وضع داكن
20-04-2024
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 43 - الإيمان باليوم الآخر 1- من لوازم الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

يوجد حقائق ضرورية في الكون لا بد من أن يعرفها الإنسان:

1- أصل هذا الخلق:

 أنهينا في الدروس السابقة الإيمان بالله، والملائكة، والكتاب، والرسل, وبقي علينا الإيمان باليوم الآخر, والشيء الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى حينما يذكر أركان الإيمان في القرآن كثيراً ما يقرن الإيمان بالله مع الإيمان باليوم الآخر, وكأن الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر متلازمان، لذلك لن نستطيع الحديث عن الإيمان باليوم الآخر قبل عدة مقدمات ضرورية جداً، فالتمهيد للإيمان باليوم الآخر يقتضي بعض الحقائق التي يجب أن توضع بين يدي المستمعين
 الله سبحانه وتعالى خلق الخلق, فمَن هذا الخلق؟ وما هذا الخلق؟ إنه أنواع متعددة, قال تعالى:

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾

(سورة الأحزاب الآية: 72)

  الأرض جماد فيها معادن، فيها أشباه معادن، فيها جبال، فيها سهول، فيها صحارى، فيها بحار، هناك في السماء الكواكب، والنجوم، والمجرات، هذا كله من نوع الجماد، وهناك الحيوان, وله طبيعة خاصة، وهناك النبات، وهناك الملائكة، وهناك الجن، وهناك الإنس، فالمخلوقات متنوعة، ولا بد أن تكون للإنسان خصائص يتميز بها عن بقية المخلوقات، ومِن أبرز خصائصه أنه من الإنس، والجن يتمتعون بحرية الاختيار، بينما المخلوقات الأخرى لا تملك هذه الحرية، الإنس والجن يتمتعون بقوة إدراكية، لأنّ الله سبحانه وتعالى زَوّد الإنسان بالعقل, الذي هو قوة إدراكية نَعرف به الخير من الشر، والحق من الباطل، والصالح من الطالح،والنافع من الضار, ولولا هذه القوة الإدراكية لما امتاز الإنسان عن الحيوان، ضع لحماً عادياً أمام الحيوان، ثم ضع لحم خنزير أمامه، هل يملك هذا الحيوان قدرة أو قوة إدراكية على التمييز بينهما؟ أمّا الإنسان فيملكها، لأنه يملك حرية الاختيار، وهذا شيء قاطع، وهل يُعقل أن يُكلَّف الإنسان بالأمر والنهي, وهو لا يملك حرية الاختيار؟ شيء لا يمكن أن يكون, الإنسان يملك القدرة الظاهرة على تنفيذ بعض الأفعال التي يريدها، لو تعمّقنا في التوحيد لوجدنا أنّ الفعل بيد الله، لكن فيما يبدو لنا أن الإنسان يملك قوة ظاهرة على تنفيذ ما يريد, أراد أن يسير، إذاً: يسير، أراد أن يقوم، إذاً: يقوم، هكذا فيما يبدو, الإنسان مفطور فطرة عالية، فطرة كاملة على حب الخير، على حب العدل، على حب الرحمة، على حب الإحسان، أن يكون الإنسان رحيماً شيء، وأن يكون مفطوراً على حب الرحمة شيء آخر، أن تحب الرحمة هذا شيء فطري غير كسبي، أما أن تكون رحيماً فهذا شيء كسبي بعد أن تتعرف إلى الله عزّ وجل، وأن تستقيم على أمره، وأن تعمل صالحاً، وأن تقبل عليه، عندئذٍ يصطبغ قلبك بالرحمة، هذه هي الرحمة، القرآن الكريم, ميّز بين الفطرة، وبين الصبغة، فقال سبحانه:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

(سورة الروم الآية: 30)

 الفطرة بلا كسب، وأما الصبغة فهي كسب، قال تعالى:

 

﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾

(سورة البقرة الآية: 138)

 

2- لماذا أعطى الله الإنسان العقل وحرية الإرادة والاختيار ؟

  لماذا خُلق الإنسان على هذه الشاكلة؟ هذه ميزات تفتقر إليها أكثر المخلوقات، قد يبدو هذا واضحاً حينما عرض الله عزّ وجل الأمانة على السموات والأرض والجبال، وحينما أَبيْنَ أن يَحملنَها لأنهنَّ أشفقن منها، وحملها الإنسان, هذه هي الأمانة, أي التكليف, وكأن الله عزّ وجل عَرَضَ على مخلوقاته حينما خلقهم مرتبة عالية من الإدراك، ومن السعادة، ومن الخلود, لكن هذه المرتبة العالية لها ثمن، والثمن هو حمْلُ الأمانة، فإنْ نجح الإنسان، وحقَّق هذه المهمة، وحمل الأمانة، ونجح في حملها، استحق مرتبة لا يدانيه فيها مخلوق في الكون، لذلك قال الله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾

(سورة البيّنة الآية: 7)

  فإن لم يحقِّق هذه المهمة، ولم ينجح في حَمْلِ الأمانة, كانَ أشقى مخلوق خَلَقَه الله عزّ وجل, إما أنه خير البرية، وإما أنه شر البرية, لا يوجد حالة وسط بينهما, قال الله:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾

(سورة البيّنة الآية: 6)

  لأن الإنسان قَبِلَ حمل الأمانة، وقَبِلَ التكليف، وقَبِلَ أن يكون حراً في اختياره، وقَبِل أن يزود بشهواته، ولأنه قَبِلَ التكليف، وقَبِل أن يزوَّد بعقل إدراكي، وأن يزوَّد بفطرة عالية، وأن يزوَّد بقدرة ظاهرة على تحقيق ما يريد، لأنه قَبِلَ كلَّ ذلك رفَعَه الله سبحانه وتعالى فوق كل الخلق، قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

(سورة الإسراء الآية: 70)

  لأنه قَبِلَ حَمْلَ الأمانة سَخَّر الله له ما في السموات والأرض, قال الله:

﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾

(سورة الجاثية الآية: 13)

 من أنواع المعادن، أنواع الفلزات، أنواع المخلوقات، كل أنواع الأطيار، كل أنواع الأسماك، كل أنواع النباتات، البحار، البحيرات، الجبال، الوديان، السهول، الأغوار، التلال، الأشجار، كل شيء خلقه الله في الأرض مُسخَّر لك أيها الإنسان، لماذا؟ لأنك قَبِلتَ حَمْلَ الأمانة، فالمسخر له أعلى شأناً، وأعلى مرتبة من المسخر، فالكون مسخر من أجل الإنسان، والإنسان مسخّر له الكون، إذاً هو أعلى مرتبة.

3- لماذا خلق الله الإنسان:

 لماذا خَلَق الله الإنسان؟ لماذا خلَق الخلْق؟ ليُسعِدهم، ولماذا عرض عليهم الأمانة؟ ليحملهم على أن يرقوا أعلى درجة، لذلك إذا نجح الإنسان في حملِ الأمانة بلغ مرتبة لا يدانيه فيها مخلوق على وجه الأرض، ولا تحت الأرض، ولا فوق الأرض، وبشكل ملخص أقول: خَلَق اللهُ الخلقَ ليسعدهم، وَعَرَض عليهم مرتبة من السعادة لا تدانيها مرتبة، لكن لهذه المرتبة ثمن، والثمن حمْلُ الأمانة، فإنْ نجح بحملها كان فوق الخلق، وإن أخفق في حملها كان أشقى الخلق، بعد أنْ حَمَلَ الإنسانُ الأمانةَ زودّه بالعقل المدرِك، وبالشهوة المحركة، وبالفطرة السليمة، وزودّه أيضاً بحرية الاختيار، وزوّده بكل ما يحتاج مِن أجل أن ينجح في حمل الأمانة, كأن الله عزّ وجل أرسله إلى الدنيا ليمتحنه بهذه الخصائص التي يتميز بها، من هنا تأتي بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾

(سورة المُلك الآية: 2)

﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾

(سورة الإنسان الآية: 2)

﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾

(سورة المُلك الآية: 1-2)

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾

(سورة المؤمنون الآية: 115-116)

4- لماذا ابتلي الإنسان في دار الدنيا ؟

  ننتقل الآن مِن علّة الخلق، ومن تصنيف الخلق، ومن الأمانة إلى ابتلاءِ الإنسان في هذه الدنيا، وربما كان هذا الابتلاءُ سببَ استحقاقه دخولَ الجنة، والابتلاء أيضاً سبب استحقاقه دخول النار، فنحن في هذه الدنيا مبتلون، بمعنى أننا ممتحنون، نُمتحن بالمال، نُمتحن بالصحة، نُمتحن بالقوة، نُمتحن بالفقر، نُمتحن بالمرض، نُمتحن بالزوجة، نمتحن بالأولاد، نمتحن بالعلو في الأرض، نمتحن بقلة الشأن في الأرض، مِن هنا, قال الله عزّ وجل:

﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾

(سورة الفجر الآية: 15)

 لا, ليس هذا إكراماً، الإكرام لا ينقطع، والإكرام لا ينتهي بالموت، أَفَيَلِيقُ بحضرة الله عزّ وجل أن يعطيك المال لفترة مؤقتة، فإذا جاء ملَكُ الموت تركتَ كلَّ شيء دفعةً واحدة, هذا ليس إكرامًا، إنما هو ابتلاء؟ قال الله:

﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴾

(سورة الفجر الآية: 16-17)

  كلا، ليس هذا عطاءً وإكراماً، وليس هذا حرماناً وإهانةً، كلاهما ابتلاء وامتحان, قال الله:

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾

(سورة العنكبوت الآية: 2)

 القضية قضية ابتلاء, قال الله:

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾

(سورة الأحزاب الآية: 11)

 ضع في تفكيرك أيها الأخ الكريم, أنك وُجِدتَ على هذه الأرض، وَأَتَيْتَ إلى هذه الدنيا من أجل أن تُبتَلى، والابتلاء من أجل أن تدخل الجنة باستحقاق، والابتلاء من أجل أن يدخل أهلُ النار باستحقاق, قال الله:

﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾

(سورة الأنفال الآية: 42)

 إننا لا نستطيع أن نؤمن باليوم الآخر قبل أن نعرف طبيعة الحياة الدنيا، نحن في دار ابتلاء، نحن في دار امتحان،

" إنّ هذه الدنيا دار التواء، لا دار استواء، منزل ترح، لا منزل فرح، مَن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الأُخرى دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي "

( ورد في الأثر)

 أتمنى أن أكون قد مُكنت من توضيح هذه الفقرة، نحن هنا في دار ابتلاء، في دار امتحان، في دار تكليف، في دار حمْلِ الأمانة، في دار فحص، أمّا إذا انقلبنا إلى الآخرة فنحن في دار تشريف، ودار نعيم مقيم، ودار متعة أبدية، ودار سعادة خالدة، لذلك كان الأحمق هو الذي يستعجل طيبات الآخرة في الدنيا, قال الله:

﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾

(سورة الأحقاف الآية: 20)

 فإذا جاء الموت انقلب إلى عذاب أبدي.

 

ما هي مستلزمات حمل الأمانة ؟

1- أن تعرف الله عن طريق العقل وأن تعبده:

 ما دمنا قد ابتُلينا بحمل الأمانة فماذا يقتضي حملُ الأمانة؟ يقتضي تزويدَنا بقوة إدراكية، وهذه القوة الإدراكية تقتضي أن نعرف الله عزّ وجل، بعض العلماء قالوا: إن أعظم ما في الكون هو الفكر البشري, ما دام الله عزّ وجل قد زوَّدنا بهذه القوة الإدراكية فهذا التزويد يقتضي أن نعرف الله به وأن نعبده، فإذا سُخرت هذه القدرة من أجل الدنيا، من أجل الشر، من أجل الإيقاع بين الناس، من أجل الحيَل، من أجل كسب الرزق الحرام، من أجل ترويج الباطل، من أجل إفساد الناس، فإن الذي فعل هذا يكون قد خسر خسارة لا حدود لها, لأن الله عزّ وجل زوّدنا بحرية الاختيار, وبالقدرة الظاهرة على تنفيذ بعض الأفعال، لذلك يقتضي هذا التزويد أن نعرفه أولاً, ثم نعبده ثانياً, قال الله:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾

(سورة الأنبياء الآية: 25)

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

(سورة الذاريات الآية: 56)

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

(سورة الكهف الآية: 110)

 لأن الله عزّ وجل خلَقَنا على فطرة كاملة، تقدَّر الإحسان، تقدر العفو، تقدر الرحمة، تقدر العدالة، تقتضي هذه الفطرة أن تشكره على نعمه، وأن تحبه, لذلك في الصلاة تقول: الحمد لله رب العالمين.
 أيها الأخوة, تقتضي طبيعة الإنسان أن نعرف الله، وأن نعبده، وأن نحبه، ونشكره، فأنت يجب أن تعرفه، وأن تعبده، وأن تحبه، هذا هو الامتحان، وهذه هي الأسئلة، فالذي نجح في تحقيق هذه البنود نجح في الحياة، ونجح لما بعد الممات، ونجح إلى الأبد.

ثمرة عمل الإنسان في الدارين هي النية فإما أن يسعد بها أو يشقى بها:

 اليوم تحدثت معَ بعض الأخوة، وقلت: هذا الذي أُمر بإلقاء قنبلة على هيروشيما, مات من خلالها ثلاثمئة ألف إنسان، وعطّل الحياة، وعطل التربة من الإنبات، وترك مئات الألوف من المشوَّهين، أن تكون سبباً في هلاك عشرات الألوف، بل مئات الألوف، هذا العمل الشرير قبيح، وأعظم منه قبحاً الذي فَعَلَه، لأن هذا العمل انتهى فمات مَن مات، وكذلك المشوَّه مات، والأرض أجدبت، ثم فيما بعد أنبتت، لكن هذا الذي عمل هذا العمل واجه نتيجة عمله إلى الأبد، وشقي به إلى الأبد, لذلك قيل: فاعل الشر شرٌّ مِن الشرِّ، فهل هناك في الأرض ما هو أشر من الشر؟ نعم، إنه فاعل الشر، وهل هناك في الأرض ما هو خير من الخير؟ نعم، إنه فاعل الخير، لو أنك أنقذتَ إنساناً من الغرق فهذا الإنسان بقي حياً، لكن لا بد من يوم تموت فيه، فهذا العمل الطيب انتهى، لكنك تواجه الله عزّ وجل بعمل طيب حميد في إنقاذ الآخرين، وبهذا العمل تَسعَد به إلى الأبد.
  إذاً: أنت خُلقت في الدنيا لتُبتلى، فالعمل إن كان خيراً, وإن كان شراً ينتهي بالموت، وينتهي بانتهاء الحياة، لكن الذي يبقى هذه النية الطيبة، وهذه الإرادة الخيّرة, أو هذه النية الخبيثة، أو هذه الإرادة الشريرة, بهذه تَسعُد بها إلى الأبد، وبهذه تشقى بها إلى الأبد.

أنت أيها الإنسان في أي طريق تتجه ؟

 أين أنت أيها الأخ الكريم؟ هل أنت في طريق معرفته؟ هل تحضر مجالس العلم, من أجل أن تعرف كتابه، وأحكامه، وأسماءه الحسنى, وصفاتِه الفضلى, مِن أجل أن تعرف تشريعه, وأمره ونهيه, ووعده ووعيده, وما أعدَّ لعباده المؤمنين مِن نعيم مقيم، وما أعدَّ للعصاة المجرمين من عذاب أليم؟ هل تؤْثر ساعة لذة على مجلس علم؟ هل تأتي لهذا المجلس لا تبتغي إلا معرفة الله عزّ وجل؟ هل أنت في طريق عبادته؟ هل أنت تضبط جوارحك؟ هل تعامل الناس كما أمر الله عزّ وجل؟ هل تبيع وفق الشريعة؟ هل تشتري وفق الشريعة؟ هل الله عز وجل أَحَبُّ إليك من كل شيء؟ قال الله:

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾

(سورة التوبة الآية: 24)

 إذاً: معرفة، عبادة، محبة, شكر، وسورة الفاتحة جمعت كل هذه الأمور, قال الله:

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾

(سورة الفاتحة الآية: 1-6)

ما هي الحكمة من وضع الإنسان في ظروف صعبة أحياناً ؟

 ما دام الإنسان قد خُلق ليُمتحن، لأن الابتلاء هو الطريق الوحيد الذي يؤدي بك إلى دخول الجنة، أو ليستحق به الكافر دخول النار، فالابتلاء بنجاحٍ هو ثمن الجنة، والابتلاء مع السقوط والتردي سبيل النار، لذلك الفتنة تعني الابتلاء أيضاً، مِن هنا اقتضت حكمة الله عزّ وجل أن يوضعَ الإنسان في الظروف الملائمة, إنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم امْتُحِنُوا امتحانات شتى، كان من أبرزها امتحان الخندق، كان معهم رسول الله، نبي عظيم، ورسول كريم، يوحى إليه عن طريق جبريل عليه السلام، والقرآن ينّزل عليه بين ظهرانيهم، جاءهم كفار قريش، ومشركو العرب، وتحزَّبوا عليهم، وتجمعوا بأعداد كبيرة للقضاء على الإسلام، وَنَقَضَ اليهودُ عهدهم، وأُحكمت الحلقةُ حولهم، وكان الإسلام على وشك التدمير الكلي, وعرفنا أن المؤمنين صبروا كثيراً, بعضهم إيمانه قوي، وبعضهم إيمانه دون ذلك، فصاحب الإيمان القوي لم يتزلزل، ولم يتأثر، ولم يضطرب، ولم يختل، ولم يضعف، ولم يخنع، ولم يَهِنْ، ولم يحزن، قال تعالى:

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾

(سورة الأحزاب الآية: 23)

 أمّا ضعاف الإيمان مِن المنافقين, فإنهم كما وصفهم الله تعالى في الآية التالية:

﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾

( سورة الأحزاب الآية: 11-12)

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾

(سورة الأحزاب الآية: 11)

 أيها الأخ الكريم، لا يمكن إلا أن تُبتلى في هذه الدنيا، تُبتلى بالزوجة، فهل تؤْثِر رضاها على رضاء الله؟ هل تتساهل معها، ولو كان ذلك على حساب دينك؟ الزوجة تبتلى بها، وليس معنى ذلك أنها هي البلوى، لا، هيّ تكريم من الله، هل تترك مجالس العلم بعد الزواج؟ كم مِن شابٍ متحمس مندفع, لكنه بعد الزواج يتغيب عن مجالس العلم، ويؤثر مجالس الزوجة على مجالس العلم؟ هذا ابتلاء, قد يكون الإنسان فقيراً، وهو مستقيم على أمر الله، وفجأة يأتيه المال الوفير، فإذا به يتقاعس، يريد المتع الرخيصة، فتراه ينحرف أخلاقياً، يريد أن يزور بعض بلدان العالم، ليعطي نفسه ما تشتهي, يقول لك: أنا معي مال، ويجب أن أستمتع به، وإن الله قد أعطاه المال امتحاناً له، فقد تُمتحن بالفقر، أتصبرُ أم تكفر؟ تُمتحن بالمرض، هل تلجّ وتضجر، أم تقول: ثمة حكمة مِن وراء هذا المرض؟ فالنتيجة أنك مُبتلى، وأنا معكم مبتلى، وما مِن مخلوق على وجه الأرض إلا وهو مبتلى، والابتلاء سُنة الحياة، لذلك خَلَقَ الله عزّ وجل في الإنسان الشهوة، فالشهوة إما أن تكون قوة محركة تنقله إلى آفاق السعادة، وإما أن تكون الشهوة قوة مدمرة، كهذا الوقود السائل، إما أن يحرك المحرّك، فتأخذك السيارة حيث تشتهي، وإما أن يُحرق السيارة, هكذا الشهوة، اللهُ عزّ وجل خَلَقَ الملائكة التي تُلهمك الخير، وخلق الشياطين التي توسوس بالشر، وهناك توازن, خَلَقَ الخير، وخلق الشر، والشر بيد الله عزّ وجل مِن أجل أن تُمتحن، من أجل أن تُبتلى.

من لوازم الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر:

 هذا الموضوع كله تمهيد لليوم الآخر، لأنه هنا الابتلاء، وهناك الجزاء، واليوم عملٌ ولا جزاء، وغداّ جزاء ولا عمل، قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

( سورة البقرة الآية: 62)

 من لوازم الإيمان بالله الإيمانُ باليوم الآخر، لهذا كان في الحياة خير وشر، وحق وباطل، ولذة وألم، وسرور وحزن، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وعلو وانخفاض، وشهرة وخمول، وإقبال وإدبار, قال تعالى:

﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

(سورة الذاريات الآية: 49)

 هذا وُضِع الإنسانُ في أكمل الشروط، وأنجحِها من أجل أن يبتلى، وأن يظهر على حقيقته، ليستحق الجنة، أو ليستحق النار, طبقاً لاختياره, قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

( سورة الذاريات الآية:56)

 وقال سبحانه:

﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾

(سورة طه الآية: 15)

 راقب نفسك، دخلت للبيت فأنت مُبتلى، الأكل غير جاهز, أتصبر؟ أتكون حليماً, أم تكون إنساناً شرساً؟ قد يوجّه لك إنسان كلمة نابية, أتصبر؟ أتحلم؟ معك مبلغ من المال، أتعطيه للمحتاجين، أم تنفقه على شهوتك؟ أنت ممتحن, يأتيك المشتري، ويقول لك: انصحني، أتُؤثِر اللهَ ورسوله، وتنصحه بالبضاعة الرائجة، أم تنصحه بالبضاعة الكاسدة؟ يأتيك الموكّل، أنت مُمتحن، بالمحاماة مُمتحن، بالطب مُمتحن، يأتيك المريض، وتعلم علم اليقين أنّ هذا المريض شفاؤه على يد فلان، المختص في هذا المرض، أما أنت فلا تعرف دقائق هذا المرض, أتقول له: اذهب إلى الطبيب فلان, وتفوت عليك ما يدفعه من مال؟ الصيدلي إذا انتهى مفعول هذا الدواء أتمسَح التاريخَ، وتبيعه كما لو كان فعّالاً؟ تُمتحن، أنت ممتحن في كل ثانية، في كل لحظة، في كل دقيقة، في كل حركة من حركاتك، وفي كل سكنة من سكناتك.
 إذا آمنت أن كل شيءٍ تفعله تحاسب عليه, فقد انضبط سلوكك أيها المسلم، ولا يستطيع الإنسان أن يغيِّر سلوكَه تغييراً جذريًّا إلا إذا آمن باليوم الآخر, لا يستطيع الإنسان أن يتجه بكليّته إلى الله عزّ وجل إلا إذا نقل اهتمامه كله من الدنيا إلى الآخرة، لذلك النبي الكريم قال:

" إنّ أسعدَ الناس في الدنيا أرغبهم عنها وأشقاهم فيها أرغبهم فيها "

( أخرجه أبو نعيم في الحلية)

 إذا عرفت أنك خُلقت في دنيا محدودة قصيرة، منقطعة، وإنما هي ابتلاء، وأن الجزاء يوم القيامة سَعِدْتَ في الدنيا والآخرة، فإذا غفلتَ عن هذه الحقيقة، وظننتَ أن الدنيا هي كل شيء, قال الله:

﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾

(سورة الطور الآية: 45)

  و حينما تعرف حقيقة الأمر فإنك ذو بصر وبصيرة، ولذلك قال الله عزّ وجل:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾

 

(سورة الحشر الآية: 18-20)

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور