وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 40 - سورة الأنعام - تفسير الآيات 105-107 ، الإنسان مُبلَّغ وعليه الاختيار
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الأربعين من دروس سورة الأنعام .


الله عز وجل خلق الأكوان ونوَّرها بالقرآن :


 ومع الآية الخامسة بعد المئة ، وهي قوله تعالى :

﴿  وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(105) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 أيها الإخوة، تصريف الشيء: تَتَابعه، وتنوعه، والآيات: العلامات التي تدل على وجود الله، وعلى كماله، وعلى وحدانيته، الله عز وجل :

﴿ لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلْأَبْصَٰرَ ۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ(103) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 لكن كل شيء في الكون ينطق بوجوده، ووحدانيته، وكماله، الله عز وجل له آيات كونية هي خَلْقه، أينما نظرت وحيثما التفتَّ وجدت العلم، والقدرة، والغنى، والحكمة، والرحمة، واللطف، والإبداع.

﴿ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(101)﴾

[  سورة الأنعام ]

 خلْقه آياته الكونية ، أما كلامه فآياته القرآنية، وهذا الكون في كفة وكلام الله في كفة ثانية .

﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَٰبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُۥ عِوَجَا ۜ ﴾

[  سورة الكهف ]

 خلق الأكوان ونوَّرها بالقرآن، شُقّ الطريق ثم وُضعت الشاخصات، هنا منعطف خطر، هنا تقاطع خطر، هنا جسر ضيق، هنا صعود حاد، هنا ممر زلق، شُقّ الطريق، ووُضِعت الشاخصات، خُلِق الكون، ونوّره الله بنوره .


كل شيء يقع في الكون آية تدل على عظمة الله :


 إذاً آياته الكونية، وآياته القرآنية، أما أفعاله فآياته التكوينية، أعاصير، زلازل، حروب أهلية.

﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلْآيَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 الصواريخ والصواعق .

﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ الزلازل والألغام .

﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾ يعني الطائفية، تجد المجتمع ممزقاً بالطائفية﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ هذه آياته التكوينية، فالآيات هي العلامات الدالة على وجوده، وعلى وحدانيته، وعلى كماله، خلقه آيات، وأفعاله آيات، وكلامه آيات : 

﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ نُنوِّعها، تارة ترى زلزالاً مُدمّراً، وتارةً ترى جبلاً شاهقاً، وتارةً ترى وردةً جميلةً، وتارة ترى رزقاً وفيراً محاصيل، ننوع الآيات، وتارةً ترى ضيقاً في النفس، هذا الضيق من خلق الله عز وجل، من قصّر في العمل ابتلاه الله بالهمّ، تارةً تجد تيسيراً، تارةً تجد تعسيراً، كل شيء يقع في الكون آية دالة على عظمة الله، خلقه آية، وأفعاله آية، وكلامه آية، والتربية النفسية آية، أحياناً تشعر بانشراح وانطلاق تكاد تطير، أحياناً تشعر بضيق وشعور بالإحباط تكاد تموت من الضيق، هذه معالجة، وتلك معالجة، الأمور تارةً ميسرة، والأمور تارةً معسرة، تارةً هناك تفاهم زوجي رائع، وتارةً هناك شقاق زوجي مزعج، تارةً هناك أبناء يخضعون لوالديهم خضوعاً عجيباً، وتارةً تجد أبناءً يعدّون أحد أكبر أسباب شقاء والديهم ﴿ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ﴾ .


الله تعالى له آيات كونية وآيات تكوينية وآيات قرآنية :


 يعني يعالجك بمنام مخيف أحياناً، برؤية، يعالجك بتيسير، يعالجك بتعسير، يعالجك بفقر، يعالجك بغنى، يعالج بهمّ، يعالجك بشبح مصيبة، يعالجك بحدث كوني كبير، يعالجك بآية كونية، يعالجك بآية قرآنية، يعالجك بموعظة ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ ننوّعها ونكثرها، ونجعلها متتابعة، يعني تجد الله عز وجل في القرآن الكريم ذكر التوحيد مئات المرات، لو ذكره مرة واحدة وأنت تقرأ القرآن الكريم ومرّت معك آية توحيد في البقرة، بقيت بهذه الختمة شهرين إلى أن تأتي آية توحيد ثانية في الختمة التالية، أنت تحتاج إلى تذكير يومي، فتجد هناك آيات تتكرر في التوحيد، الإشارة إلى عظمة الكون، فهناك موضوعات يجب أن تعيشها كل يوم، إذاً هي تتكرر. 

تصريف الآيات تكرارها، تصريف الآيات تتابعها، تصريف الآيات تنوّعها، تكرير، تتابُع، تنويع، بين آية علمية وبين آية فعلية .

 مرة سافرت إلى الساحل، جاءت عواصف شديدة جداً أتلفَت بعض المنشآت الزراعية، الشيء العجيب أن معظم الناس هناك على اختلاف اتجاهاتهم أجمعوا بفطرتهم على أن صاحب البيت السيّئ قد تلف ماله، أما المستقيم فنجاه الله.

 أحياناً تأتي الآيات بأفعال الله عز وجل، المستقيم محفوظ، غير المستقيم مُدمّر بالفطرة، فالدروس ما أكثر العظات وما أقلّ المتعظين، ما أكثر العبر وما أقل المعتبرين .

 أيها الإخوة، يعني أحياناً تجد أن هناك قوة جبارة في الكون، طاغية، متغطرسة، مستعلية، مستكبرة، تفعل ما تقول، تدمر، تقتل ، يأتي زلزال قوته مليون قنبلة ذرية، لا يدع شيئاً ، فالله له آيات كونية ، وله آيات تكوينية ، وله آيات قرآنية ، يعالجك نفسياً ، يعالجك بخبر ، يعالجك بإشاعة ، يعالجك بشبح مرض ، يعالجك بشقاق زوجي ، يعالجك بابن عاق ، يعالجك بابن صالح، الله عز وجل يصرف الآيات، لكن بطولتك أن تأتيه باختيارك طائعاً، وأنت صحيح معافىً، ليس عندك مشكلة، هذه بطولة ، جئته محباً، جئته مختاراً، جئته بمبادرة منك، ولكن الله رحيم، لو تلكّأْنا في العودة إليه يأتي بنا بالسلاسل .

((  عجبتُ لأقوامٍ يُسَاقُونَ إلى الجَنّةِ في السلاسلِ وهم كارهون  ))

[  أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة ، أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة  ]


من كان ينطوي على نفس لوامة فالله عز وجل يرجئ معالجته :


 سألني أحدُهم مُداعباً: ما ملخص دعوتك  لثلاثين عاماً ؟ قلت له: كلمتان، إما أن تأتيه مسرعاً، أو أن يأتي بك مسرعاً، لا بد من أن تصل إليه، صل إليه باختيارك وأنت صحيح معافى، ليس عندك مشكلة أبداً، هذا دليل محبتك، دليل رجاحة عقلك، دليل قوة إرادتك ، أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ، تماماً كما يقول الطبيب لإنسان معه التهاب معدة حاد: لو أنك اتبعت حمية صارمة تُشفى، أما إذا تساهلت وأكلت ما تشتهي فلا بد من عمل جراحي، فأنت مُخير بين حمية صارمة وبين عملٍ جراحي، أيضاً أنت مخير بين أن تأتي ربك طائعاً، مستسلماً باختيارك، بمبادرة منك ، وبين أن تأتيه عقِب ضيقٍ، أو شِدةٍ، أو إلجاء، يقول الله عز وجل :

 

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾

[  سورة السجدة  ]

 إذاً الآية الكريمة : 

﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ صنعوا مركبة فضائية سمّوها المتحدي، بعد سبعين ثانية احترقت، يعني أحيانا يأتي إعصار، يقولون لك: الخسائر ثلاثون ملياراً، معظم الأرباح التي جُنيت من جهة أخرى ذهبت خسارة هنا، فإن فكرت في خلقه تصل إليه، وإن تدبرت كلامه تصل إليه، إن نظرت في أفعاله تصل إليه، لكن النصيحة: أرجئ النظر في أفعاله إلى ما بعد النظر في آياته الكونية وآياته القرآنية، لأنك إذا أقمت جولة في خلقه، ثم تدبرت كلامه فإيمانك بأسمائه الحسنى من خلال خَلْقه، وإيمانك بكلامه من خلال تدبّره يلقيان ضوءاً كاشفاً على أفعاله.

﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ أنت لست نبياً، أنت إنسان حصَّلت ثقافة عالية جداً، وخدعتَ بها الناس، وصرفتَ وجوه الناس إليك، ولست نبياً، ولا رسولاً، ولا يُوحَى إليك، من يقول هذا؟ لا بد من مقدمة، دائماً الإنسان إذا كان ينطوي على نفس لوّامة فالله عز وجل يُرجئ معالجته .

حينما يُمنَع الحق من أن ينتشر عندئذٍ يتدخل الله عزّ وجل :

 جاء طالب بجلاء عليه علامة صفر في الرياضيات، فالأب تضايق كثيراً، لكن نظر إلى ابنه فرآه أشد تضايقاً، ترك الطعام، وأحاطت به كآبة عالية، وفكّر في دروس خصوصية، وفكر أن ينفق ما جمعه في العيد لدروس الأستاذ في الرياضيات، فلما رأى الأب ابنه بهذا الاهتمام، وهذا الحزن، وهذا الألم، وتلك الكآبة، وهذه التضحية كفّ عنه، أما إذا نال الصفر، وبقي مستهتراً يضحك ويلهو فلا بد من معالجة .

 إذاً ما دامت نفوس عباده نفوس لوامة هم يرتدعون، هو يعودون، هم يتوبون، هم يراجعون أنفسهم فإن الله يرحمهم، أما حينما تكون نفوسهم أمارة بالسوء، وقوة ظالمة تسحق قوة أخرى، قلة قليلة تملك كل شيء، وكثرة كثيرة لا تملك شيئاً، فهذا الذي يملك المال والقوة وكل شيء، ويعيش حياة خيالية، لا يسمح لهؤلاء الذين يقهرهم أن يتعرفوا إلى الله، لذلك حينما يُمنَع الحق من أن ينتشر عندئذٍ الله جل جلاله يتدخل، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

((  تُمْلَأُ الْأَرْضُ ظُلْماً وَجَوْراً ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي يَمْلِكُ سَبْعاً أَوْ تِسْعاً فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً ))

[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ]

 تجد في العالم اليوم تسعين في المئة من ثرواته بيد عشرة في المئة من عباده، هؤلاء العشرة في المئة يعيشون حياة تفوق حد الخيال، حياة بذخ، وإسراف، وغطرسة، واستعلاء ، وكبر ، وتدمير ، وقصف، وسحق، وقتل، وإبادة، والإعلام بيدهم ، والقوة بيدهم .

 فتاة في بلد غربي بعيد ترتدي ثياب الشاذات، مدير المدرسة في هذا البلد على شيء قليل من المروءة، منعها من دخول المدرسة، أقام والدها دعوى على مدير المدرسة، وحكم القاضي له بمبلغ فلكي، لأن إدارة المدرسة تدخلت في حرية هذه الفتاة، جيد، هذه الحرية، تأتي فتاة في بلد آخر مسلمة تضع على رأسها قطعة قماش، تنفيذاً لتعاليم دينها الحنيف الذي يأمرها بالحجاب، قطعة قماش، وضعتْ بنت في المدرسة الإعدادية قطعة قماش على رأسها تقوم الدنيا ولا تقعد بدءاً من أعلى رجل في ذلك البلد، الحجاب ممنوع أمّا ثياب الشاذات مسموحة ؟‍‍!

 تُسقَط طائرة، تدفع الدولة التي اتهمت بإسقاطها قريباً من ثلاثمئة مليار دولار دية لركابها، أما ممرضات يحقن أربعمئة طفل بفيروس الإيدز، كل دول الغرب تتدخل لإطلاق سراح الممرضات دون محاكمة، ودون تعويض، يُحاسَب الإنسان في بلد لأنه استخدم سلاحاً كيماوياً، والذين يحاسبونه يستخدمون سلاحاً كيماوياً أيضاً، يعني القيم مضطربة .

قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر  وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر

* * *

 فهؤلاء يوم القيامة يؤمرون بأن يسكتوا :

﴿  الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) ﴾

[  سورة يس  ]


الإنسان المتأله هو الذي لا يعتقد أن هناك إلهاً سيحاسبه :


 فيا أيها الإخوة، عندما يصل الأمر إلى هذا المستوى مِن جهة قوية جداً، متغطرسة، تقهر الناس، تلغي حياتهم، تلغي ثقافتهم، تلغي دينهم ، تلغي تقاليدهم، تلغي عاداتهم، من أجل مصالحها فقط، عندئذٍ لابد من تدخل السماء، مستحيل أن تستطيع قوة طاغية أن تخطط لمستقبلها البعيد، وأن تنجح خططها على المدى البعيد، هذا تناقض مع وجود الله، لا مع عدالته فحسب، بل مع وجوده.  

﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا﴾ الأقوياء، الطغاة المنتفعون، الذين يسحقون البشر، أو لو سميناهم الطاحنين لأنهم يطحنون المطحونين، في مثل هذه الحالة لا بد من تدخل الإله، لذلك: (تُمْلَأُ الْأَرْضُ ظُلْماً وَجَوْراً ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي يَمْلِكُ سَبْعاً أَوْ تِسْعاً فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً)

 هم يقولون: ﴿دَرَسْتَ﴾ هذا الدين تعبير عن ضعف الإنسان، الدين أفيون الشعوب، الدين غيبيات، هؤلاء أخلاقيون لأنهم فقراء، لو كانوا أغنياء لما كانوا أخلاقيين، لو قرأت ما يطرحه الطرف الآخر: التدين سلوك جاهلي قديم، سلوك بدائي، خوف مما رواء الطبيعة، الإنسان المعاصر إنسان مُتَألِّه، والله كأني سمعت مقابلة مع جندي في دولة معتدية جبارة طاغية يقول: أنا الإله، أنا أنهي حياة أي إنسان، إن لم أطلق عليه النار أبقيته حياً، وإذا أطلقت عليه النار أنهيت حياته، وأمره بيدي، هذا النمط الجديد إنسان متألّه ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ لا يعتقدون أن هناك إلهاً سيحاسبهم .


إذا أردت الحقيقة فكل شيء يدلك عليها :


﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42) ﴾

[  سورة إبراهيم  ]

 مشكلة هذا الطاغي أنه لا يُدخِل الله في حساباته إطلاقاً ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾

﴿  وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(48) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

 إذاً لماذا جعله الله أميّاً؟ لأن وعاءه فرّغه الله من كل ثقافة أرضية، نبينا يُوحَى إليه، كلمة عبقري، ومصلح اجتماعي، الطرف الآخر طرح ذلك عليه، نبينا نبي معه وحي السماء، أما قضية عبقري فموضوع آخر، مصلح اجتماعي موضوع آخر، إنه نبي يُوحَى إليه.

﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ معنى يعلمون: أي أنهم أرادوا أن يعلموا، لا تستطيع أن تقول كلمة لمن صمّم ألّا يسمع، حتى إن بعضهم قال: لم أجد أشد صمماً من الذي يريد ألا يسمع، المؤمن إذا أراد الحقيقة كل شيء يدله عليها، فإذا أعرض عنها لو رأى كل الآيات الدالة على عظمة الله لا يؤمن، فلذلك هذا التبيان لقوم يعلمون، لقوم أرادوا الحقيقة، أرادوا أن يؤمنوا، أرادوا أن يعرفوا رسالتهم في الحياة، أرادوا أن يعرفوا سر وجودهم وغاية وجودهم، لذلك إذا أردت الحقيقة كل شيء في خدمتك يدلك عليها .

﴿  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ لذلك الحكمة من أعطاها لغير أهلها فقد ظلمها، ومن منعها أهلها فقد ظلمه.

﴿  فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى(9) ﴾

[  سورة الأعلى  ]


وعاء النبي كله من وحي السماء ولذلك كان أمياً :


 ثم يقول الله عز وجل مخاطباً نبيه الكريم :

﴿  اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) ﴾

[ سورة الأنعام  ]

 أنت يُوحَى إليك، أنت لست دارساً، ولم تحصّل هذا من ثقافة أرضية، وعاؤك من وحي السماء .

﴿  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4) ﴾

[  سورة النجم  ]

 لذلك كان أمياً، ولو كان يقرأ ويكتب ودرس قبل البعثة، وقال كلاماً رائعاً يُسأل دائماً: هذا الكلام من عندك أم من الوحي؟ وعاء النبي كله من وحي السماء. 

﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني المسلم يتبع وحي السماء، يتبع منهجاً لا من صنع البشر، مناهج البشر أيها الإخوة استجابة لواقعهم، فإذا فشت الشذوذ في بلد ما يصدر قانون بإباحته، القوانين الأرضية استجابة لحاجات المجتمع أو لواقعه السيّئ، لكن وحي السماء يرفع الناس إلى الكمال، بين أن يهبط القانون إلى واقع البشر، وبين أن يرفع وحي السماء البشر إلى مصاف الملائكة فرق كبير. 

﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ يعني مرة الحجاج أراد أن يقتل سعيد بن جبير، فقال له سعيد بن جبير التابعي الجليل: " واللهِ لو علمتُ أن موتي بيدك لعبدتك، ولكن حياتي بيد الله عز وجل " .


عظمة المؤمن أنه يخضع لله وحده ولا يحنِي رأسه لأحد :


 فعظمة المؤمن أنه يخضع لله وحده، وأنه لا يحنِي رأسه لأحد، يحني رأسه في الركوع لله عز وجل ، وفي السجود كذلك ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فهو المعطي، وهو المانع، وهو الرافع، وهو الخافض، وهو المعز، وهو المذل، وهو الذي يهب الأمن، وهو الذي يهب النصر، وهو الذي يُضعف الأعداء، وهو الذي يُلقي في قلوبهم الرعب، أما إذا هان أمر الله علينا نهون على الله، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((  نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْر  ))

[  أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله  ]

 أما أمته حينما تخلت عن دينها، وأدارت ظهرها للقرآن، وأخذت ما عند الغرب من مناهج يومية، هان أمر الله عليها فهانوا على الله عز وجل. 

﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ هؤلاء الذين أشركوا، وألّهوا أنفسهم، وعبدوا شهواتهم، وعبدوا جهات أرضية ظنوا أنها تنفعهم أو تضرهم، مع أن الله عز وجل يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام فيقول :

﴿  قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً  ﴾

[  سورة الجن  ]

 وقال :

﴿ قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ ۚ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ(188) ﴾

[  سورة الأعراف  ]


﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾ وقال :

﴿  قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)  ﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿  وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(107) ﴾

[  سورة الأنعام  ]


كل المخلوقات مسيرة إلا الإنس والجن فمخيّران :


 يعني الله عز وجل شاءت مشيئته أن نكون أصحاب مشيئة، لذلك الإنسان مُخير بأن يؤمن أو يكفر، أما لو أن الإنسان في الأصل لم يكن ذا مشيئة، لم يكن مخيراً، لا يستطيع أن يكفر، كل المخلوقات مُسيّرة إلا الإنس والجن فمخيّران، فإذا أشرك المشرك لأن الله سمح له أن يختار، هكذا اختار، أنت أهم شيء في هويتك أنك مخير، معنى مخير أنه بإمكانك أن تستقيم أو أن لا تستقيم، بإمكانك أن تؤمن أو ألاّ تؤمن، تصدق أو تكذب، تُحسن أو تُسيء، تصلح أو تفسد، تُخلص أو تخون، أنت مُخيّر، أنت مخير فيما كُلّفت، هذه هويتك .

﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍۢ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا(29) ﴾

[  سورة الكهف ]

 وقال : 

﴿  إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3) ﴾

[  سورة الإنسان  ]

 فأنت مُخير، فالذي أشرك ما سبق الله بإشراكه، لا، هو في الأساس مُخير، الله سمح له أن يختار، تماماً لو أردت أن تفحص إنساناً يدّعي أنه على علم بالأدوية، تعطيه مجموعة أدوية، تقول: أعِدْها إلى أماكنها، هنا الفيتامينات، هنا السموم، هنا المضادات الحيوية، الآن أنت تمتحنه، فهو مخير، فإذا أمسك بدواء فيتامين ووضعه في محل السموم، لو منعته لألغيتَ اختياره، لا بد من أن يتحرك وفق اختياره هو، فالإنسان مُخيّر ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾

﴿ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(148) ﴾

[  سورة البقرة  ]


الإنسان مخير إذاً يدفع ثمن اختياره :


 لذلك أيها الإخوة، الإنسان مُخير إذاً يدفع ثمن اختياره: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾

 هذا معنى آخر :

﴿  سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 هذه الآية تنفي الجبر، أما هذه الآية تشير إلى أن الله خلقك مختاراً، فإذا اخترت الإيمان فقد سمح لك أن تختار الإيمان، وإن اخترت الشرك سمح لك أن تختار الشرك ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا َشْرَكُوا﴾ فليس هناك كافر يسبق الله عز وجل .

﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْ ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ(59) ﴾

[  سورة الأنفال  ]

 معنى سبقوا أي أنهم فعلوا شيئاً ما أراده الله.

﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ أنت مبلغ فقط .

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56) ﴾

[  سورة القصص  ]

 من يشاء الهداية ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ .

﴿  إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ(23) ﴾

[  سورة فاطر  ]

 مبلّغ .

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67) ﴾

[  سورة المائدة ]

 والداعية مبلّغ، وكل عالم مبلّغ، لا يملك أكثر من أن يُبلغ، الأمر بيدك، إما أن تستجيب أو لا تستجيب ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور