وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 25 - سورة الأنفال - تفسير الآيات 66 - 68 ، قياس الوسع بالتكليف
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 

الحدّ الأقصى والحدّ الأعلى :


أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الخامس والعشرين من دروس سورة الأنفال ، ومع الآية السادسة والستين ، وهي قوله تعالى : 

﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ﴾

 أيها الإخوة ؛ قد يسأل سائل في الآية السابقة : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ أي واحد لعشرة ﴿ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ* الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ هاتان الآيتان يشف منهما موضوع دقيق في الإسلام ، هذا الموضوع ألخصه بكلمتين هناك الحد الأدنى ، هناك الحد الأقصى ، أضرب أمثلة : مسيلمة الكذاب قبض على صحابيين ، فجيء بهما إليه ، فقال للأول : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما سمعت شيئاً ، فقطع رأسه فوراً وقد قطع الرأس وسئل الثاني : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : أشهد أنك رسول الله ، الأمر بلغ النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال النبي : أما الأول فقد أعزّ دين الله فأعزه الله - الذي قُطع رأسه ، قال له : ما سمعت شيئاً - الثاني الصحابة قلقوا عليه أشد القلق ، قال : وأما الثاني فقد قبل رخصة الله ، هناك موقف بطولي ، وهناك موقف مقبول عند الله ، الأول الحد الأقصى ، والثاني الحد الأدنى ، هذا موضوع دقيق في الإسلام ، هناك حدّ أقصى ، وهناك حدّ أدنى .

 

عظمة هذا الدين وجود حدٍّ أدنى يستطيعه كل الناس وحدّ أعلى يفعله الأبطال :


حينما أُلزم علماء المسلمين أن يقولوا بخلق القرآن ، بعضهم كنوا عن موافقتهم بكناية قال : القرآن ، والإنجيل ، والتوراة ، والزبور كلها مخلوقة وقصد أصابعه ، هذا الحد الأدنى ونجوا ، أما ابن حنبل قال  : لا ، لا أقول بخلق القرآن ، فدخل السجن وعُذب كثيراً ، ابن حنبل أخذ الحدّ الأعلى ، بقية العلماء أخذوا الحدّ الأدنى .

إذاً عظمة هذا الدين أنه يوجد حدّ أدنى يستطيعه كل الناس ، ويوجد حدّ أعلى يفعله الأبطال ، فلو ألغينا الحدّ الأعلى لألغيت البطولة في الأرض ، لو أن أصحاب الأخدود قبلوا تحت تهديد القتل أنه إله ، لا شيء عليهم ، الله عز وجل ما كلف الإنسان ما لا يطيق ، لكن أصحاب الأخدود رفضوا أن يعترفوا بألوهيته فدفعوا حياتهم ثمناً لهذا الموقف البطل .

(( عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  لمَّا كانت اللَّيلةُ الَّتي أُسْرِيَ بي فيها أتتْ علَيَّ رائحةٌ طيِّبةٌ ، فقلْتُ : يا جِبريلُ ، ما هذه الرَّائحةُ الطَّيِّبةُ ؟ فقال : هذه رائحةُ ماشطةِ ابنةِ فِرعونَ وأولادِها ، قال: قلتُ : وما شأنُها ؟ قال : بيْنما هي تَمشُطُ ابنةَ فِرعونَ ذاتَ يومٍ إذ سقَطتِ المِدْرى مِن يَدَيها ، فقالتْ : باسمِ اللهِ ، فقالتْ لها ابنةُ فرعونَ : أبي ، قالت : لا ، ولكنْ ربِّي وربُّ أبيكِ اللهُ ، قالت : أُخْبِرُه بذلك ؟ قالت : نعمْ ، فأخبرتْه ، فدعاها ، فقال : يا فلانةُ وإنَّ لكِ ربًّا غيري ؟! قالت : نعمْ ، ربِّي وربُّكَ اللهُ ، فأمَرَ ببَقرةٍ مِن نُحاسٍ فأُحْمِيَتْ ، ثمَّ أمَرَ بها أنْ تُلقى هي وأولادُها فيها ، قالت له : إنَّ لي إليكَ حاجةً ، قال : وما حاجتُكِ ؟ قالت : أُحِبُّ أنْ تَجمَعَ عِظامي وعظامَ ولدي في ثَوبٍ واحدٍ وتَدفِنَنا ، قال : ذلكِ لكِ علينا مِن الحقِّ ، قال : فأمَرَ بأولادِها فأُلْقوا بيْن يَدَيها واحدًا واحدًا ، إلى أنِ انتَهى ذلك إلى صَبيٍّ لها مُرضَعٍ وكأنَّها تَقاعَسَتْ مِن أجلِه - والحديث في الصحاح - قال : يا أُمَّه اقتَحِمي ؛ فإنَّ عذابَ الدُّنيا أهونُ مِن عذابِ الآخرةِ ، فاقتحَمَتْ .  ))

[ إسناده صحيح ، أخرجه أحمد واللفظ له، والبزار ، وأبو يعلى ]

معنى ذلك بكل موقف هناك حدّ أعلى يجعلك بطلاً ، والله عز وجل ما كلفك فوق ما تطيق ، فعمل لك حداً أدنى ، واضح ؟ هذا شأن المسلمين في كل مكان ، هناك حدّ أعلى له ثمن باهظ وله مكانة كبيرة ، وهناك حدّ أدنى لا  يوجد عندك إمكان أن تضحي بحياتك  فقبلت .

 

كلُّ إنسان مخير وعندما يختار الأيسر والأسهل لا شيء عليه :


 لذلك الله عز وجل قال :

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

فالإنسان عندما يختار الأيسر والأسهل لا شيء عليه .

لكن هناك قصة ذكرتها مرة في بلد إسلامي ، الله عز وجل كافأ الأول برقم فلكي - في ذلك الوقت كنت بتركيا - قلت له : أعطى الأول عشرة آلاف دولار ، والثاني أعطاه عشرة آلاف تركي ، الثاني أخذ أجراً لكنه قليل جداً بالقياس إلى أجر البطل ، فأنت مخير ، الله عز وجل ما كلفك ما لا تطيق ، إن أردت أن تكون بطلاً هناك ثمن كبير جداً ، ومكافأة فلكية ، إن أردت أن تكون كأي إنسان عادي الحد الأدنى تأخذ به .

فلذلك مع قوة الإيمان ، مع نزع الدنيا من قلب الإنسان ، مع البعد عن أهل الضلال ، قد يأخذ الإنسان الموقف الأعلى ، قد يكون إيمانه قوياً جداً ، عندئذٍ تأتي الآية الأولى : ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ هناك حدّ أدنى ، وهناك حدّ أقصى . 

 

كل أمر كلف الله به الإنسان هو أمر ضمن وسعه :


أيها الإخوة ، لكن يجب أن تعلموا علم اليقين أن الله جلّ جلاله ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ أي مستحيل وألف ألفِ مستحيل أن تكلف بأمر فوق طاقتك ، إلا أن المشكلة أن الناس يقيسون التكليف بوسعهم ، الأصح أن تقيس الوسع بالتكليف ، ما دام هذا الأمر كلفك الله به إذاً هو قطعاً ضمن وسعك ، حينما يقول الله عز وجل : 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

يجب أن تؤمن كل خلية بجسمك ، وكل قطرة بدمك ، أن غضّ البصر في أصعب الأزمنة ، وفي زمن الكاسيات العاريات ، المائلات المميلات ، في زمن أن المرأة تمشي في الطريق تبدو كل مفاتنها ، في هذا الزمن الصعب غض البصر ضمن وسعك ، ما دام هناك أمر إلهي هذا الأمر ضمن وسع الإنسان ، لكن ضمن وسع الإنسان الصادق الذي أراد الدار الآخرة ، الذي أراد الله ورسوله والدار الآخرة ، أما إذا كان هناك إصرار على الدنيا فيقول لك : هذا شيء فوق طاقتي ، متى يرى هذا الشيء فوق طاقته ؟ إذا أراد الدنيا .

إذاً : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ .

 

القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام :


أيها الإخوة ، الحقيقة الدقيقة : قس الوسع بالتكليف ، الأصل هو التكليف ، فمادام الله قد كلفك بأمر هذا الأمر يقيناً وقطعاً ضمن وسعك ، أما الناس فيقيسون التكليف بوسعهم ، هو مُصر على المعصية ، بعيد عن الله ، آثر الدنيا ، يقول لك : لا أستطيع ، وقد قيل : اعلم يقيناً أن الأمر الذي تتوهم أنك لا تستطيعه هو الأمر الذي لا تريد أن تفعله ، وهناك قصص لا تعد ولا تحصى .

إنسان في صعيد مصر ، أمّيّ ، لا يقرأ ولا يكتب ، أرسل ابنه إلى الأزهر ، وعاد بعد خمس سنوات شيخاً ، وألقى خطبة في جامع القرية ، فبكى الأب بكاءً مراً ، وقد ظن الناس أن هذا البكاء الشديد كان فرحاً بابنه الذي أصبح خطيباً ، لكن الحقيقة هي العكس ، كان هذا البكاء الشديد أسفاً على عمر ضيعه في الجهل ، في اليوم التالي ركب دابته وتوجه إلى القاهرة ، الطريق ألف كيلو متر ، وعلى الدابة مسير شهر ، وصل بعد شهر إلى القاهرة ، سأل : أين الأزعر ؟ لا يحفظ اسمه ، توهمه أزعر ، قيل له : لا يوجد عندنا أزعر ، عندنا أزهر ، قال : هذا الذي يتعلم الطلاب به ، أخذوه في الخامسة والخمسين إلى الأزهر وتعلم القراءة والكتابة ، ثم طلب العلم ومات في السادسة والتسعين ومات شيخ الأزهر .

إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام ، والله مستحيل وألف ألفِ مستحيل أن تطمح لشيء وتصدق في طلبه ولا تصل إليه ، من سابع المستحيلات .

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾

[ سورة العنكبوت  ]

ما دام الله قد كلفك فهذا ضمن وسع الإنسان لقوله تعالى : ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ .

 

مستوى الإيمان الضعيف مقبول عند الله مع مضي الزمن والفتوحات والغنائم والأموال :


لكن سؤال : ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ﴾ الآن تشير إلى الزمان ، يبدو أن الصحابة الكرام وهم مع سيد الأنام كانوا في أعلى درجات الإيمان ، وفي أعلى درجات البعد عن الدنيا ، وفي أعلى درجات البعد عن الفتن ، وفي أعلى درجات القرب من الله ، بهذا القرب ، وبهذا الإقبال ، وبهذا البعد عن الدنيا ، وبهذا الصدق الكبير ، كان الواحد منهم بعشرة : ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ لكن مع مضي الزمن ، والفتوحات ، والغنائم ، والأموال ، والاستقرار ، هذا يضعف الإيمان ، أو مع الإقبال على الدنيا ، وضعف الإقبال على الآخرة ، هذا يضعف الإيمان ، مع انتشار الفتن هذا يضعف الإيمان ، لذلك جاء التوقيت زمنياً ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾ لكن أيضاً المستوى من الإيمان الضعيف عند الله مقبول ، بالجامعة يوجد مقبول ، ووسط ، وجيد ، وممتاز ، ودرجة شرف ، مراتب النجاح ، هناك نجاح مقبول ، وهناك نجاح بدرجة شرف .

أيها الإخوة ، الملخص أنك إذا واجهت رجلين ، وفررت منهما ، فأنت فار من الزحف ، وهي من الكبائر ، إذا واجهت رجلين ، وفررت منهما ، فأنت بالتقييم الدقيق فار من الزحف ، لأن هذا الحد الأدنى ، أما إذا واجهت عشرة وفررت منهم فهذا دليل ضعف الإيمان ، لكن لو فررت من ثلاثة لا تعد عديم الإيمان ، أما من اثنين أقل من ضعيف ، أي راسب .

 

الله عز وجل مع المؤمنين بالتوفيق والتأييد والنصر والحفظ :


أما قول الله عز وجل : ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾   ، ماذا أقول بهذه الآية ؟ هذه معية خاصة ، أي هو معهم بالتوفيق ، معهم بالتأييد ، معهم بالنصر ، معهم بالحفظ ، معهم بالرعاية ، لو إنسان قال : سافرت إلى بلاد الغرب ومعي خمسة دولار ، تصدقه ؟ مستحيل ! لكن لو علمت أن معه إنساناً معه ملايين – لكن معي فلان - فالكلام صحيح ، فلان معه ملايين ، أو إنسان ضعيف قال : نقلت هذه الصخرة من هنا إلى هنا ، كلام غير مقبول ، لو علمت أن معه بطلاً بالوزن الثقيل أعانه عليها صار الكلام مقبولاً . 

إذا قلت : ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ أي معهم بقدرته ، معهم بعلمه ، معهم بغناه ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟ فالبطولة أن تكون مع الله ، والقضية الدقيقة أن هناك معية عامة حينما يقول الله عز وجل :

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) ﴾

[ سورة الحديد ]

أي معكم بعلمه ، هناك معية عامة ، أما إذا قال الله عز وجل : ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ هذه معية خاصة ، أي معهم بالتوفيق ، معهم بالحفظ ، معهم بالنجاح ، معهم بالإكرام ، معهم بالعطاء ، مع الخاصة رائعة جداً ، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، ﴿ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾

[ سورة التوبة  ]

هذه معية خاصة . 

 

المعية الخاصة لها ثمن وثمنها الآية التالية :


الله عز وجل يبين لنا أن هذه المعية الخاصة لها ثمن .

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)  ﴾

[ سورة المائدة ]

هذا ثمن معية الله عز وجل ، ولا تنسوا أبداً أنه إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ 

الآيات تصبح : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ .

 

دلالات القصة التالية :


أيها الإخوة الكرام ؛ في موضوع غزوة بدر ، كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام اختار لأصحابه مكاناً مناسباً في هذه الغزوة ، فجاء صحابي جليل اسمه الحُباب بن المنذر- أنا ما رأيت قصة لها دلالات كهذه القصة- قال له : يا رسول الله هذا الموقع وحي أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمشورة ؟ أي إذا كان وحياً لا أتكلم ولا كلمة ، أما إذا كان اجتهاداً لي كلام ، لكن حكمة الله المطلقة أن الله حجب عن نبيه الموقع المناسب ، حجبه عنه وحياً ، وحجبه عنه اجتهاداً ، وحجبه عنه إلهاماً ، فجاء هذا الصحابي بأدب جمٍّ قال له : يا رسول الله هذا المكان وحي أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمشورة ؟ قال له : هو الرأي والمشورة ، دقق ، قال له : والله يا رسول الله ليس بموقع ، أي موقع غير مناسب ، فالنبي الكريم ببساطة وبعفوية وبمودة قال له : أين الموقع المناسب ؟ أشار له بموقع آخر ، وأعطى أمراً لأصحابه أن ينتقلوا إلى هذا الموقع - القصة دقيقة جداً ومعبرة جداً- القصة تعني أن النبي معصوم من أن يخطئ بأفعاله ، وأقواله ، وإقراره ، لكن لحكمة بالغةٍ بالغة حجب الله عنه الموقع المناسب ، حجبه وحياً ، وحجبه إلهاماً ، وحجبه اجتهاداً ، فكان الموقع الذي اختاره لم يعجب هذا الصحابي ، فهذا الصحابي من شدة أدبه قبل أن يدلي برأيه قال له : هذا الموقع وحي أم رأي ؟ فإن كان وحياً لا أتكلم ولا كلمة ، وإن كان رأياً نصح ، الآن :

(( عن تميم بن أوس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم. ))

[ البخاري ومسلم ]

الآن النبي معصوم ، إلا أن فضيلة واحدةً لا يمكن أن تبدو منه ، فضيلة الرجوع إلى الصواب ، هو معصوم ، فكيف يظهر بهذه المكرمة وهذه الفضيلة ؟ لا بد من أن يحجب عنه الموقع المناسب وحياً ، وإلهاماً ، واجتهاداً ، ويأتي صحابي مؤدب جداً ويسأله ؟ يجيبه أن هذا الرأي والمشورة ، يقول له : ليس بموقع .

لذلك هذه القصة لها دلالات كبيرة جداً تبين أنه حتى الفضيلة التي لا يمكن أن تظهر من النبي لأنه معصوم ، الله عز وجل هيأ له ظرفاً دقيقاً ، وظهرت هذه الفضيلة ، فضيلة الإصغاء إلى الناصح ، فضيلة الرجوع إلى الصواب ، فكانت هذه القصة من معالم سيرته النبوية صلى الله عليه وسلم . 

 

من كان مع الله كان الله معه :


أما كلمة : ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ أي عندما كان في الغار ، ووصل الكفار إليه ، هو الحقيقة هناك ملمح آخر دقيق جداً هو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخد بالأسباب وكأنها كل شيء ، وتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، أخذ بالأسباب ، هيأ من يأتيه بالزاد ، من يأتيه بالأخبار ، من يمحُو الآثار ، اتجه جنوباً والمدينة شمالاً ، اتجه مساحلاً والمدينة في الداخل ، قبع في غار ثور أياماً ثلاث وقت شدة الطلب ، فكل ثغرة غطاها ، إذاً هو أخذ بالأسباب ، وهذا منهج ، أخذ بالأسباب كأنها كل شيء ، وتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.

لكن واقع العالم أن الغرب أخذ بالأسباب ، واعتمد عليها ، وألهها ، ونسي الله ، فوقع في الشرك ، وأن الشرق لم يأمر بها أصلاً فوقع في المعصية ، والصواب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .

لكن حينما وصل المطاردون إليه هناك ملمح دقيق جداً ، لو أنه أخذ بالأسباب ، واعتمد عليها ، ووصلوا إليه ، لانهارت قواه ، لكنه أخذ بالأسباب طاعة لله ، واعتمد على الله ، فلما وصلوا إليه قال له أبو بكر : " يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا " ، فقال : 

(( عن أبي بكر الصديق  قلتُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في الغارِ لو أنَّ أحدَهم ينظرُ إلى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنا تحتَ قَدَمَيْهِ فقال  : يا أبا بكرٍ ما ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهُما ؟ ))

[  سنن الترمذي حسن صحيح غريب  أخرجه البخاري  ، ومسلم  والترمذي واللفظ له ، وأحمد  ]

أي إذا كان الله معك فمن عليك ؟ أي ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ أي أنت مع الله قوي جداً ، أنت مؤمن ضعيف بمرتبة اجتماعية متدنية ، بدخل متواضع جداً ، لا يعرفك أحد ، لست مشهوراً ، أنت مغمور ، إذا كنت مع الله أنت أقوى الناس ، وأذكى الناس ، لأنك تأخذ قوة الله ، وتأخذ علم الله ، وتأخذ رحمة الله ، فالأصل أن تكون مع الله .

 

من كان مع الله أيده الله بالسكينة والطمأنينة والسعادة :


لذلك ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ كلمة مع قليلة ؟ أنت مع من ؟ أي مواطن متواضع ، دخله محدود ، ضارب آلة كاتبة ، بيته بأقصى المدينة ، بيته ستون متراً ، الملك معه ، صار أقوى من كل وزراء الملك ، فأنت يجب أن تعلم ماذا يعني أن يكون الله معك ، ولا تنس هذه المقولة : وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ 

لا تنس هذه المقولة : يا رب ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟ .

حينما تكون معه يُنزل الله على قلبك السكينة ، السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء ، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء ، هذه السكينة أكبر عطاء إلهي ، طمأنينة ، ثقة ، قوة شخصية ، سعادة ، رضا ، تفاؤل ، معنويات مرتفعة جداً ، هذه السكينة .

 

استشارة النبي الكريم أصحابه في أسرى معركة بدر :


أيها الإخوة الكرام ؛ شيء آخر : هذه الموقعة- موقعة بدر - تمّ أسر سبعين قرشياً ، فالنبي الكريم استشار أصحابه الكرام فقال : ما ترون في هؤلاء الأسرى ؟ ماذا نفعل بهم ؟ إن الله قد أمكنكم منهم ، وإنما هم إخوانكم بالأمس ؟ فقال أبو بكر : "يا رسول الله أهلك وقومك ، قد أعطاك الله الظفر ، ونصرك عليهم ، هؤلاء بنو العم ، والعشيرة ، والإخوة ، استبْقهم ، أي اعفُ عنهم ، وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم ، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم بك ، فيكونوا لك عضداً " ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما تقول يا بن الخطاب ؟

نحن أحياناً بالأخبار نسمع أن هذا الوزير من الصقور ، وهذا الوزير من الحمائم ، هناك وزير صقر ، وهناك وزير حمامة ، فلما سأل سيدنا عمر ، قال له : " يا رسول الله قد كذبوك ، وأخرجوك ، وقاتلوك ، ما أرى ما رأى أبو بكر ، أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه ، وأن تمكّن علياً من عقيل فيضرب علي عنقه ، وتمكّن حمزة من فلان حتى يضرب عنقه ، حتى ليعلم الله أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين ، هؤلاء صناديد قريش ، وأئمتهم ، وقادتهم ، فاضرب أعناقهم ، ما أرى أن يكون لك أسرى ، فإنما نحن راعون مؤلفون " ، هذا رأي الصقور ، أول رأي رأي الحمائم .

وقال عبد الله بن رواحة : "يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب ، فأضرمه عليهم ناراً " فقال العباس وهو يسمع ما يقول : " قطعت رحمك" ، قال أبو أيوب : فقلنا - أي الأنصار- : "إنما يحمل عمر ما قال حسد لنا " ، فدخل عليه الصلاة والسلام البيت ، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال أناس : يأخذ بقول عمر ، وقال أناس : يأخذ بقول عبد الله  ابن رواحة ، ثم خرج فقال : إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله تعالى ليشدد قلوب أقوام حتى تكون أشد من الحجارة .

في حياتنا اليومية ضمن الشرع هناك إنسان لين ، وهناك إنسان قاس .

مثلك يا أبا بكر في الملائكة كمثل ميكائيل يتنزل بالرحمة ، ومثلك يا أبا بكر في الأنبياء كمثل إبراهيم ، قال :

﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) ﴾

[ سورة إبراهيم  ]

ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم إذ قال :

﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) ﴾

[ سورة المائدة  ]

ومثلك يا عمر في الملائكة كمثل جبريل يتنزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله ، ومثلك في الأنبياء كمثل نوح إذ قال :

﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) ﴾

[ سورة نوح  ]

ومثلك في الأنبياء كمثل موسى إذ قال :

﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) ﴾

[ سورة يونس ]

لو اتفقتما ما خالفتكما ، لكن واحد مع الصقور ، وواحد مع الحمائم ، واحد شديد وواحد لين ، أخذ قراراً لا يَفلتَنَّ منكم أحد إِلا بِفداء ، أو ضَرب عُنُق ، ومن بين الأسرى كان عدد كبير من أغنياء قريش ، النبي أخذ قرار فداء أو قتل .

أيها الإخوة ، لذلك قال تعالى : ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ فجاء الوحي يقول : 

﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) ﴾

[ سورة الأنفال ]

أيها الإخوة الكرام ، تتمة هذه الآيات وشرحها في الدرس القادم إن شاء الله تعالى .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور