وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 48 - سورة الأنعام - تفسير الآية 122 بين الحياة الروحية والحياة المادية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثامن والأربعين من دروس سورة الأنعام ، ومع الآية الثانية والعشرين بعد المئة، وهي قوله تعالى :

﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(122) ﴾

[ سورة الأنعام ]


أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ


﴿أَوَمَنْ﴾ هذه صيغة استفهام، والكلام كما تعلمون، خبر وإنشاء، أيْ كلام لا يحتمل الكذب، وكلام يحتمل الكذب، فإذا سألتك، فالسؤال، والاستفهام ، والأمر، والنهي والتمني، والترجي ، والنداء، هذه أساليب الإنشاء، أي يُطلب إليك شيءٌ تفعله بعد الكلام، فالعقل لا يقبل أن يُحكم على هذا الكلام بأنه كذب أو صدق، هذا إنشاء، أما حينما تخبرني عن شيء فالمخبر قد يكون كاذباً، وقد يكون صادقاً.

الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى حينما يستخدم أسلوب الإنشاء، هنا استفهام : 

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ هذا استفهام ، ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى يستخدم أسلوب الاستفهام ؟ 


الحكمة من استخدام أسلوب الإنشاء


 الحقيقة أنه يمكن أن تملي على إنسان حقيقة، أن تملي عليه شيئاً، لكن البطولة أن تجعله يفكر معك، وأن يتوصل إلى الحقيقة بنفسه، والشيء الذي تصله بنفسك أعمق أثراً بآلاف المرات من الشيء الذي يُملى عليك، لذلك هذا الأسلوب يحتاجه الآباء، يحتاجه المعلمون، يحتاجه المرشدون، يحتاجه الموجهون، يحتاجه الدعاة، يحتاجه القادة، بدل أن تملي اطرح سؤالاً، واجعل المسؤول يفكر معك، فإذا فكر معك، وتوصّل هو بذاته إلى النتيجة، كنت رائعاً في توجيهك .

 قال شاب في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بكل جرأة ، بل بكل وقاحة : يا رسول الله ، ائذن لي بالزنا ، كأن تقول لإنسان موكل بحفظ الأمن: ائذن لي أن أقتل فلان، هذا تحدٍّ ، فالصحابة غضبوا، قال: دعوه، تعال يا عبد الله ـ تعلموا من رسول الله أصول الدعوة ـ قال: أتريده لأختك؟ فاحمر وجه الفتى، وقال: لا، قال: ولا الناس يريدونه لأخواتهم، أتريده لأمك؟ أتريده لابنتك ؟ لعمتك ؟ لخالتك؟ قال: كُفيت، فلما خرج هذا الشاب قال: والله دخلت على رسول الله وما شيء أحب إلي من الزنا ، وخرجت من عنده وما شيء أبغض إلي من الزنا .

(( إن فتى شابا أتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ))

[ رواه أحمد عن أبي أمامة ]

 فأنت كأب، كمعلم، كموجه، كمرشد، يعني أنت مدير مستشفى اجمع الأطباء، قل لهم: عندنا مشكلة، كيف نحلها؟ كيف ؟ عندك حل جاهز، ومتفوق، وعلمي، وإداري، و صحيح، أما عندما تعرض المشكلة أمامهم، وتأخذ أراءهم في حلها، والآراء تُناقش، ثم يتوصل الجميع إلى الحل الذي أنت تريده، هذا الحل لم يفرض عليهم، بل نبع من قناعتهم، عندئذٍ يطبقونه، هذه الشورى في المصطلح الإسلامي، في المصطلح المعاصر الديمقراطية، هذا هو الحوار، الله عز وجل كان من الممكن أن يقول: المؤمن حي، والكافر ميت، انتهى الأمر، هذا مضمون الآية، المؤمن حي، قلبه حي، والكافر قلبه ميت، هذا مضمون الآية ، لكن الله عز وجل يقول : 

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ والحقيقة أن كلمة ميْت غير كلمة ميّت، الميّت هو الذي حُكم عليه بالموت، ونحن جميعاً من دون استثناء حُكم علينا بالموت مع وقف التنفيذ، وكل واحد منا له وقت محدد طبعاً بالسنة، وبالشهر، وباليوم، وبالساعة، وبالدقيقة، وبالثانية بالمكان المعين، فنحن جميعاً ميتون، حُكم علينا بالموت مع وقف التنفيذ، لذلك قال تعالى :

﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30) ﴾

[  سورة الزمر  ]

 فالذي حُكم عليه بالموت ميّت، والذي مات ميْت. الآن : 


بين الحياة المادية والحياة الروحية


 ﴿أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ الحقيقة أن هذه الآية من أدق الآيات، لأن الحياة بالمفهوم المادي أن يكون الكائن قادر على تحقيق مهمته، أنا قادر أن أتحرك، قادر أن أفكر، قادر أن أتخذ قرارًا، قادر أن أذهب إلى عملي، قادر أن أكسب مالاً، قادر أن أنفق على أولادي، قادر أن أربي أولادي، أنا حي إذاً، الحياة صفة بالكائن تمكنه أن يحقق أهدافه، لكنها مستويات، فالذي ينبض قلبه حي، والذي يرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، وينطق بلسانه، ورئتاه تخفقان، وقلبه ينبض هو حي، هذه حياة مادية، حياة الجسم، وكل البشر أحياء مادام قلبهم ينبض، لكن أراد الله من خلال هذه الآية أن يلفت نظرنا إلى أن هناك حياة تليق بنا، حياة تليق بالمخلوق الأول، تليق بالإنسان المُكرّم، تليق بمن قبل حمل الأمانة، تليق بمن سخر الله له :

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(13)﴾

[  سورة الجاثية ]

 أراد الله أن يبين الله لنا أن هناك حياة أرقى بكثير من حياة المادة، أرقى بكثير من أن تأكل، وتشرب، وتنجب، وتنام، وتستمتع .

 لو أخذنا أعلى مستوى في الحياة المادية: بيتًا يصعب وصفه، من اتساعه، وجماله، وإطلالته، وأثاثه الرائع، والطعام والشراب، وكل ما لذ وطاب، وجميع الأجهزة، المَركبات بأنواعها، والطائرة الخاصة بأنواعها، ما الفرق بين هذا المخلوق الذي يتمتع بأعلى مستويات الحياة، وبين مخلوق من البهائم، يأكل، ويشرب، وينجب، ويستمتع بالحشيش كما تستمتع أنت بأعلى أنواع الطعام أيضاً هذه حياة .

 فمادامت حياتنا مادية فطبيعة الحياة المادية واحدة، لكنها على مستويات، الأغنياء والأقوياء لهم حياة من مستوى أعلى، لكن تبقى حياة من نوع حياة الكائنات الأخرى، أما حينما تتعرف إلى الله، أما حينما تكتشف سر وجودك، حينما تكتشف أنك المخلوق الأول في الكون، وحينما تكتشف أن الكون مسخر لك، وحينما تكتشف أن الله خلقك لحياة أبدية فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حينما تكتشف أن في الجنة من النعيم ما لا يوصف، وحينما تكتشف أن هذه الحياة الأبدية أسبابها بيديك، ثمنها طاعة الله عز وجل، وأن هذا المنهج منهج من عند خالق الإنسان، منهج متناسب مع طاقتك، مع إمكاناتك، أما حينما تتصل بأصل الجمال، حينما تتصل بالقوي، حينما تتصل بالغني، حينما تتصل بالرحيم، حينما تتصل بالحكيم، وتتخلّق بالكمال الإنساني تشعر أنك حي، وأن الناس كما قال الله عز وجل :

﴿ أَمْوَٰتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍۢ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21) ﴾

[  سورة النحل  ]

 إله يصف الناس هكذا: ﴿أَمْوَٰتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍۢ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾

﴿ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْأَحْيَآءُ وَلَا ٱلْأَمْوَٰتُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍۢ مَّن فِى ٱلْقُبُورِ (22)﴾

[  سورة فاطر  ]

 مرة التقيت بمندوب شركة، وحدثته قليلاً عن الله عز وجل، فقال لي بالحرف الواحد: هذه الموضوعات لا أهتم لها، ولا ألقي لها بالاً، ولا تعنيني لا من قريب ولا من بعيد، أنا يعنيني أشياء ثلاثة، امرأة جميلة، وبيت جميل، ومركبة جميلة، وانتهى الأمر ، فما رأيت كلمة تصدق عليه كقوله تعالى : 

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ تجلس مع إنسان بأجمل قِوام، ويرتدي أغلى الثياب، ويضع أغلى العطور، وثيابه مدهشة بجمالها، إذا حدثك بكلمتين تشعر أنه ميت، فالإنسان قبل أن يتكلم تؤخذ بمظهره، بقوامه، بثيابه، بأناقته، بحسن اختيار ألوانه، فإذا حدثك نسيت شكله وثيابه ، فإذا عاملك نسيت كلامه ، 

﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ قال سيدنا عليّ : يا بني، العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، يا بني، مات خُزّان المال وهم أحياء، هم أحياء ميتون .

 أي لو فحصت جسمه كان الضغط 8 على 12، والنبض 70، كل التحليلات طبيعية، هو عند الطبيب يتمتع بأعلى درجة من الصحة ، لكنه عند الله ميت ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ < يا بني ، مات خزان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة > .

 فالآية تشير إلى نوع من الحياة تليق بالإنسان، تليق بالمخلوق المكرّم ، والدليل :

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24) ﴾

[  سورة الأنفال ]

 لذلك هذه الحياة المشتركة بيننا وبين بقية المخلوقات هذه حياة لا تليق بنا، لكن الإنسان حينما يحمل همّ الأمة، وحينما يقلق لمصير المسلمين، وحينما يقوم بكل طاقاته للتخفيف عنهم، ولتحقيق بعض أهدافهم، حينما يغار على وضع المسلمين، يكون عند الله حياً، وعندئذٍ يُقدَّس في السماوات والأرض، الله عز وجل وصف أهل الشرود عنه حينما يموتون :

﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ(29) ﴾

[ سورة الدخان  ]

 ما بكى عليه أحد، إن لم يفرح الناس بموتهم، لأن كل يوم هناك قرار بالقتل والاغتيال، وهدم البيوت، وترويع الآمنين، والحصار، كل يوم، فلما أُصيب بمرض ينطبق عليه كلام النبي عليه الصلاة والسلام قال رأى جنازة فقال :

((  مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ، فَقَالُوا : مَا المُسْتَرِيحُ ، وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ قَالَ : الْعَبْدُ الْمُؤمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدّنْيَا وَأَذَاهَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشّجَرُ وَالدّوَابّ ))  

[  رواه البخاري عن أبي قتادة بن ربعي  ]

 يعني انتهى من التكليف، يعني لا يوجد خبر سار .

 والله أحياناً يجلس بعض الإخوة في جلسة من تداول الأخبار السيئة والضغوط، والتهديدات، وقلق ارتفاع العملة، وقلق، وقلق، وقلق، وقلق الحصار، وقلق هذا، والبطالة المقنعة، وارتفاع مستوى البطالة، وغلاء الأسعار، والحصار، وما إلى ذلك، الجالسون لا تقوى أقدامهم على حملهم من شدة الإحباط، هذه الدنيا :

﴿  قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) ﴾

[  سورة يس  ]

 فلذلك أيها الإخوة، هذه الحياة الدنيا متعبة، حياة كدح، وحياة بذل جهد، وحياة قهر أحياناً، وحياة فقر أحياناً، يوجد فقر، ويوجد قهر، ويوجد اجتياح، ويوجد حرب أهلية، ويوجد غلاء أسعار، ويوجد بطالة، ومشكلات لا تعد ولا تحصى، أما هؤلاء الذين توهّموا أنهم في قمة النعيم، اطمئِنوا:

﴿  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) ﴾

[  سورة طه  ]

 في ضوء هذه الآية لو أن واحداً في الأرض كان معرضاً عن الله، وكان بمقياس السعادة سعيداً هذا مستحيل وألف ألف مستحيل، لأن كلام الله حق :

﴿ لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۦ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42) ﴾

[  سورة فصلت  ]

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ إذاً الله عز وجل يقول: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ بمعرفتنا، أحييناه بالهدى، أحييناه بالاتصال بنا، أحييناه بأنه نقل اهتماماته للآخرة، أحييناه بأنه يسعى :

﴿  فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55) ﴾

[  سورة القمر  ]

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ دقق الآن: كان العلماء يتوهمون قديماً أن العين يخرج منها شعاع فترى الشيء، هذه نظرية قديمة، إلى أن جاء عالم مسلم وهو ابن الهيثم، وكان عالماً بالعين، فجاء بنظرية معاكسة، والعلم الآن أثبت صحتها، قال: الشيء المرئي يصدر منه ضوء يخترق العين، الدليل: أن الذي يتمتع بعنين حادتي النظر لو أُطفئ المصباح كلياً لا يرى شيئاً، معنى ذلك أن الضوء لا يخرج من العين يدخل إلى العين، فالضوء وسيط، فالإنسان بضوء الشمس يهتدي إلى حقائق الأشياء، الليل مخيف وكل شيء غير واضح، والنهار مريح كل شيء واضح فيه، إنسان يمشي في النهار، هذه حفرة، وهذه أكمة، وهذا كلب عقور، وهذا بستان، وهذه فاكهة، وهذه قشرة يُعرِض عنها، ضوء الشمس يريه الأشياء، لكن في عالم حركة الإنسان في الحياة، يوجد شهوات أمامه، ويوجد نساء كاسيات عاريات، وهناك ألف طريق وطريق لكسب المال الحرام، ويوجد وسائل للغنى السريع، ويوجد وسائل للمتعة الرخيصة، ماذا يفعل ؟ كأنه في غابة ظلماء، فحينما يتصل بالله يقذف الله في قلبه نوراً يريه الحق حقاً والباطل باطلاً.

 امرأة بارعة الجمال، السيدة الأولى بالقصر، زوجها عزيز مصر، يوسف شاب في ريعان الشباب، يتقد نشاطاً وقوةً وحيويةً، وهو عبد مأمور عند هذه السيدة، وقد عرضت عليه نفسها، وقالت :

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23) ﴾

[  سورة يوسف ]

 

 العوامل التي تدفعه إلى أن يلبي حاجة جسمه أنه شاب، وأنه أعزب، وأنه غريب، وأنه عبد، وأن التي دعته سيدته، وليس من صالحها أن تفضحه، وأن الحاجة عنده موجودة، ماذا رأى حتى قال: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾

 ولو كان مكان هذا الشاب مليون شاب لوجدوا هذا غنيمة لا تفوت، هذا النور الإلهي، الآن المجرم لماذا أقدم على هذه الجريمة؟ لأنه أعمى، لا يرى، وليس في قلبه نور، توهم أنه مال كثير بجهد قليل، ويغتني إلى نهاية الحياة، بعد عشرين يومًا عُلقت مشنقته، وشُنق، ما رأى هذه النتيجة، رأى الغنى فقط ، فهو أعمى، لذلك الدعاء الذي ندعو به دائماً:" اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه " .

 الآن الإنسان في ظلمة الحياة، في تداخل الأمور، في كثرة الشبهات ، في كثرة الضلالات ، في استعار الشهوات، في كثرة الشبهات، في الأيام الصعبة، في آخر الزمان ، يوم يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، في هذا الوقت الصعب، هو في أمسّ الحاجة إلى نور الله، يُلقى في قلبه فيريه الحق حقاً والباطل باطلاً .

 لذلك الله عز وجل ينتظر منا أن نبحث عن حياة أخرى غير الحياة المادية التي يحياها معظم الناس، الله عز وجل ينتظرنا منا أن نبحث عن حياة تليق بنا، عن حياة تكون وصلة للحياة الآخرة، أن تكون النعم في الدنيا متصلة بنعم الآخرة، عن حياة فيها سعادة، فيها طمأنينة، فيها أمن، فيها إقبال على الله، لذلك قال تعالى : 

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ هذا التخبط .

﴿  أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(22) ﴾

[  سورة الملك  ]

 يعني أحياناً هناك لعبة يلعبها الصغار، يضعون على عين أحدهم عصابة، فيمشي كالأعمى، قد يتعثر ، قد يقع، قد يصطدم بآنية، بشيء، بحائط، بباب، الإنسان من دون اتصال بالله أعمى ، قال تعالى :

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ﴾

[  سورة الحج  ]

 وكل إنسان يقترف معصية، ولا يرى الخالق العظيم فهو أعمى.

﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات ﴾

الله عز وجل يقول: 

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ في ظلمة الشهوات، وقد جاءت الظلمات جمعًا، ظلمة الشهوات، وظلمة المعاصي، وظلمة القلق، وظلمة الخوف، وظلمة الحقد، وظلمة الحسد، وظلمة الشعور بالقهر، وظلمة الإحباط ، كل مرض نفسي ظلمة. 

﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أيها الإخوة، بعد الكشف الدقيق كل شيء تقع عينكم عليه فيه حياة، هذه الطاولة، هذه الطاولة فيها حركة، فيها ذرات، والذرة فيها نواة، وحول النواة، وحول النواة مسارات، وعلى المسار هناك كهروب، أو كهروبيين؛ وإلكترون، وما من شيء تقع العين عليه إلا ويتحرك، وهذه من مسلّمات علم الذرة، فالمادة فيها حياة، لكن هذا الحديد بقساوته، وبقابليته للأكسدة يؤدي مهمة في حياة الإنسان، ففيه الحياة، النحاس ناقل شديد للحرارة والكهرباء فيه حياة من نوع آخر، الألمنيوم خفيف، إذا احتجنا إلى آلات ذات وزن خفيف نستخدم هذا المعدن، فكل معدن له خصائص، ما دام هذا المعدن له خصائص، ويؤدي مهمة إذاً هناك حياة، الآن المستوى الأول المادة الجماد فيها حياة، وهذا المعدن فيه خصائص يؤدي مهمة محددة، هذا نوع من الحياة، النبات ينمو، وليس لدينا معدن ينمو، تحتاج إلى خمسة طنًّا من الحديد لتزرع أقلام الحديد، لأن المعدن لا ينمو، أما النبات فينمو، المعدن له وزن، وله أبعاد ثلاثة، ويشغل حيزًا فقط، والنبات له وزن، وله حجم، ويشغل أبعادًا ثلاثة، لكنه ينمو، الحيوان له وزن، ويشغل أبعادًا ثلاثة، وينمو، ويتحرك، الإنسان، له وزن، وله أبعاد ثلاثة، ويشغل حيزاً، وينمو كالنبات، ويتحرك كالحيوان، لكنه يفكر، أودع الله فيه قوة إدراكية، لذلك طولب بالإيمان، وطولب في الكشف عن الحقيقة، وطولب أن يعيش حياة عقلية، وطولب أن يعيش حياة روحية، وحمله الله الأمانة، وكلفه أن يعرفه، وكلفه أن يطيعه، صار فيه للحياة مستويات .

لكن أنت كإنسان ، لك من الجماد أنه لك وزن، وحجم، وأبعاد ثلاثة، ولك من النبات النمو، ولك من غير الإنسان من المخلوقات الحركة، فإذا اكتفيت بخصائص الجماد والنبات والحيوان فقد هبطت عن مستوى إنسانيتك، ما لم تفكر، ما لم تستخدم هذه القوة الإدراكية، ما لم ترتقِ إلى الله، ما لم تتعرف إلى الله ، ما لم تستقم على أمره، ما لم تعرف سر وجودك، ما لم تعرف غاية وجودك ، ما لم تتحرك نحو الله .

﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) ﴾

[  سورة الذاريات  ]

 ما لم تعمل عملا تقدمه بين يديك يوم القيامة، ما لم تؤمن أنك مخلوق للآخرة، ما لم تنضبط بمنهج، الكلمة القاسية فلست من بني البشر .

 مرة كان عندنا أستاذ في الجامعة من أشد الأساتذة في علم النفس علماً، فلما أحيل على التقاعد أقيم له حفل كبير، وحضرت هذا الحفل، وألقيت كلمات تكريمية عديدة، أما حينما وقف، وألقى كلمة فلا زلت أذكر هذه الكلمة، قال: الإنسان الذي لا يجد فيه حاجة إلى أن يُحِب، ولا إلى أن يُحَب فليس من بني البشر، أفلا تحب الله ؟ وقد ذكر وقتها أن أعلى مستويات الحُب أن تحب الله، ثم أن تحب أنبياءه، ثم أن تحب أهلك، زوجتك وأولادك وإخوانك، فالحب من صفات الإنسان، فلا تحي حياة لا تليق بك، لا تحيَ حياة نباتية، ولا تحيَ حياة حيوانية ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ الآن الحياة النباتية ، وحياة الجماد .

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ ۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ(4) ﴾

[ سورة المنافقون ]

 الله عز وجل وصف الإنسان في بعض الآيات: ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾

 ووصفهم : 

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (4) ﴾

[  سورة الفرقان  ]

 الآية الثالثة :

﴿ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًۢا ۚ بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(5) ﴾

[  سورة الجمعة  ]

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾

[  سورة الأعراف ]

﴿  كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51)  ﴾

[  سورة المدثر  ]

 قد يهبط الإنسان عن مستوى إنسانيته حينما لا يبحث عن الحقيقة، ولا يتعرف إلى الله، ولا ينضبط بمنهج الله، ولا يسعى لجنة عرضها السماوات والأرض .

 إذاً: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ والوصف الدقيق من قبل الله جل جلاله، ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ وصف آخر: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ مقبور بشهواته ، فلذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : 

((  لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا ، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ))

[  أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن حبان ، والحاكم ]

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وفي درس قادم إن شاء الله نتابع قوله تعالى : 

﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور