لو اطلعت على حياة أحد هؤلاء الأغنياء في العالم لرأيت أن أفقر مؤمن في الأرض أسعد منه وأذكى منه ، لماذا ؟ لأن هذا الغني المترف يسير في طريق مسدود ينتهي بالموت ، وما أدراك ما بعد الموت من عذاب مقيم ، وأما هذا المؤمن الفقير فيمشي في طريق مفتوح إلى الأبد ، خطه البياني صاعد ، فالبطولة أن تكون مؤمناً . 

ليس من يقطع طرقاً بطلاً              إنما من يتقي الله البطـــل

[ لامية بن الوردي ]

هذا هو البطل ، أن تعرف الله قبل فوات الأوان ، في الوقت المناسب ، لأن الإنسان إذا توفته الملائكة غافلاً عرف كل شيء ، ولكن عرف كل شيء بعد فوات الأوان . 

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)  ﴾

[ سورة ق ]

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) ﴾

[ سورة الفجر ]

من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت ، إذا قال : غداً سأشتري معطفاً إن شاء الله ، وقال : إن شاء الله فهو مؤمن طبعاً ، أما إذا قال : غداً أشتري معطفاً ، وهو موقن أنه سيعيش إلى الغد فقد أساء صحبة الموت .

 سيدنا الحسن رضي الله عنه يقول : ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل .

فكلمة (ذرهم) فيها معنى التهديد ، وفيها معنى الترك ، أي دعهم لا تشغل نفسك بهم ، هؤلاء ليسوا في مستواك ، لن يهتدوا بك ، دعهم .

أبو الدرداء رضي الله عنه أقام في الشام ، وذات مرة خطب بأهل الشام فقال: يا أهل دمشق ، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح ؟ إنه من كان قبلكم جمعوا كثيراً ، وبنوا مشيداً ، وأملوا بعيداً ، فأصبح جمعهم بوراً ، وبنيانهم قبوراً ، وأملهم غروراً  .

أي ملخص هذه الآية : إياكم وطول الأمل فإنه يفسد العمل ، دع خواطرك لمّا تجلس مع نفسك في حديث داخلي ، هذا الحديث الداخلي اجعله في طاعة الله ، كيف أكون في مرتبة أعلى من هذه المرتبة ؟ كيف أحفظ كتاب الله ؟ كيف أعمل به ؟ هل في حياتي مخالفة أنا مقيم عليها ؟ كيف أتقرب إليه ؟ كيف أهدي الناس ؟ كيف أنقذهم مما هم فيه ؟ اجعل خواطرك من هذا النوع .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور