وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الرحمن - تفسير الآيات 1-9 سعادة الإنسان بالإقبال على الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

خلق الله تعالى الإنسان ليرحمه ويسعده:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الأول من سورة الرحمن.

﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾

[ سورة الرحمن ]

يا أيها الإخوة الكرام؛ خَلْقُ السماوات والأرض بُنِيَ على الرحمة، قال تعالى:

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

الله جلَّ جلاله ما خلقنا إلا ليرحمنا، ما خلقنا إلا ليُسعدنا في الدنيا والآخرة، هكذا أراد الله عزَّ وجل، الله جلَّ جلاله رحمنٌ رحيم، وقد صُدِّرَت هذه السورة بهذا الاسم الكريم الذي يُعد اسم الله الأعظم لقوله تعالى: 

﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)﴾

[ سورة الإسراء ]


الرحمن اسم الله الأعظم:


الرحمن اسم الله الأعظم، كما أن الله عَلَمٌ على الذَّات، الأسماء الحُسنى مجموعةٌ باسم الله فهو علمٌ على الذات واجبٌ الوجود، والرحمن اسمٌ من أسماء الله الحسنى بل هو اسم الله الأعظم في رأي بعض العلماء، فالله سبحانه وتعالى إنما صدّر هذه السورة لأنها في حقيقتها تعدادٌ لنعم الله في الدنيا والآخرة، فأساس هذه النعم رحمة الله جلَّ جلاله، فخلقنا ليرحمنا، والآية التي تؤكِّد هذه الحقيقة: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليسعدنا، خلقنا ليعطينا، أعطانا الوجود، أعطانا الإمداد، أعطانا الهدى والرشاد.

 

عبادة الله تعالى ثمن رحمته لنا:


أيها الإخوة الكرام؛ الله جلَّ جلاله خلقنا لنعبده، خلقنا ليرحمنا، ولا يرحمنا إلا إذا عبدناه، العبادة ثَمَنُ الرحمة، إن عبدناه استحقينا رحمته، لذلك يُقال: اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، خُلِقنا ليرحمنا الله عزَّ وجل، متى يرحمنا؟ إذا عبدناه، الدليل:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات ]

 

جوانب العبادة:


العبادة فيها جانب فكري، فيها جانب سلوكي، فيها جانب جمالي، الجانب الجمالي هو الهدف، والجانب السلوكي هو الثمن، والجانب العلمي هو السبب، تعرفه فتطيعه فيرحمك، الله جلَّ جلاله رحمن رحيم، رحمنٌ في ذاته، رحيمٌ في أفعاله:

﴿ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)﴾

[ سورة الأنعام ]

كتب على وحيثما وردت على مع لفظ الجلالة فهي الإلزام الذاتي، كتب على نفسه الرحمة، وأرسل نبيه رحمةً مهداةً ونعمةً مُزجاةً، وجعل دينه رحمةً، هو رحمن رحيم، ونبيُّه رحمةٌ مزجاة، ودينه قائمٌ على الرحمة، قال بعض العلماء: "الشريعة رحمةٌ كلُّها، عدلٌ كلها، صلاحٌ كلها، فأية قضيةٍ خرجت من الرحمة إلى القسوة، ومن الصلاح إلى الفساد، ومن العدل إلى الجَور فليست من الشريعة ولو أُدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل" .

 

الرحمة رقةٌ في القلب تستلزم الإحسان:


الرحمة -درسنا اليوم محوره الرحمة-رقةٌ في القلب تستلزم الإحسان والعطاء، رقةٌ في القلب، الرحمة لها مظهر شُعوري، ولها مظهر سلوكي، نظرت إلى يتيم، نظرت إلى فقير، نظرت إلى مُصاب، نظرت إلى جريح، تولَّد في قلبك شعورٌ بالعطف عليه، والشفقة عليه، والتأثُّر له، هذا الجانب الشعوري، بادرت إلى معاونته، هذا الجانب العملي، فالرحمة إذا وصف بها الإنسان نقول: رقةٌ في القلب تستلزم التفضُّل والإحسان في حقِّ العباد، أما إذا عُزِيَت إلى الله عزَّ وجل فالله سبحانه وتعالى تعني رحمته أن يصرف عن عباده السوء، وأن يجلب لهم الخير، الله جلَّ جلاله في ذاته رحمن، وأفعاله رحيمة.

الرحمة تستدعي مرحوماً، تستدعي مخلوقاً يحتاج إلى الرحمة، والإنسان ضعيف، وسرّ غناه في فقره، وسرّ قوته في ضعفه، وسرّ علمه في جهله، فالإنسان كلما افتقر إلى الله عزَّ وجل نال من الله العطاء الأوفى، أي أنت بافتقارك إلى الله تغدو أقوى الناس، وتغدو أغنى الناس، وتغدو أعلم الناس، وتغدو أحكم الناس، الرحمة تقتضي مرحوماً، والمرحوم لا يستحق الرحمة إلا إذا كان ضعيفاً.

 

خلق الله الإنسان ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره:


لذلك من حكمة الله جلَّ جلاله أنه إذا ساق المصيبة للإنسان من أجل أن يأخذ بيده إليه، من أجل أن يدلَّه عليه، من أجل أن يدفعه إلى بابه، من أجل أن يُذيقه طعم جنانه، من أجل أن يذيقه طعم القُرب، طعم الحُب، طعم الطُمأنينة، فالإنسان خُلِقَ ضعيفاً، ولو أنه خُلق قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه، خلقه ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، أي حكمة الله عزَّ وجل أن الله إذا أراد أن يعطينا وأن يرحمنا وأن يسعدنا لابدَّ من أن نفتقر إليه، لو خلقنا أقوياء لاستغنينا عنه، لذلك:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

[  سورة المعارج ]

الإنسان مُصَمَّم أن يكون ضعيفاً، وهذا ضعفٌ خَلْقِي، وليس ضعفاً خُلُقِيَّاً، أراده الله ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، أراده الله هلوعاً ليلجأ إلى باب الله عزَّ وجل، أراده الله جزوعاً: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ .

 

سعادة الإنسان بالإقبال على الله:


العبرة أن تُقبل عليه لأن كل السعادة بالإقبال عليه، والإنسان إذا توهَّم أنه بإمكانه أن يَسْعَدَ وهو بعيدٌ عن الله فهو أجهل الجُهلاء.

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)﴾

[ سورة طه ]

﴿وَمَنْ أَعرَضَ عَنْ ذِكرِي﴾ يستحيل أن تسعد وأنت بعيدٌ عن الله، يستحيل أن تسعد وأنت في معاصيه، يستحيل أن تسعد وأنت مُعْرِضٌ عنه، لذلك ربنا عزَّ وجل جعل كل العطاء بالإقبال عليه، وجعل فقرك وضعفك وخوفك سبب إقبالك عليه من أجل أن تسعد، الرحمة التامَّة قال: هي إفاضة الخير على المحتاجين، الخير التام.

 

الرحمة من الله إنعام ومن الآدميين رقة:


أيها الإخوة الكرام؛ لعل الواحد منا يتوهَّم أن الله إذا عافاه في صحته وهي نعمةٌ جليلة، وإذا يَسَّر له عملاً يرتزق منه، وإذا يَسَّر له أهلاً وأولاداً نال نِعَم الدنيا، أجلُّ نعمةٍ على الإطلاق هي نعمة الهداية، لأن الله سبحانه وتعالى يُعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، وأما الآخرة فهي وعدٌ صادق يحكم فيه ملكٌ عادل، لا يُعطي الآخرة إلا لمن يُحِب، فلذلك الإنسان لا ينبغي أن يطمئن إذا نال من الدنيا ما نال، الاطمئنان لا يكون إلا بمعرفة الله وطاعته، لأن الدنيا عرضٌ زائل، عاريةٌ مستردَّة، يأتي الموت فيأخذ كل شيء في ثانيةٍ واحدة، كل مكتسبات الإنسان التي حَصَّلها في حياته كلها يستردُّها الموت منه في ثانية واحدة، قد يخرج الإنسان من بيته صباحاً ولا يعود إلا في نَعْش، الموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل.

أيها الإخوة الكرام؛ الرحمة من الله إنعامٌ وإفضال، ومن الآدميين رقةٌ وتَعَطُّف، أما الرحمن فلا تُطلق إلا على الله وحده، لا يوجد إنسان رحمن، لكن قال تعالى:

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾

[ سورة التوبة ]

 

رحمة النبي الكريم أكبر رحمة على الإطلاق:


الرحيم -يوصف الله بالرحمة-وقد يوصف نبي كريم بأنه رحيم، ومع ذلك قال تعالى:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران ]

كل هذه الرحمة، تُعَدُّ رحمة النبي عليه الصلاة والسلام أكبر رحمةٍ في الأرض على الإطلاق، هو أرحم الخلق بالخلق من الخلق، أرحم الخلق بالخلق -رحمة النبي-ومع ذلك: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ لكن ربنا سبحانه وتعالى يقول عن ذاته: 

﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)﴾

[ سورة الكهف ]

لكن الرحمن، هذا الاسم مختصٌ بالواحد الديان.


تناسب حجم الرحمة مع حجم الإيمان:


﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)﴾

[ سورة الرحمن ]

لا يوجد إنسان رحمن، أما هناك إنسان رحيم، ومرةً أردت أن أضرب المثل، أحياناً تصنع طائرةٌ نموذجٌ صغير يلعب به الأطفال على شكل طائرة كبيرة، هذه اسمها طائرة، والطائرة الكبيرة التي ثمنها ألفا مليون ليرة أيضاً طائرة، ليس بينهما تشابهٌ إلا بالاسم فقط، إذا الله عزَّ وجل قال: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ رحمته وسعت كل شيء، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ومع ذلك فرحمة النبي هي أعلى رحمةٍ على الإطلاق، وأكاد أقول أيها الإخوة؛ إن حجم الرحمة التي في قلبك تتناسب مع حجم إيمانك، كلما ازداد إيمانك وإقبالك على الله ازدادت الرحمة في قلبك، ويكاد القانون ينطق بنفسه، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ الرحمة التي في قلب الإنسان؛ شفقته على الناس، حبه للخير، رحمته بالضعفاء، رحمته بالمساكين، رحمته بالأيتام، رحمته بالمنحرفين، رحمته بالعاصين، هذا الشعور الذي يَتَوَضَّعُ في قلب المؤمن سببه الاتصال بالله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ .

 

الرحمة شعور في القلب وإحسان إلى الخلق:


هذا الشعور الرحيم شعور داخلي يتجسَّد بلين مادي، يوجد لين، يوجد عطاء، يوجد ابتسامة، يوجد تسامح، يوجد عفو، يوجد رقة، فالرحمة مشاعر داخلية وسلوك خارجي، فالمشاعر الداخلية الرحمة، أما الخارجية فهي اللين، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ لو لم يكن في قلبك هذه الرحمة، من لوازم قسوة القلب الغلظة وفظاظة القلب، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ هذا قانون أيها الإخوة ينطبق على كل مؤمن، أنت رحيم بقدر اتصالك بالله، كلَّما اتصلت بالله اتصالاً أوثق سرت إلى قلبك الرحمة، هذه الرحمة شعورٌ في القلب وسلوك إحسانٍ إلى الخلق، لذلك حينما تشعر بمشاعر إنسانية راقية تجاه الخَلق، وحينما تتحرك لخدمتهم يلتَفُّ الناس حولك، لنت لهم: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم﴾ فالتفَّ الناس من حولك.

 

غلظة القلب من لوازم القلب القاسي:


﴿ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ إذاً من لوازم القلب القاسي المُعاملة الفَظَّة، ومن لوازم غلظة القلب والمعاملة القاسية انفضاض الناس من حولك،من لوازم الرحمة التي تستقر في القلب لين الجانب، من نتائج لين الجانب التفاف الناس من حولك، هذا قانون يسع كل الناس وكل المؤمنين.

 

الله عز وجل رحمن في الدنيا رحيم في الآخرة:


أيها الإخوة الكرام؛ قال بعض العلماء: الله سبحانه وتعالى رحمنٌ في الدنيا رحيمٌ بالآخرة، لأن رحمته بالدنيا تشمل المؤمنين والكفار.

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾

[ سورة البقرة  ]

أيها الإخوة؛ نحن في الدنيا الأوراق مختلطة، الناس كلهم يأكلون، ويشربون، وينامون، ويستيقظون، ويعملون، ويلهون، ويمرَحون، ويتنزَّهون، لكن المؤمن المستقيم على أمر الله هو الذي سيتميَّزُ بعد عرض الأعمال على الله عزَّ وجل، فالإنسان لا يغتر أنه في الدنيا هو كبقية الناس، الناس في الدنيا نحن في دار ابتلاء، نحن في دار امتحان، نحن في دار عمل، نحن في دار تكليف، لكن الآخرة دار تشريف.

أيها الإخوة؛ الرحمة في قلب الإنسان علامة اتصاله بالله، وقسوة القلب علامة الانقطاع عن الله، لأن الله رحمنٌ رحيم، وكل من اتصل به نال من هذه الرحمة، إذا نال من هذه الرحمة عامل الناس بالإحسان انطلاقاً من مشاعر الرحمة والرقة في قلبه إذا عاملهم بالإحسان أصبح المجتمع كالبنيان المرصوص يشُدُّ بعضه بعضاً، فإذا انقطعنا عن الله أصبح قلبنا قاسياً، من لوازم القسوة الغلظة والفظاظة، ومع الغلظة والفظاظة التفرُّق والضعف والتشرذُم.

 

من رحمة الله بالعبد الغافل إرشاده إليه:


أيها الإخوة الكرام؛ صُدِّرَت هذه السورة بكلمة الرحمن لأن هذه السورة من أولها إلى آخرها تُعدد ألوان النعم في الدنيا والآخرة، ولعل كلمة رحمة الله عزَّ وجل هي أوسع كلمةٍ تشير إلى عطائه المطلق، قال تعالى:

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[ سورة الزخرف ]

الإنسان إذا رحمه الله فدَلَّه عليه، هداه إليه، نوَّر قلبه، أعانه على طاعته، قَدَرَ على يده الخير، جعل هداية الناس مقدرةً على يديه، أعطاه ليُعطي، أكرمه ليُكرم، هذه أعظم نعمةٍ على الإطلاق، لكن الناس لضعف إيمانهم، ولقصور مداركهم يتوهَّمون أن العطاء الدنيوي هو رحمة الله عزَّ وجل، لذلك نقف عند مشكلةٍ هي أن الإنسان إذا سها ولَها ونسي المبتدى والمنتهى وغفل عن الله تقتضي رحمة الله لفته إلى الله، فقد يلتفت إليه بمصيبةٍ أو بِحرمانٍ أو بجوعٍ أو بخوفٍ أو بموت ولد أو بتدمير مالٍ، الإنسان حينما يسهو ويلهو وينسى المبتدى والمنتهى ويغفل عن الله عزَّ وجل تقتضي رحمة الله عزَّ وجل أن ترشده إليه، قال تعالى: 

﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)﴾

[ سورة الأنعام  ]


مصيبة الغافل عين العطاء ليُقبل على الله:


هناك أشخاصٌ كثيرون قَسَت قلوبهم، وانقطعوا عن ربِّهم، وانغمسوا في شهواتهم، فجاءت رحمة الله لهم على شكل مصيبةٍ استيقظت عقولهم بها، وأقبلت نفوسهم على الله فسعدوا بالله أَيَّما سعادة فكانت هذه المصيبة هي عين العطاء، فلذلك ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك، الله عزَّ جل يقول:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾

[ سورة الأنعام  ]

السماوات والأرض كلمة قرآنية أو مصطلح قرآني يشير إلى الكون كله، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ .

 

أول نعمة من الله على الإنسان القرآن الكريم:


في آيةٍ أخرى:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)﴾

[ سورة الكهف ]

فكما أنه خلق السماوات والأرض أنزل على عبده الكتاب، فالكتاب هو أعظم رحمةٍ على الإطلاق، الإنسان لو كان تائهاً وشارداً وضالاً وبعيداً عن الحق، لو أكل وشرب، لو أكل أطيب الطعام، ولبس أفخر الثياب، وسكن في أجمل القصور، وركِب أحلى المَركبات يأتي الموت فيأخذه من كل ذلك، إذاً ليست هذه النعمة، النعمة أن تعرف الله عزَّ وجل، لذلك أول نعمةٍ على الإطلاق: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ بل إن بعض المفسِّرين يتساءل: كيف يُعَلَّمُ الإنسان القرآن قبل أن يُخْلَق؟ قال: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ الحقيقة تقديم تعليم القرآن على خلق الإنسان تقديمٌ رُتَبِي وليس تقديماً زمنياً، هناك تقديم زمني وتقديم رتبي، أي وجود الإنسان لا معنى له من دون منهجٍ يسير عليه، سرّ سعادة المؤمن هذا الكتاب الذي عرَّفَكَ بربك، وعرَّفك بسرّ وجودك، وعرفك بغاية وجودك، وعرفك بالمنهج التفصيلي افعل ولا تفعل، وعرَّفك طريق السعادة وطريق الشقاء، طريق الفوز وطريق الهلاك، طريق النجاة وطريق السقوط..

 

معرفة الله عز وجل مقدمة على خلق الإنسان:


لذلك: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ هذا القرآن الكريم من لوازم رحمة الله عزَّ وجل، إنه مقدَّمٌ على خلق الإنسان، مقدمٌ على الماديَّات في حياة الإنسان، أنت تأكل وتشرب وتنام وبجيبك مال وعندك زوجة وأولاد، أن تعرف الله عزَّ وجل هذا مقدمٌ على خَلق الإنسان، نعمة الهداية أعظم من أية نعمةٍ على الإطلاق، لذلك حينما قال الله عزَّ وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)﴾

[ سورة المائدة ]

قالوا: تمام النعمة الهُدى، فالإنسان لا يُسَمِّي نفسه في نعمٍ كثيرة إلا إذا كان مهتدياً إلى الله، لذلك ورد في سورةٍ من سوَر القرآن سورة الفجر، قال تعالى: 

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)﴾

[ سورة الفجر ]

الجواب: ﴿كَلَّا﴾ .

 

الحظوظ التي ينالها الإنسان ابتلاءات موقوفة على طريقة توظيفها:


الإنسان أحياناً يتوهَّم أن الله إذا أعطاه المال والصحَّة فهذا إكرام، أو أن الله عزَّ وجل إذا حرمه المال قَدَرَ عليه رزقه، أو جعله مريضاً فقد أهانه، الله عزَّ وجل قال: ﴿كَلَّا﴾ وكلا أداة ردعٍ ونفي، أي: أيها العباد أنتم واهمون، ليس عطائي إكراماً وليس حرماني إهانة، إنَّ عطائي هو ابتلاء وحرماني دواء، لذلك أيها الإخوة الحظوظ التي تنالها من الله ليست نعماً وليست نقماً، إنها موقوفةٌ على طريقة التعامل معها، الحظوظ مطلقة؛ حظ المال، وحظ الوسامة، وحظ القوة، وحظ الذكاء، كل الحظوظ التي نلتها من الله هذه ليست نعماً وليست نقماً إنما هي ابتلاءاتٌ موقوفةٌ على طريقة توظيفها، فإذا وظِّفَت في الخير كانت نعماً، وإن وظِّفت في الشر كانت نقماً، فالإنسان المؤمن لا يهتم بمقدار الحظ بقدر ما يهتم بطريقة توظيفه، هذا المال ماذا فعلت به؟ يمكن أن يرقى الإنسان بالمال إلى أعلى عليين، ويمكن أن يسقط إلى أسفل سافلين.

 

أرقى أنواع الجهاد تعلّم القرآن الكريم:


أيها الإخوة الكرام؛ ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ من تعلَّم القرآن فقد نال خيراً كثيراً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: 

(( عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ . ))

[ صحيح البخاري ]

وهل تصدقون أن الله سبحانه وتعالى جعل تعلُّم القرآن وتعليمه من أرقى أنواع الجهاد بدليل الآية الكريمة: 

﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾

[ سورة الفرقان ]

حينما تعكف على فهم كلام الله، وحينما تَعكف على قراءة كلام الله، وحينما تعكف على حِفظ كلام الله، وحينما تتبصَّر بمدلولات كلام الله، وحينما تنقل هذه المعاني إلى الآخرين فأنت تجاهد أعظم جهادٍ ذكره الله عزَّ وجل، لقد وصف الجهاد بأنه كبير: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾ .

 

تعلُّم القرآن يعفي المؤمن من الوقوع في الخرف:


هناك بشارةٌ فقد ورد: "من تعلّم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت" ، فالله سبحانه وتعالى جعل تعلُّم القرآن وتعليمه ضماناً من الخرف الذي وصفه الله عزَّ وجل في آياتٍ كثيرة قال:

﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)﴾

[ سورة النحل ]

هذا الحال الخرف أو مرحلة أرذل العمر هذه لعل الله سبحانه وتعالى يُعفي المؤمن منها ويحفظه من الوقوع فيها.

 

نعم الله على الإنسان:


 يوجد سؤال قد يتبادر في الذهن: لمَ لم يقل الله عزَّ وجل: الرحمن علّم القرآن وخلق الإنسان وعلمه البيان؟ لو أضفنا (الواوات) حروف العطف بين هذه الآيات لتوهَّمنا أن كل هذه النعم نعمةٌ واحدة، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبيِّن لنا أن كل واحدةٍ نعمةٌ قائمةٌ بذاتها، علَّم القرآن أكبر نعمةٍ على الإطلاق أن يكون القرآن ربيع قلبك وجلاء هَمِّك، أن تَشْتَقَّ عقيدتك من كتاب الله، أن تكون تصوراتك وفق كتاب الله، أن تكون موازينك وفق كتاب الله، أن يكون منهجك مستنبطاً من كتاب الله، هذه أعظم نعمةٍ على الإطلاق، لذلك القرآن وحده أكبر نعمة، ثم وجودك نعمة، لماذا أمر الله سبحانه وتعالى الأبناء ببِرِّ الوالدين؟ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الأب والأم سبب وجودك، فنعمة الإيجاد نعمةٌ كبيرة فالذي كان سبب هذا الوجود يجب أن يتلقَّى منك رحمةً كثيرة:

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)﴾

[ سورة الإسراء  ]

 

نعمة البيان أجلّ نعمة على الإطلاق:


نعمة الخلق خَلَقَ الإنسان (أوجدك)، ونعمة الهداية هداك إليه، الإيجاد والهدى والرشاد، هناك نعمة ثالثة قلَّما ينتبه إليها الناس نعمة البيان، البيان خصيصةٌ خَصَّ الله بها الإنسان، أنت بإمكانك أن تعبِّر عن أفكارك، وعن مشاعرك، وعن حاجاتك، وعن طلباتك بكلماتٍ مقطعيةٍ تصنعها حبالك الصوتية اصطلح الناس على مفهوماتها، فاللغة أعظم خصيصةٍ من خصائص الإنسان.

تصور طفلاً يتألم من شيء، يبكي ساعاتٍ طويلة، دون أن يستطيع أن يعبِّر عن سبب بكائه، تتوهَّم أمه أنه جائع تطعمه فيبكي، تتوهم أمه أنه يحتاج إلى تنظيف تنظفه ويبكي، ثم تكتشف أن دبوساً في طرف ثيابه قد انغرز في جنبه، لا يبين، أما الإنسان الراشد فيقول لك: أشعر بشيء، فهذا التعبير عن الحاجة، التعبير عن أفكارك، عن مشاعرك، هذه نعمة البيان، من خلال البيان يمكن أن تتعرَّف إلى منهج الله، من خلال البيان يمكن أن تعرف قدر النبي عليه الصلاة والسلام، من خلال البيان يمكن أن تقف أمام بطولاتٍ فذَّة في التاريخ الإسلامي، من خلال البيان يمكن أن تقف على علوم السابقين.

 

خصائص البيان:


البيان الذي عناه الله عزَّ وجل له أربع خصائص؛ بيانٌ مكتوب، وبيانٌ مقروء، وبيانٌ مسموع، وبيانٌ مقول، تقول ويسمع الآخرون، تكتب ويقرأ الآخرون، لو دققنا أيها الإخوة في كيفية أن الأجيال تتعلم من بعضها بعضاً، أن كل جيلٍ يُقَدِّمُ علومه كلها للجيل القادم، وأن كل أمةٍ تُعطي ثقافتها لبقية الأمَم، لولا البيان لما أمكن نقل هذه المعارف، البشرية الآن تنعم بعلوم متراكمة من آلاف السنين بفضل البيان، تصوَّر إنساناً بلا بيان لا يتكلَّم أو لا يسمع أو لا يكتب أو لا يقرأ انقطع عن العلم صار كالبهيمة تماماً.

 

من نعم الله على الإنسان: 


1 ـ  نعمة الهداية:

الله عزَّ وجل في مطلع هذه السورة أشار إلى ثلاث نعمٍ جليلة؛ النعمة الأولى أنَّه هداك إليه، هذه قُدِّمَت رتبةً على بقية النعَم. 

2 ـ نعمة الوجود:

النعمة الثانية أنه أوجدك (أعطاك نعمة الوجود)

3 ـ نعمة البيان:

النعمة الثالثة أنه علَّمك البيان، أنت بإمكانك أن تسأل وأن تأخذ الجواب، بإمكانك أن تتكلم وأن تنشر العلم، فهذه النعمة أجلّ نعمةٍ على الإطلاق، لكن الناس والمشكلة الكبيرة أن هذا البيان الذي جعله الله أساس سعادة الإنسان فبه يعرف الله، وبه يعرف منهجه، وبه يهتدي، وبه يهدي، هذا البيان قد يكون سُلَّماً يهوي به إلى أسفل سافلين، فالإنسان بالغيبة، وبالنميمة، وبالسخرية وبالكذب يهوي بهذه الكلمات التي هي من البيان إلى أسفل سافلين، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ. ))

[ صحيح الترغيب: حسن صحيح ]

لا يلقي لها بالاً.

 

حرص الإنسان على لسانه لأن اللسان سبب الهلاك:


أكثر المسلمين اليوم يرون الكبائر في القتل وفي الزنا وفي شرب الخمر مع أن الغيبة من الكبائر، مع أن النميمة من الكبائر، فدققوا في موضوع أن كل شيء خلقه الله حيادي قابل للخير والشر، لأن الإنسان في الأساس مخيَّر، طبيعة الحياة الدنيا أساسها الاختيار، فالبيان أعظم نعمةٍ على الإطلاق بها تهتدي إلى الله، بها تتعرَّف إليه، بها تعرف منهجه، بها تُعرِّف الناس بالله، بها تُلقي الحق، بها تنتقل الثقافات من أمةٍ إلى أمة، من جيلٍ إلى جيل، البيان طبعاً المسموع والمقروء والمُلْقى والمكتوب، هذا البيان هو نفسه يُمكن أن يكون سبب الهلاك، سبب الشقاء، سبب الترَدِّي، فلذلك المؤمن يَحْرَصُ على سلامة لسانه حرصه على إيمانه، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . ))

[ صحيح الترغيب: خلاصة حكم المحدث: حسن ]

وحينما قالت السيدة عائشة عن أختها صفيَّة: إنها قصيرة، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ: ما يسرُّني أني حكيتُ رجلًا وإنَّ لي كذا وكذا. قالت : فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنَّ صفيَّةَ امرأةٌ وقالت بيدِها هكذا ! كأنها تعني: قصيرةٌ، فقال: لقد مُزِجَتْ بكلمةٍ لو مُزِجَ بها ماءُ البحرِ لَمُزِجَ. ))

[ سنن الترمذي، حسن صحيح، أخرجه أبو داود ]

 

البيان سبب سعادة الإنسان أو شقائه:


أنا أُذَكِّرُكُم بالجانب الآخر كيف أن البيان يرقى بك، به تسعد، وبه ترقى، وبه تعرف الله، وبه تهدي الناس، وبه تهتدي، هذا البيان الذي منحنا الله إياه يُمكن أن يكون في الوقت نفسه سبب شقائنا، وسبب تردِّينا، وسبب تمزُّقنا، فالغيبة، والنميمة، والبُهتان، والإفك، والكذب، والفجور، والسخرية، هذه كلها من آفات اللسان، فطوبى لمن صان لسانه عن كلِّ انحراف، وجعل من البيان نعمةً كبرى، نحن في هذه الآيات الثلاثة أمام أعظم نِعَم على الإطلاق، نعمة الهُدى، ونعمة الوجود، ونعمة العلم (النقل)، تتعلَّم وتُعَلِّم، تُلقي أفكارك وتأخذ أفكار الآخرين، تُلقي مشاعرك وتَطَّلع على مشاعر الآخرين، ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ .

 أيها الإخوة الكرام؛ الأساس الصامت في سلام، والمتكلِّم إما له وإما عليه، فالأصل أن تقول حقاً، أما السكوت عن قول الباطل فهو الأولى، لكن الأصل أن ينطق اللسان بالحق، وأن تكون دالاً على الله، مشيراً إليه، لكن حينما يكون الكلام غيبةً أو نميمةً فالأصل أن تسكت.

 

آيات الله الدالة على عظمته ووجوده:

 

1 ـ الشمس والقمر:

أيها الإخوة الكرام؛ ثم يشير الله جلَّ جلاله إلى آياتٍ دالةٍ على وجوده أيضاً قال:

﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5)﴾

[ سورة الرحمن ]

 أي أن الشمس والقمر آيتان دالَّتان على عظمة الله، قال:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)﴾

[ سورة الشورى ]

فالشمس من آيات الله الدالة على عظمته، تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، طول بعض ألسنة اللَّهب فيها مليون كيلو متر، حرارتها على السطح ستة آلاف درجة، في مركزها عشرون مليون درجة، لو أن الأرض أُلقيت فيها لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة، تتسع الشمس لمليون وثلاثمئة ألف أرض في جوفها، وبين الأرض والشمس مئة وستةٌ وخمسون مليون كيلو متر يقطعها الضوء في ثماني دقائق. 

2 ـ  دوران الأرض حول نفسها:

لولا أن الأرض تدور حول نفسها لأهلكتنا هذه الشمس لكن الله هو اللطيف، فبدورتها حول نفسها تغدو الحرارة معقولةً، لو أن الأرض توقَّفت لكانت حرارة وجهها المقابل للشمس ثلاثمئة وخمسين درجة فوق الصفر، ولكانت حرارة الوجه الآخر مئتين وسبعين درجة تحت الصفر، لكن الأرض تدور، لو أنها تدور هكذا والشمس هنا لو أنها تدور على محور يوازي مستوى دورانها لتوقفت، وأصبح الليل دائماً والنهار دائماً، لكنها تدور على محور مائل، وميل هذا المحور سبب الفصول الأربع، هذا كله من آيات الله الدالة على عظمته، وقد ذكرت لكم كثيراً أن في بُرج العقرب نجماً أحمر اللون صغيراً متألقاً اسمه: قلب العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما. 

3 ـ دوران الأرض حول الشمس:

ثم إن الشمس والأرض، الأرض تدور حول الشمس بمسارٍ إهليلجي، والمسار الإهليلجي أو الشكل البيضوي، له قطران؛ قطر أصغر وقطر أكبر، الأرض إذا وصلت إلى القطر الأصغر اقتربت من الشمس، لئلا تجذبها الشمس فتنتهي الحياة من على سطحها تزيد الأرض من سرعتها زيادةً ينشأ عنها قوةٌ نابذةٌ تكافئ القوة الجاذبة، وحينما تصل الأرض إلى المسافة البعيدة إلى القطر الأعظم بينها وبين الشمس تقِلُّ سرعتها فلو بقيت على سرعتها الكثيرة لتفلَّتت من مسارها حول الشمس، فهنا تُسرع وهنا تُبطئ، وقال العلماء -علماء الرياضيات والفلك-: إن تسارعها بطيء وتباطؤها بطيء، أي في زمنٍ طويل ترتفع سرعتها من درجة دُنيا إلى درجة عُليا، وفي زمنٍ طويل تنخفض سرعتها من درجة عليا إلى درجة دنيا، ولو أن هذه السرعة ارتفعت فجأةً أو انخفضت فجأةً لتحطّم كل شيء على الأرض، كما لو وضعت عُلباً في سيَّارة وأقلعت بسرعةٍ فيها، كل ما على السيارة من عُلَب يقع، فربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)﴾

[ سورة الرحمن ]

أي أن المسافات محسوبةٌ بدقة، الحجوم محسوبةٌ بدقة، سرعة الدوران للأرض حول نفسها محسوبةٌ بدقة، سرعة الدوران حول الشمس محسوبةٌ بدقة، جذب الشمس للأرض محسوبةٌ بدقة: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ .

 

الكون أوسع وأقصر طريقٍ لمعرفة الخالق:


أيها الإخوة الكرام؛ يكاد الكون يكون أوسع بابٍ لمعرفة الله وأقصر طريقٍ إليه، فكلَّما تأمَّلت في خلق السماوات والأرض ازددت معرفةً بالله، ووقفت وجهاً لوجهٍ أمام عظمة الله، والآية الكريمة:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[  سورة آل عمران ]

 

الآيات الكونية دليل لاهتداء الإنسان إلى الله:


أيها الإخوة الكرام؛ نحن أمام أربع نعمٍ جليلة؛ نعمة الوجود، ونعمة المَنهج، ونعمة الاهتداء إلى المنهج: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ ثم إذا أردت أن تعرف الله فالكون كلُّه يدلُّ عليه، والكون كله يجسِّد أسماء الله الحسنى وصفاته الفُضلى، والله سبحانه وتعالى مع أنه لا تدركه الأبصار لكن العقول تصل إليه، وتتعرَّف إليه، وحينما يذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم آياتٍ كونيةً فالمراد منها أن نتفكَّر بها، وأن نتعَرَّف إليها، وأن تكون دليلاً إلى الله عزَّ وجل نهتدي بها.

 

المخلوقات جميعها تفتقر في وجودها إلى الله:


في درسٍ آخر إن شاء الله تعالى يقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)﴾

[ سورة الرحمن ]

النجْم والشجر، النبات الصغير والنبات الكبير مفتقرٌ في وجوده، وفي استمرار وجوده إلى الله، أدق المخلوقات وأعظم المخلوقات افتقارها إلى الله عزَّ وجل واحد.

 

التوافق الكبير بين مبادئ الكون ومبادئ العقل:


﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ قال بعض علماء التفسير: الميزان هو العقل وهو أداة معرفة الله، وهناك توافقٌ دقيق بين مبادئ الكون وبين مبادئ العقل، ففي الكون كل شيء له سبب، والعقل لا يفهم شيئاً بلا سبب، وفي الكون كل شيءٍ له غاية، ومن مبادئ العقل أنه لا يفهم شيئاً بلا غاية، والكون لا يقبل التناقض كما أن العقل لا يقبل التناقض، فهناك تناسبٌ وتوافقٌ بين خلق السماوات والأرض وبين هذا العقل الذي أودعه الله فينا، وجعله أداةً لمعرفة الله، لكنه ميزان، إلا أن الشريعة ميزانٌ على الميزان، الحَسَنُ ما حَسَّنَهُ الشرع، والقبيح ما قَبَّحَهُ الشرع، العقل قد يضل، وقد يَزِل، وقد ينحرف، الضابط له هو الشريعة، والفطرة قد تنطمس، الضابط لها هي الشريعة.

 

العاقل من يستعمل عقله كما أراد الله عز وجل:


الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ والخطأ الكبير أن يكون الخطأ في الميزان لا أن يكون الخطأ في الوَزن، وفرقٌ كبير بين الخطأ في الوزن وبين الخطأ في الميزان، الخطأ في الميزان يتكرَّر إلى أبد الآبدين، أما الخطأ في الوزن فلا يتكرر، فالإنسان حينما يُعطيه الله عقلاً عليه أن يستعمله، والإنسان لا يندم ولا يفاجأ إلا لضعفٍ في عقله، أو لعدم استعماله كما أراد الله عزَّ وجل، هذه قاعدة، أنت لا تفاجأ ولا تندم في حالة استعمال العقل كما أراد الله عزَّ وجل، لكن في حالة عدم استعمال العقل، أو حالة ضعف العقل، قد تفاجأ وقد تندم، والذكي والعاقل هو الذي لا يفاجأ ولا يندم، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ. ))

[ الترمذي: حكم المحدث: صحيح ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور