وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 32 - سورة المائدة - تفسير الآيات 65 - 67 ، حقيقة العقيدة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الانتماء إلى الدين التاريخي لا قيمة له إطلاقاً :

 أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والثلاثين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الخامسة والستين، والآيات التي تليها، يقول الله عز وجل: 

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) ﴾ 

[ سورة المائدة  ] 

 أعيد وأكرر أن ذكر أهل الكتاب في القرآن الكريم يعني أن هؤلاء الذين جاءهم كتاب من عند الله قد انحرفوا، ووقعوا في أمراض نحن مرشحون أن نقع بها تماماً، فالحديث عن بني إسرائيل وأهل الكتاب كمن يقول: إياكِ أعني، واسمعي يا جارة( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا )  إذاً في هذه الآية خرجوا عن حيز الإيمان، وأي مسلم لم يعبأ بمنهج الله، وأي مسلم لم يعبأ بوعيد الله، ولم يعبأ بوعد الله، بل وضع كل ثقله في إيقاع الأذى بالناس، هذا خرج عن دائرة الإيمان.

لا يجعلك مسلماً حقاً إلا إذا كنت مؤمناً حقاً، ومستقيماً حقاً، ومحسناً حقاً، فإن لم تستقم، ولم تحسن خرجت من حيز الإيمان، وبقي إسلامك بالهوية، وانتماؤك شكلي، وهذا الانتماء الشكلي لا يقدم ولا يؤخر، وهان أمر الله على المسلمين، فهانوا على الله، لا أعتقد أمة من الأمم تعاني كما يعاني المسلمون، تؤخذ أراضيهم، ويقتل أبناؤهم، ويفتك بنسائهم، وتنتهك أعراضهم، ولا أحد يقدم لهم شيئاً، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله.

حينما ينتمي الإنسان إلى الله ينبغي أن يتخلق بالخلق الذي أمر الله به :

 الآية واضحة ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا ﴾  إذاً هم عند الله ليسوا مؤمنين، الله عز وجل له أسماء حسنى، وله صفات فضلى، وله منهج، وحينما ينتمي الإنسان إلى الله أي ينتمي إلى منهج الله، وحينما ينتمي الإنسان إلى الله ينبغي أن يتخلق بالخلق الذي أمر الله به، من صدق، وأمانة، وعفو، وتسامح، ورحمة، ولطف، وخير، وعطاء، وبذل، وتضحية، فهذا الكلام معناه: إياك أيها الإنسان أن تتوهم أن انتماءك الشكلي إلى الدين ينجيك من عذاب الله، الانتماء الشكلي، والانتماء التاريخي، والانتماء الذي لا يعني أنك مصدق بما عند الله من وعد وهو الجنة، ولست معنياً بوعيد الله وهي النار، ولست ملتزماً بمنهج الله، ولست تسعى لخير البشر، بل تسعى لأن تبني مجدك على أنقاض الآخرين، وأن تبني حياتك على موتهم، وأن تبني غناك على فقرهم، وأن تبني عزك على ذلهم، وأن تبني أمنك على خوفهم، أنت إن كنت كذلك خرجت من الملة، وخرجت من حيز الدين، وحيز الإيمان كما قال الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا ﴾  لو أنك زرتني، لو، لولا حرف امتناع لوجود، أما لو فهو حرف امتناع لامتناع، لو أنك زرتني لأكرمتك، أنا لم أكرمك لأنك لم تزرني ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾  لمَ لم يكفر عنهم من سيئاتهم من شيء؟ لأنهم لم يؤمنوا.

الانتماءات الشكلية والتاريخية لا تقدم ولا تؤخر :

 ملخص هذه الآية: لا تعبأ، ولا تهتم لانتماء شكلي لهذا الدين، قد لا تجد الآن المسلم مسلماً، ولا النصراني نصرانياً، ولا اليهودي يهودياً، مثلاً يقول الله عز وجل متحدثاً عن أتباع السيد المسيح: 

﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَٰهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ رِضْوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَـَٔاتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ (27) ﴾ 

[ سورة الحديد ] 

 هل ترون فيما يجري حولنا إنْ في العراق أو في فلسطين، هؤلاء الذين اتبعوه هل في قلوبهم رأفة ورحمة، هذا الانتماء الشكلي أيها الأخوة يسبب التعصب، يسبب العداوة، يسبب البغضاء، يسبب الحروب، الانتماءات الشكلية والتاريخية لا تقدم ولا تؤخر﴿ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾  لو حرف امتناع لامتناع، هم امتنع إيمانهم، وامتنعت عنهم مغفرة ربهم ﴿ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾  إذاً الله عز وجل لا يتعامل مع التمنيات، ما من مسلم على وجه الأرض إلا ويتمنى أن يكون من أهل الجنة، أليس كذلك؟ 

﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)﴾

[ سورة النساء ] 

 أيها المسلمون: 

﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)﴾ 

[ سورة النساء ] 

الآية التالية ينبغي أن تكون ماثلة أمام كل إنسان :

 هذه الآية ينبغي أن تكون ماثلة أمام كل إنسان ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾  .

﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) ﴾ 

[ سورة البقرة ] 

 يقاس على ذلك والمسلمون يقولون: نحن أمة محمد، نحن أمة مرحومة ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾  أنا أتكلم بالحقيقة المرة، لأنها أفضل ألف مرة من الوهم المريح، أي ما ينطبق على أهل الكتاب ينطبق الآن على المسلمين، الإيمان الحقيقي ما أُقر في القلب، وأقر به اللسان، وصدقه العقل، عمل المسلمين لا يعبر عن إيمانهم، وكلامهم لا يعبر عن إيمانهم، فإذا لم يكن عملهم يعبر عن إيمانهم، ولا كلامهم يعبر عن إيمانهم، إذاً هم ليسوا مؤمنين، أما أن تقول: أنا مؤمن، والحمد لله أن الله هو الخالق، فهذه كلمة قالها إبليس، قال: 

﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) ﴾ 

[ سورة ص ] 

حقيقة العقيدة ليست ما ينبغي أن نعتقد بل ما ينبغي أن نكون عليه :

 أما أن تؤمن أن الله رب العالمين قالها إبليس: 

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) ﴾ 

[ سورة ص ] 

 أما أن تؤمن أن الله عزيز قالها إبليس، أما أن تؤمن أن هناك يوم آخر قالها إبليس: 

﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِىٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) ﴾ 

[ سورة ص ] 

 فأن تقر إقراراً لا قيمة له إطلاقاً، أن حقيقة العقيدة ليست ما ينبغي أن تعتقد فحسب، بل ما ينبغي أن تكون عليه، إذا كنت مؤمناً بالله، لماذا لا تستقيم على أمره؟ لماذا لا تحبه؟ لماذا لا تخدم عباده وتحسن إليهم؟ لماذا لا تتوكل عليه؟ فحقيقة العقيدة ليست ما ينبغي أن نعتقد، بل ما ينبغي أن نكون عليه، بناء على عقيدتنا ﴿ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾  وكأن الله ينتظر كل عباده، ما من إنسان على وجه الأرض إلا وهو مطلوب من قبل الله عز وجل، مطلوب ليرحمه، مطلوب ليسعده في جنة عرضها السماوات والأرض.

ما ينطبق على أهل الكتاب ينطبق على المسلمين :

﴿ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾  ما ينطبق على أهل الكتاب ينطبق على المسلمين، انتماء المسلمين إلى دينهم انتماء تاريخي بحكم الولادة، أو انتماء شكلي، يصلي صلاة جوفاء، لكن تعامله اليومي ليس وفق منهج الله، لكن وفق أهوائه ومصالحه، هذا الإسلام الشكلي، هذه قشور لا تقدم ولا تؤخر. 

من آمن بصحيح التوراة والإنجيل آمن بالقرآن الكريم :

 ثم يقول الله عز وجل: 

﴿  وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) ﴾ 

[ سورة المائدة ] 

 التوراة التي أنزلت من الله تماماً، والإنجيل الذي أنزل من الله تماماً، أي ما صح من التوراة، وما صح من الإنجيل يقود هؤلاء إلى الإيمان بالقرآن الكريم. 

﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَمُبَشِّرًۢا بِرَسُولٍۢ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِى ٱسْمُهُۥٓ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6) ﴾ 

[ سورة الصف ] 

 إذاً لو أنهم آمنوا بصحيح التوراة، وآمنوا بصحيح الإنجيل، لقادهم إيمانهم بالتوراة والإنجيل إلى الإيمان بالقرآن الكريم ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾  ما الذي أنزل إليهم من ربهم؟ القرآن، أنزل إلينا وإلى كل من في الأرض، كتاب هو رحمة للعالمين.

في السماء خيرات لا يعلمها إلا الله :

 قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾  إشارة إلى أن في السماء خيرات لا يعلمها إلا الله ﴿ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾  أي أحياناً تأتي أمطار غزيرة فننتج من القمح ستة أضعاف ما نحتاج، وأحياناً كالعام الحالي يأتي جفاف استمر ستة أسابيع، قد لا ينتج بلدنا كله نصف حاجتنا﴿ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾  أي في السماء خيرات لا يعلمها إلا الله﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾  لو أنهم آمنوا بصحيح التوراة، ولو أنهم آمنوا بصحيح الإنجيل، لقادهم إيمانهم بالتوراة والإنجيل إلى الإيمان بالقرآن، ثم هذا الإيمان قادهم إلى الاستقامة على أمر الله، عندئذٍ تتوقف المعالجة ويأتيهم الخير﴿ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ .

الثروات في باطن الأرض لا يعلمها إلا الله :

 هناك ثروات في باطن الأرض لا يعلمها إلا الله، أحياناً مناجم ذهب، أحياناً مناجم ألماس، أحياناً بترول، فالبلاد التي فيها بترول تتنعم بغنى يفوق حد الخيال﴿ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾  هذه إشارة لطيفة من الله، يقول الله عز وجل: 

﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) ﴾ 

[ سورة طه ] 

 البترول تحت الثرى، النحاس، الحديد، الفوسفات، القصدير، هذه المعادن الثمينة جداً، الفحم الذي أصبح ماساً، هذا تحت الثرى﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾  هذه الآية تذكرنا بقوله تعالى: 

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96) ﴾ 

[ سورة الأعراف ] 

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) ﴾

[ سورة الجن  ]

تقنين الله سبحانه ليس تقنين عجز ولكنه تقنين تأديب :

 أخطر حقيقة في هذا الموطن أن التقنين الذي ترونه، الجفاف، التصحر، قلة الأمطار، ضعف الإمكانات، لا يمكن أن يكون تقنين عجز، سبحانه وتعالى، ولكنه تقنين تأديب. 

﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) ﴾

[ سورة الشورى ]

الله عز وجل يعلمنا الدقة في الأحكام :


﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ ، ﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾   قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ التوراة والإنجيل والقرآن، لكن دقة القرآن الكريم دقة علمية ﴿ مِنْهُمْ ﴾ من أهل الكتاب أمة مقتصدة، أي استقامت على أمر الله، واستسلمت لمشيئة الله، وأحسنت إلى خلق الله، هؤلاء مستثنون من هذا الوصف العام، الله عز وجل يعلمنا الدقة في الأحكام ﴿ مِنْهُمْ ﴾ ومن للتبعيض ﴿ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي كيف يباح للناس الزواج المثلي؟ وقد يكلل هذا الزواج في دور العبادة، هذا في بريطانيا، وفي هولندا، وفي ألمانيا، كيف يمكن لسفير دولة عظمى تدعي أنها راعية الديمقراطية والحرية في العالم، كيف يمكن لسفيرها في بلد أوربي أن يكون مثلياً؟ حينما أقيم له حفل وداع في الخارجية كان الذي معه ليس زوجته، ولكنه شريكه الجنسي.

معنى كلمة (مقتصد) :

 قال تعالى: ﴿﴿ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ ﴾ إباحية، تبادل زوجات، زنى محارم، أعمال يندى لها الجبين، الإنسان له مئات العشيقات، حدّث ولا حرج، البشرية وصلت من الانحلال، ومن الانحطاط، ومن تفكك الأسرة، ومن العبث بالقيم السماوية ما لا يوصف ﴿ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ مقتصد أي اقتصد، أي أطاع الله عز وجل، لم يكن متفلتاً، الاقتصاد أن تحدد الهدف والإنفاق، هذا الاقتصاد ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ كلمة مقتصد، الله عز وجل أودع في الإنسان الشهوات؛ حب النساء، حب المال، يمكن أن يأخذ مالاً من أية جهة، وبأية طريقة، لكن المؤمن لن يكسب المال إلا من طريق حلال، هذا مقتصد، يمكن أن تكون العلاقة بالمرأة واسعة المدى، الإنسان يلتقي مع أية امرأة، وقد يمارس اللذة مع أية امرأة، ولكن المؤمن مقتصد، أي حصر هذه الشهوة في زوجته فقط، هذا معنى مقتصد ﴿ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ .

حينما يبلغ الناس مرتبة من الانحلال وفساد العقيدة لا بدّ من نبي جديد :

 أيها الأخوة الآية التي بعدها: 

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) ﴾

[ سورة المائدة ]

 الحقيقة الدقيقة أن الله سبحانه وتعالى يرسل نبياً أو رسولاً، وهذا النبي والرسول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقيم منهج الله في الأرض، ثم ينتقل إلى الرفيق الأعلى، أمته من بعده تحافظ على منهجه، لكن مع مضي الزمن يتفلت الناس من المنهج، لكن لا تزال في المجتمع نفوس لوامة، تنصح، وتلوم ذاتها، وتسعى إلى الإصلاح، أما حينما يعم الفساد ولا ترى واحداً يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، حينما قال عليه الصلاة والسلام: 

(( كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر، قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف، قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؟  ))

[ ابن أبي الدنيا وأبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أمامة ]

 الآن العمل الصالح يثير التهمة، ما قصده؟ إذا خدمك إنسان لوجه الله تشك به سريعاً، الأصل أن يؤذيك أما إذا خدمك أصبحت حالة مرضية (كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؟ ) حينما يعم الفساد في الأرض، حينما ينسى الناس منهج الله عز وجل، حينما ينسون الآخرة كلياً، حينما لا تجد من يقول الله. والله الذي لا إله إلا هو حضرت مؤتمراً للأسرة في بلد إسلامي، والمدعوون جميعاً من بلاد إسلامية، وهم أساتذة الجامعات والله اليوم الأول بكامله كان هناك تقريباً عشر محاضرات، واليوم التالي بأكمله عدا محاضرة واحدة، والله لم تذكر كلمة الله، والموضوع أسرة، والأسرة ألصق شيء بموضوع الدين، حينما لا تجد من يقول الله، التحليلات أرضية، التفسيرات أرضية، الشرك عميم، حينما يبلغ الناس هذه المرتبة من الفساد، والانحلال، وفساد العقيدة، لا بد من نبي جديد، هذا ما يجري في البشرية، النبي الجديد معه منهج، لكن هذا المنهج من شأنه أن يحد حركة الناس، هذا الذي ألفَ أن يأكل الربا، وأن يشرب الخمر، وأن يزني مع أية امرأة، كيف يأتي هذا المنهج ليحدد له مساراً محدوداً، لذلك الرسول يبلغ، والناس ينقمون على الرسول، لأنه بلغهم بلاغاً حد من حركتهم، لذلك يقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ هذه التعليمات ليست من عندك ولكن من عند الله.

الله عز وجل نادى كثيراً من أنبيائه بأسمائهم كما ورد في القرآن الكريم :

 لكن قبل ذلك: 

﴿ وَيَٰٓـَٔادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (35) ﴾

[ سورة البقرة ]

 ناداه باسمه. 

﴿ يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍۢ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا (13) ﴾

[ سورة مريم ]

﴿ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِى وَبِكَلَٰمِى فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ (144) ﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) ﴾

[ سورة المائدة ]

 يا عيسى، ويا موسى، ويا إبراهيم: 

﴿ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّءْيَآ ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ (105) ﴾

[ سورة الصافات ]

لم يرد في القرآن الكريم أن الله خاطب محمداً باسمه :

﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ﴾ لم يرد في القرآن الكريم أن الله خاطب محمداً باسمه ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ ﴾ ، ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ ﴾ هذا يفسر تفسيرين؛ التفسير الأول لعلو مقام هذا النبي الكريم، ولأنه سيد الخلق وحبيب الحق، ولأنه سيد ولد آدم بلا منازع، تكريماً له خاطبه الله بصفته لا باسمه ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ ﴾ ، ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ ﴾ ولم يرد في القرآن الكريم أن أحداً أقسم الله بحياته، إلا النبي عليه الصلاة والسلام فقال: 

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) ﴾

[ سورة الحجر ]

 الملمح الثاني: أن كل خير جاء به نبي سابق ضمن رسالة هذا النبي، وكل خير ورد في رسالة سابقة هي في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل: يا محمد، قال: يا أيها النبي، أي أن الأنبياء السابقين فحوى دعوتهم في دعوتك، والرسل السابقون فحوى رسالتهم في رسالتك ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ ﴾ ، ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ هذا ليس من عندك ، أنت موظف بدائرة، ولك زميل متفوق عليك في القدم، وفي المرتبة، ولهذه المؤسسة مدير عام، فإذا أبلغك هذا الزميل الذي تفوق عليك في القدم، وفي المرتبة، وفي الشهادة، قال لك: المدير العام يأمر أن نبقى بعد الدوام ساعتين، هل تنزعج أنت منه؟ لا، أنا مُبلغ، المدير العام بلغني أن أنقل هذا إليك، أن الدوام يمتد غداً ساعتين بعد النهاية.

ما يأتي به النبي الكريم ليس من عنده :

 إذاً الله عز وجل يريد من هذه الآية أن هذا الذي يأتي به النبي عليه الصلاة والسلام ليس من عنده. 

﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 لكن الطرف الآخر يريده عبقرياً لا يريده نبياً، هو نبي، ينبغي أن يطرح على أمم الأرض على أنه نبي لا على أنه مصلح وعبقري: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾ هذا الذي تعطيه للناس من أمر ونهي ليس من عندك، ولا من اجتهادك، ولا من تصورك، ولا من بيئتك، ولا من ثقافتك، إنما هو من عند الله عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ﴾ حينما كذب أهل قريش برسالة النبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا: صبأ محمد، وقالوا: هو شاعر، وقالوا: هو مجنون، وقالوا: هو كاهن، ثم أسرى الله به من مكة إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى السماوات العلى، حتى بلغ سدرة المنتهى، هل تتصورون أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتمنى أن يبلغ هذا للناس؟ من دون أن يسرى به من مكة إلى بيت المقدس الناس يكذبونه، ومن دون أن يبلغهم أنه عرج إلى السماوات العلى الناس يكذبونه، والله لو شققت على صدر النبي لا يتمنى أن يقول هذا، لكن الله أمره أن يبلغه ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ وكل إنسان داعية أقامه الله في إلقاء العلم، أحياناً يتمنى ألا يقول الحقيقة، محرجة جداً الحقيقة، لكن الدعاة الصادقين كما قال الله عنهم: 

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ﴾

[ سورة الأحزاب ]

يستحيل أن يؤخر النبي البيان عن وقته :

 يروى أن الحسن البصري رحمه الله تعالى، كان سيد التابعين، وقد عاش في عصر الحجاج، وقد بلغ رسالة الله في عصره، فغضب الحجاج أشد الغضب، وقال لمن حوله: يا جبناء والله لأروينكم من دمه، وأمر بقتله، وجيء به ليقتل، دخل الحسن البصري فإذا السياف واقف، والنطع قد مد على الأرض، وينتظر إشارة البدء من الأمير ليقطع رأسه، حرك الحسن البصري شفتيه، ولم يسمع أحد ماذا قال، فإذا بالحجاج يقف له، ويستقبله، ويقول: أهلاً بأبي سعيد، أنت سيد العلماء، وما زال يدنيه من مجلسه حتى أجلسه على سريره واستفتاه في موضوع، وضيفه، وشيعه إلى باب القصر، السياف صعق، لأنه أوتي به ليقطع رأسه، والخادم صعق، تبعه الخادم، قال: يا إمام لقد جيء بك لغير ما فُعل بك، فماذا قلت لله عز وجل وأنت داخل؟ فقال الإمام قلت له: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم. إذاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ وقال العلماء: يستحيل أن يؤخر النبي البيان عن وقته، أبداً.

(( حديث أم العلاء الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ عندما توفي عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ وهو أحد السابقين والمهاجرين، وليس ابنا لها، قالت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير ـــ هذا سماه العلماء تألي على الله ــــ والله ما أدري ـ وأنا رسول الله ـ ما يفعل بي؟ قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً ))

[ رواه البخاري ]

لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه :

 قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ يجب أن تؤدي الرسالة، وأنت حينما تقف أمام مقام النبي عليه الصلاة والسلام تقول: السلام عليك يا سيدي يا رسول الله، لقد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ أي لا تعتبوا عليه إذا قال لكم: هذا حرام، هذا حلال، هذا مكروه، لا تعتبوا عليه، ليس من عنده شيء ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ .

 أخواننا الكرام ؛ في القرآن قل لهم: ﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ .

﴿ قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ ۚ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ (188) ﴾

[ سورة الأعراف ]

 هو لا يعلم الغيب، قل لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً، أبلغ من ذلك ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾   إذا كان عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فمن باب أولى ألا يملك لأصحابه نفعاً.

مقام النبي هو مقام العبودية لله عز وجل :

 قال تعالى: 

﴿  قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 هذا مقام النبي، مقام العبودية لله عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾ أي لا يستطيع إنسان كائن من كان، ولا يستطيع البشر مجتمعين أن ينهوا حياتك، إنك رسول الله ، تروي بعض الأحاديث :

(( أَرِقَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقالَ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِن أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ، قالَتْ وَسَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَن هذا؟ قالَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ: يا رَسولَ اللهِ، جِئْتُ أَحْرُسُكَ. قالَتْ عَائِشَةُ: فَنَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ. ))

[ صحيح مسلم ]

فنزلت هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾ فأطل من خيمته وصرف حراسه.

 باحثة بلجيكية قرأت سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه الآية سبب إسلامها، قالت: لو أن النبي يخدع الناس ما خدع نفسه، فإذا أخبره الله عن طريق جبريل أنه يعصمه من الناس، لو لم يكن واثقاً من وعد الله عز وجل، ومن حفظه، لما صرف حراسه.

 الإنسان أحياناً يخدع الناس لكنه لا يخدع نفسه، قد يقول: فلان مشى على وجه الماء، هذا كذب بالطبع، تفضل وامشِ أنت؟ يعلم أنه إذا مشى يغرق، فقد تروي آلاف الكرامات، وأنت تدَّعي أنك ولي لله عز وجل، لمَ لا تفعل أحدها؟ إنك تخدع الناس ولكنك لا تخدع نفسك، أما النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءه الوحي فقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾ .

(( كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحرَسُ حتى نزلت هذه الآيةُ : ( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فأخرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأسَه من القُبَّةِ ، فقال لهم : يا أيها الناسُ انصرِفوا ، فقد عصمني اللهُ ))

[ سنن الترمذي ]

لا يستطيع إنسان أن ينهي حياة النبي لأنه بهذا يتحدى خالق الأرض والسماوات :

 قد يقول أحدكم: كيف نفرق بين هذه الآية ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾ وبين قوله تعالى: 

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ (144) ﴾

[ سورة آل عمران ]

 أي ما دام النبي عليه الصلاة والسلام يؤدي رسالة ربه فلا يمكن لإنسان كائن من كان أن ينهي حياته، أما إذا أدى الرسالة فقد يموت موتاً طبيعياً، وقد يقتل، أما وهو يؤدي الرسالة، أو لما يؤدي الرسالة بعد، مستحيل وألف أَلف ألف مستحيل أن يستطيع إنسان في الأرض أن ينهي حياته، لأنه بهذا القتل يتحدى خالق الأرض والسماوات ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾

الدنيا لها أسباب قد تملكها بأسباب من عند الله وقد تملكها بأسباب من صنعك :

 أيها الأخوة الكرام؛ بقي ملمح في الآيات مجتمعة أن هؤلاء أهل الكتاب ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ*وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ أي أنتم حينما تؤمنون يعطيكم الله أسباب الدنيا، الدنيا لها أسباب، قد تملكها بأسباب من عند الله، وقد تملكها بأسباب من صنعك، إذا إنسان كافر، ملحد، أتقن عمله تماماً، وكشف قوانين الأرض، واستخرج الثروات، وعاش في بحبوحة ما بعدها بحبوحة، هذا إنسان بسعيه ملك أسباب الحياة الدنيا، وذاك المؤمن بتوفيق الله عز وجل ملك أسباب الحياة الدنيا، ما الفرق بينهما؟ المؤمن بعد أن آمن واستقام على أمر الله، وأحسن إلى خلق الله، كافأه الله في الدنيا بأنه أعطاه أسباب الدنيا، لذلك المسلمون حينما عرفوا ربهم، واستقاموا على أمره، فتحت لهم الدنيا من كل أبوابها، هذا الفتح هدية من الله عز وجل، والطرف الآخر حينما أتقنوا أعمالهم، وتعمقوا في بحوثهم، وكشفوا قوانين الأرض ملكوا أسباب الدنيا، لكن الطرف الآخر مقهور، قد تملك أسباب الدنيا ثم يأتي زلزال فيقضي على كل شيء، ثم يأتي إعصار فيهلك كل شيء، قد تملك أسباب الدنيا بقوانين الدنيا، ولكن لا تملك النتائج، أما المؤمن فكما قال الله عز وجل: 

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾

[ سورة التوبة ]

الفرق بين أن تملك أسباب الدنيا في ظل الإيمان وبين أن تملكها في ظل الشرك والكفران:

 قد يملك المؤمن أسباب الدنيا، وقد يملكها الكافر بصدقه، وسعيه، وإتقان عمله، وبحثه، ودرسه، وسهره، ولكنه يملك أسباب الدنيا، ثم في ثوانٍ معدودة يقهره الله عز وجل: 

﴿  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 فشتان بين من يؤمن، ويستقيم، ويتقي الله، ويحسن إلى خلقه، ثم يؤتيه الله أسباب الحياة الدنيا، فيرتقي عند الله، هذه الأسباب جاءت مكافأة له، يصونها الله له من كل عبث، ويطمئنه على مستقبله. 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) ﴾

[ سورة فصلت ]

 أما من نال أسباب الدنيا بجهده وشركه واعتداده بنفسه فهو كقارون قال: 

 

﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ (78) ﴾

[ سورة القصص ]

﴿ فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍۢ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ (81) ﴾

[ سورة القصص ]

 هذا الفرق بين أن تملك أسباب الدنيا في ظل الإيمان، وبين أن تملكها في ظل الشرك والكفران.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور