وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة الحجر - تفسير الآيات 24 – 34 علم الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  للآية التالية ثمانية اتجاهات : 


1 ـ الله سبحانه وتعالى علم الذين خلقوا من قبل ويعلم الذين لم يخلقوا بعد :

أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الخامس من سورة الحجر ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ(23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ .. للمفسرين في هذه الآية ثمانية اتجاهات : الاتجاه الأول أن الله سبحانه وتعالى علم الذين خلقوا من قبل ، ويعلم الذين لم يخلقوا بعد ، كما قال الإمام علي كرم الله وجهه : << علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون >> . فالله سبحانه وتعالى من أسمائه العليم ، كل مخلوق ولد حتى هذه اللحظة يعلمه الله عز وجل ، والذين لم يخلقوا بعد يعلمهم أيضاً ،﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾

2 ـ الله سبحانه وتعالى علم الأموات والأحياء :

المعنى الثاني أن الله سبحانه وتعالى علم الأموات ، وهم المستقدمون ، وعلم الأحياء وهم المستأخرون ، الأموات مستقدمون والأحياء مستأخرون ، الله سبحانه وتعالى علم المستقدمين وهم الأموات وعلم المستأخرين وهم الأحياء . هذا الاتجاه الثاني . 

 3 ـ علم الله من تقدم من الأمم عن أمة محمد ويعلم من يتأخر :

والاتجاه الثالث : علم الله سبحانه وتعالى من تقدم من الأمم عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويعلم من يتأخر عن هذه الأمة من الأمم ، أي أن يأتي بعد أمة هذا النبي أمم ، وشعوب ، وحضارات ، وحروب ، وفتن ، ودنيا مبهرجة ، وصراعات ، ومصائب ، هذا الذي سيكون يعلمه الله سبحانه وتعالى .

   4 ـ المستقدمون في الطاعة والمستأخرون عنها : 

والمعنى الرابع : الله سبحانه وتعالى يعلم المستقدمين في الطاعات والخيرات ، فلان تقدم إلى الطاعة ، تقدم إلى الخير ، وفلان تأخر عن الطاعة ، تأخر عن الخير ، وقع في المعصية ، وقع في الضرّ والأذى ، التقدم إلى الطاعة وإلى الخير يعلمه الله ، والتأخر عن الطاعة إلى المعصية ، وعن الخير إلى الشر يعلمه الله سبحانه وتعالى ، وهذا هو المعنى الرابع .  

5 ـ المتقدمون في الجهاد في سبيل الله والمستأخرون :


وأما في صفوف الحرب الله سبحانه وتعالى يعلم المتقدمين الذين يضعون أرواحهم على أكفهم ، الذين لا يهابون الموت ، الشجعان ، الذين يبيعون أنفسهم في سبيل الله ، ولقد علمنا المستقدمين منكم في الحرب ، ولقد علمنا المستأخرين الذين يخشون الموت .

 هذا الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن رواحة حينما جاء دوره في قيادة الجيش ، صاحباه قتلا فلما جاء دوره يبدو أنه تهيب ، تردد ثلاثين ثانية ، فقال : 

يا نفس إلا تقتلي تموتي           هذا حمام الموت قد صليت

إن تفعلي فعلهما رضيــت           وإن توليت فقــــــــــد شقيـــت

***

وركب فرسه ، وقاد الجيش ، وحمل الراية ، وقاتل بها حتى قتل ، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ قال عليه الصلاة والسلام وهو في المدينة :

(( أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم سكت النبي عليه الصلاة السلام ، فقلق أصحابه على أخيهم عبد الله بن رواحة ، فقالوا : يا رسول الله ! ما فعل عبد الله ؟ قال : ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى في مقامه ازورارا عن صاحبيه . ))

[ القصة بلفظها وتمامها في السيرة النبوية لابن هشام ]

(( لقد رُفِعُوا إلى الجنةِ – فيما يرى النائمُ – على سررٍ من ذهبٍ  ، فرأيتُ في سريرِ عبدِ اللهِ بنِ رواحةَ ازورارًا عن سريريْ صاحبيْهِ ، فقلتُ : ممَّ هذا  ؟ فقيل لي : مَضَيَا  ، وتردَّدَ عبدُ اللهِ بعضَ التردُّدِ  ، ثم مضى))

[ فقه السيرة الجزء أو الصفحة:368 حكم المحدث:إسناده ضعيف ]

أي هبط مقامه درجة بهذا التردد ، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ أحياناً يعرض عليك عمل صالح تقول : دعني أفكر ، تتردد ، وأحياناً يعرض على آخر عمل صالح فيبادر ، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ ، فمن معاني هذه الآية : المستقدمين في الطاعة والخير ، والمستأخرين عن الطاعة إلى المعصية ، وعن الخير إلى الشر ، ولقد علمنا المستقدمين في صفوف الحرب ، والمستأخرين المتقاعسين في لقاء العدو .

6 ـ المستقدمون في الصلاة والمستأخرون عنها : 


 المعنى السادس : ولقد علمنا المستقدمين في الصلاة ، هذا الذي يلبي نداء المؤذن ، ويصلي الصلاة في أول الوقت ، أو هذا الذي يصلي في أول صف ، أو هذا الذي يصلي قرب الإمام ، فمن أدرك الصلاة في أول الوقت ، وفي الصف الأول ، وقرب الإمام فقد حاز ثلاث فضائل : فضيلة تلبية النداء ، والصلاة في أول الوقت ، وفضيلة الصلاة في الصف الأول ، وفضيلة الدنو من الإمام ، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾

7 ـ أول الخلق وآخرهم :

والمعنى الأخير: المستقدمون هم أول الخلق ، والمستأخرون هم آخر الخلق ، كما قال الإمام علي كرم الله وجهه : <<القرآن حمّال أوجه >> ، القرآن ذو وجوه .


أفضل وقت للصلاة هو أن تصلى في أول الوقت :


لكن مرة قال لي أحدهم : لم لا تذكر لنا بعضاً من أسباب النزول ؟ أنا أتمنى أن أقدم لكم أجمل ما في الكتب ، وأوجه ما في الكتب ، لكن سبباً من أسباب النزول إن لم يصح سنده ، ولم تثبت روايته ، وربما أفسد المعنى ، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ .

شيء آخر ؛ تدل هذه الآية على أن أفضل وقت الصلاة أن تصلى في أول الوقت ، وقد قرأت أنه من أخّر الصلاة عن وقتها أذهب الله البركة من عمره ، أي إن كنت غير مشغول الأولى أن تصلي الصلاة في أول الوقت ، أن تلبي نداء المؤذن ، يقول لك : حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، أي : أقبل ، حيّ اسم فعل أمر معناها أقبل ، أي أيها الإنسان أقبل على الصلاة ، أقبل على الفلاح ، الله سبحانه وتعالى يدعوك لتقف بين يديه ، لتتصل به ، لتقبل عليه .

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا . ))

[ صحيح البخاري ]

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثَلَاثًا ، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ. ))

[ صحيح أبي داود ]

أي هؤلاء الذين يجلسون في الصف الأول يجب أن يكونوا من النخبة ، من صفوة القوم ، لأن هذا المكان القريب له أهله ، من هنا يروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يقول لفلان : تقدم ، ولفلان تأخر . 

 

الإنسان كيفما تكون ميتته لابدّ من أن يحشره الله سبحانه وتعالى للحساب :


﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ(24)وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ أي لابدّ من المحشر ، الله سبحانه وتعالى لو أن الإنسان مات غرقاً ، أو مات حرقاً ، أو مات في الجو ، يقال مثلاً : الطائرة وقد مات جميع ركابها ، أي احترقوا في الجو ، لكن الإنسان كيفما تكون ميتته لابدّ من أن يحشره الله سبحانه وتعالى  : ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ ..

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس       وإن تمنعت بالحجّـــــــــاب والحـــــــرس

فما تزال سهام المــــــــــــــوت نــــافذة       في جنب مدرع منها و متّـــــــــــــــــرس

أراك لســــــــــت بوقـــــــــاف ولا حــــذر       كالحاطب الخابط الأعواد في الغلس

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكــــــها       إن السفينة لا تجري على اليــبـــــــس

***

﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ أي عملك مسجل صورة وصوتاً ، وبالألوان الطبيعية ، وسوف يعرض عليك يوم القيامة ، فإن كان هذا العمل كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، القبر صندوق العمل ، اعمل ما شئت فإنك مجزي به ، من هو الفائز؟ الذي له عمل يرضي الله عز وجل ، من هو الشقي ؟ الذي له عمل يسخط الله سبحانه وتعالى ، ولأن يسقط الإنسان من السماء فتنكسر أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله . 

 

مدلول كلمة الرب :


﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ ﴾ كلمة ( رب ) الذي أمدك بالحياة ، الذي أمدك بكل شيء ، أمدك بزوجة ، أمدك بالبنين ، أمدك بهذا الفكر تعيش به ، أمدك بهذه القوة ، أمدك بهذه المحاكمة ، أعطاك الخبرة ، أعطاك إتقان عمل تعيش به ، الذي أمدك ، والذي عالجك في الدنيا ، كلما انحرفت قوّم انحرافك ، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ- هو - يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ .. أي يعلم السر وأخفى ، قد يحشر الإنسان لإنسان ، ولكن هذا الذي حشر إليه لا يعلم ماذا اقترف ، هو يحشرهم إنه حكيم عليم ، يعلم ما يفعلون ، يعلم السر وأخفى ، يعلم خائنة الأعين ، كل شيء يعلمه ﴿ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾

 

الله تعالى خلق آدم عليه السلام وخلق الإنسان من تراب الأرض :


﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ .. الإنسان في هذه الآية المقصود به سيدنا آدم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا فَخْرَ ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ ، وَلَا فَخْرَ ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ ، وَلَا فَخْرَ . ))

[ سنن الترمذي: حسن صحيح   ]

فهم أن النبي عليه الصلاة والسلام أول خلق الله رتبة في الفضل ، وأن آدم عليه السلام يليه في المرتبة ، أي سيدنا آدم أفضل الناس كلّهم إلا أن يكون النبي عليه لصلاة والسلام ، النبي في الأول ، وسيدنا آدم بعد النبي ، آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة ولا فخر ، وسمي آدم آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض ، وأديم الأرض ترابها ، ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ المقصود بالإنسان آدم عليه السلام ﴿ مِنْ صَلْصَالٍ ﴾ والصلصال هو الطين اليابس ، ﴿ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ والحمأ هو الطين الحر الأسود المسنون المتغير ، إليكم بعض ما قاله علماء اللغة عن معنى كلمة : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ الصلصال الطين اليابس أو الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف ، معنى يتصلصل يرن ، يحدث صوتاً كالصلصال ، فإذا طبخ في النار فهو الفخار ، من حمأ ، الحمأ هو الطين الأسود المسنون المتغير ، هذا شيء مغيب عنا ، ولا سبيل إلى معرفته إلا الخبر الصادق ، والله سبحانه وتعالى وهو خالقنا وخالق آبائنا وأجدادنا ، وخالق أبينا آدم عليه السلام يقول : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ﴾ .. أي الطين اليابس الذي إذا خلط بالرمل صار يتصلصل إذا جفّ ، فإذا طبخ في النار صار الفخار ﴿ مِنْ حَمَإٍ ﴾ الطين الأسود المسنون المتغير .

 

الله تعالى خلق الجن من النار التي لا دخان فيها :


﴿ وَالْجَانَّ ﴾ في رأي بعض المفسرين أن الجان هو أبو الجن ، كيف أن آدم عليه السلام هو أبو الإنس ، والجان هو أبو الجن ، ﴿ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ .. أي الله عز وجل خلق الجن أولاً ، ثم خلق الإنسان ثانياً ، لذلك لما ربنا عز وجل قال :

﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)  ﴾

[ سورة البقرة ]

كيف عرفوا ذلك ؟ معنى ذلك : ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ معنى ذلك أن الجن خلقوا قبل الإنس ، وأن الملائكة قاسوا على الجن ، ﴿  قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ .

﴿ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ﴾ والسموم الريح الحارة التي تحرق كل شيء ، أو النار التي لا دخان فيها ، نار السموم . 

 

خلق الإنسان في أحسن تقويم :


﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(28)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ﴾ .. خلقته على أحسن مثال ، خلقته في أحسن تقويم ، خلقته خلقاً لا يحتاج إلى تعديل ، ولا إلى تبديل ، ولا إلى إضافة ، ولا إلى حذف :

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)﴾

[ سورة الانفطار ]

معنى سويته أي أن الأيدي مسواة ، المفاصل في الأماكن المناسبة ، هذا الرسغ مكانه مناسب ، وحركته مناسبة ، في ثماني عظام مسوى ، وهذا المفصل يقف عند هذا الحد يقفل هنا ، أما الركبة فتقفل نحو الأمام ، ﴿ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ ﴾ ، الرقبة تدور 170 درجة ، وهناك حكمة بالغة من دورنها 170 درجة لا 180 درجة ، 170 فقط الرقبة ، وكيف أن العمود الفقري وهو الذي يحوي النخاع الشوكي عبارة عن فقرات متمفصلة تمفصلاً جزئياً بحيث أن الإنسان ينحني ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ﴾ كيف أن الجمجمة قد خلقت على شكل سطوح منحنية متداخلة بعضها في بعض ، وأن هذه المفاصل الثابتة تقي الإنسان كسر الجمجمة ، لأن الضربة الشديدة تجعل هذه المفاصل تتداخل ، هذا التداخل هو امتصاص للصدمة ، ﴿ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ ﴾ كيف أن هذا الفك الأسفل يتحرك ، لو أن هذا الفك الأسفل ثابت مع الرقبة ، والذي يتحرك هو الأعلى لكان منظراً بشعاً وقبيحاً ، ﴿ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ ﴾ ، الأنف في مكانه الصحيح ، وفي الطول المناسب ، والمقدمة غضروفية ، لو أن العظم ينتهي إلى هنا ، لابدّ من كسر بشكل أو بآخر ، لكن المنطقة الحساسة التي يمكن أن تصطدم مؤلفة من مادة غضروفية ﴿ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ ﴾ .

وأن هذه العين جعلها الله في مغارة ، حصن حصين ، لو تلقى الإنسان لكمة ، لو وقع على الأرض عينه في مأمن ، هذه العين خطيرة جداً جعلها الله في مأمن ، وهذا الدماغ خطير جداً جعله الله في حجرة وبينه وبين الجدار سائل يمتص الصدمات .

وهذا القلب الخطير جداً جعله الله في القفص الصدري ، وهذا النخاع الشوكي الخطير جداً جعله الله في العمود الفقري ، وهذا الرحم الخطير جداً جعله الله في الحوض في مكان مكين ، ومعامل كريات الدم الحمراء خطيرة جداً جعلها الله داخل العظام .

وعظام الفخذ تنتهي برقبة ، هذه الرقبة تتحمل مئتين وخمسين كيلو ضغط ، أي الإنسان يتحمل نصف طن ضغطًا من الأعلى ، ولا تنكسر هذه العظام ، هذه الغضاريف ، هذه المفاصل ، محافظ المواد السائلة الهلامية ، الروابط ، العضلات .

 

صنع الإنسان آية كبرى على عظمة الله سبحانه وتعالى :


﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ هل بلغكم أن الإنسان طرأ على خلقه تعديل ؟ صنع الإنسان آية كبرى على عظمة الله سبحانه وتعالى ، انظر إلى سيارة صنعت أول ما صنعت ، شيء يضحك ، يبعث على الضحك أن العجلات من الخشب ، وأن الإضاءة عن طريق الفوانيس ، وأن لهذه السيارة حركة واحدة بطيئة ، ولها صوت يملأ الدنيا صخباً ، انظر إلى سيارة صنعت في عام 1986 ، الإنسان صنعته تتكامل ، لكن الله سبحانه وتعالى هو المطلق ، فخلق الإنسان كامل لم يطرأ عليه أي تغيير ، ولا تبديل ، ولا تعديل ، ولا إضافة ، ولا حذف .

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)  ﴾

[  سورة التين  ]

﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾

[ سورة النمل ]

 إتقان الصنعة دليل على وجود الله عز وجل المتقن ، ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ .. أي هذا الإنسان من عظام ، ولحم ، ودم وشرايين ، وأوردة ، وأجهزة ، ما الحياة ؟ كيف يمشي ؟ كيف يتكلم ؟ كيف يفكر ؟ كيف يرى ؟ كيف يدرك ؟ كيف يحاكم ؟ كيف يسمع ؟ كيف يطرب ؟ كيف ينزعج ؟ كيف يتقيأ ؟ كيف يهضم الطعام ؟ كيف يصفي الدم ؟ كيف ينبض القلب ؟ كيف تتحرك الرئتان ؟ هو الحياة ، هذا الذي فقد روحه ماذا فقد ؟ لم يفقد شيئاً مادياً ، لكن الروح فقدت فأصبح جثة هامدة ، الإنسان يكون ملء البيت أنساً وجمالاً ، فإذا مات يتمنى أقرب الناس إليه أن يخرجوه من البيت ، أن يدفنوه .

حدثني أخ في بيروت أيام الحوادث أن شخصاً توفي في بيته ، والطرقات كلها مقطوعة ، والقنص على أشده ، والحركة واقفة ، تحمّله أهله يومين ، ثم ألقوه من الشرفة إلى الأرض ، أب يملأ البيت أنساً وسعادة ، فلما سحبت منه الروح ، ماذا فعل أقرب الناس إليه زوجته وأولاده ؟ ماذا قرروا ؟ أن يلقوه من الطابق الرابع ، من الشرفة ، هكذا على الأرض ، لأن الطرق مقطوعة ، لم يتحملوا رائحته بعد الموت .

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)﴾

[ سورة الانفطار ]

﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ .

 

تكريم الإنسان وتشريفه من قبل الله عز وجل :


﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ .. هذه الروح من أوجه التفسيرات أنها هي الحياة ، الله سبحانه وتعالى نفخ فينا من روحه ، أما كلمة ( من روحي ) فهذا تكريم للإنسان ، وتشريف له ، واصطفاء له ، نسب الروح لذاته، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ هو مكرم ، لقد قبِل أن يحمل الأمانة :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾

[ سورة الأحزاب ]

فلما حملها الإنسان استحق أن يكون مكرماً .

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾

[  سورة الإسراء ]

أنت مكرم ، ليتك تعرف نفسك ، ليتك تعرف شأنك عند الله ، ليتك تعرف المهمة التي خلقت من أجلها ، ليتك تعرف أنك في وقت كيف تمضيه طريقة تمضية هذا الوقت سيحدد مصيرك ، إما إلى جنة يدوم نعيمها ، أو إلى نار محرقة تنضج الجلود ، وتلفح الوجوه  لا ينفد عذابها ، ليتك تعرف من أنت ؟

أتحسب أنك جرم صغير                وفيك انطوى العالم الأكبر ؟

 ***

طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)  ﴾

[ سورة الحشر ]

أي أنساهم نسيان الله أنفسهم ، لما نسيت الله جهلت نفسك من أنت ؟  قد يقول لك : الإنسان حيوان ناطق ، من قال لك : إن الإنسان حيوان ؟ الإنسان إنسان مكرم ، هذه الحيوانات أمام عينيك ، نوع القردة ، نوع الدواب هل تغيرت حياتهم ؟ هل أعطوا هذا الفكر الذي أعطيته ؟ هل طوروا حياتهم ؟ هل سكنوا في البيوت ؟ هل ارتدوا الثياب ؟ هل نظموا حياتهم ؟ الإنسان ليس حيوانًا ناطقًا ، وليس حيوانًا اجتماعيًّا ، الإنسان إنسان ، ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ .

 

سجود الملائكة لآدم بأمر من الله سجود التحية والتكريم وليس سجود العبادة :


﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ العلماء قالوا : هذا السجود سجود التحية والتكريم ، وليس سجود العبادة ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ . ))

[ صحيح مسلم ]

والإمام علي كرم الله وجهه يقول : << ركّب الحيوان من شهوة بلا عقل ، وركّب الملك من عقل بلا شهوة ، وركّب الإنسان من كليهما ، فإذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإذا سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان >>

﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ إعلاماً إلى أن الإنسان إذا عرف الله عز وجل فاق بهذه المعرفة الملائكة المقربين ، ما من مخلوق يفوق الإنسان المؤمن ، فإذا هوى كان في أسفل سافلين .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)﴾

[ سورة البينة  ]

إما أن يكون الإنسان خير البرية ، وإما أن يكون شر البرية ، والإنسان إما أن يكون براً تقياً كريماً على الله ، وإما أن يكون فاجراً شقياً هيناً على الله ، ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ أي أمر بالسجود، سجود التكريم لعلمه بأسماء الله الحسنى . 

﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ .. من قال لكم : إن الشيطان من الملائكة فقولوا له : ليس كذلك ، والدليل هذه الآية : ﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30)إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ هذا الاستثناء يسميه علماء النحو استثناءً منقطعاً ، أي الملائكة وإبليس اشتركا في أمر السجود ، ولم يشتركا في طبيعة الخلق ، كأن تقول : حضر الطلاب إلا المدرس ، فالمدرس ليس طالباً ، المعلم معلم ، والطالب طالب ، إلا أنهما اشتركا في الحضور ، فاستثنيت المعلم استثناءً منقطعاً .

 

لا ينبغي للمؤمن أن يجعل بينه وبين الحق حجاباً :


﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30)إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(32)قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ .. أي توهم إبليس أن خلقه من نار ، وأن النار أشرف من الطين ، لذلك كبره واستعلاؤه ونظره لذاته حجبه عن حقيقة آدم فأبى أن يسجد له ، هذا الكلام ماذا يفيدنا ؟

أحياناً يكون مال الإنسان حجاباً له عن اتباع الحق ، هذا الذي يتكلم فقير ، وأنا غني ، أيعقل أن أجلس في مجلسه ؟ هذا الذي يتكلم ضعيف ، وأنا قوي ، أيعقل أن أستمع له ؟ لا يكن المال ولا الجاه ولا القوة حجاباً يحجبك عن الحق ، إبليس ما الذي أهلكه ؟ أنه نظر إلى النار وتوهمها أنها خير من الطين فكيف يعقل أن يسجد له ؟ أما المؤمن سيدنا العباس عم رسول الله ، سئل مرة : أيكما أكبر أنت أم رسول الله  ؟ فقال رضي الله عنه : هو أكبر مني بلا شك ، وأنا ولدت قبله ، أي المؤمن الصادق لا يجعل من السن حاجزاً ، ولا من المال حاجزاً ، ولا من الجاه حاجزاً ، ولا من النسب حاجزاً ، ولا من القوة حاجزاً ، اسمعوا ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( اسْمَعُوا ، وَأَطِيعُوا ، وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ. ))

[ صحيح البخاري ]

أنت عبد للحق ، أينما كان الحق فأنت تابع له .

أحياناً الإنسان بحكم نسبه يقول لك : أنا منسوب ، منسوب لكن عملك غير طيب.

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال  :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ  ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . ))

[ رواه البخاري ومسلم  ]

هذه الآية مغزاها أن الإنسان قد يهلكه نسبه ، أو ماله ، أو علمه ، يحمل شهادة عليا ، هذه الشهادة جعلته يتوهم أنه أعظم الناس ، وهو ليس كذلك ، شهاداته أو نسبه أو أمواله أو وظيفته أو قوته أو صحته أو وسامته أو شأنه هذه كلها أقنعة مزيفة .

(( عن أبي ذر رضي الله عنه :  لَقِيتُ أبَا ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ ، وعليه حُلَّةٌ ، وعلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ ، فَقالَ : إنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ ، فَقالَ لي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ ، ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ. ))

[ صحيح البخاري ]

هذه جاهلية ، أن تعتد بنسبك ، أو بمالك ، أو بقوتك ، أو بصحتك ، أو بشكلك ، أو بوسامتك ، أو بشأنك ، أو بمنصبك ، أو باختصاصك ، أو بشهادتك ، هذه كلها حجب .

ذكر حجاباً واحداً وأنت قس على هذا الحجاب كل الحجب ، يا عبد الله  إياك أن تغترّ بهذه الأقنعة المزيفة ، هذه كلها تنتهي عند الموت .

لا تقل : أصْلي وفصلي أبداً       إنما أصل الفتى ما قد حصل

ليس من يقطع طرقاً بــــــطلاً       إنما من يتقـــــــــي الله البـــطل

***

 

تحريم السماء على إبليس بأمر من المولى سبحانه :


﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(32)قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(33)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ .. معنى رجيم أي : أنت في الأرض ولن تستطيع أن تصل إلى السماء ، فإذا سولت لك نفسك أن تصعد إلى السماء جاءك شهاب ثاقب فأحرقك ، إذاً ابق في الأرض ، السماء محرمة عليك ، هذه للملائكة ، ولعبادي المؤمنين ، ﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34)وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ .. اللعنة تعني البعد ، والله الذي لا إله إلا هو لو أنك حصّلت الدنيا بأكملها ، وأبعدك الله عن حضرته فأنت أشقى الأشقياء ، ولو خسرت الدنيا كلها ، وقربك الله إليه فأنت أسعد السعداء . 

 

الله تعالى خلقنا ليرحمنا :


﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34)وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(35)قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36)قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ(37)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ – يوم القيامة - (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ .. من يقول : إن الله أغواه فشيخه في هذه المقولة إبليس ، لأن إبليس ماذا فعل ؟ نسب غوايته إلى الله عز وجل ، من يقول ذلك فشيخه إبليس :

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)  ﴾

[ سورة الأنعام  ]

وهذا إبليس يقول : بما أغويتني ، مع أن الله سبحانه وتعالى خلقنا ليسعدنا .

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)  ﴾

[ سورة هود ]

خلقنا ليرحمنا .

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)  ﴾

[ سورة الذاريات ]

ليعبدون ليتعرفوا إليّ فيستقيموا على أمري فأسعدهم . 

 

هدف الشيطان :


﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ .. أي أغريهم في الدنيا ، أجعل أحلامهم كلها في الدنيا ، يحلم ببيت فخم مزين مزخرف ، يحلم بسيارة فاخرة ، بزوجة جميلة ، بمنصب مرموق ، بجاه عريق ، بنزهات ، بحفلات ، بسهرات ، بأماكن اصطياف جميلة جداً ، بمسبح في بيته يمضي فيه الصيف ، أي يحلم بماذا ؟ ﴿ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ هذا هدف الشيطان ، أن يحبب الدنيا إلى الناس ، وأن يغريهم بها ، وأن يغشهم بها ، مع أن الدنيا تغر وتضر وتمرّ ، أوحى ربك إلى الدنيا أن تكدري ، وتمرري ، وتضيقي ، وتشددي على أوليائي حتى يحبوا لقائي ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا . ))

[ صحيح مسلم ]

 وَفِي رِوَايَة : (( كَفَافًا )) ..

هذه دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم .

 

نسب كل شيء إلى الله فعلاً :


أيها الإخوة الأكارم ، كلمة( بما أغويتني ) لا بدّ من توضيحها بمثل .

طالب في صف يقصر ، لا يدرس ، لا يكتب ، لا يذاكر ، لا يحفظ ، يأتي الامتحان يأخذ علامة الصفر ، يستحق الرسوب ، فيأتي المعلم ويكتب على جلائه : رسب في صفه ، من الذي رسبه ؟ المعلم ، لماذا رسبه ؟ لأنه كسول ، فالرسوب كسباً من الطالب وفعلاً من المعلم ، فإذا قال الطالب للمعلم : لقد رسبتني ، كلامه صحيح ، المعلم هو الذي رسبه ، ولكن لماذا رسبه ؟ لأنه كسول ، فكل شيء ينسب إلى الله فعلاً ، من فعل هذا ؟ الله سبحانه وتعالى ، لماذا فعله ؟ وفق العدل والاستحقاق ، هذا أوضح مثال يفسر هذه الآية ، ﴿ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ الغواية فعلاً كأن يقول: بمَ أرسبتني ؟ قصر في الدراسة فاستحق الرسوب فرسبه المعلم ، فقال للمعلم : بما أرسبتني لأغري جميع الطلاب أن يكونوا كسالى مثلي :

﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ﴾

[ سورة الأعراف ]

  

من أخلص في طاعته لله طهر الله قلبه بنوره فأصبح مخلَصاً له : 


﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ(37)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38)قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ﴾ .. هؤلاء المخلصون لا أستطيع أن أفعل معهم شيئاً ، ليس المخلِصين بل المخلَصين ، المخلَص اسم مفعول ، والمخلِص اسم فاعل ، المؤمن مخلِص ومخلَص ، لأنه مخلِص لله عز وجل أقبل عليه فطهر نفسه من كل أدرانها فصار مخلصاً من كل شائبة ، أي أخلص من أجل أن تخلّص ، كن مخلِصاً من أجل أن تكون مخلصاً ، إذا أخلصت في طاعتك أقبلت على ربك ، فإذا أقبلت عليه نوره طهر قلبك ، فأصبح قلبك مخلَصاً له ، صار اسم مفعول .

 

نسب العبد إلى الله نسبة معرفة بعبوديته وطاعة له واهتداء بهديه :


 ﴿ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(40)قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41)إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ أيضاً عباد الله الذين عرفوه ، وعبدوه ، وانقادوا له ، نُسب العبد إلى الله نسبة معرفة بعبوديته ، ونسبة طاعة له ، ونسبة محبة له ، ونسبة اهتداء بهديه ، إن عبادي هؤلاء الذين عبدوني ، هؤلاء الذين عرفوني ، هؤلاء الذين استقاموا على أمري ، هؤلاء الذين أقبلوا عليّ ، هؤلاء الذين تقربوا إليّ بالأعمال الصالحة ، ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ لن تستطيع إن تفعل معهم شيئاً .

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)  ﴾

[ سورة إبراهيم ]


الشيطان لا يضلّ أحداً بل يزين للإنسان الدنيا ويغريه بالسيئات والمعاصي :


﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ ..

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)  ﴾

[ سورة الصف ]

غوى فاتبع الشيطان ، غوى أولاً فاتبع الشيطان ثانياً ، إذاً الشيطان لا يضلّ أحداً ، لا يضلّ إلا الضال ، إذا ضلّ الإنسان عن الله عز وجل يأتي الشيطان فيضله بمعنى يزين له الدنيا ، ويغريه بالسيئات والمعاصي ، لا يستطيع الشيطان أن يصل إليك إلا إذا كنت ضالاً من قبل . 

 

للنار سبع دركات والمنافقون في الدرك الأسفل منها :


﴿ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ(42)وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ(43)لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ﴾ .. من التفاسير اللطيفة أن هذه الأبواب ليست على مستوى أفقي واحد ، لا ، فوق بعضها بعضاً ، مثل فرن له أبواب بعضها فوق بعض ، قال : أعلى باب جهنم في الأسفل ،  وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها اللظى ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية ، سبع دركات ، وليس درجات ، الدرجات في الجنة ، والدركات في النار .

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) ﴾

[  سورة النساء ]

أي يوجد خارجي ووسطاني وداخلي بالحمامات ، ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ﴾ .

وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتحدث عن المتقين الذين هم :  ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(45)ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) ﴾ .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور