وضع داكن
27-04-2024
Logo
الصلاة - الدرس : 04 - واجبات الصلاة الآداب لتلاوة القرآن الكريم
  • الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
  • /
  • ٠3الصلاة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

السنة طريقة بلوغ الفرض :

 أيها الأخوة المؤمنون، تحدثنا عن أركان الصلاة، و قد نوهت إلى أن الفرق بين الشرط و الركن هو أن الشرط يستمر مع الفرض أو مع الصلاة كستر العورة، و استقبال القبلة، بينما الركن ينقضي بانقضائه، والآن إلى واجبات الصلاة، وقبل الحديث عن الواجبات قال بعض العلماء: شرعت الواجبات لإكمال الفرائض، أو بشكل أوضح: الفرض بلوغ قمة الجبل والسنة الطريق التي سلكها النبي عليه الصلاة و السلام لبلوغ هذه القمة، فأصبحت السنة متكاملة مع الفرض، السنة طريقة بلوغ الفرض والله عز وجل قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾

[ سورة المائدة: 6 ]

 فهل من المعقول لإنسان يغسل وجهه بيدين قذرتين؟ والنبي الكريم عليه أتم الصلاة و التسليم فهم أن غسل اليدين أول مرة و ثاني مرة و ثالث مرة طريق لغسل الوجه، و غسل الوجه يقتضي غسل الفم و الأنف، هذا الذي فهمه النبي عليه الصلاة و السلام من قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾

[ سورة المائدة: 6 ]

بالأدب نطبق السنة وبالسنة نطبق الواجب وبالواجب نطبق الفرض :

 كأن السنة هي الفهم الدقيق لرسول الله عليه السلام من أوامر الله عز وجل، فأما أن تفهم أن السنة إضافة فهذا هو الفرض و هذه هي السنة، لا، فالسنة هي الطريق التي سلكها النبي عليه الصلاة و السلام حتى أدى الفرض، ولذلك يؤيد هذا الكلام قول بعض العلماء: إن الواجبـات شرعت لإكمال الفرائض، و السنن لإكمال الواجبات، و الآداب لإكمال السنة، فالأدب طريقك لتطبيق السنة، و السنة طريق لتطبيق الواجب، و الواجب طريق لتطبيق الفرض، أي إذا اشترينـا بضاعة من دولة أجنبية، و عقدنا صفقة، فهناك أشياء بديهية لو لم تذكر، لا بد من أن توضع هذه البضاعة في علب أو في أوعية خاصة بها بحسب نوعها، ولابد من أن تشحن، ومن أن ترفق بوثائق، ولا بد من أن توضع عليها علامة الشحن، وهذه أشياء كلها بديهية من مستلزمات شراء البضاعة، إذاً الواجبات شرعت لإكمال الفرائض والسنن لإكمال الواجبات و الآداب لإكمال السنن، فصار الهدف هو الفرض، والواجب طريق الفرض، والسنة طريق الواجب، والآداب طريق السنة، ولا يوجد تناقض، فتقول لأحدهم: بالله كأس ماء إنه كلام مختصر، إذا كان ذكياً يأخذ الكأس و يغسلها أول مرة و الثانية والثالثة ثم يملؤها لك بماء بارد، فأنت ما قلت له: اغسل الكأس، و لم تقل له: أريد ماء بارداً، و لم تقل له: أريد كأساً نظيفاً، أخي إذا سمحت نقطة ماء، ذهب و أحضر لك قطارة، خذ هذه نقطة ماء، فهل معقول هذا الكلام؟ نقطة ماء أي كأس من الماء، فالنبي يفهم فهماً دقيقاً جداً، إذاً عليه الصلاة و السلام فهم من أوامر الله عز وجل فهماً دقيقاً دقيقاً، و فهمه الدقيق هو السنة.

واجبات الصلاة :

1 ـ قراءة الفاتحة :

 قال العلماء: واجبات الصلاة ثمانية عشر واجباً أولها: قراءة الفاتحة، وبالمناسبة الإنسان إذا ترك واجباً عليه سجود السهو في السنة؟ لا، إذا ترك واجباً من واجبات الصلاة فعليه سجود السهو، إذاً و الفرض؟ أي إذا ترك فرضاً أو ركناً يجب أن يعيد الصلاة، فالصلاة أصبحت باطلة، الصلاة تسلم بترك واجب، ترمم بسجود السهو، لكنها تفسد بترك فرض أو ركن أو شرط، مثلاً لم يستقبل القبلة فسدت الصلاة، ولم يكن طاهراً من الحدثين، ولم يستر عورته والمكان ليس طاهراً، ولم يدخل الوقت، فهذه شروط و أركان إن لم تكن فالصلاة فاسدة، أما الواجبات فإن لم تكن فالصلاة تحتاج إلى ترميم، و ترميمها سجود السهو، فواجبات الصلاة ثمانية عشر واجباً، قراءة الفاتحة لقوله عليه الصلاة و السلام:

((لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ))

[عَنْ عُبَـادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ]

 أي بلاغة النبـي كلها في كلمة الباء، لم يقل لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب بل قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، كأن القرآن لا يقرأ إلا بفاتحة الكتاب، وهذه الباء للاستعانة، أي تستعين على فهم كلام الله بقراءة فاتحة الكتاب، تقرأ فاتحة الكتاب فتفهم كلام الله، تقول:

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾

[ سورة الفاتحة: 5-7 ]

 والآن كأنك تسمع قوله تعالى: يهديك الصراط المستقيم.

2 ـ ضم سورة قصيرة أو ثلاث آيات في ركعتين من ركعات الصلاة :

 الشيء الثاني: ضم سورة قصيرة أو ثلاث آيات في ركعتين من ركعات الصلاة، هذا الواجب الثاني، قراءة سورة قصيرة أو ثلاث آيات في ركعتين من ركعات الصلاة.

3 ـ ضم سـورة أو ثلاث آيات قصيرة في جميع ركعات الوتر و النفل :

 الواجب الثالث: ضم سـورة أو ثلاث آيات قصيرة في جميع ركعات الوتر و النفل، بالفرض ركعتان فقط، إن كان الفرض ثنائياً فبالركعتين مثل الصبح، و إن كان ثلاثياً فبركعتين فقط، و إن كان رباعياً فبركعتين فقط، فضم سورة أو ثلاث آيات قصيرة في ركعتين من ركعات الفرض و في كل ركعات النفل أو الوتر.

4 ـ قراءة سورتين في الفرض في الركعتين الأوليين :

 الواجب الرابع، أن تكون قراءة السورتين في الفرض في الركعتين الأوليين، لا تقرأها بالثالثة و الرابعة، هذه أمور كلها بديهية طبعاً بالأولى و الثانية.

5 ـ تقديم الفاتحة على السورة :

 و تقديم الفاتحة على السورة، لن نطول بشرحها، ولا أحد يخالفها من كل المسلمين.

6 ـ ضم الأنف للجبهة في السجود :

 و ضم الأنف للجبهة في السجود، الأنف و الجبهة معاً هذا واجب، فإذا سجد الإنسان على جبينه فقط فعليه أن يسجد سجود السهو أو على أنفه فقط.

7 ـ الإتيان بالسجدة الثانية :

 و الإتيان بالسجدة الثانية أي سجدتين - أما واحدة فنقص واجباً - وفي كل ركعة قبل الانتقال لغيرها.

8 ـ الاطمئنان في الأركان :

 و الاطمئنان في الأركان، الاطمئنان أي السكون، والاطمئنان راكعاً و الاطمئنان ساجداً، أما نقر الديك فهذا ليس من الصلاة في شيء.

9 ـ القعود الأول :

 و القعود الأول من واجبات الصلاة.

10 ـ قراءة التشهد في القعود الأول :

 و قراءة التشهد في القعود الأول في الصحيح، أي: التحيات لله الصلوات الطيبات هذه معروفة، و قراءته في الجلوس الأخير، التشهد يقرأ مرتين في القعود الأول و في القعود الأخير.

11 ـ القيام إلى الركعة الثالثة من غير تراخ بعد التشهد :

 و القيام إلى الثالثة أي إذا قعد شخص في القعود الأول و تشهد و قال:، اللهم صلّ على سيدنا محمد مشي بالصلوات إنك حميد مجيد، هذه ركعتان، وهناك الثالثة فقام ووقف فقد تأخر بالقيام للركعة الثالثة بأكثر من أداء ركن، فعليه سجود السهو، أما إن كان تأخره أقل من أداء كالركوع و السجود فلا عليه شيء، فإذا كان تأخره أطول من أداء ركن فعليه أن يسجد للسهو، إذاً و القيام إلى الركعة الثالثة من غير تراخ بعد التشهد.

12 ـ لفظ السلام دون عليكم :

 و لفظ السلام دون عليكم، الواجب السلام و عليكم سنة.

13 ـ قنوت الوتر :

 و قنوت الوتر: اللهم إنا نستعينك و نستهديك.

14 ـ تعيين التكبير لافتتاح كل صلاة :

 و تكبيرات العيد واجبة فإن تركها المصلي وجب عليه السهو، و تعيين التكبير لافتتاح كل صلاة، والتكبيرة واجب لا للعيدين خاصة، فأي صلاة تحتاج إلى تكبيرة و تكبيرة الركوع واجب.

15 ـ جهر الإمام بقراءة الفجر و ركعتي المغرب و العشاء الأوليين :

 و جهر الإمام بقراءة الفجر و ركعتي المغرب و العشاء الأوليين و لو قضاءً، أي إذا صلى الإنسان قضاء فعليه أن يجهر في الركعتين الأوليين، و الجمعة، و العيدين، و الوتر، و التراويح في رمضان، وكل هذه الصلوات جهرية، الفجر، و ركعتا المغرب و العشاء و لو قضاء، و الجمعة، والعيدين، و التراويح، و الوتر في رمضان.

16 ـ الإسرار في الصلوات:

 و الإسرار في الظهر و العصر، و الركعة الثالثة في المغرب، و الثالثة و الرابعة في العشاء، و نفل النهار سراً، و أما المنفرد فمخير فيما يجهر كمتنفل الليل، إذا صلى الإنسان وحده المغرب أو العشاء أو الصبح فيجوز له أن يجهر، و يجوز له أن يخافت، متنفل الليل يجوز له أن يجهر، أو أن يخافت، ومتنفل النهار يسر، ومن صلى صلاة نفل في النهار فعليه أن يسرها أي يسر القراءة، ومن صلى صلاة نفل في الليل فله أن يجهر بها أو أن يسرها فهو مخير، و أما من صلى صلاة الفرض الجهرية منفرداً فله أن يسرها، أو أن يجهر بها، وهذه واجبات الصلاة أي أكثرها معروفة عند كل المسلمين، لكن قال تعالى:

﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الذاريات: 55]

* * *

تحسين الصوت في القراءة من الآداب الظاهرة لتلاوة القرآن الكريم :

 والآن إلى فصل مختار من إحياء علوم الدين، ونحن الآن في قراءة القرآن الكريم، و قد تحدثنا في الدرس الماضي عن آداب تلاوة القرآن أي الآداب الظاهرة، والآن نتابع الآداب الظاهرة و نأخذ بعض الآداب الباطنة.
فمن الآداب الظاهرة في تلاوة كتاب الله: تحسين الصوت في القراءة قال صلى الله عليه وسلم:

((زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ ))

[النسائي و ابن ماجه عن البراء]

 و قال عليه الصلاة و السلام:

((مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ))

[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 فالله يرضى أن تقرأ القرآن بصوت حسن، وقال صلى الله عليه وسلم:

((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَزَادَ غَيْرُهُ يَجْهَرُ بِهِ))

[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 والمؤمن الصادق لا يطربه إلا القرآن، ولا يتأثر إلا بالقرآن ولا ينفعل، ولا ترتاح نفسه إلا بالقرآن.
 والنبي عليه الصلاة والسلام كان ليلةً ينتظر عائشة رضي الله عنها فأبطأت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:

(( عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: أَبْطَأْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً بَعْدَ الْعِشَاءِ ثُمَّ جِئْتُ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتِ قُلْتُ كُنْتُ أَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِكَ لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ وَصَوْتِهِ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ: فَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى اسْتَمَعَ لَهُ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا ))

[ أحمد عَنْ عَائِشَةَ ]

 طبعاً كانت غرفه صلى الله عليه مطلة على المسجد:

((.. فَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى اسْتَمَعَ لَهُ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا ))

 

من آتاه الله صوتاً حسناً فقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود :

 فإذا أكرمنا الله بقارئ يقرأ القرآن ندياً طرياً كما أنزل فهذه نعمة كبيرة، واستمع صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى عبد الله بن مسعود ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم فوقفوا طويلاً ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، يعني عبد الله بن مسعود.
 فإذا آتى الله أحدنا صوتاً حسناً، وقام في الليل، وقرأ القرآن، وترنم بصوته، وهكذا شعر أنه مرتاح فقرأ صفحتين أو ثلاثاً أو خمس عشرة ووجد نفسه مسروراً، أي إذا قرأ القرآن وشعر بسرور فلا يقف بل يتابع هذه لأنها نفحة لا تعود، يجلس ليقرأ فلا يحس نفسه مرتاحاً، بل يقرأ صفحة أو صفحتين ويقول: يكفي، فإذا قرأ ووجد نفسه مرتاحاً يكمل، والنبي عليه الصلاة و السلام قال لعبد الله بن مسعود:

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ))

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ]

 و استمع صلى الله عليه وسلم إلى قراءة أبي موسى فقال:

((لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ))

[الدارمي عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ ]

 فبلغ ذلك أبا موسى فقال يا رسول الله: لو علمت أنك تسمعه لحبرته لك تحبيراً أي كنت حسنته أكثر فلم أكن أعرف، أي قرأها درجة ثانية ليست أولى، و رأى هيثم القارئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك؟.

العدل و الإحسان :

 إذاً فالرجل الذي له عمل طيب يتأكد أن هذا العمل الطيب يبلغ النبي عليه الصلاة و السلام، فكيف ذلك؟ الله يبلغه إياه، تعرض عليّ أعمالكم بعد موته صلى الله عليه وسلم، فكل واحد له عمل طيب، هذا تزوج امرأة و بعدما تزوجها بفترة قليلة وجدها حاملاً، سلك طريق الإحسان، وهناك طريق العدل لو طلقها لعدل و لكن هناك طريق أرقى من العدالة وهو الإحسان، فإمام المسجد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قل لجارك فلان إنه رفيقي في الجنة لأنها أصبحت تائبة و سترها و أخذ بيدها و جعلها امرأة صالحة، و قد كان بإمكانه أن يطلقها، و أن يفضحها، و أن يجعلها بائسة، فهذا هو العدل و لكن الإحسان أرقى من ذلك، قال له: قل لجارك فلان إنه رفيقي في الجنة.

صلاة الله على المؤمن تجلٍّ و صلاة النبي على المؤمنين تجلٍّ أيضاً :

 قال له: أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك؟ قلت: نعم، فقال عليه الصلاة و السلام: جزاك الله خيراً، أي إذا شاهد الرجل النبي عليه السلام في الرؤيا و نادى له باسمه فهذه مكانة كبيرة جداً، فليفرح فرحاً ما بعده فرح، لأن النبي عليه الصلاة و السلام اطلع على عمله، وقد حكى لي أخ قصة ولولا أنه صادق لا أصدقها، رأى النبي عليه الصلاة و السلام قال له: اذهب إلى فلان، قال له: لا أعرف بيته ؟ قال له: في المكان الفلاني و الحي الفلاني وفي الطابق الفلاني، وصف له العنوان بشكل تفصيلي، أي صلى الله عليه وسلم هذا الذي نحن نصدقه أن أعمال أمته أعمال المؤمنين تعرض عليه و يعرفها، ولذلك فالله عز وجل قال:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

 هو الذي يصلي عليكم فصلاة الله على المؤمن تجلٍّ و صلاة النبي على المؤمنين تجلٍّ أيضاً:

﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

من قرأ القرآن الكريم كأنه في صلاة :

 و قد كان عمر يقول لأبي موسى رضي الله عنهما: "ذكرنا ربنا، فيقرأ عنده حتى يكاد وقت الصلاة أن يتوسط فيقال: يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة، فيقول: أو لسنا في صلاة؟" - أي إذا كنت تقرأ القرآن الكريم كأنك في صلاة- قال له: أو لسنا في صلاة ؟ إشارة إلى قول الله عز وجل:

﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت:45]

 و قال صلى الله عليه وسلم:

((مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا ))

[ الدارمي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 وتحسين الصوت بالقرآن هذه آخر أدب من آداب تلاوة القرآن الظاهرة.

الآداب الباطنة في قراءة القرآن الكريم :

1 ـ فهم عظمة الكلام و علومه :

 والآن عندنا عشرة آداب باطنة وهي الأخطر وهذه معروفة كالوضوء، و استقبال القبلة، و الأدب، وهناك أشياء دقيقة جداً، والآن هذه الآداب هي: التعظيم، و حضور القلب، و التدبر، و الفهم، و التخلي، و التخصيص، و التأثر، و الترقي، و التبري، تحتاج إلى شرح تفصيلي.
 أولاً فهم عظمة الكلام و علومه: ولذلك أصحاب النبي قالوا: "أوتينا الإيمان قبل القرآن"، وإذا قرأ رجل عن طبيب جراح قلب، أي قرأ عنه خلال خمس سنوات مقالات، و سمع أخباراً عن نجاحاته الرائعة في جراحة القلب، و سمع عنه من زملائه، و هناك زملاء ذهبوا لدولة أجنبية و التقوا معه، و رجعوا ممتلئين إعجاباً به، و كانوا قد قرؤوا له عدة كتب، و له نظريات، أي خلال خمس سنوات الطالب ممتلئ معلومات عن هذا الطبيب، فإذا التقى فيه تجده كله تعظيماً، أما إذا شاهد رجل إنساناً على علم عالٍ جداً و لا يعرف علمه يعامله كإنسان عادي، فعندما يقرأ الإنسان كتاب الله، و يعرف الله قبل أن يقرأ كتابه يقرؤه بتعظيم، لأنه كلام رب العالمين، ولذلك فالله عز وجل هذا من لطفه بخلقه، فالإله العظيم خالق الكون أمعقول أن يكون هذا كلامه؟ طبعاً كلامه.

الله لطيف و رحيم بالعباد صاغ لهم كلاماً يفهمونه :

 إذاً نحن كيف أراد ربنا عز وجل أن ينزل إلى مستوانا؟ فالله عز و جل العظيم، العلي، الكبير، المتعال، رافع السماء بلا عمد، ليس كمثله شيء، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، كيف يصير كلامه من كلامنا ليفهمنا إياه؟ قال: هذا من لطفه، فالعلماء ضربوا مثلاً: إذا كان أحدهم إماماً عظيماً كالإمام الغزالي مثلاً صاحب هذا المؤلف، و عنده طائر و أحب أن يدعوه إلى الطعام، أو إلى الطيران، فهناك أصوات معينة يصدرها، فإن كان عنده دابة أو غنمة أو خيل مثلاً أو ناقة فأصحاب هذه البهائم لهم طرائق للتعامل مع البهائم، إذ هناك أصوات يصدرونها، إذاً هذا الذي يوجد عنده هذا المؤلف الضخم سيحاكي عصفوراً أو طائراً بلغة تناسبه، ويمكن أن يصفر له فقط، أو يصدر صوتاً معيناً ليتعامل مع هذا المخلوق على علم، مع هذا الإنسان العالي الذي استخدم كلاماً، أو استخدم صوتاً من مستوى هذا الكائن حتى يفهمه، فكلام الله عز وجل لا يحتمله أحد قال تعالى:

﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الحشر:21]

 فلو أن كلام الله نفسه نزل على جبل لتصدع، ولكن هذه الصياغة التي صاغها الله عز وجل صياغة من لغتنا نقرؤها فنفهمها، وهذا من لطف الله عز وجل، فيجب أن تتأكد أن الله علي كبير، كبير متعال، واحد أحد، فرد صمد، ليس كمثله شيء، و مع ذلك فهذا كلامه، و هذا من لطفه، أي قال تعالى:

﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[ سورة النحل: 60 ]

 وأحياناً يكون هناك إنساناً على علم كبير جداً، يحمل أعلى شهادة في العالم، عنده ابن صغير فيحاول أن يفهمه بلغته، إما بالإشارة، أو بحروفه المتواضعة، فهذا اسمه نزول من هذا الأب العظيم إلى هذا الطفل الصغير، فربنا عز وجل مع علو شأنه و عظمته و قدرته اللامتناهية أنزل على نبينا عليه الصلاة و السلام كتاباً بلغتنا، بحروفنا، بصياغتنا، بقواعد لغتنا، نقرؤه فنفهمه، و هذا من لطف الله عز وجل، هذا الشعور يجب أن يرافق قارئ القرآن، و هذا كلام إله، لكن لأن الله لطيف و رحيم و رؤوف بالعباد صاغ لهم كلاماً يفهمونه، أي هذه المعاني هي كلامه، لكن المعاني ثقيلة قال تعالى:

﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾

[ سورة المزمل: 5 ]

 أما صياغتها فمقبولة أي من مستوانا هذا أول معنى، وأول أدب من آداب تلاوة القرآن الكريم.

2 ـ التعظيم للمتكلم :

 والأدب الثاني: التعظيم للمتكلم، فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن يجب أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم، سوف أضرب مثلاً: لو أن أستاذاً في الجامعة دخل إلى قاعة المحاضرات، وألقى محاضرة، فالطالب امتلأ تعظيماً للإنسان، إذ شاهد علمه عالياً، و لغته قوية، وعنده منهج في التدريب، و له أسلوب واضح ممتع، و عنده إحاطة بالموضوع، عرضه عرضاً واضحاً، أي عمل على السبورة بعض الإشارات، و المخططات، أصبح وضوحه زائداً، يخرج الطالب ممتلئاً إعجاباً بهذا الدكتور، في المحاضرة الثانية ازداد إعجابه، والثالثة ازداد، والرابعة ازداد، وكلما ألقى محاضرة جديدة يزداد إعجاب هذا الطالب بأستاذه، أما المستخدم الذي يجلس على باب غرفته من عشرين عاماً يسلم عليه فحجم معرفته بهذا الأستاذ محدود لا يزداد، فالذي يستمع إلى المحاضرات يزداد تعظيماً، وأما المستخدم فيقف له و يحييه، ولكن معرفته بهذا الطبيب أو بهذا الأستاذ محدودة، فعندما يقرأ الإنسان آيات الله بالكون يزداد تعظيماً لله، و إذا قرأ كتابه يستحضر عظمة الله عز وجل، فهذه هي القراءة المجزية.

حجم معرفة الإنسان بربه بقدر حجم تفكيره في آياته :

 ولكن أحياناً يقرأ الإنسان و قلبه ساه و لاه، وليس كل إنسان قال لك: أنا أعرف الله يعرف الله عز وجل، ومرة ضربت مثلاً إذا ركب رجل طائرة فوق دمشق، قد يُسأل هل تعرف الشام؟ يقول: نعم أعرفها، رأيتها بأم عيني، طرت فوقها، و إذا رجل جاء إلى المطار فقط و تلقى وجبة و نام ليلة بفندق المطار و تابع سفره، يقال له: أتعرف الشام؟ يقول لك: نعم أعرفها، رأيت جبلاً من بعيد قالوا لي: هذا جبل قاسيون، ورجل وصل إلى المرجة فقط قيل له: أتعرفها؟ قال: أعرفها، و رجل ذهب إلى الجامع الأموي فأضاف إلى المرجة الجامع الأموي، ورجل مع الأموي الحميدية، و رجل قعد في الشام أربع سنوات درس في الجامعة، و سكن بأحد أحيائها، و شاهد عادات أهلها و تقاليدهم، و رجل ابن البلد يقول لك: من خمسة و ستين عاماً أنا ساكن بالشام، وكلهم يقول لك: أنا أعرف الشام، أليس هناك فرقاً كبيراً جداً بين معرفة كل واحد من هؤلاء و كل إنسان يقول: أنا أعرف الله؟ ما حجم المعرفة؟ قد تعرفه من آية، هذا يعرفه من آيتين، وهذا يعرفه من مئة آية، وهذا يعرفه من ألف آية، أي حجم معرفتك بقدر حجم تفكيرك في آيات الله أبداً، وإذا نظرت إلى طعامك، وشرابك، وكأس الماء، وكأس الحليب، وإلى هذه البيضة، وإلى هاتين العينين، والأذنين، واللسان، والدماغ، والأعصاب، والأوردة، والشرايين، والعضلات، وهذه الغدد الصماء، والبنكرياس، والطحال مثلاً، والغدة النخامية، والكظر، والكليتين، وهذه الأعضاء، وإلى الحيوانات، وإلى النباتات، وإلى الأطيار، وإلى الأسماك، والهواء وحده آية، والماء وحده آية، والضوء وحده آية، والشمس آية، والقمر آية، فبقدر ما تفكر بهذه الآيات تنمو عندك معرفة الله عز وجل، و إذا نمت هذه المعرفة و قرأت كلام الله عز وجل تزداد خشوعاً، ولذلك أوتينا الإيمان قبل القرآن، قال: فالقارئ عند البداية بقراءة القرآن يجب عليه أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم، و يعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، قال: فضل كلام الله على كلام عباده كفضل الله على خلقه، و إن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر، فإذا أردتم أن تحدثوا ربكم فاقرؤوا القرآن، من قرأ القرآن فكأنما يوحى إليه غير أنه لا نبي بعدي، أي كأنك تسمع كلام الله الذي أوحاه على نبيه عليه الصلاة و السلام.

للآية التالية فهم عميق و فهم ظاهري :

 لكن يوجد نقطة قال تعالى:

﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾

[ سورة الواقعة: 79 ]

 والإمام الغزالي فهم الآية فهماً عميقاً، فهمها فهماً ظاهرياً كما يفهمها عامة الناس و فهمها فهماً عميقاً، أما فهمها الظاهري فقال: و كما أن ظاهر جلد المصحف - المصحف كلمة ثلاثية معنى ثلاثية أو يقولوا: بالتثليث، لك أن تقول: مُصحف و مَصحف و مِصحف وكلها صحيح والأغلب أن تقول مُصحف بالضم - و ورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان طاهراً فباطن معناه أيضاً بحكم عزة الله و جلاله محجوب عن القلب إلا إذا كان طاهراً، فالقرآن أمامنا يتلوه أحد الناس فيزداد بعداً قال تعالى:

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الإسراء: 82 ]

﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الشعراء : 198-199]

 ولو أن القرآن نزل على إنسان تركي باللغة التركية و قرأ علينا لا نفهم منه شيئاً قال تعالى:

﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾

[ سورة الشعراء: 200 ]

 لا يفهم منه شيء، ومعاني هذا الكتاب مصونة لا تتاح إلا لقلب طاهر وهذا المعنى العميق للآية الكريمة:

﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾

[ سورة الواقعة: 79 ]

 وطاهر القلب إذا قرأ القرآن فهم معانيه، ومن أخلص لله أربعين صباحاً تفجرت ينابيع الحكمة في قلبه، و أجراها الله على لسانه فجاهدْ تشاهدْ، قال تعالى:

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة البقرة: 282]

القرآن تؤخذ ألفاظه من حفاظه و تؤخذ معانيه ممن يعانيه :

﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء: 79 ]

 هناك شيء اسمه فهم لكتاب الله، منحة من الله عز وجل يقرأ فيفهم، قال تعالى:

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة التغابن: 11 ]

 فالإمام الغزالي رضي الله عنه فهم هذه الآية فهماً ظاهرياً و فهماً عميقاً، ولذلك الإمام العكبري قال: "تؤخذ ألفاظه من حفاظه، و تؤخذ معانيه ممن يعانيه"، فإذا عاين رجل مثلاً الزواج يعلم أن أول الأمر هناك سرور بالغ بالمخطوبة، وبعدما يكون العرس تقريباً بشهر أو شهرين أو ثلاثة يصبح شيئاً عادياً، ثم يخف بريق الزواج ثم يصير الزواج شيئاً طبيعياً جداً، أي لا يوجد عنده هذا الشعور أنه هو شاعر بالسعادة جداً بل شعور عادي فقط، فالمتزوج مرّ بهذه التجارب، فإذا التقى بإنسان خاطب الآن قال له: أنا وفقني الله بإنسانة ملك نازل من السماء، يقول له: على مهلك، على مهلك هذا الملك ستراه بعد ذلك إنساناً آخر، عنده خبرة، ضربت هذا المثل لأؤكد لكم أن هذا الإنسان يكون له خبرة مع الله عز و جل، أي قلبه ذاق الوجهة إلى الله عندئذ يفهم كلام الله، فالله تكلم عن المحسنين، لماذا يبكي بعض المؤمنين؟ لأنه محسن، تفاعلت نفسه مع هذه الآية، وعندما يتكلم الله عن العفو يبكي القارئ لأنه هو عفا بزمانه، وعندما ربنا يعاتب المؤمنين:

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾

[ سورة الحديد: 16 ]

 يتلقى العتاب فله العتاب لأنه مؤمن، وعندما يقول الله:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾

[ سورة الصف : 2-3]

 يتأثر، فعندما يكون للإنسان تجربة، سير إلى الله حثيث، و صادق، و يتلو كلام الله عز وجل، تتفاعل نفسه مع كلام الله عز وجل، وهذا القرآن يريد قلباً تؤخذ ألفاظه من حفاظه، و تؤخذ معانيه ممن يعانيه.

ليس كل قلب يفهم القرآن الكريم :

 و كما أن كل يد لا تصلح لمس المصحف كذلك لا يصلح لتلاوته كل لسان، ولا يصلح لفهمه كل قلب، وليس كل قلب يفهم القرآن الكريم، وسيدنا ابن عباس رضي الله عنه لما سمع قوله تعالى:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾

[ سورة النصر: 1-3 ]

 فهم من هذه الآية أن أجل النبي عليه الصلاة والسلام قد اقترب، وعظماء العالم حياتهم منوطة برسالتهم، فإذا تحققت انتهت حياتهم، مرة النبي الكريم خطب قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين ما عنده وبين زهرة الدنيا فاختار ما عنده، فجعل الصدّيق يبكي بكاءً مراً، والصحابة عجبوا ما له يبكي؟ فعرف أن المقصود هو النبي عليه الصلاة والسلام:

((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى فَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلامِ لا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ))

[ البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ]

من صفى نفسه فهم على الله الحركة و الإشارة و العبارة :

 هناك أناس فهموا هذا القرآن الكريم فهماً عالياً، والله بحر، وكلما تصفي نفسك أكثر كلما تعمل أعمالاً طيبة أكثر، وتفهم على ربنا عز وجل الحركة، والإشارة، والعبارة، وهناك قلب أعمى يفهم القرآن فهماً معكوساً، أهي فئة ضالة لا تصلي حتى يمكنها الله في الأرض؟ فهموا قوله تعالى:

﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾

[ سورة الحج : 41]

 وإذا ما مكناهم لا يصلون، هذا فهم شيطاني لكتاب الله، قال تعالى:

﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾

[ سورة الحجر: 99 ]

 إذا أنت أتاك اليقين فأنت في حل من العبادة، لأن اليقين جاء، في تلبيس إبليس يلبس عليه بعض الآيات فيفهمها فهماً خاطئاً، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 130 ]

 فيقول الضال: أخي القضية مرتبة قال تعالى:

﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الصافات: 96 ]

 فهذا الزاني خلق الله له هذا العمل، وشارب الخمر خلقه الله شارب خمر، وهناك أشخاص يصدقون هذه الآية.

من كان قلبه حياً وعمله طيباً و قرأ القرآن يفعل القرآن به فعل السحر :

 أحد الصحابة عين والياً لحمص وهو سعيد بن عامر، ولما طلب سيدنا عمر أهل حمص سألهم عن واليهم قالوا له: لنا عليه مجموعة مآخذ، أحد هذه المآخذ أنه وهو بيننا يغمى عليه، ويغيب عن الوعي، وما فهمنا هذه الحالة، فلما سأل هذا الصحابي رضي الله عنه قال: شهدت مصرع خبيب ، وهو صحابي جليل والنبي الكريم أرسله بمهمة إلى مكة، فقبضوا عليه، وصلبوه، وقبل أن يصلبوه عرضوا عليه أن يكفر بمحمد، وقال له أبو سفيان: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في أهلك؟ فهذا الصحابي الكريم انتفض كما ينتفض العصفور وقال له: والله لا أحب أن أكون في أهلي وفي ولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة، قال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً ، طلب أن يصلي ركعتين فسمحوا له ومن ثم صلبوه على نخلة، وهذا سعيد بن عامر الجمحي كان موجوداً أثناء مصرعه وكان مشركاً، وكان من وجهاء قريش، وكان بإمكانه أن ينصره، ولكنه كان مشركاً وكلما يأتي في ذاكرته هذا الموقف يصاب بالإغماء لشدة خجله من الله عز وجل، فالإنسان عندما يكون قلبه حياً وعمله طيباً، وعاطفته متأججة، وصلته بالله متينة، وسريرته كعلانيته، إذا قرأ القرآن يفعل به فعل السحر.
 وكان سيدنا عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف أغمي عليه، ويقول: هو كلام ربي، هو كلام ربي، فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم، ولم تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته، وجلاله، وأفعاله، فإذا إنسان جاءته رسالة من صديقه يقرؤها، وإذا جاءته رسالة من المدير العام الذي يعمل في شركته إذا بعث له رسالة وتوقيعه بالأخضر، لا يلقيها على الطاولة بل يضعها في الدرج، وإذا كانت الرسالة من أعلى منصب في البلاد فيمكن أن يضع لها إطاراً، ويقول: هذه رسالة خاصة لي وهذا توقيعه، فعلى قدر مكانة المرسل تعظم الرسالة، فهذا كلام الله كيف تعظمه؟ إنه خالق الكون، وإذا ألقى الإنسان المصحف فعليه أن يجدد إسلامه، وإذا كان له أخ اسمه يحيى فقال له: يا يحيى خذ الكتاب، فهذا استهزاء بكلام الله، يستخدم آيات الله لغير ما صنعت له، أحياناً يقول لزبون و هو يطالبه بالحساب: ادفع بالتي هي أحسن، فهذه الآية ليست من أجل أن تطالب زبونك وتلم بها جمعية؟ لا يجوز أن تستخدم آيات الله عز وجل لأغراض تافهة، امزح واترك الدين والقرآن والحديث في عليائه، واترك الدين في السماء ولا تنزل الدين إلى الأرض، وتمزح فيه، وكثير من الأشخاص يستهزؤون بالله عز وجل بقسمهم.

3 ـ ترك حديث النفس :

 والآن الأدب الثالث من آداب التلاوة: ترك حديث النفس، تقرأ القرآن وفي بالك مشاكل اليوم، والبيع والشراء، والزوجة والأولاد، والديون، والطبخ، وأنت تقرأ كتاب الله، اترك حديث النفس؛ يا يحيى خذ الكتاب بقوة.
 قيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء؟ فقال: أي شيء أحب إلي من القرآن حتى أحدث نفسي بغيره؟ هذا أحب شيء إلي وكان بعض السلف إذا قرأ آيةً لم يكن قلبه فيها أعادها ثانيةً، إعادة الآية من تعظيم القرآن الكريم.

4 ـ التدبر :

 والآن الأدب الرابع، أول شيء أن يكون حاضر النفس، حاضر القلب مع القراءة، والأدب الرابع التدبر، قال علي رضي الله عنه: "لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءةٍ لا تدبر فيها"، فقرآن من دون تدبر كأنك ما قرأت، ولكن إذا كنت وراء إمام وتفكرت في آية وركع فيجب في الركوع أن تنتبه إلى الركوع وما تبقى في الركوع مع الآية وهذا مما يسيء للصلاة، قرأ آية فتأثرت بها ركع، فالآن ادخل في حال الركوع، سجد فادخل في حال السجود، أما أن تبقى في الآية راكعاً وساجداً فهذه إساءة في الصلاة.
 وروي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فرددها عشرين مرة، يمكن أنه ترنم بها كثيراً، وتفاعل معها، ومرة عن أبي ذر قال: قام بنا رسول الله مرةً ليلةً.
 لا تقل الله أهلكهم فإنهم يستحقون، هذا ليس عملك فقد يكون أكرمهم بعدما أهلكهم، وهذا من شغل الله وحده، من عرف حده فليقف عنده، قرأ النبي آية وأعادها كثيراً يبدو أنه عرف أن مقامه انتهى عند الحد، والله عز وجل هل أهل ألاسكا سوف يعذبهم؟ لا أعرف، قال تعالى:

﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[ سورة المائدة: 118 ]

 هذا ليس عملي، هذا من اختصاص الله عز وجل، فلما يبحث الإنسان في هذه الموضوعات كأنه تجاوز حده، وأحد الأصحاب الكرام من قيام الليل وحتى الفجر يتلو هذه الآية ويعيدها، قال تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية : 21]

 والله شيء جميل، والله هذه الآية تكفي إذا مشيت بشكل جيد، فهل من المعقول أن تكون حياتك مثل إنسان فاسق؟ ويمكن أن تتعامل معاملة الفاسق؟ وأن يخوفك الله عز وجل ويرعبك ويرسل لك مشكلات من مطب إلى مطب؟ فهل هذا معقول؟ وهل من المعقول أن يكون قلبك مخلوعاً خائفاً من الناس ذليلاً لهم؟ وهل من المعقول أن تخونك زوجتك؟ والله ليس معقولاً لأنك طاهر وأخذت طاهرة، والطيبون للطيبات.

التدبر في آيات الله واجب على كل مسلم :

 سعيد بن جبير أيضاً صلى طوال الليل يقول قوله تعالى:

﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾

[ سورة يس: 59 ]

 يجوز في الدنيا وضعهم جيد، أي عندهم شيء أعلى من المؤمن، وقد يكون المؤمن حياته متواضعة، وبيته متواضع، وليس عنده حالة أساسية في البيت، ويوجد إنسان فاجر كافر جمعت له الدنيا من أطرافها، ولكن انظر إلى هذه الآية وحدها تكفي:

﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾

[ سورة يس: 59 ]

 ابتعدوا عنهم، وفي أول العام الدراسي يقرأ المدير أسماء الراسبين ويقول: قفوا هنا بمفردكم، ويقول للناجحين: قفوا هنا، فيخرج الراسب مثل الحيوان الذليل لأنه راسب وامتازوا أي ابتعدوا، قفوا في مكان مستقل.
 وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عند الفراغ منها حتى يطلع الفجر، ويبدأ بسورة يتأملها ويتعمق بها ويعيدها، يترنم بها ويتفاعل معها، يبكي ويتأثر ولا ينهيها، وكان بعضهم يقول: آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعد لها ثواباً، أخي كل حرف بحسنة وألف حرف واللام حرف ركب عدداً، لا ليس هكذا، كل آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعدّ لها ثواباً إطلاقاً.
 وحكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها".
 وروي عن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ من التدبر فيها، وقال بعض العارفين: لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنةً ولم تنتهِ، هذه تدبر، بدأ فيها منذ ثلاثين عاماً و لم ينهها بعد، له كل جمعة ختمة، و كل شهر، و كل عام.
 بقي علينا من آداب التلاوة التفهم، و التوقي، و التبري، و التخصيص، و سوف نشرح هذا بالتفصيل إن شاء الله تعالى في درس قادم.

* * *

قصة قتيبة بن مسلم و أسيره مع الحجاج :

 الآن إلى قصة من القصص التي لها مغزى، و القصة عن الحجاج، قيل: إنه أُتي للحجاج بقوم ممن خرجوا عليه فأمر بهم فضربت أعناقهم، و أقيمت صلاة المغرب، و قد بقي من القوم واحد لم تضرب عنقه، فقال الحجاج لقتيبة بن مسلم: انصرف به معك حتى تغدو به علي - أي خذه معك- قال قتيبة: فخرجت و الرجل معي فلما كنا ببعض الطريق قال لي: هل لك في خير؟- أي هل تخدمني هذه الخدمة؟ - قلت: و ما ذاك؟ قال: إني و الله ما خرجت على المسلمين أي أنا لم أسئ لهم، و لا استحللت قتالهم، و لكني ابتليت بما ترى - أي تهمة ألصقت بي - و عندي ودائع و أموال فهل لك أن تخلي سبيلي؟ - والحجاج في اليوم الثاني يضرب عنق قتيبة إذا تركه- و تأذن لي حتى آتي أهلي و أرد على كل ذي حق حقه و أوصي، و لك علي أن أرجع حتى أضع يدي في يدك، عهد الله سأرجع، إلى أين يريد أن يرجع؟ إلى القتل، قال له: عهد الله سأرجع و لكن عندي أموالاً ليست لي و أرى أهلي و أودعهم و أوصي و أرد الأموال لأصحابها و آتي إليك، فعجب ما هذا السؤال؟ هذا سؤال مضحك أي طلب مضحك غير معقول، قال: فعجبت له و تضاحكت أي ضحكت هل من المعقول أن أطلقك تذهب، و مضينا هنيهة ثم أعاد عليّ القول و قال: إني أعاهدك الله لك عليّ أن أعود إليك، قتيبة رق قلبه، هو يريد أن يودع أهله، ويرد الأموال لأصحابها، ويعمل وصية، ويرى أولاده، قال: فما ملكت نفسي حتى قلت له: اذهب، بعدما قال له اذهب أشعل من الداخل، فلما توارى شخصه أسقط في يدي فقلت: ماذا صنعت في نفسي؟ و أتيت أهلي مهموماً مغموماً، أي لم يعد يرى، فسألوني عن شأني فأخبرتهم فقالوا: و الله قد غلطت، لقد اجترأت على الحجاج أي عملت عملاً كبيراً جداً، قال: فبتنا بأطول ليلة- وهذه الليلة أطول ليلة بحياته- لم يكن الوقت يجري أبداً، هل سيأتي أم لا؟ فلما كان أذان الفجر إذا بالباب يطرق فخرجت فإذا أنا بالرجل فقلت: أرجعت، فقال: سبحان اللهّ جعلت لك عهد الله علي أأخونك و لا أرجع؟ وهل من المعقول ألا أرجع؟ هكذا كان السلف الصالح، تأثر تماماً أي لم يصدق أنه سيعود، فقلت: أما و الله إن استطعت لأنفعنك لكونك رجعت، ولعل الله يقدرني أن أخلصك من الموت، و انطلقت به حتى أجلسته على باب الحجاج، و دخلت فلما رآني قال: يا قتيبة أين أسيرك؟ قلت: أصلح الله الأمير، بالباب و قد اتفق لي معه قصة عجيبة، قال: ما هي؟ فحدثته الحديث فأذن له فدخل ثم قال: يا قتيبة أتحب أن أهبه لك؟ قلت: نعم، قال: هو لك، فانصرف به معك، فلما خرجت به قلت له: خذ أي طريق شئت أنت طليق، فهذا الأعرابي أي هذا الرجل رفع طرفه إلى السماء و قال: لك الحمد يا رب، و ما كلمني بكلمة، لم يقل له أي كلمة - لا شكراً و لا الله يعطيك العافية أو فضلت أبداً فقط نظر- و قال: لك الحمد يا رب، رأى فعل الله و لم يرَ فعله، و لا قال لي: أحسنت و لا أسأت، تعجب هل هذا مجنون؟ فقلت في نفسي: مجنون و الله، قال: فلما كان بعد ثلاثة أيام جاءني و قال لي: جزاك الله خير

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور