وضع داكن
27-04-2024
Logo
الخطبة : 1176 - السيرة النبوية هي تشريع - الدروس المستفادة من الهجرة.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

حياة النبي عليه الصلاة والسلام قدوة و تشريع لكل البشر :

نبينا قدوتنا
أيها الأخوة الكرام، الذي يلفت النظر أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم تتميز عن حياة العظماء من القادة والمصلحين، بأن حياته صلى الله عليه وسلم كل ما فيها من أقوال، أو أفعال، أو إقرار، و مواقف تعد قدوةً وتشريعاً، فقد عصمه الله جلّ جلاله عن الخطأ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، وفي مواقفه، فهو لا ينطقُ عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، لذلك أمرنا الله جل جلاله بالأخذ عنه، قال تعالى:

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

[ سورة الحشر: 7 ]

لأن الله عصمه من أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، أمرنا أن نأخذ عنه، وجعل الله جلّ جلاله اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وتطبيق سنته دليلاً عملياً على محبة الله، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 31 ]

للنبي الكريم ولسائر الأنبياء مهمتان كبيرتان؛ مهمة التبليغ ومهمة القدوة :

 

 

لهذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين مهمتان كبيرتان، مهمة التبليغ والتبيين، مهمة التبليغ، والدعاة اليوم يقومون بهذه المهمة، لكن المهمة العظمى مهمة التطبيق، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما من كلمة قالها، ما من توجيه وجهه، ما من إرشاد أرشده، إلا وكان سباقاً إلى تطبيقه، ليس في حياة النبي صلى الله عليه مسافة بين أقواله وأفعاله، لذلك قال الله له:

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾

[سورة المائدة: 67 ]

وطمأنه فقال:

﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾

[سورة المائدة: 67 ]

هذه المهمة الأولى، أما المهمة الثانية فهي القدوة والأسوة، قال تعالى:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

أي هو قدوة بأقواله، وقدوة بأعماله، وحينما تنعدم المسافة بين أقوالك وأفعالك، حينما تأتي أفعالك مطابقة لأقوالك، وحينما تأتي أقوالك مطابقة لأفعالك، تستطيع أن تفعل في الناس فعلاً لا يوصف، الناس لا يقبلون كلاماً من دون تطبيق، يمكن أن تنتفع من أي طبيب يحمل أعلى شهادة بالطب ولا تلتفت إلى سلوكه إطلاقاً، ويمكن أن تنتفع من أكبر مهندس يعنيك علمه ولا تلتفت إلى سلوكه إطلاقاً، لكنك لن تستطيع أن تلتفت إلى عالم دين إن لم يكن سلوكه مطابقاً لأقواله، هذه المشكلة، لا تستطيع أن تنتفع بعالم دين إن لم يكن سلوكه مطابقاً لأقواله، لذلك أعظم شيء في حياة الأنبياء أنهم ما تكلموا كلمة إلا تجدها مطبقة في حياتهم، ولا نهوا عن شيء إلا وجدتهم أبعد شيء عن هذا الشيء.

 

المعركة بين الحق والباطل معركة أزلية أبدية :

معركة الحق والباطل قائمة ليوم القيامة
أيها الأخوة، شيء آخر، أن معركة الحق والباطل، ذكرت لكم سابقاً أنه كان من الممكن أن يعيش الكفار في كوكب آخر، لا يوجد أية مشكلة، أو أن يكونوا في قارة أخرى، أو أن يعيشوا في حقبة أخرى، ولكن شاءت حكمة الله جلّ جلاله أن يعيش البشر مؤمنهم وكافرهم في مكان واحد، وفي زمان واحد، ينشأ عن هذا معركة، معركة الحق والباطل، معركة أزلية أبدية، وطن نفسك أن أية دعوة إلى الله تقابلها دعوة إلى الشيطان، دعوة إلى الدنيا، دعوة إلى المتعة، دعوة إلى الشهوة، فهذا الصراع بين الحق والباطل قدرنا، هذا الصراع بين الحق والباطل أراده الله، لأن الذين آمنوا لا يستحقون الجنة إلا بالبطولات، والصمود، والثبات، والبذل، والتضحية.

 

الإنسان مكلفٌ أن يعبد الله من خلال التعرف إليه والتعرف إلى منهجه :

شيء آخر الإنسان هو الإنسان في أي زمان ومكان، الإنسان في كل عصر يكرر نفسه في ارتفاعه وفي انحطاطه، في قوته وفي ضعفه، في إيمانه وفي كفره، لذلك كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الظروف التي أحاطت به، ومن الأحداث التي واجهته، هو الموقف الذي يريدنا الله أن نقفه إذا أحاطت بنا مثل تلك الظروف، أو واجهتنا مثل تلك الأحداث.
أي سيرة النبي تشريع، الأحداث التي وقعت في حياة النبي أحداث مقصودة لذاتها ليقف منها النبي الموقف الكامل، ليكون هذا الموقف الكامل تشريعاً لك أيها المؤمن لنهاية الحياة، له أقوال، وله أفعال، وله صفات، وله إقرار، أقواله تشريع، وأفعاله تشريع، وإقراره تشريع، وصفاته تشريع، الإنسان أي إنسان من خصائصه أنه فطر على حبّ الأرض التي وجد فيها، والتعلق بالمعالم التي لابست نشأته، فحينما ينتزع الإنسان من بيئته التي ترعرع فيها، ويخرج من أرضه التي أحبها، تتمزق نفسه، ويعظم همُّه، وربما آثر الموت على هذا الخروج الذي هو اقتلاع من جذوره، لذلك أشارت الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى:

 

﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾

[سورة النساء: 66 ]

هذا من جهة، ومن جهة ثانية الإنسان مكلفٌ أن يعبد الله من خلال التعرف إليه، والتعرف إلى منهجه، ومكلف أن يعبد الله عز وجل من خلال أدائه فروض العبودية، من صيام، وصلاة، وحج، ومن خلال التزامه بالأمر والنهي، ومن خلال الأعمال الصالحة التي هي ثمن سعادته في الآخرة الأبدية، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56 ]

المنطلق العقدي للهجرة أن على الإنسان أن يؤثر ما يبقى على ما يفنى :

أيها الأخوة، حقيقتان أساسيتان ينشأ عنهما معاً أن الإنسان إذا وُجد في أرض حالت قوى الشر فيها بينه وبين أن يستجيب لنداء فطرته في عبادة ربه، وحالت بينه وبين أن يصغيَ لصوت العقل في تطبيق منهج خالقه، وكان هذا الإنسان من الضعف بحيث لا يستطيع أن يقنع هذه القوى بالكف عنه، ولا أن يقف في وجهها فيلزمها، ماذا يفعل؟ أيخسر سعادته الأبدية من أجل النوازع الأرضية؟ في الأساس أنت تحب الأرض التي ولدت فيها، لكن هذه الأرض التي ولدت فيها إذا فيها قوى حالت بينك وبين طاعة الله، بماذا تضحي؟ تضحي بطاعة الله؟ تضحي بجنة عرضها السماوات والأرض؟ لا ينبغي أن تضحي بالأدنى، تضحي بهذه الأرض من أجل أن تنجو بدينك، هذا هو المنطلق العقدي للهجرة، حينما تحول قوى الشر والعدوان والكفر في بلد ما بينك وبين أن تعبد الله، والعبادة علة وجودك، وسبب سلامتك، وسعادتك، ينبغي أن تؤثر ما يبقى على ما يفنى، هذا المنطلق العقدي للهجرة، لذلك الآية الكريمة: الهجرة: أن تهاجر لله ورسوله

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾

[سورة النساء: 97]

هل يقبل الله هذا العذر؟ جاء الرد الإلهي:

﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾

[سورة النساء: 97]

بيئتك تحبها، أرضك تحبها، وطنك تحبه، فإذا سمح لك وطنك وبيئتك أن تعبد الله شيء رائع جداً، وهذا والفضل لله نتمتع فيه في هذه البلدة، بلدة مساجدها ممتلئة، دروس العلم لا تعد ولا تحصى، إقبال الناس على المساجد شيء رائع جداً، هذا من فضل الله علينا، لكن إن تصورنا بلداً نعيش فيه، منعنا أن نصلي، منعنا أن نحجب فتياتنا، يجب أن تؤثر الأبقى على الأدنى، أن تؤثر ما عند الله على تعلقك بالأرض، هذا المنطلق بالتعبير الحديث الأيديولوجي للهجرة، حينما تتناقض معطيات مكان تسكنه مع أهدافك الكبرى، ينبغي أن تتبع أهدافك الكبرى.

 

إيثار النداءات السماوية على النوازع الأرضية :

أولاً: أول درس نتعلمه من الهجرة، أيها الأخوة الكرام النبي هاجر وانتهى الأمر، هاجر من مكة إلى المدينة، لكن لماذا نحتفل بهذه الذكرى؟ نحتفل بهذه الذكرى كي تكون منهجاً لنا في الهجرة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة، أوضح هجرة الآن، إنسان عاش في بلد غربي، الحياة بلغت من الرفاه درجة لا تعقل، لكن القيم الإسلامية والدينية والأخلاقية منعدمة هناك، أي الزنا عمل لا يحاسب عليه الإنسان أبداً، الفسق والفجور والإباحية شيء طبيعي جداً، فإذا وازنت بين أن تبقى في هذه البلاد الجميلة والدخل الكبير والخدمات المذهلة التي تقدم للمواطن والحرية التي يتمتع بها، وبين أن يجد ابنته انحرفت بفعل البيئة، أو ابنه انحرفت عقيدته وسلوكه بفعل البيئة، ما الذي ينبغي أن تفعله؟ أن تؤثر مكاناً تعاني فيه ما تعاني لكن تحفظ دينك ودين أولادك على مكان آخر فيه مغريات كبيرة لكن مع هذه المغريات تفقد أهلك وأولادك، هذه المشكلة الأولى، أنا أقول لكم أيها الأخوة، حينما أسافر إلى بلاد بعيدة أخاطب الجاليات الإسلامية أقول لهم لا سمح الله ولا قدر حينما تكتشف في وقت متأخر أنك خسرت ابنك، وابنتك، وأولادك، وزوجتك، وأنهم تعلقوا بالحياة الغربية المتفلتة الإباحية تعلقاً شديداً، ويرفضون أن يعودوا إلى بلدهم، بل يستغنون عنك و لا يستغنون عن هذا البلد الذي عاشوا فيه، عندئذ تكتشف بعد فوات الأوان أنك ارتكبت خطاً فادحاً لا ينسى، لذلك في الدول النامية هناك متاعب كثيرة، هذا شأن أية دولة نامية.

الحياة الأسرية في بلاد المسلمين لا يعرف قيمتها إلا من فقدها :

لكن والله أيها الأخوة المتاعب في هذه الدول إذا وزنتها فإنها أفضل من أن تخسر أولادك ودين أولادك، مرة عقد مؤتمر طبي في دمشق، حضره مئة طبيب من هذه البلدة كانوا في أمريكا، أنا ألقيت كلمة في هذا المؤتمر حدثتهم عن مقولة قالها أحد العلماء - الدكتور القرضاوي- قال: إن لم تضمن أن يكون ابن ابن ابنك مسلماً في تلك البلاد لا ينبغي أن تبقى فيها، يقصد الغرب، ذكرت هذه المقولة في صالة في دمشق، تقدم مني طبيب ودمعته على خده، قال لي: ألم تقل أنت إن لم تضمن أن يكون ابن ابن ابنك؟ قال لي: أنا ابني ليس مسلماً، لا تحتاج إلى ابن ابن ابني، ابني ليس مسلماً، أخ في ديترويت اتصل بي التقيت معه عقب محاضرة، رأيته يبكي والله مرة ثانية قال لي: ابنتي هربت مع إنسان يهودي إلى تكساس، قال لي: حتى عرفت العنوان بالضبط وحتى استطعت أن آخذ علبة فاليوم، وهذه ممنوع بيعها إلا بوصفة طبية، وسافرت من ديترويت إلى تكساس، و هذا يحتاج إلى أربعة أيام أو خمسة، وصل إلى ابنته رحبت به وضيفته، وضع لها بكأس الشاي حبة فاليوم، خدرت ثم حملها إلى السيارة ورجع بها، بالطريق انتهى مفعول هذه الحبة، قال لي: دخلتُ إلى الاستراحة، ثم خرجت و بعد مسافة قليلة وجدت حاجزاً فأوقفني، لأن ابنتي كتبت بميل الحمرة على المرآة: أنا مغتصبة من قبل والدي ورقم سيارته هكذا، أوقفوه وأخذوها منه وأكمل طريقه، تعيش هناك! فالنظام هناك هكذا.
اللهم هب لنا من ذريتنا قرة أعين
إنسان وجد مع ابنته في فراشها صديقها، بغرفتها، هو حدثني لأنه عنفها أحضروه إلى مركز الشرطة، وعمل تعهداً ألا يعنفها، ليس زوجها ولا خطيبها صديقها في فراشها وفي غرفتها، الأب لم يتحمل هذا المنظر، و هذا شيء مألوف جداً هناك، تعيش هناك تتحمل الوضع هناك، هنا عندنا متاعب كثيرة في الدول النامية، لكن عندنا أسرة، الأب أب والبنت بنت، والأم أم والزوج زوج، وخاطب ابنتك إنسان محترم، والله هناك نعم نتمتع بها أيها الأخوة أقسم بالله لو عرفنا قيمتها لتعلقنا بهذه البلدة، عندنا شيء اسمه تماسك أسري، إنسان باستراليا أثناء مغادرتي مطار سيندي، بكى قال لي: بلغ أخواننا بالشام أن مزابل الشام خير من جنات استراليا، قلت له: ما السبب؟ قال لي: باستراليا يكون ابنك بالمئة خمسين ملحداً، وبالمئة خمسين هناك حلقة في أذنه، باليمين لها معنى وباليسار معنى أسوأ، و بالاثنتين أسوأ و أسوأ، فقط فهمكم كفاية، إما ملحد أو حلقة في أذنه، لك ابن صالح، يرتاد المساجد، له دعوة متواضعة، داخل كلية الشريعة، تجد شباباً كثر، ابنتك محجبة خطبها إنسان مؤمن، عندك حياة أسرية في بلاد المسلمين لا يعرف قيمتها إلا من فقدها، لذلك أيها الأخوة:

((إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن دمشق))

[ رواه الحاكم عن أبي الدرداء رضي الله عنه]

هناك ثلاثون أو أربعون حديثاً حول فضل السكنى في الشام، أما الحديث الأول:

(( رأيت عمود الإسلام قد سلّ من تحت وسادتي، فأتبعته بصري فإذا هو بالشام))

[ الطبراني والحاكم عن ابن عمرو ]

أول درس من دروس الهجرة: إذا تنازعت فينا النوازع الأرضية والنـداءات السماوية فيجب أن نُؤثِر النداءات السماوية على النوازع الأرضية، هذا أول درس من دروس الهجرة.

 

الهجرة موقفٌ نفسي قبل أن تكون رحلة جسدية :

والهجرة أيها الأخوة، موقفٌ نفسي قبل أن تكون رحلة جسدية، إنها هجران الباطل والانتماء للحق، إنها ابتعاد عن المنكرات، من معاني الهجرة الموسعة الهجرة أن تهجر ما نهى الله عنه، هجران للباطل وانتماء للحق، ابتعاد عن المنكرات وفعل الخيرات، ترك المعاصي، والانهماك في الطاعات، انتقالٌ من دار الكفر إلى دار الإسلام، قال عليه السلام:

((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))

[متفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما]

بل من أدق الأحاديث في زمن الفتن زمن النساء الكاسيات العاريات، زمن الاختلاط، زمن الزنا، زمن الكفر والإباحية، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:

((عبادة في الهرج - أي في زمن الفتن - كهجرة إلي))

[ مسلم عن معقل بن يسار ]

أقسم لكم بالله الذي يرتاد المساجد، ويضبط لسانه، ويضبط عينيه، ويقوم بأعمال صالحة، ويطلب العلم، والله مهاجر مهاجر مهاجر، له أجر الهجرة:

(( عبادة في الهرج كهجرة إلي ))

[ مسلم عن معقل بن يسار ]

على المسلم أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء :

خذ بالأسباب ثم توكل على الله
هناك درس آخر نتعلمه في الهجرة، النبي عليه الصلاة والسلام أعدّ خطة، اختار الرفيق، اختار راحلة تعينه على الوصول للمدينة، اختار خبيراً بالطريق، يعرف دقائق الطريق، النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بكل الأسباب ثم توكل على رب الأرباب، التواكل مرض نفسي أصاب المسلمين، لا يخطط، لا يأخذ بالأسباب، يقول لك: توكلنا على الله، سيدنا عمر سأل أناسا يتكففون في الحج: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله، هذا تواكل، عندما يأخذ الإنسان بالأسباب؛ اختار رفيقاً للطريق، اختار ناقة جيدة جداً، اختار خبيراً في الطريق، اختار طريقاً يعمي على المطاردين، اتجه بعكس المدينة باتجاه الساحل، اختبأ بغار ثور ثلاثة أيام،هذه كلها أسباب دقيقة، فالهجرة تعلمنا أن المسلم عليه أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب، وأن تعتمد عليها، وأن تنسى الله، بل أن تؤلهها كالعالم الغربي، وسهل جداً ألا تأخذ بها زاعماً أنك متوكل على الله وهذا خطأ أكبر، كلاهما خطأ، فالمسلمون إما أنهم يتواكلون أو أنهم لا يأخذون بالأسباب، وهذا خطأ كبير، النبي عليه الصلاة والسلام استأجر دليلاً ذا كفاءة عالية، واختار غار ثور الذي يقع جنوب مكة لإبعاد مظنة الوصول إليه، وحدد لكل شخص مهمة أناطها به، إنسان لتقصي الأخبار، وآخر لمحو الآثار، وثالث لإيصال الزاد، و بعد كل ذلك كلف سيدنا علياً رضي الله عنه أن يرتدي برده، ويتسجى على سريره تمويهاً للمحاصرين، هذه كلها أسباب، هذا درس لنا، ينبغي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
أيها الأخوة، هذه التدابير التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم على كثرتها، ودقتها ليست صادرةً عن خوف شخصي، بل كانت طاعة لله عن طريق الأخذ بالقوانين التي قننها الله، وبالسنن التي سنها الله، وتشريعاً لأمته من بعده، ثم إنه في الوقت نفسه لم يعتمد عليها، بدليل أنه كان في غاية الطمأنينة حينما وصل المطاردون إليه، وما زاد عن أن قال لسيدنا أبي بكر: "يا أبا بكر ما قولك باثنين الله ثالثهما".

في أي عمل يحتاج الإنسان إلى إعداد وتوكل حقيقي :

أيها الأخوة، حينما فهم المسلمون الأوائل التوكل على الله هذا الفهم الصحيح، وبهذه الطريقة، رفرفت راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها، واحتلوا مركزاً قيادياً بين الأمم والشعوب، واليوم إذا أراد المسلمون أن ينتصروا على أعدائهم وما أكثرهم، وأن يستعيدوا دورهم القيادي بين الأمم، لينشروا رسالة الإسلام الخالدة، إذا أراد المسلمون ذلك فعليهم أن يستوعبوا جيداً هذا الدرس البليغ الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال هجرته، لذلك أول درس التوكل هو الأخذ بالأسباب من دون الاعتماد عليها، وافتقارٌ إلى تأييد الله، وحفظه، وتوفيقه من دون تقصير في استجماع الوسائل.
وتوكل على الله
بأي عمل تحتاج إلى إعداد وتوكل، توكل حقيقي، أن تؤمن بكل خلية في جسمك، وبكل قطرة في دمك، أن التوفيق من الله وحده، وأنت كمؤمن ينبغي أن تتأدب بأدب القرآن والسنة، ينبغي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء وينبغي أن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، وضع التوكل يشبه طريقاً بقمة جبل، عن يمين هذا الطريق واد سحيق، وعن شمال هذا الطريق واد سحيق، فأنت حينما تأخذ بالأسباب وأنت في قمة الجبل وتعتمد عليها وتنسى الله وقعت في الوادي الأول، وادي الشرك، وحينما لا تأخذ بالأسباب وأنت في أعلى الجبل وقعت في الوادي الآخر وادي المعصية، فأنت بين الشرك والمعصية إن أخذت بها واعتمدت عليها وقعت في وادي الشرك، إن لم تأخذ بها وقعت في وادي المعصية، هذا الكلام تحتاجه أيها الطالب، أنا أصلي، وأحضر دروس علم، أتمنى أن يوفقني الله بالامتحان، ليس صحيحاً، يجب أن تصلي، وتحضر دروس علم، وتدرس، يأتي التاجر يشتري أية بضاعة بنية الجبر فلا يجبر، لم يدرس الموضوع، لا أريد مسلماً محدوداً، أريد مسلماً ذكياً يأخذ بالأسباب كلها وكأنها كل شيء، وبعد ذلك يتوكل على الله من أعماقه، أوضح مثل عندك سفرة إلى حمص بسيارتك، لا تراجعها، قد يكون هناك حادث مميت، هناك شيء بالمركبة أساسي تعطل أثناء السير وكان الحادث مميتاً، يأتي إنسان آخر يراجع كل شيء بالسيارة، يراجع الزيوت، المحرك، المكابح، وينسى الله يقول: لا يوجد أية مشكلة، تراجع السيارة مراجعة تامة وبأعماقك هناك شعور أن الله حافظ، هو المسلم، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذه ليست سهلة، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب وتنسى الله كالغرب، وأسهل ألا تأخذ بها، نحن مؤمنون الله معنا لا يتخلى عنا، أيضاً هذا كلام فارغ، المؤمن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذا الدرس الأساسي في الهجرة، النبي عليه الصلاة والسلام حبيب الحق وسيد ولد آدم والله وعده بالنصر ومع ذلك بحث عن دليل، بحث عن ناقة، بحث عن رفيق، دخل إلى غار ثور اختبأ ثلاثة أيام، مشى بطريق الجنوب، كل شيء يمكن أن يفعله فعله، عندما وصلوا إلى الغار، قال سيدنا أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، فقال له النبي الكريم:

((يا أبا بكر ما قولك باثنين الله ثالثهما))

أخذ بالأسباب واعتمد على الله، لم يعتمد عليها، هناك أناس يأخذون بالأسباب ويعتمدون عليها، يقول لك: أنا قرأت الكتاب كلمة كلمة وحفظته عن غيب سآخذ مئة بالمئة، فيغلبه النوم يستيقظ بعد الامتحان، نسي الله، تأخذ بالأسباب بكل شيء، بدراستك، بمحلك التجاري، بصناعتك، بزراعتك، خذ بالأسباب وتوكل على رب الأرباب، هذا الدرس الأساسي من حدث الهجرة.
أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً الصادق الوعد الأمين.

من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعةً :

من يهاجر لله .. لن يتركه الله أبداً
أيها الأخوة، تعلمنا الهجرة ثالثاً من خلال النتائج الباهرة التي حققها المهاجرون، أنه من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعةً، أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن تهاجر من بلد، والدخل فلكي، والأمور ميسرة، لكنك خفت على دينك، وعلى دين أولادك، وبناتك، وزوجتك، وآثرت بلداً نامياً فيه متاعب لا تعد ولا تحصى، آثرت الآخرة على الدنيا، أقول لك: والله زوال الكون أهون على الله من ألا توفق في بلدك الأصلي بشكل كبير، والله حولي عشرات بل بضع عشرات من الأخوة الكرام، كانوا في أوج نجاحهم في الغرب، دخول فلكية، بيوت، مركبات، استمعوا إلى دروس العلم وتيقنوا من أنه لا بد من أن يعودوا إلى بلدهم وعادوا، أول فترة كان هناك متاعب، والله الآن في أوج نجاحهم، والله هناك أخ يقول لي: كلما أستيقظ صباحاً أدعو لك على هذه النصيحة، ابنه مؤمن داعية، ابنته محجبة، ابنته تزوجها مؤمن، قال لي: هذا بالغرب يكون مستحيلاً، فالإنسان عندما يعود إلى بلده يرجو من هذه العودة رضاء الله عز وجل، ثم هناك ملمح وطني؛ هذا البلد لحم كتفك من خيره، تصبح خبرتك للأعداء، تجد طبيباً هل تصدقون أن هناك خمسة آلاف طبيب بولاية واحدة اسمها ديترويت من سوريا، كل واحد معه بوردين ثلاثة، هؤلاء إذا جاؤوا إلى بلدهم ماذا يفعلون في البلد؟ تصبح أمريكا في سوريا، خمسة آلاف طبيب بالعد الدقيق أنا زرتها أربع مرات، كلهم أوائل باختصاصهم، لمن خبرتهم؟ للأجانب، إما أمريكي أو يهودي، هل هذا الكلام صحيح؟ أما لو عادوا إلى بلدهم والله واحد منهم استجاب وعاد، قال لي: والله كل يوم أدعو لك، أنا أداوي إنساناً مسلماً، هذا العلم الذي أخذته من بلدي الذي لحم كتفي من خيره، رجعت إلى بلدي رجعت إلى أبناء بلدي، أنا هذا إيماني، هناك أخوان كثر حرصت على أن يذهبوا إلى بلاد الغرب ليتعلموا، والله يقيني مليون بالمئة أنه ما من واحد منهم سيبقى هناك، لأن معه رسالة، رسالته خدمة هذه الأمة، اذهب خذ دكتوراه من هناك، لا يوجد مانع، نريد علماء لكن ارجع اخدم أمتك وبلدك، طبعاً عندنا الدخل أقل بكثير وعندنا متاعب شأن الدول النامية كلها، تحمل هذه المتاعب من أجل أن تقدم خدمات لأمتك.
دخلت مرة إلى مستشفى متواضعة جداً، ورأيت طبيباً كان في أمريكا بدرجة عالية من الدخل، آثر طاعة ربه جاء إلى بلده هنا، غرفة العمليات متواضعة جداً، هناك غرف العمليات شيء كبير جداً، قال لي: لكن هنا أرضي ربي، أنا هنا أخدم أمتي، هذا مفهوم الدين.

على الإنسان تحمل المتاعب من أجل أن يقدم خدمات لأمته :

خدمة الأمة مفهوم وطني ومفهوم قومي، تخدم الأمة العربية، يمكن أن تكون مفهوماً وطنياً، مفهوماً قومياً، ومفهوماً دينياً ، ومفهوماً أخروياً، هؤلاء مسلمون أنت كنت منهم، مرة ثالثة لحم أكتافك من خير البلد، لماذا يذهب خيرك إلى بلد آخر؟ كل علمك للخارج، فلذلك أن تعود من بلد غني كل شيء متوافر فيه، أقول لك: هذا شيء صعب تصوره، حاجات الإنسان الثانوية متوفرة، أي شيء تريده متوافر أمامك، ولك حقوق لا تنتهي، إنسان يمشي بألمانيا، لم ينتبه أن هناك حفرة بالطريق بسيطة جداً فيها ماء فلما داس عليها رشم صديقه بالماء، قال له: سوف أقدم شكوى، قدم شكوى فأعطوه مبلغاً واعتذروا منه، وأصلحوا الحفرة، هذه أين تكون؟ هناك خدمات للمواطنين تفوق حدّ الخيال لكن أنت تأتي إلى بلدك هذا البلد فيه إيمان، هناك أناس بحاجة إلى علمك، بحاجة إلى خبرتك، أنا والله كل إنسان يسافر إلى الغرب ثم يرجع إلى بلده كبير في نظري، يجد متاعب كثيرة، حتى يجد عيادة يحتاج إلى سنتين، حتى يشتغل، لكن يكون قد ردّ العلم الذي تعلمه إلى أمته التي أنفقت عليه.
أيها الأخوة الكرام، إني داع فأمنوا:

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور