وضع داكن
27-04-2024
Logo
موضوعات في التربية - الدرس : 097 - قواعد السلوك إلى الله4 - موضوعات تتعلق بالقلب والذكر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ لازلنا في موضوعات تتعلق بالقلب، وقد قال الله عز وجل:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾

 

( سورة الشعراء )

 حينما يأتي قلبك سليماً يوم القيامة فقد فزت الفوز الكبير، لا ينفع مال حصّلته في الدنيا، ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وحينما قال الله عز وجل:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

 

 

( سورة الأنفال )

 فالحياة التي أرادها الله هي حياة القلب، الحياة التي تليق بالإنسان حياة القلب، الحياة التي يسمو بها الإنسان هي حياة القلب، الحياة التي ينجو بها الإنسان هي حياة القلب، الحياة التي خُلِق الإنسان لها هي حياة القلب، الحياة التي تنتهي به إلى جنة عرضها السماوات والأرض هي حياة القلب، فهناك إذًا قلب ميت وقلب حي، قلب مقفر وقلب غني، قلب شقي وقلب سعيد، قلب مدبر وقلب مقبل، قلب معرض وقلب موصول، ورد عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ))

 

(رواه البخاري)

 لذلك وصف ربنا عز وجل أهل الكفر بأنهم أموات غير أحياء، ولا يشعرون أيّان يُبعثون، ووصف أهل الكفر بأنهم مقبورون في الحياة الدنيا، قال تعالى:

 

﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾

 

 

( سورة فاطر )

 وقال الإمام عليٌّ كرم الله وجهه: يا بني مات خُزّان المال وهم أحياء، وهم في أعلى درجة نشاطهم ميتون، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة، إذاً لا زلنا في دروس تتعلق بحياة القلب، تحدثنا عن (الخلوة) وتحدثنا عن (الصُحبة) وتحدثنا عن (الذكر) وها نحن أولاء في هذا الدرس نتابع حديثنا عن الذكر.
أيها الإخوة الكرام ألا يكفي أن نقرأ قوله تعالى:

 

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

 

 

( سورة طه )

 الصلاة في الأصل من أجل أن تذكر الله، ألم يقل الله عز وجل:

 

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾

 

 

( سورة البقرة )

 ألم يقل الله عز وجل:

 

﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾

 

 

( سورة العنكبوت )

 أيْ: ذكر الله لك إذا ذكرته أكبرُ من ذكرك له، أنت تقول الله، لكن الله إذا ذكرك ألقى محبتك في قلوب الخلق، إذا ذكرك ملأ قلبك سعادة، إذا ذكرك ملأ قلبك طمأنينة ووفقك في حياتك وجعل قلوب المؤمنين تهفو إليك، قال تعالى:

 

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

 

 

( سورة طه )

 أيها الإخوة الكرام مما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي وَذِكْرِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ثَوَابِ السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ))

 

(رواه الترمذي والبيهقي وحسّنه الدرامي )

 أيّ إنسان سأل الله، ودعاه بدعاء عريض، وعَمِلَ بكل الأسباب فلن يصل إلى مبتغاه كمن شُغِل عن دنياه بذكر الله، ومن طلب العلم تكفل الله له برزقه، أيْ: محالٌ أن تذكره وأن ينساك، محالٌ أن تذكره وأن تعاني مشكلات كنت في غنى عنها، إذاً من شغله قراءة القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين.
 هذا الموضوع إخواننا الكرام يقودنا إلى فكرة هي: زكاة الوقت، فأنت حينما تقتطع من وقتك وقتاً لذكر الله، أو لقراءة القرآن، أو لسماع تفسير القرآن، أو لقراءة الحديث، أو لسماع تفسير الحديث، أو لمعرفة الحكم الفقهي، أو لمعرفة سير الصحابة، حينما تقتطع من وقتك وقتاً لمعرفة الله، ومعرفة الأسباب المؤدية إليه، ماذا يفعل الله معك ؟ يبارك لك ببقية وقتك، كيف حال الذي يؤدي زكاة ماله ؟ إذا دفع زكاة ماله حفظ الله له بقية ماله، أولاً، قال تعالى:

 

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾

 

 

( سورة التوبة )

 تزكيهم أي تنمي أموالهم، الله عز وجل يحفظ لك بقية الوقت إذا أديت زكاة وقتك، ويبارك لك في هذا الوقت، الله عز وجل قادر وهو على كل شيء قدير، أن يُستهلك وقتك الثمين لأتفه الأسباب، أي خطأ طفيف في آلة عندك، يمكن أن تستهلك من وقتك مائة ساعة لإصلاحها، خطأ طفيف، لو أن ابنك بَلِعَ قطعة معدنية، لاحتاج الأمر إلى تصوير، وإلى إجراء عملية أحياناً، وإلى مستشفى، وإلى تخدير، وإلى تصوير طبقي، قد يتكلف عشرة آلاف ليرة أو أكثر، أي يجب أن تعلم أن الله عز وجل قادر على أن يتبدد وقتك، ويُستهلك لأتفه الأسباب.
ذات مرةٍ سافر شخص بسيارة، نصحته بالمحافظة على الصلوات، وصل إلى بلد بين الشام والخليج عن طريق السعودية، وصل إلى بلد وكان من الأفضل أن يصلي الجمعة في هذا البلد، تذكر نصيحتي ثم قال: يجب أن أقطع المسافة فلم يصلِّ، بعد حين وصل إلى استراحة وقد تعب كثيراً من القيادة، وأراد أن يرتاح، وبعد أن ارتاح قليلا دخل الحمام ثم تابع سفره، وبعد أن قطع حوالي مائة وثمانين كيلو مترًا تذكر أنه نسي جواز سفره في الاستراحة، قال لي: كلفني تركُ الصلاة ثلاثمائة وستين كيلومترًا، وهناك آلاف الأمثلة، إذ يمكن وأنت تركِّب آلة أن تخطئ بحركة، فتعيد العمل من أوّله مثلاً، وأنت على الحاسوب تخطئ خطأً يبدد عمل عشر ساعات، فأنا أضرب لكم أمثلة بأن الله عز وجل قادر أن يجعل وقتك يُستهلك لأسباب سخيفة وتافهة، أحياناً يمرض ابنك فتأخذه من طبيب إلى طبيب، ومن تحليل إلى تحليل، وبعد أيام وتكلفة ثمانية عشر ألفًا يشفيه الله، يا ليته لم يمرض، لكن يبارك الله لك في وقتك إذا اقتطعت وقتاً من وقتك الثمين لذكر الله، ولطلب العلم ولحضور مجالس العلم، حفظ الله لك بقية وقتك كما يحفظ ربنا للمزكي بقية ماله، ثم بارك لك في هذا الوقت كما ينمي ربنا للمزكي ماله، كيف تكون بركة الوقت ؟ تكون بأنْ تنجز عملاً أكبر في وقت قليل، بعض العلماء قسموا الكتب التي ألّفوها في حياتهم على أيام حياتهم منذ أن ولدوا فوجدوا أنهم كتبوا كل يوم بحدود تسعين صفحة، هل تستطيع أن تقرأ في اليوم عشر صفحات، تقرأ فقط، بينما هو كتب تأليفاً لا نسخا تسعين صفحة، إخواننا الكرام بركة الوقت شيء لا يُصدق، أحياناً يجعلك الله عز وجل تنجز إنجازاً كبيراً جداً في وقت قليل جداً لأنك اقتطعت من وقتك الثمين وقتاً لذكر الله، وقتاً لقراءة القرآن، وقتاً لتعلم القرآن وحضور مجالس العلم، فلا تنسَ مَثَلَ الزكاة، فكما أنه يجب أن تؤدي زكاة مالك يجب أن تؤدي زكاة وقتك، أداء الصلوات الخمس نوع من أداء زكاة الوقت، طلب العلم نوع من أداء زكاة الوقت، قراءة القرآن نوع من أداء زكاة الوقت، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من أداء زكاة الوقت، وكل من يؤدي زكاة وقته يحفظ الله له وقته من التلف ويبارك فيه، أنا ضربت مثالين أو ثلاثة، ولكن هناك ألف مثال، أصحاب الحرف، أصحاب الصناعات، أصحاب المعاملات، جاء أخ من حلب إلى الشام بمعاملة، وعندما وصل إلى الموظف المختص قال له: هذه المعاملة ينقصها توقيع أمين السجل المدني في حلب، لا حول ولا قوة إلا بالله، خمس ساعات ذهبت هدراً، وخمس ساعات عودة كذلك، ويوم في حلب لتوقيع المعاملة من أمين السجل المدني، فالله قادر أن يجعل وقتك يُستهلك لأتفه الأسباب، لنسيان بسيط، قال لي رجل يعمل في المحركات: بعد أن جهّزت المحرك واستهلك تركيبه من وقتي تسع ساعات نسيت تركيب قشرة، يكون أول عمل، عاد ففك المحرك كله ووضع القشرة، وقال لي شخص آخر: تركت مجلس علم عن قصد، عليه ضغط فاستجاب لهذا الضغط وأخذ أهله في نزهة، هو يخرج يوم الثلاثاء إلى نزهة، ولكنه أضاف إلى يوم الثلاثاء يوم الجمعة قال لي: لقد ضحيت بالخطبة وبالدرس، ثم قال: وبينما كنت أريد تعبئة وعاء أمام نبع ماء، أقبل علي شاب وأخذ هذا الوعاء وملأه عني، فشكرته شكراً عميقاً على هذا الأدب ثم تفقدت محفظتي فإذا هي قد سرقت، قال لي: لم يزعجني إلا فقدان الهوية، والميكانيك وشهادة القيادة، فقضيت سبعة أشهر وأنا أحاول أن أجدد هذه الوثائق من مكان إلى مكان، ومن دائرة إلى دائرة، ومن فرع إلى فرع، لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

(("هم في مساجدهم والله في حوائجهم))

 أكرر ثانية: حينما تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لذكر الله، لتلاوة القرآن، لحضور مجالس العلم، للأمر بالمعروف، للدعوة إلى الله، فهذا الوقت الثمين الذي اقتطعته من وقتك أولاً حفظ لك بقية الوقت، ثانياً بارك الله لك في كل وقتك، هذه واحدة، واذكرْ قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

((مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي وَذِكْرِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ثَوَابِ السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ))

 

(رواه الترمذي والبيهقي وحسّنه الدرامي )

 وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:

 

(( يَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: سَيُعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ الْيَوْمَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ، فَقِيلَ: وَمَنْ أَهْلُ الْكَرَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَهْلُ الذِّكْرِ فِي الْمَسَاجِدِ ))

 

(رواه أحمد)

 أيْ: إذا شرح الله صدر إنسان لمجالس العلم، وفي هذا المجلس استقى العلم والأدب، واطمأن قلبه بذكر الله، وعرف موقعه في الحياة الدنيا، وعرف سر وجوده، والمنهج الأمثل، وعرف طريق سعادته وفوزه، وطريق الجنة، فهذا من الموفقين، فالأخ الذي له مجلس علم، وأدَّبه الله بهذا المجلس، ورفع ذكره، وملأ قلبه غنى، ونوّر عقله، لن يعرف قيمة نفسه إلا إذا جلس مع صديق له شارد عن منهج الله من سنه، اجلس معه، انظر إلى حديثه، إلى مزاحه، ومنطقه وأفكاره، وتصوراته وعقيدته، وإلى سلوكه واحتياله، لا تعرف قيمتك إلا إذا جلست مع من هو في سنك على غير شاكلتك، لذلك فالإنسان ينبغي عليه أن يصاحب أهل الإيمان ليرقى بهم، أما إذا أراد أن يعرف ما أعطاه الله من الدنيا فلينظر إلى أهل الحرمان، لا تنظر إلى من هو أعلى منك فذلك أحرى ألاّ تحتقر نعمة الله عليك، وفي حديثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلاً قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ))

 

(رواه أحمد)

 العجيب أن كل عبادة لها شروط، فالصلاة لها وضوء، دخول وقت، استقبال القبلة، طهارة الجسم، طهارة الثياب، وطهارة المكان، هذه الصلاة، أما الصيام فهو الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، هذا هو الصيام، الحج هناك الإحرامُ، وهناك طوافُ القدوم، والوقوفُ بعرفة، وطوافُ الإفاضة، والبعدُ عن المحظورات كالطيب، والحلاقةُ، وما إلى ذلك، إلا الذكر ليس له أي شرط تستطيع أن تذكر الله في كل وقت، وفي أي وضع، قائماً، جالساً، نائماً، طاهراً، جنباً، مستلقياً، مقيماً، مسافرًا، مقبلاً، مدبراً، ليس له شرط، إذًا ليس هناك عذر مقبول في ترك الذكر، والمؤمن الذي نجا من عذاب النار هل يندم ؟ نعم، يندم على ساعة مضت لم يذكر الله فيها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:

 

((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ))

 

(متفق عليه)

 وأنا معه، ما معنى أن يكون الله معك ؟ إذا كان الله معك فمن عليك، من يجرؤ أن يكون عليك، من يجرؤ أن يكون ضدك، وإذا كان عليك فمن معك ؟ أنت إذا ذكرت الله كان الله معك، ومن كان الله معه فاز في الدنيا والآخرة.
ومرة ثانية إخواني الكرام ؛ وللتوضيح كلمة الذكر واسعة المفهوم، قد تسع كل نشاطات المسلم، إذا صلى ذ كر، لأنه قال تعالى:

 

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

 

( سورة طه )

 إذا قرأ كتاب فقه ذكر، لأن كتاب الفقه يوصله إلى أحكام الفقه، وإلى طاعة الله عز وجل، إذا قرأ سيرة فهو ذكر لأنه يرى الإسلام مجسداً في أشخاص، إسلام عملي، وهل إذا قرأ القرآن ذَكَر ؟ نعم، قال تعالى:

 

﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)﴾

 

 

( سورة المزمل )

 إذا جلس يستمع إلى العلم فهو ذكر، أيّ نشاط يقربك من الله فهو ذكر، وأيّ نشاط يبعدك عن الله فهو لهو، قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)﴾

 

 

( سورة المنافقون )

 هناك نشاط مبعد ونشاط مقرب، فأيُّ نشاط مقرب هو من نوع الذكر، والله أعلم، فالمؤمن إذا ارتقى يأتي عليه حال لا ينطق لسانه إلا بذكر الله، أينما جلس لا يرى شيئاً يستحق أن يهتم به إلا أن يذكر الله عز وجل، عندئذ يغدو ولياً لله، فإذا رئي ذكر الله به، أكرر: إذا رؤي ذكر الله برؤيته وعند رؤيته، ورد عن رسول الله أن أولياء أمتي إذا رُؤوا ذكر الله بهم، أنت علامة تشير إلى الدين، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

((مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ لاَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلاَّ وَجْهَهُ إِلاَّ نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ ))

 

(رواه أحمد)

 سألني أحدهم منذ أيام عن قوله عليه الصلاة و السلام:

 

(( هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ))

 

(رواه مسلم عن أبي هريرة)

 كان أحدهم على موعد مع شخص في المسجد له معه حساب، وشعر أنه قد يجده في المسجد، فقصد هذا المسجد ليلتقي به، فيطالبه بالحساب، هل يشمله الحديث ؟ ليس له علاقة بالدين إطلاقاً، بل جاء إلى المسجد كي يطالب فلانًا بديْن، استمعوا إلى هذه القصة ذكرتها البارحة فيما أذكر، وفيها الجواب، دعاني أحد الإخوة الكرام إلى بيته قبل سنتين، شكله ليس بعيداً عني، فلما وصلت إلى بيته قلت: أنت من أي وقت عرفت هذا المسجد، قال كان لي مع أخ من إخواني مبلغ من المال، ولم أستطع أن أصل إليه، ثم أخبروني أنه يحضر درس الجمعة في جامع النابلسي، فعند المغرب أتيت إلى المسجد لألتقي به، وأطالبه بهذا المبلغ، وتصورت أنني عند المغرب أستطيع أن ألتقي به، لكني لم أره في المسجد، قلت في نفسي: لعلي ألتقي به عند صلاة العشاء، جلست واستمعت للدرس، ثم قال: واللهِ هذه السنة الثامنة التي ما غبت خلالها عن درس واحدٍ، هؤلاء هم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، طلبنا العلم لغير الله، أو طلبنا المسجد لغير الله فأبى العلم أو أبى المسجد إلا أن يكون لله فأنت كيفما تقربت من بيت الله فلك أجر وقد تستفيد، وكم من إنسان اهتدى إلى الله بشكل عابر، كانت زيارة المسجد سببًا لهدايته، العلماء لهم أقوال كثيرة في الذكر وكملخص لهذه الأقوال قول الله عز وجل:

 

﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (103)﴾

 

 

( سورة النساء )

 وهناك آية ثانية:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)﴾

 

 

( سورة الأنفال )

 العلماء قالوا: ما دام قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، أيْ: في كل أحوالهم، وأنت واقف، ماشٍ، جالس، قاعد، نائم، مضطجع، في كل أحوالك، أما الآية الثانية: ذكراً كثيراً ؛ أيْ: بالليل والنهار، وفي البر والبحر، وفي السفر والحضر، وفي الغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، وفي السر والعلانية وعلى كل حال، ذكر الله يدور معكم أينما سرتم، في كل أحوالكم وكل نشاطاتكم وكل أطواركم وكل سني حياتكم، ابن عطاء الله السكندري يقول: الذكر هو التخلص من الغفلة والنسيان بدوام حضور القلب مع الحق، وقيل: ترديد اسم الله بالقلب واللسان، أو ترديد صفة من صفاته، أو حكم من أحكامه، أو فعل من أفعاله، أو غير ذلك مما يتقرب إلى الله به، فمجال الذكر واسع، الذكر تحقيق الإرادة وعلامة صحة البداية ودلالة صفاء النهاية فليس وراء الذكر شيء، وجميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر ومنشؤها عن الذكر، لذلك العالِم الكبير الذي توفاه الله عز وجل وقد رآه أحد تلاميذه، قال: يا سيدي ماذا فعل الله بك، قال: يا بني راحت تلك العبارات وذهبت تلك الإشارات ولم يبق إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل، فالذي يبقى هو الذكر، قال بعض العلماء: الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى، المركبة مثلاً فيها أشياء كثيرة قدا يُستغنى عنها، هناك منصب يوضع على ظهرها يُستغنى عنه، أما المحرك، الوقود، المقود، المكبح، أساسيات في المركبة، لكن الفرش، الصندوق، بعض الأشياء التزيينية هذه يُستغنى عنها، الذكر في طريق الإيمان كالمحرك، ركن أساسي في طريق الحق سبحانه وتعالى بل هو العمدة في هذا الطريق ولا يصل أحد إلى الله إلا بدوام الذكر لأن الله عز وجل يقول:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)﴾

 

 

( سورة الأحزاب )

 ابن قيّم الجوزية وهو من أكبر العلماء يقول: لا ريب أنّ القلب يصدأ كما يصدأ الحديد، فأحياناً قد يملُّ الإنسان حياته، يملّ عمله، يمل علاقاته الاجتماعية، يملّ مَن حوله، والنبي عليه الصلاة والسلام عبّر عن هذا بصدأ القلب:

 

(( إن القلوب لتصدأ، قيل: وما جلاؤها، قال: ذكر الله ))

 

(كنز العمال)

 لا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يصيِّره كالمرآة البيضاء، ولكني أتمنى على إخواننا الكرام أن يتبينوا ويتحسسوا فيما إذا كان صافياً أو مكدّراً، والذي ليس عنده حساسية فمشكلته كبيرة هناك شخص لا يعلم لأنه بعيد عن هذا المجال، أما الذي عنده هذه الحساسية البالغة يميز بين قلب صافٍ كالمرآة، وبين قلب مكدر كالماء العكر، فقلب الإنسان قد يصفو، وقد يمتلئ حباً وقد يمتلئ شوقاً إلى الله عز وجل وقد يمتلئ إخلاصاً كقوله تعالى:

 

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

 

 

( سورة الشعراء )

 إنّ القلب إذا تُرك من دون ذكر صدِئ، فإذا ذكر الله جُلي هذا القلب، فالقلب يصدأ بحالتين في رأي ابن قيّم الجوزية يصدأ بالغفلة ويصدأ بالذنب، هذا معنى جديد الآن، فالشخص الذي ليس له معصية ولكنه غافل عبادته شكلية، وهذا يصدأ لغفلته، وقد يصدأ بالذنب، الذنب حجاب، والغفلة حجاب، فالذي يسبب صدأ القلب الغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين ؛ الاستغفار والذكر، الذنب نستغفر منه والغفلة نذكر الله فتجلو، المرضان لهما علاجان، الغفلة دواؤها الذكر، والذنب دواؤه الاستغفار قال: فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكماً على قلبه، أحياناً تجلس مع شخص غليظ، تعليقاته لاذعة، نظراته وقحة، ظله ثقيل، يتطاول على الآخرين، ليس عنده رقة، نقول: هذا قلبه يعلوه الصدأ ويغشاه، ابتعد عن الله فذهب عنه الكمال، فإن اقترب من الله اصطبغ بالكمال، أنت كامل بقدر اتصالك بالله، وأنت ناقص بقدر بعدك عن الله، فكلما اقتربت من الله ازددت كمالاً، الصحابة الكرام أحبوا النبي محبة لا توصف، لماذا أحبوه ؟ لأنه أكرم الخلق، ما رؤي ماداً رجليه قط، حدثني أخ قال لي: في بعض المساجد في أثناء درس العلم ترى مَن يمد رجليه، ومرة حدثني أخ آخر فقال: والله في مجلس علم لم يكتفِ أحدهم بمد ساقيه بل اضطجع، والنبي عليه الصلاة والسلام ما رؤي في كل حياته ماداً رجليه قط، ولا حمّر وجهاً، قال الرسول الكريم:

 

(( لا تحمروا الوجوه ))

 وكان يخجل ويصطبغ وجهه بالحمرة كالعذراء في خدرها، بل كان أشد حياءً منها، عنده خجل، فاعلم الإيمان يربي اللسان، أحياناً تجلس مع إنسان أربعين سنة أو أكثر لا تسمع منه كلمة نابية، ولا تعليقًا فاحشًا، ولا نكتة ملغومة أبداً، من علامة الإيمان ضبط اللسان، قال الرسول:

 

 

((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلاَ يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))

 

(رواه أحمد)

 وعلامة المؤمن أن لسانه مضبوط، قال تعالى:

 

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)﴾

 

 

( سورة المؤمنون )

 فمن ابتغى وراء ذلك، هل هذه الكلمة في هذه الآية تجرح الحياء، تخجل، افتح أي كتاب فقه تجد أن هناك كلمات محرجة ومخجلة، العورات بأسمائها، والأفعال القبيحة بأوصافها، هذا في كتب الفقه أحياناً، أما في القرآن قوله تعالى:

 

﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)﴾

 

( سورة المؤمنون )

 عندما يكون عند الإنسان حياء من الله عز وجل فإنّ الله يلهمه أجمل كلمة وألطفها، وأبعدها عن الفحش، قال لها: يا بنيتي إنّ هذه الثياب تصف حجم عظامك، وابحث عن كلمة بديلة، فأي كلمة مثيرة، لكن حجم عظامك، العظام كلمة منَفّرة، وليست مثيرة إطلاقاً، أراد أحدهم أن يتغزل فقال:

 

إنّ سلمى خُلقت من قصب  قصب السكر لا عظم الجمل
وإذا قربت منها بصــلاً غلب  المسك على ريح البصل

 هذا غزل مطبخي في الحقيقة، بصل وجمل وعظم وهذا البيت شاهد على أنّ الكلمات لا تناسب المعنى، أما النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: يا بنيتي إنّ هذه الثياب تصف حجم عظامك، انظر إلى دقة هذه الكلمة، فالمؤمن يقلِّد النبي عليه الصلاة والسلام، أنا والله لا أصدق، قد يقال لي ولكن لا أصدق: إنَّ مؤمنًا كلامه بذيء، أخ يذكر عورة بلسانه، يذكر العمل الفاحش بتفاصيله، مؤمن أعوذ بالله، فالواحد لا يعرف حقيقة إيمانه إلا إذا صاحب أهل الدنيا، أخ سافر مرة في رحلة جماعية، والعياذ بالله، فقال: سمعت تعليقات بذيئة، وطُرفًا جنسية، وقال: والله يندى لها الجبين، كلهم أشخاص محترمون، مثقفون، يشغلون أعمالاً طيبة في المجتمع، ذهبوا في رحلة جماعية والعياذ بالله، معهم أطفال ونساء، وما ارعوَوا عن فاحش من الكلام، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

((لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلاَ يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.))

 

(رواه أحمد)

 والمؤمن الكامل يضبط لسانه، وينتقي أجمل كلمة وألطفها، قال: فمن كانت الغفلة أفضل أوقاته كان الصدأ متراكماً على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلبُ لم تنطبع فيه صورة المعلومات على ما هي عليه، ذكرت من مدة أن المرآة الصافية الصقيلة المستوبة تنقل لك الصورة بأمانة، أما إنْ كانت مقعرة تكبر، وإنْ كانت محدبة تصغر، وإنْ كانت تالفة تشوه الصورة، فإذا صدئ القلب شوَّه الحقائق، فإذا تراكم الصدأ عليه، واسود ركبه الران، فهذا معنى قوله تعالى:

 

﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾

 

( سورة المطففين )

 قالوا: فسد تصوره وإدراكه، وبعدُ فأكبر مصيبة على الإطلاق أنَّ هذا القلب الذي علاه الصدأ لا يقبل حقاً، ولا ينكر باطلاً، قال لي شخص: لقد أرسلت زوجتي مع السائق من جدة إلى الشام، وتابع قائلا: إنه طيب، فهل هذا معقول، وحدهما ومن جدة إلى الشام، ولم ينكر باطلاً، وبعض الناس يقول: ما الذي حدث، لن يفعل لك شيئًا، لا يقبل حقاً، ولا ينكر باطلاً، قال العلماء: وهذا من أعظم عقوبات القلب، أكبر عقاب يعاقب به القلب أنه أصبح مغطىً بالران، يرفض الحق ولا ينكر الباطل، لم يعد ينكر الباطل، فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره، والآن اسمع هذه الآية الكريمة، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28﴾

 

( سورة الكهف )

 قد يسأل سائل: أغفلنا قلبه، إذاً ليس له ذنب، فالله هو الذي أغفله ولا ذنب لصاحبه، فلولا أن الله أغفله لما كان غافلاً، فكيف يحاسبه ؟ افتح معاجم اللغة، قبل نزول القرآن، ما معنى فَعَلَ أفعلَهُ ؟ ما معنى أغفلنا ؟ أي وجدناه غافلاً فقط، هناك فرق بين أن تفهم هذا الفعل على أن الله خلق في قلبه الغفلة، وبين أنه نظر إليه فوجده غافلاً، فعل أفعله أي وجده هكذا، عاشرت هذه القبيلة فما أبخلتهم، أي ما وجدتهم بخلاء، وما أجبنتهم، أي ما وجدتهم جبناء، هذا قول ابن قيّم الجوزية في الذكر، وفخر الدين الرازي يقول: قال تعالى:

 

﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾

 

( سورة الأعراف )

 إن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله، إذا أمضى الإنسان كل وقته إما في البيع والشراء، أو في الجلوس وراء هذه الشاشة الصغيرة حتى منتصف الليل، ينام كالبهيمة، يستيقظ على الأخبار، يأكل ثم يذهب إلى عمله، بيع وشراء في النهار، وفي المساء وراء الشاشة إلى أن يأتيه ملك الموت، أليس هذا غافلاً، بلى هذه هي الغفلة، شيء آخر ؛ الإنسان وعاء، فما الذي يملأ هذا الوعاء ؟ هذه الشاشة، إذا أراد أن يتكلم يتكلم من هذا الغذاء الذي تغذاه، فلانة وفلان، هذا كلّ حديثهم، والقصة الفلانية، والمسرحية الفلانية، والمسلسل الفلاني، ليس لديه حديث آخر، الشاشة تغذيه وهو إذا تكلم تكلم من الذي تغذى منه، هذا إنسان غافل، أما لو كان القرآن فإنه يغذيه، والسنة تغذيه، وسير الصحابة تغذيه، ولمَا تكلم إلا بالحق، ضع في ذهنك هذا المثل ؛ وهو وعاء الماء، له فتحة في الأعلى وصنبور في الأسفل، الذي يوضع فيه في الأعلى يخرج من هذا الصنبور، فعندما تتكلم تتكلم بحسب التغذية، بماذا غذيت نفسك ؟ بمجلس علم عندك حق، لك مجلس علم عندك قرآن، لك شاشة عندك مضمون الشاشة، هناك قنوات ماء زلال، وهناك قنوات مجارٍ، قال الإمام فخر الدين الرازي: إن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله، والمُخَلِّص من عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى، وأصحاب الذوق والمشاهدة يجدون من أرواحهم أن الأمر كذلك، فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها، وقع في باب الحرص وزمهرير الحرمان، ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة، فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله تعالى، ومعرفة الله تخلص من نيران الآفات، ومن حسرات الخسارات، واستشعر بمعرفة رب الأرض والسماوات، هناك صفة في الإنسان تُدعى الديناميكية، المترجم الحركية، أي الإنسان حركي، أي الطاعة تقوده إلى طاعة أكبر، سأل سيدنا أبو ذر النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال: إيمان بالله، ثم قال: مع الإيمان عمل، ثم قال: أن تعطي مما أعطاك الله، إنفاق، تنفق مالك، تنفق علمك، تنفق قوتك وجاهك، تنفق خبرتك، قال له: فإن كان لا يستطيع قال: أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، قال: فإن كان لا يقدر، قال: فليُعِنْ الأخرق ؛ ساعدْ إنسانًا ضعيفًا، قال: فإن كان لا يقدر، فقال عليه الصلاة والسلام: فليمسك أذاه عن الناس، فجاءه سؤال محرج ؛ أَوَ إِنْ فعل هذا دخل الجنة ؟ إن قال: نعم، أيْ لا يؤذي أحدًا فإنه سيصل إلى الجنة، لم يفعل شيئاً، ولكن لا يؤذي أحداً، طالب دخل إلى المدرسة ولم يضرب أحدًا من زملائه، وقال:، نجحوني، ولكن أنت لم تقرأ أبداً، ولكن أنا لم أؤذِ أحداً، إنه منطق مضحك، قال: أو إن فعل هذا دخل الجنة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ما من عبد مسلم يصيب خصلة من هذه الخصال حتى أخذت بيده حتى تدخله الجنة، الإنسان حركي ديناميكي، كل عمل صالح يقوده إلى عمل أكبر، فإذا الإنسان بدأ بداية طيبة، ينتهي نهاية طيبة، بالمقابل والإنسان حركي، كلما عمل معصية تقوده إلى معصية أكبر، نظرة فابتسامة فموعد فلقاء، والأجانب ملّوا من هذه الإباحية، فاتجهوا إلى الجنس المِثْلي، وملّوا هذا الجنس المثلي فاتجهوا إلى البهائم، شيء لا يصدق، انحطاط الناس شيء لا يصدق، المتفلتين، لأن الإنسان حركي، كلما عمل معصية يملها يريد شيئًا أبلغ، وأشنع، وأفحش، والإنسان كلمة حركية حيادية، فإذا اتجهت نحو الله تنقلك من حال إلى حال وإن اتجه الإنسان نحو المعصية تنقله الحركية من حال إلى حال، نحو الأسفل، ويقول أحد العلماء أيضاً: الخواص ثابتة في الأقوال والأفعال والأعيان، أعظمها خواص الأذكار، ما عَمِلَ آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، وقد جعلها الله للأشياء، كالأشربة، لكلٍّ ما يخصه، أي لا شيء ينجيك من عذاب الله كأن تذكر الله، يا ابن آدم إن ذكرتني شكرتني، وإذا نسيتني كفرتني، قال يا ربّ: أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحَبُّ عبادي إلي تقيُّ القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا ربّ إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال: ذكِّرهم بآلائي ونعمائي وبلائي، هذا منهج الدعاء ذكرهم بآلائي بالكون، ونعمائي بالعطاء، وبلائي بالعقاب، التقيت منذ مدة مع شخص فاستنصحني، وله عمل يمكن أن يؤذي به، قـلت له: كل هؤلاء الناس عباد الله، وعند الله أمراض خبيثة، وعنده خثرة في الدماغ، وتشمع بالكبد، وفشل كلوي وشلل، فقدُ ذاكرة وعقل، كُساح، خلل بالسير، أخ جاءني من بلد بعيد من أمريكا، التقيت به اليوم، فقال: لي أخ يعمل عملاً من أسوأ الأعمال، عملاً متعلقًا بالأفلام والمونتاج، ثم قال: إنه قد سمع في شريط قوله تعالى:

 

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾

 

( سورة البروج )

 وقال: لقد سمعه نحوًا من خمسين مرة، وتاب عقب سماع هذا الشريط، فقلت: ما الذي لفت نظره في هذا الشريط غير الآية، قال لي: قصة رويتها، رويتُها أنا في الشريط، رجل مقيم في أحد أحياء دمشق، وله رغبة في الصيف بأن يتمشى في طريق الصالحية عصراً، لا يفعل شيئاً، إلا أنه يُمتّع عينيه بمنظر الغاديات والرائحات والمتفلتات، يصعد إلى منطقة الجسر، ويعود إلى بوابة الصالحية مرتين فقط، وعنده زوجة وأولاد وبنات متزوجات، هذه رغبته، وهذا ميله، بعد سنوات عدة أصيب بمرض ارتخاء الجفون، لا يستطيع أن ينظر إلى إنسان إلا إذا أمسك جفنيه بيديه ورفعهما، ثم قال: إنّ هذه القصة التي وردت في الشريط مع قوله تعالى:

 

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾

 

( سورة البروج )

 هذا الشريط هو سبب هداية أخي، وكرَّر: لقد أعاد الشريط خمسين مرة، وتاب إلى الله عز وجل، فمادام هناك بحبوحة لدى الإنسان في حياته فباب التوبة فسيح، احفظ الله يحفظك، قال له: يا سيدي ما هذه الصحة ؟ ستة وتسعون عاماً، قامة منتصبة، ونظر حاد، وسمع مرهف، وذاكرة قوية، وأسنانك في فمك، وأنت وزوجتك، قال له: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً، كلٌّ منا يتمنى شيخوخة مشرقة، صحة وعافية، يتمتع بصحته إلى آخر سنوات حياته، هذا طلب كل واحد منا ثمن هذا الطاعة، احفظ الله يحفظك، احفظ هذه العين من أن تنظر إلى حرام، من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم، احفظ هذه الأذن من أن تسمع حرامًا، احفظ هذا اللسان من أن ينطق بالباطل، احفظ هذه اليد من أن تبطش، احفظ هذه القدم من أن تسير إلى معصية احفظ الله يحفظك، قال تعالى:

 

﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)﴾

 

( سورة يوسف )

 أيها الإخوة في درس قادم إن شاء الله عز وجل نصل إلى درس هام في الذكر، وهو أقسام الذكر ؛ الذكر الخفي، والذكر الجهري، سنبسط القول وشرح ما جاء في الأحاديث، حول الذكر الخفي والجهري، إن شاء الله تعالى.

تحميل النص

إخفاء الصور