وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة يونس - تفسير الآيات 05 – 09 آيات الله الدالة على عظمته
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

آيات الله الدالة على عظمته :

 

1 ـ الشمس :

 وصلنا في الدرس الماضي من سورة يونس إلى قوله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ(6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

كلمة ﴿هُوَ﴾ من قوله تعالى : ﴿هُوَ﴾ أي قارئ القرآن الله الذي يتلو كلامه ، الله الذي فكر بآياته ، الله خالق السماوات والأرض الذي أمره ونهاه ، ﴿هُوَ﴾ .

من آياته الدالَّة على عظمته أنه خلق الشمس ، من آياته الدالة على عظمته أنه خلق القمر ، فهل فكَّرنا في الشمس أو في القمر ؟ 

الإنسان يمكن أن يرى الشمس ولا يراها ، وقد لا يرى الشمس ويراها ، هناك رؤية عينٍ ، وهناك رؤية قلبٍ ، هناك بصرٌ وهناك بصيرةٌ ، مَن مِنَ البشر اليوم لا يرى الشمس ؟ كل ذي عينين يرى الشمس ، مَن رأى من خلال الشمس عظمة الله سبحانه وتعالى ؟ قِلَّةٌ قليلة..

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) ﴾

[ سورة يوسف ]

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) ﴾

[ سورة يونس ]

الشمس بالمناسبة أقرب نجمٍ إلينا ، إذا كان النجم ملتهباً وهو منبعٌ ضوئي ، والكوكب مُبَرَّداً ، له قشرةٌ باردة ، فأقرب نجمٍ إلينا من دون استثناء هو الشمس ، هذه الشمس التي ترونها متألِّقَةً في رابعة النهار ، ومع أنها أقرب نجمٍ إلينا يزيد بُعْدُها عن الأرض عن مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر ، وهي أقرب نجمٍ إلينا ، لو تخيَّلنا أن طريقاً سالكةً إلى الشمس فكم يقطعها قطارٌ يسير بسرعة مئة كيلو متر في الساعة ؟ يقطعها في مئتين وعشر سنين إلى أن يصل إلى الشمس ، كم تقطعها قذيفة مدفعٍ ؟ في سبع سنين ، كم يقطعها الضوء ؟ في ثماني دقائق .

أحبُّ أن أوضِّح لكم بُعْدنا عن الشمس ، في ثماني دقائق يقطع الضوء المسافة بين الأرض والشمس ، مع أن سرعة الضوء ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية ، وأما قذيفة المدفع فتحتاج إذا أُطْلِقَت من الأرض إلى سبع سنين كي تصل إلى الشمس ، وأما القطار فيحتاج إلى مئتين وعشر سنين كي يصل إلى الشمس ، هذه المسافة بيننا وبين الشمس ليست بشيء إذا ما قيست بالمسافات الكونيَّة الأُخرى ، أي أن بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ، وبيننا وبين المرأة المسلسلة ثلاثة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة ، أن بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ، وبيننا وبين بعض المجرات ثلاثة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة .

 شيءٌ آخر : أقرب نجمٍ آخر إلى الأرض بعد الشمس نجم القُطْب ، بُعده عنَّا أربع سنواتٍ ونصف من السنوات الضوئيَّة ، هذه الشمس مصدر حرارةٍ وضياءٍ للأرض ، من منَّا يصدِّق أن نصيب الأرض من هذه الأشعَّة ، ومن هذه الحرارة ، ومن هذا الضياء واحد على ألفي مليون جزء ، نصيب الكرة الأرضيَّة بأكملها من أشعَّة الشمس ، ومن ضيائها ، ومن نورها ، ومن حرارتها ، ومن طاقتها واحد على ألفي مليون جزء مما تنتجه الشمس لما حولها من الكواكب السيَّارة .

 الشمس نجمٌ متألِّق مشتعل ، قد يسأل سائل : كم مضى على تألُّقها ؟ بعض العلماء يقول : أكثر من خمسة آلاف مليون سنة ، وهؤلاء أيضاً يتوقَّعون أن تعيش الشمس متألِّقةً أكثر من خمسة آلاف مليون سنة قادمة ، لقوله تعالى :

﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) ﴾

[ سورة يس ]

﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1) ﴾

[ سورة التكوير ]

لها عُمر ، فهناك سؤال دقيق : ما هي هذه الطاقة التي مضى على تألُّقها خمسة آلاف مليون سنة وسوف تستمر خمسة آلاف مليون سنة قادمة ؟ شيء عجيب ، قال بعض العلماء : الشمس فرنٌ ذَرْيّ فيها غاز الهيدروجين ، فلو أن هذا الغاز أحرقناه لما أنتجت الشمس هذه الطاقة ، ولكن هناك تفجيراً نَوَويّاً لذرَّة الهيدروجين بحيث يتحوَّل عنصر الهيدروجين إلى عنصر الهيليوم ، من هذا التفجُّر النووي تنتج هذه الطاقة التي لا حدود لها .. 

﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 هذه هي الشمس ، من خمسة آلاف مليون سنة ولخمسة آلاف مليون سنة تنتج من الطاقة الشيء الذي لا يُصدَّق ،حرارة سطحها ستة آلاف درجة ،   

وتصل حرارة الأعماق فيها إلى خمسة عشر مليون درجة ، فلو أن الأرض أُلْقِيَت في الشمس لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة .

قال : كل إنسانٍ على وجه الأرض يتلَّقى من الشمس طاقةً تعادل ستة عشر ألف حصان بخاري ، ما هو الحصان البخاري ؟ أي القدرة الاستطاعة بالفيزياء تُقاس بالحصان البخاري ، عندما صنعوا القطار البخاري وضعوا في الطرف المقابل أحصنة ، فكانت هذه الأحصنة تشدُّ القطار إلى الوراء بكل طاقتها ، فحيثما وقف القطار أي أن القوة الدافعة للمحرِّك تكافئ قوة الحصان الدافعة في اتجاه معاكس ، قالوا : قوة هذا المحرِّك يعادل عشرة أحصنة ، هذا أساسها ، فالآن صارت هذه السيَّارة اثني عشر حصاناً ، خمسة عشر حصاناً ، فكل إنسان يتلَّقى من الشمس طاقة واستطاعة تُعادِل ستة عشر ألف حصان بخاري على وجه الأرض ، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال : 

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)  ﴾

[ سورة فصلت ]

 

 حقائق هامة عن الشمس :


من منَّا يصدِّق أن ألسنة اللهب التي تُرى إذا كان للشمس كسوفٌ كامل يزيد طولها عن مليون كيلو متر ؟ ألسنة اللهب التي تتحرك على سطح الشمس تزيد عن مليون كيلو متر ،  ربنا عزَّ وجل قال : ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً ﴾ .

من منَّا يصدِّق أن الشمس تفقد كل يوم ثلاثمئة وستين ألف مليون طن من كتلتها ، كل يوم ، وتفقد في الثانية الواحدة أربعة ملايين وستمئة ألف طن من كتلتها ، كل ثانية ، هذه بعض الحقائق عن الشمس .. ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾

2 ـ الأرض :

لو أنَّ إنساناً يزن على سطح الأرض خمسةً وستين كيلو غراماً ، ووقف على سطح الشمس فرضاً لكان وزنه ألف وسبعمئة كيلو غرام ، هو هو الإنسان ، لقوَّة جذبها ، 

لأن كتلة الشمس أكبرُ من كتلة الأرض بثلاثٍة وثلاثين ألف مرَّة ، لكن حجم الشمس أكبر من حجم الأرض بمليون وثلاثة وثلاثين ألف مرَّة ، الكتلة غير الحجم ، أشياء مثيرة وعجيبة ودقيقة عن الشمس ، الشمس تجري في كل ثانية عشرين كيلو متر ، الأرض تدور حول نفسها ، والأرض تدور حول الشمس ، والشمس تجري ، والمجرَّة تجري ، أربع حركات ؛ الأرض حول نفسها ، والأرض حول الشمس ، والشمس تجري باتجاه قلب النسر وهو نجمٌ آخر ،

النسر الواقع ، والمجرَّة التي نحن فيها كلُّها تجري ، سرعة المجرَّة مئتان وأربعون ألف كيلو متر في الثانية الواحدة ،

أي هذه سرعة قريبة من الضوء ، نحن في حركةٍ مذهلة ، سرعة المجرَّة ، وسرعة الشمس باتجاه النسر الواقع عشرون كيلو متر بالثانية الواحدة ، وسرعة الأرض حول الشمس ثلاثون كيلو متر في الثانية الواحدة ، وسرعتها حول نفسها ألف وستمئة كيلو متر في الساعة ، ومع هذا نحس أن الأرض مستقرَّة ، أي استقرارٍ هذا ؟ 

﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)  ﴾

[ سورة النمل ]

من آيات الله الكبيرة ، حركةٌ حول نفسها ، وحركةٌ حول الشمس ، والشمس متحرِّكة ، والمجرَّة متحرِّكة ، ونحن نحسُّ أن الأرض مستقرَّة ، نبني ونشيد الأبنيَّة ، ولا يتحرَّك في البناء شيء . 

3 ـ عطارد وبلوتو :

عطارد بفعل قربه من الشمس ترتفع حرارته عن ثلاثمئة وخمسين درجة مئويَّة ، الحياة عليه مستحيلة ، وبلوتو الذي يبعد عن الشمس خمس ساعات تنخفض فيه الحرارة إلى مئتين وخمسين درجة تحت الصفر ، والحياة عليه مستحيلة ، فهل من باب المصادفة أن الحرارة على وجه الأرض معتدلةٌ وتوافق طبيعة الإنسان ؟! ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)﴾ هذا من تقدير الله عزَّ وجل ، هذا نجمٌ آخر من المجموعة الشمسيَّة يبعُد عن الشمس خمس ساعات ضوئيَّة ، مئتان وخمسون تحت الصفر مع أنه يتلَّقَّى أشعَّة الشمس ، وهذا عطارد ثلاثمئة وخمسون فوق الصفر ، الحياة على هذين الكوكبين مستحيلة .

 

التفكر في مصير الأرض لو انطفأت الشمس :


لذلك ربنا عزَّ جل قال : 

﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) ﴾

[ سورة الرحمن ]

 أي أن هناك يد عليمة ، حكيمة ، خبيرة عيَّرتْ هذه المسافة بيننا وبين الشمس ، فجعلت الحياة على سطح الأرض معقولة ، ومحتملة ، ومناسبة لطبيعة أجسامنا .

 نحن الوقود السائل نحرقه في المحرِّك عن طريق المكابس ، يُنتج طاقة ، لو تخيلنا أنه بالإمكان بدل أن نحرقه أن نفجِّره نووياً لنتج عن هذه الطاقة مليون ضعف ، وهذا ما يحدث في الشمس ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ الشمس مصدر كبير للضوء ، أشعَّة الشمس تُحرق ، والآن يوجد سخَّانات مبنية على أشعَّة الشمس ، مرآة مُقَعَّرة مكان الإناء في محرقها ، ضياء ، ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ .

من الآيات المتعلِّقة بالشمس : 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ﴾

[ سورة لقمان ]

 هناك توقيت لقوله تعالى : ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)﴾ فنحن نحيا ، والشمس مِلْء بصرنا ، هذه الشمس أحد الأدلَّة الكُبرى على عظمة الله سبحانه وتعالى ، لذلك الإنسان مكلَّف أن يفكِّر في الشمس ، ما مصير الأرض لو انطفأت الشمس ؟ تصبح قبراً جليدياً للبشر ، ما حقيقة الأرض من دون شمس ؟ لا حياة على وجه الأرض . 

4 ـ القمر :

أما القمر فالله سبحانه وتعالى جعله أيضاً آيةً لنا ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾  القمر عاكس لأشعَّة الشمس ، لذلك جَلَّت حكمة الله سبحانه وتعالى ، تربة القمر تربةٌ بلوريَّة مهمَّتها الكبرى عكس أشعَّة الشمس على سطحه إلى الأرض ﴿ وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ أشعَّة الشمس حادَّة ، أشعَّة القمر لطيفة ، القمر يبدو في الليل ، وفي الليل له جوٌ لطيف . 

القمر لحكمةٍ بالغة يدور حول نفسه مرَّةً في الشهر ، ويدور حول الأرض مرَّةً في الشهر ، الأرض هكذا والقمر هكذا ، القمر يدور هكذا ، إذاً : وجهٌ واحدٌ يواجهنا طوال أيام الشهر ، لأنه يدور حول نفسه مرَّة وحول الأرض مرَّة ، من جعل هذا التوافق في دورته حول نفسه وحول الأرض ؟ الله سبحانه وتعالى ، لذلك ما يُرى على سطح القمر نراه دائماً ، لو أن رائد الفضاء ذهب إلى وجه القمر الآخر لما رأى الأرض إطلاقاً ، لأن وجهاً واحداً يواجه الأرض في دوران القمر حول الأرض .

 الأرض تدور ، والقمر يتحرَّك ، يتحرك القمر في اليوم الواحد ثلاث عشرة درجة ، لذلك حينما يكون القمر بدراً تراه يُشْرِقُ مع غروب الشمس من الشرق ، عير الساعةَ في أيَّام الصيف مثلاً أشرقَ الساعة الثامنة ، في اليوم التالي يتأخَّر شروقه خمسين دقيقة ، أي أن القمرَ تحرَّك في مداره حول الأرض ثلاث عشرة درجة ، تأخر شروقه خمسون درجة أي مشى في فلكه حول الأرض ثلاث عشرة درجة وهكذا ، لكن كيف يبدو هذا القمر كما قال الله عزَّ وجل : ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ﴾ ؟ أي أن الشمس هكذا والقمر هكذا ، الأرض هنا ، إن كانت الأرض هنا والشمس في الوسط ، والقمر هنا ، أهل الأرض يرون القمر بدراً كاملاً ، فإذا سار القمر هكذا ماذا يبدو لأهل الأرض ؟ يبدو نصف وجه القمر الذي يرونه ، فإذا صار القمر بين الأرض والشمس صار محاقاً ، تقدير القمر منازل شيءٌ معجز ، أي الله سبحانه وتعالى جعله تقويماً لأهل الأرض ، تقويماً يراه كل الناس على اختلاف لغاتهم ، وثقافاتهم ، ومللهم ، ونِحَلِهم ، وأراضيهم ، شمال الأرض أو جنوبها ، شرقها أو غربها ، أي في أي مكان يُرى القمر على شكل منازل ، اليوم الأول ، الثاني ، الثالث ... الرابع عشر ، والخامس عشر وهكذا .

 

العلاقة الوطيدة بين القمر والأرض :


﴿ وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ الحقيقة يوجد عن القمر أشياء دقيقة جداً ، من هذه الأشياء أن بعده عنَّا ثلاثمئة وستون ألف كيلو متر ، هذا أقرب كوكب إلى الأرض ، حتى إن علماء الفلك سمَّوه : تابعاً ، لشدَّة لصوقه بالأرض ، مركبة الفضاء قطعت المسافة في ثلاثة أيَّام بسرعة أربعين ألف كيلو متر ، لكن الضوء يقطع المسافة بين القمر والأرض في ثانيةٍ واحدة فقط ، في ثانيةٍ واحدة تُقْطَع المسافة بين الأرض والقمر .

 القمر كتلة والأرض كتلة بينهما تجاذب ، الأرض تجذب القمر والقمر يجذب الأرض ، الأرض تجذب القمر لولا جذبها له لانطلق في مسارٍ مستقيم بعيداً بعيداً عن الأرض ، لكن جذب كتلة الأرض للقمر تجعله يدور حولها ، وأما جذب الأرض للقمر لولا جذب الأرض للقمر لدارت الأرض حول نفسها دورةً في كل أربع ساعات ، صار النهار ساعتين والليل ساعتين ، مكابح ، غير معقول أن النهار ساعتان ! صلى الصبح ، لبس ، ذهب إلى العمل أذَّن المغرب ، لم يفتح المحل بعد ، رفع الغلق أذَّن المغرب ، هل يرجع إلى البيت ؟ غير معقول ، جاء إلى البيت ليتعشَّى ، تعشَّى وجلس مع أولاده ذهب لينام فرأى الشمس قد أشرقت ، غير معقول ، لولا أن القمر يخفف من سرعة الشمس لصار النهار ساعتين والليل ساعتين ، لكن جذب القمر للأرض يجعل دورة الأرض حول نفسها في أربعٍ وعشرين ساعة ، معقول ، الإنسان دخل إلى بيته ، وارتاح ، لا يزال معه مسافة طويلة ، ووقتٌ طويل كي يستريح ، ذهب إلى عمله داوم ثماني ساعات فتعب ، جاء إلى البيت تناول طعام الغداء ، رجع إلى عمله ، عاد بعد المغرب ، فتوقيت النهار والليل اثتنا عشرة ساعة باثنتي عشرة ساعة شيءٌ دقيق جداً ..﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)﴾ .

بين القمر والأرض تجاذب ، العلماء قدَّروه بكبل فولاذي ، قطره خمسون كيلو متراً ، لكن الله لطيف ، جذب الأرض للقمر ليس عن طريق كبل فولاذي بل قوَّة جاذبة لا تراها ، هناك جذب ، والدليل : المد والجزر ، البحر يرتفع عشرين متراً حينما ينجذب إلى القمر ، وهناك بحوثٌ حول أن اليابسة نفسها ترتفع سنتيمترات بفعل جذب القمر ، هناك علاقةٌ وطيدة بين الأرض والقمر .

 قالوا : لو أن القمر اقترب من الأرض إلى نصف المسافة قد يظن الإنسان أنه أجمل ، يصبح ذا حجمٍ أكبر ، ويصبح ضوءه أشد ، لا ، لو أن القمر اقترب من الأرض إلى نصف المسافة لتضاعف المدُّ والجزر أربعة وستين  ضعفاً ، أي أربعة وستون ضرب عشرين مترا ، حوالي ألف ومئتي متر ، أي أن كل المدن الساحليَّة وعددٌ كبيرٌ جداً من مدن الجبال تصبح مغمورةً تحت سطح البحر كل يوم مرَّتين ، مستحيل ، وضع القمر في هذا المكان شيء معجز ، المد والجزر معقول عشرين متراً ، هذا يعين على الملاحة في الموانئ ، وله فوائد كبيرة جداً ، لكن لو أن المسافة اقتربت أكثر لتضاعف المد والجزر أربعة وستين ضعفاً ، وهذا مما يجعل الحياة على سواحل البحار مستحيلة .

 مثلاً : في لبنان إلى أن تصل إلى ظهر البيدر حتى تنجو من المدِّ والجزر ، مستحيل ، كل هذه المدن ، وهذه الأماكن تصبح تحت البحر مثلاً ، هذا لو أن القمر اقترب من الأرض ، أُذَكِّركم بقوله تعالى : ﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5)﴾  

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) ﴾

[ سورة القمر ]

 ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ القمر كتلته صغيرة ، فلو أن إنساناً وزنه ستون كيلو وصل إلى القمر وَزن نفسه لرأى وزنه عشرة كيلو فقط ، كل شيء على القمر يخيس وزنه ستة أمثال ، الذي وزنه ستون في الأرض وزنه هناك عشرة كيلو غرام ، لا هواء ولا ماء ، إذاً : لا صوت ، لو أن مدفعاً أطلِقَ على سطح القمر لما سمع له أحدٌ صوتاً إطلاقاً ، لا هواء ولا ماء ، إذاً لا توجد عوامل حتّ للتربة ، القمر هو هو منذ أن خُلِقَ وحتى الآن ، أما الأرض فحصل فيها تبدُّل كثير ؛ في مجاري الأنهار ، في سواحل البحار، في أشياء كثيرة .

 

القمر مخصص لنعلم عدد السنين والحساب :


 شيءٌ آخر : هناك علماء رصدوا وجه القمر فعدّوا فيه عشرة آلاف واد ، يوجد وديان ، وجبال ، وسهول على سطح القمر ،الله عزَّ وجل جعل القمر أحد الآيات الدَّالة على

 عظمة الله سبحانه وتعالى ، لكن هذه اللام لام التعليل ﴿ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ كأن الله عزَّ وجل جعل القمر خصيصاً لنعلم عدد السنين والحساب ، ودورة القمر حول الأرض أساس السنة القمريّة ، بينما دورة الأرض حول الشمس أساس السنة الشمسيَّة ، فالشهر الشمسي حكماً ، أما دورتها حول الشمس فهي السنة ، وأما السنة القمريَّة فهي سنة حكميَّة ، لكن الأصل دورة القمر حول الأرض دورة ، أي يُبنى من دورة القمر حول الأرض السنة القمريَّة ، ويُبنى على دورة الأرض حول الشمس السنة الشمسيَّة .

 

التفكُّر بآيات الله عزَّ وجل طريق معرفته سبحانه :


 ثم إن الله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ أي حجم القمر ، حجم الشمس ، البُعد بينهما ، تربة القمر ، لا هواء ولا ماء على القمر ، تجاذب الأرض مع القمر ، المد ، الجزر ، طاقة الشمس ، حجم الشمس ، لهيب الشمس ، ما تنتجه من طاقة ، تبدُّل هذه الطاقة ﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ ، أي لو أنه حصل تبدَّل طفيف في المسافات ، في الأبعاد ، في الطاقة ، في الحجوم ، في التجاذب لاختلَّ نظام الأرض ، ﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ معنى بالحق أي أن هذا الوضع السليم ، هذا الوضع الحكيم ، هذا الوضع الذي لو بُدِّل لفسد نظام الأرض ، هذا معنى بالحق .

﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي أن هذه الآيات من أجل ماذا ؟ القمر لِمَ خلقه الله عزَّ وجل ؟ لشيءٍ واحد أن نعرف الله من خلاله ، لقومٍ يعلمون عن الله شيئاً ، الله لا تُدركه الأبصار ، ولكنَّ العقول تُدركه عن طريق الآيات ، أصبح طريق معرفة الله عزَّ وجل هو التفكُّر بآيات الله عزَّ وجل ، عن طريق هذه الآيات نتعرَّف إلى الله عزَّ وجل ، الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) ﴾

[ سورة النحل ]

﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) ﴾

[ سورة الجاثية ]

 صار الطريق واحداً لابدَّ من سلوكه ، وهو أن تنظر في القمر لترى الله من خلاله ، أن تنظر في الشمس لترى الله من خلالها . 

5 ـ تعاقب الليل والنهار :

آياتٌ أخرى تأتي بعد هذه الآية : ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ أي اختلاف الليل والنهار من معاني هذه الآية كيف أن الليل يعقب النهار ، وكيف أن النهار يعقب الليل ، ليل ونهار ، هذا المعنى الأول .

 المعنى الثاني : إن اختلاف الليل والنهار طولاً ، في الصيف يصبح النهار طويلاً ، وفي الشتاء يصبح قصيراً .

المعنى الثالث : إن اختلاف طبيعة الليل والنهار ، النهار فيه ضياء ، الليل فيه ظلام ، النهار فيه حركة ونشاط ، الليل فيه سكون وراحة ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ اختلاف طبيعتهما .. 

﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا(10)وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا(11) ﴾

[ سورة النبأ ]

 اختلاف طبيعتهما ، واختلاف طولهما ، وتعاقبهما كل بعد الآخر هذه أيضاً من آيات الله عزَّ وجل . 

مَنْ خلق الليل والنهار ؟ الله سبحانه وتعالى ، كيف ؟ بدوران الأرض حول نفسها ، لو أن هذه الأرض وقفت عن الدوران التغى الليل والنهار ، صار وجهٌ من وجوهها نهاراً إلى الأبد ، ووجهٌ آخر ليلاً إلى الأبد ، الوجه الذي يقابل الشمس مئتان وخمسون درجة فوق الصفر إلى الأبد ، والوجه الذي لا يقابل الشمس حرارته مئتان وخمسون درجة تحت الصفر للأبد ، توقَّفت الحياة ، إذاً : الليل والنهار آيتان من آيات الله ، لأن الأرض تدور حول نفسها . 

 لو كان محورها هكذا ، ودورانها هكذا ، والشمس هنا ، أيضاً مع أنها تدور لانعدم الليل والنهار ، نصف الكرة الذي يدور هكذا ، والشمس من هنا نهارٌ إلى الأبد ، ونصف الكرة الثاني ليلٌ إلى الأبد ، لتوقَّفت الحياة أيضاً على سطح الأرض ، إذاً لا يكفي أن تدور ، بل يجب أن تدور على محورٍ ليس موافقاً لمستوى الدوران من أجل أن يكون هناك ليل ونهار متعاقبين ، لو أن الأرض وقفت يوجد ليل ونهار ، ولكنَّهما غير متعاقبين ، شيء دقيق جداً ، لو أن الأرض توقَّفت عن الدوران هنا نهار ، وهنا ليل ، الشمس من هنا ، لكن هذا الليل والنهار ليسا متعاقبين ، لو أن الأرض دارت على محورٍ موازٍ لمحور الدوران هكذا لكان هناك ليل ونهار ، لكنَّهما ليسا متعاقبين ، أما الآية : ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ أي إن في تعاقب الليل والنهار ، ولا يتعاقب النهار والليل إلا إذا كان المحور هكذا ، لو أنه هكذا عموديٌّ على مستوي الدوران ، والشمس هكذا ، الأرض تدور هكذا ، هذه المنطقة صيف إلى الأبد ، هذه ربيع إلى الأبد ، هذه شتاء إلى الأبد ، الأرض هكذا تأتيها أشعَّة الشمس عموديَّة في خطِّ الاستواء ومائلة في القسمين الشمالي والجنوبي ، إذاً : لأصبحت الفصول ثابتة في كل بقعة ، هذا المكان أمطارٌ وثلوج إلى الأبد ، وهنا شمسٌ محرقةٌ إلى الأبد ، وهنا ربيعٌ دائم ، وهنا خريفٌ دائم ، شيء مستحيل .

 كيف تنبت المزروعات ؟ التفاح يحتاج إلى برد ، تقطفه في الصيف ، توجد خضراوات تحتاج إلى حر ، أي لولا تعاقب الحرّ والقرّ لما نبت النبات ، يأتي الثلج فيميت الأحياء الضارَّة ، ويأتي الحر فينضج الفاكهة ، ويعطيها طعمها الحلو .

 لو أن الأرض دارت حول نفسها بمحور عمودي لثبتت الفصول ، ليس في الأرض أقوات ، كل منطقة لا يمكن أن تُنْتِج النبات ، حر دائم يميت النبات ، برد دائم لا يُنْبِت النبات ، الله سبحانه وتعالى جعل محور الأرض مائلاً سبعاً وعشرين درجة ، بهذا الميل تأتي أشعَّة الشمس عموديَّةً إلى نصف الكرة الشمالي ، هنا صيف ، فإذا دارت الأرض حول الشمس هكذا جاءت الشمس عموديَّةً على نصف الكرة الجنوبي ، لذلك هناك تبدُّل مستمر بين الصيف والشتاء في نصف الكرة الشمالي والجنوبي .

 الآن إذا ركب إنسان بطائرة من شمال أمريكا إلى جنوبها ، يجد في الشمال حراً ، درجة الحرارة أربعين ، لا يحتمل ، الناس على البحار يسبحون ، ينتقل إلى البرازيل فيجد هناك أربعة أمتار من الثلج والعواصف والأعاصير ، في اليوم نفسه ، يمكن أن تركب طائرة من أمريكا الشماليَّة إلى الجنوبيَّة في يوم واحد فترى الحرارة هنا أربعين فوق الصفر ، وهنا درجة الحرارة خمس تحت الصفر ، إذاً الآية العظيمة : ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ أي في تعاقب الليل والنهار ، تعاقب الليل والنهار آية ، وميل محور الأرض آية .

 

تذليل كل شيء لخدمة الإنسان :


 ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ في السماوات الشمس ، في السماوات القمر ، في السماوات نجم القطب ، في السماوات المجرَّة ، درب التبَّان ، في السماوات المجرَّات ، في السماوات الهواء ، النيازك ، الشُهُب ، المذنَّبات ﴿ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ الجبال ، الأغوار ، السهول ، الصحارى ، البحار ، الينابيع ، الأنهار ، اكتشفوا الآن أن في مصر نهراً بكثافة نهر النيل يسير في غربي مصر تحت الأرض ويصبُّ في البحر ، الآن كشفوه ، كشفوا أن ليبيا تقع فوق بحرٍ من المياه العذبة ﴿ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ هذه باطن الأرض فيها خيرات لا يعلمها إلا الله .. 

﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6) ﴾

[ سورة طه ]

 الآن البحث الجاد عن الماء العذب ، كلَّما كان الإنسان جادًّا في البحث وجد كمّياتٍ خياليَّة من الماء العذب تحت سطح الأرض مُخَزَّنة لهذه الأيَّام ، أيام الجفاف السطحي ، وأيام كثرة الطلب على الغذاء الأرضي .

 إذاً : ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ الحيوانات آية ، الزواحف ، والفقريَّات ، والثدييات ، والجراثيم ، والعصيّات ، والفيروسات ، والبكتيريا ، وديدان الأرض ، والحيوانات الكبيرة ، الحوت الأزرق وزنه مئة وثلاثون طناً ، والفيل ، والكركدن ، وحيد القرن الضخم ، والصغير ، والذي يُرى ، والذي لا يُرى ، والذي في خدمة الإنسان مذلَّل ، والمستوحِش ، والمتوحِّش هذا كلُّه آياتٌ للإنسان .

 

من جعل الدنيا منتهى أمله خسر الدنيا والآخرة :


 ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ أما الآن سيصف لنا ربنا عزَّ وجل إنساناً أعرض عن هذه الآيات ، ترك هذه الآيات ، قال : هذه لا تعنيني ، لا شأن لي بها ، لا يُجْدِي البحث فيها ، تركها وراء ظهره ، ماذا فعل ؟ قال : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ﴾ لا يعلِّق أية أهميَّةٍ على ما بعد الموت ، لا يقيم وزناً لساعة اللقاء ، لا يأبه للموت ، لا يفكِّر في الآخرة إطلاقاً ، لا يرجو رحمة الله ، لا يرجو وعده بالجنَّة ، لا يخشى وعيده بالنار ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ﴾ ، هذا الموضوع يقول لك : لا يعنيني ، هذا الموضوع خارج اهتمامي ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾   رضي أن يكون دخله وفيراً ، وصحَّته طيَّبة ، وله زوجةٌ تروق له ، وله أولادٌ يسيِّرُهُم كما يشتهي ، كما هو ، وله شأنٌ اجتماعي يعيش به ، ﴿ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ﴾ أي دخلهم الكبير طمأنهم ، يقول لك : أمَّنَّا مستقبلنا ، قال شخص : يوجد عندي مال لا تأكله النيران ، أكلته النيران ، وأمضى بقيَّة حياته متسوِّلاً ، هكذا قال هو : لا تأكله النيران ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ﴾ لا يريد ، تدعوه إلى الدين يُعْرِض ، تغريه بمجلس العلم يقول : ليس عندي وقت ، تخوِّفه من الموت يقول لك : من هنا إلى يوم الله يفرجها الله ، ضع رأسك مع الرؤوس وقل : يا قطَّاع الرؤوس ، مثل هؤلاء ، تقول له : الله عزَّ وجل قال ، يقول لك : العلم ، العلم قال غير ذلك ، صار أخونا بالله طرحه علميّاً : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ جعلها منتهى أمله ..

(( عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كانت الدُّنيا همَّه ، فرَّق اللهُ عليه أمرَه ، وجعل فقرَه بين عينَيْه ، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له ، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه ، جمع اللهُ له أمرَه ، وجعل غناه في قلبِه ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ . ))

[  الترمذي، السلسلة الصحيحة إسناده جيد رجاله ثقات ]

من خدم دين الله خدمته الدنيا ومن خدم الدنيا استخدمته ، الدنيا تغرُّ وتضرُّ وتمر.

ومما جاء في الآثار القدسية في الكتب السماوية السابقة :

(( خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب ، وخلقت من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك ، لي عليك فريضة ، ولك عليّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك لأسلطن عليك الدنيا ، تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي وكنت عندي مذموماً ، أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه ، وما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي ، أعرف ذلك من نيته فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ))

﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ﴾ لأنه لم يفكَّر في الشمس ، لم ير عظمة الله من خلال الشمس ، لم يفكِّر في القمر ، لكنه بحث عن يوم القمر لكي يتنزّه فقط ، يقول لك : اليوم سنقوم بنزهة فقط ، علاقته مع القمر علاقة المنتفع الخسيس لا علاقة العالِم الرشيد :

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) ﴾

[ سورة يونس ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ﴾ أمنان وخوفان:

(( عن شداد بن أوس:  قالَ اللهُ تعالى : وعزتِي وجلالِي، لا أجمعُ لعبدِي أمنينِ و لا خوفينِ، إنْ هوَ أمنَنِي في الدنيا أخفتُه يومَ أجمعُ عبادِي ، و إنْ هوَ خافني في الدنيا أمنتُه يومَ أجمعُ عبادِي . ))

[ السيوطي، الجامع الصغير : ضعيف  ]

أي من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً ، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً ، ضع في الخرج ، حرام ، مشها لا تدقق ، هذه لا تجوز ، هذا البيع غير شرعي ، هذه فيها ربا ، هذه حرام تعملها ، هذا الكلام لا يتكلم به ، مدحت الإنسان مدْحه يُغضِب الله عزَّ وجل ، صديق فاجر تمدحه أمام صديق ثانٍ ‍‍‍‍‍‍‍، يقول لك : لابأس أريد أن أمشي عملي ، يقول لك : ضع بالخرج ، هذا الكلام الفارغ .  


من غفل عن الله سبحانه وتعالى لابدَّ من أن يكسب السيئات :


﴿ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ عن هذه الآيات ، عن الشمس والقمر ، والليل والنهار ، واختلاف الليل والنهار ﴿ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

 هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا ، هؤلاء الذين كانت الدنيا مبلغ علمهم ، منتهى طموحهم ، منتهى آمالهم ، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا :

﴿ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) ﴾

[ سورة الروم  ]

جعل الدنيا أكبر همِّه ومبلغ علمه ، في الدنيا خبرته عالية جداً ، في الآخرة صفر ، لا يفقه شيئاً ، قال : هؤلاء الذين انتهت آمالهم في الدنيا جعلوها منتهى آمالهم ، أقصى طموحاتهم هؤلاء الذين ﴿ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا ﴾ عن الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والليل ، والنهار ، والجبال ، والصحارى ، والوديان ، والأمطار ، والثلوج ، وعن آيات الكتاب أيضاً ، هناك آياتٌ كونيَّة ، وهناك آياتٌ توجيهيَّة ، عن هذه وتلك ، قال : ﴿ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ معنى ذلك إذا غفل الإنسان عن الله سبحانه وتعالى لابدَّ من أن يكسب السيئة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .


  ترابط الآيات ودقة تنسيقها :

ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) ﴾

[ سورة هود ]

معنى ﴿ أُحْكِمَتْ﴾ أي أن هناك ترابطاً منطقياً بين آيات السورة الواحدة ، فلمَّا قال ربنا عزَّ وجل : ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي أن طريق معرفة الله عن طريق الآيات ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ أي تُشْرِقُ في نفوسهم أنوار الله سبحانه وتعالى ، لو أن الإنسان لم يفكِّر في هذه الآيات هذا حاله : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ لأنهم غفلوا عن هذه الآيات انتهت بهم طموحاتهم إلى الحياة الدنيا ، دخله كبير إذاً هو مبسوط ، سرور أبله ، لأن الموت سوف يكون عليه كالصاعقة ، ربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) ﴾

[ سورة الطور ]

فهذا الاطمئنان اطمئنان الأغبياء ، اطمئنان أبله ، عندما يرضى الإنسان بالدنيا ، يحقِّق دخلاً كبيراً ، يعمل صفقة رابحة ، يشتري بيتاً فخماً ، يحقِّق كل آماله الدنيويَّة ، يظن أن كل شيء انتهى ، لا ، لم ينته شيء ، الخطر الكبير في الطريق ، عند ساعة اللقاء ، لذلك ساعة اللقاء كالصاعقة على أهل الدنيا ، هناك أشخاصٌ يكرهون أي شيءٍ يتصل بالموت ، أي أنه يكره سماع القرآن ، لأن القرآن في ذهنه مرتبطٌ بالموتى ، مات إنسان ، القارئ يقرأ له القرآن ، يكره نبات الآس ، لأنه يوضع على القبور ، يكره فاكهة الحبلاس لأن الآس ينتجها ، كل شيء متعلِّق بالموت يخاف منه ، يقول لك : تشاءمت ، هذا الحديث أوقفه وانتهِ منه ، لأنه مهتم بالدنيا فقط ، فإذا جاء الموت كان الموت كالصاعقة ، فالإنسان إذا اطمأنَّ في الدنيا يكون اطمئنانه أبله ، اطمئنان الأغبياء ، اطمئنان الحمقى ، لكن العاقل لا يطمئن إلا إذا أطاع الله سبحانه وتعالى ، عندما يطيع الله طاعة تامَّة شعر بطمأنينة لا يعلمها إلا من ذاقها ، قال الله عزَّ وجل : 

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)﴾

[ سورة الأنعام ]

 هناك ترابط دقيق ، الذي يغفل عن التفكُّر في هذه الآيات سوف لا يرجو لقاء الله أولاً ، وسوف يرضى بالحياة الدنيا ، وسوف يطمئن لها ، ثم يأتيه الموت كالصاعقة ﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ(45)﴾ .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور