وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 44 - سورة المائدة - تفسير الآيات 101 - 104 - التحليل والتحريم من شأن الله وحده.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الله سبحانه وتعالى أمر بأشياء ونهى عن أشياء وسكت عن أشياء رحمة بنا :

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع والأربعين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الواحدة بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101) ﴾

[ سورة المائدة ]

 أيها الإخوة، أوضح مثلٍ لهذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، وكان يُجزِئهم، ويُقبل منهم أن يذبحوا أية بقرة، سألوا: ما لونها؟ ما شكلها؟ ما هي؟ حينما أكثروا هذه الأسئلة جاءت التقييدات، فبعد التقييدات التي عُوقبوا بها، الصفات التي أُمِروا أن يلحظوها في البقرة لا توجد إلا عند يتيم طلب بملء جلدها ذهباً، وكان يُجزئهم، ويُقبَل منهم أية بقرة. 

 لذلك القاعدة: أن الله سبحانه وتعالى أمر بأشياء، ونهى عن أشياء، وسكت عن أشياء رحمة بنا، فمن أخذ هذا القسم الثالث وبدأ يسأل ويسأل، وكلما جاء السؤال جاء التقييد: 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يا من آمنتم بحكمة الله، أنّ الله حينما أمر، وحينما نهى، وحينما سكت، الحكمة من سكوته عن أشياء لا تَقُلّ حكمة عن أمره ونهيه. مرة إنسان سألني، قال لي: يجوز أن نرتدي ثياباً مصنوعة في بلاد الغرب؟ قلت له: يجوز، لأن الأصل في الأشياء الإباحة، قال: لا، إنها من صنع أعدائنا، ينبغي ألاّ نرتديها، قلت له: لا ترتدِها، شددت فشددت عليك.

 عندنا قاعدة أصولية: أن الأصل في العبادات الحظر، ولا تُشرع عبادة إلا بالدليل، في الأشياء العكس، الأشياء الأصل فيها الإباحة، ولا يُحرّم شيء إلا بالدليل، في الأشياء التحريم يحتاج إلى دليل، لأن الأصل هو الإباحة، أما في العبادات، فالعبادة تحتاج إلى دليل لأن الأصل في العبادة الحظر.

للآية السابقة عدة توجيهات منها :


1 أن تعتقد أن الذي سكت الله عنه لا يقل عن الذي أمرك به أو نهاك عنه :

 فأول توجيه لهذه الآية أن: 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ إن سألتم عنها جاء التقييد، وإن جاء التقييد جاءت المشقة، وقد تسوءك المشقة.

 هذا أول بند من البنود، ينبغي أن تعتقد أن الذي سكت الله عنه لحكمة بالغة لا يقل عن الذي أمرك به، أو نهاك عنه، بشكل أو بآخر أيّ شيء يقرّبك من الله مهما كان صغيراً أمرك الله به، إن في قرآنه، أو في سنة رسوله، وما من شيء يُبعدك عن الله عز وجل، مهما يكن صغيراً نهاك الله عنه إنْ في كتابه، أو في سنة نبيه، لكن سكت عن طريقة الطعام، لك أن تأكل على طاولة، ولا شيء عليك، ولك أن تأكل على الأرض ولا شيء عليك، ولك أن تؤثّث بيتك بأثاث معين ولا شيء عليك، ولك أن ترتدي قماشاً ملوناً أو غير ملون ولا شيء عليك.

 في الأشياء الحيادية التي لا تُقدم ولا تُؤخر، ولا علاقة لها أصلاً بوجهتك إلى الله عز وجل سكت الله عنها رحمة بنا، وتوسعة على عباده، فهذا الذي يتنطّع ويسأل: لو فعلت كذا، هل أُعَد آثماً؟ يضيق عليك إلى أن يلجئك إلى أن تُحرم عليه، عقاباً من الله له، طبعاً هذا من عند الله عز وجل: 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يا من آمنتم بكمال الله وحكمته، يا من آمنتم أن الذي حرمه يحرمكم من السعادة، وأن الذي أحلّه تطيب أنفسكم به، وأن الذي سكت عنه رحمة بكم: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ هذا هو المعنى الأول.

2 هناك أشياء أحياناً تقتضي الحكمة ألا تسال عنها :

 المعنى الثاني: إنسان شكّ في والده، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام: من أبي يا رسول الله؟ فالنبي سكت، قالت له أمه: 

(( مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطّ أَعَقّ مِنْكَ؟ أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمّكَ قَدْ قَارَفَتْ بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ؟  ))

[ رواه ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة   هناك أشياء أحياناً تقتضي الحكمة ألا تسال عنها، إنس ]

ان جالس بمجلس، لماذا طلقت زوجتك؟ سؤال مُحرِج، لا ينبغي أن يفضحها، أو أن يقول: لقد خانتني، مع من خانتك؟ ومتى؟ وأين؟ هذه أسئلة تسبب إحراجاً، والله عز وجل سِتّير، وينبغي أن تتخلق بأخلاق الستير: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ هذا بند آخر من بنود السؤال.

3 تجنب سؤال دس الفتنة بين الناس وسؤال الإحراج :

 بند ثالث: أنك تسأل، وتعرف الجواب، من أجل أن تمتحن المسؤول، هذا سؤال فتنة، وليس سؤال تفهُّم، لذلك كان بعض العلماء يقول: إن سألتني: قال العالم الفلاني في القضية الفلانية كذا وكذا، فماذا تقول أنت؟ كان هذا العالم الورع لا يجيب مثل هذا السائل، لئلا تقع الفتنة، أما لو سألتني أيها الأخ: ما حكم هذا الشيء؟ أقول لك: حلال أو حرام، حلال، وهذا الدليل، وحرام، وهذا الدليل، أما أن تأخذ من عالم إلى عالم، ومن جماعة إلى جماعة، ومن مفتٍ إلى مفتٍ، كيف تفتي بهذا، وقد أفتى فلان بخلاف ما تقول؟ هذه فتنة: 

(( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً  ))

[ أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة عن أبي أمامة ]

 البند الثالث: سؤال الإحراج، سؤال الامتحان، سؤال الفتنة، سؤال إحداث مشكلة، ذلك لأن الشيطان حينما ييأس من أن يوسوس لهذا الإنسان بالكفر، أو بالشرك، أو بالكبيرة، أو بالصغيرة، أو بالبدعة، أو بالمباحات، بقيت عليه ورقة رابحة، ألا وهي التحريش بين المؤمنين، ما تقول في كذا؟ ما تقول في كذا؟ تقول له: هذا رأيي، قال فلان عكس ما تقول، من هو على صواب، أنت أم هو؟ مثلاً، هذا سؤال الفضول، سؤال الامتحان، سؤال الإحراج، سؤال دسّ الفتنة بين الناس. فالله عز وجل أدّبنا بهذا الأدب، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ لا تسأل عن سؤال يُشدَّد لك في نتيجته، ولا تسأل شيئاً تحرج الآخرين، ولا تسأل ممتحِناً، ولا مستعلياً، ولا مستكبراً، ولا بادراً لفتنة بين الناس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ .

 لكن الله سبحانه وتعالى حينما يُنزِّل حكماً يُحسَم الموضوع، حينما حرم الله التبني انتهى الأمر: 

﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ الله عز وجل حكيم، فإذا كانت حكمته أن يُحرّم، وجاء التحريم انتهى الأمر، وإذا كانت حكمته أن يُحلِّل، وجاء التحليل انتهى الأمر، أما قبل أن يأتي القرآن بالحكم الشرعي فلا تسأل لئلا تُحرِج، أو لئلا تُحرَج، أو لئلا ينقلب سؤالك تشديداً عليك، كما فعل بنو إسرائيل.

الآية السابقة لا تمس سؤال التعلم :

 هذه الآية أيها الإخوة لا تمس سؤال التعلم. 

﴿ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219) ﴾

[  سورة البقرة ]

﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾

﴿ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِىَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ ۗ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189) ﴾

[  سورة البقرة ]

﴿ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ(222) ﴾

[ سورة البقرة ]

 إذا كنت تسأل سؤال المتعلم، وسؤال المستفهم، فالسؤال سؤال العلم، والسائل محترَم عند كل الناس، وينبغي لكل عالم أن يجيب السائل بتواضع وأدب جم، لأن هذا الذي يسأل يطلب العلم، وإنسانان لا يتعلمان، هما المتكبر والمستحي، المستحي لا يتعلم، والمتكبر لا يتعلم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: 

(( ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه  ))

[ أخرجه أحمد في مسنده وصحيح مسلم والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة  ]

 مرة سُئلت في رمضان الماضي وأنا على الإذاعة، وعلى الهواء مباشرة: كيف نصلي التراويح؟ نصليها ثماني ركعات أم عشرين؟ صلِّ ثماني ركعات، وصلِّ اثنتي عشرة، وصلِّ عشرين، صلِّ في بيتك، وصلِّ بالمسجد، ولا تحدث مشكلة، لا تحدث فتنة، الأمر واسع، والأمر على السَّعة.

السؤال والجواب إن لم يبتغَ به وجه الله ينقلب إلى جدل والجدل مذموم :

 أيها الإخوة الكرام، قضية السؤال والجواب إن لم يبتغَ به وجه الله عز وجل ينقلب إلى جدل، والجدال في القرآن مذموم، لأن الهدف إظهار ما عند الإنسان، وتحجيم الآخرين، الهدف من المجادلة ليس شريفاً، أما الحوار والسؤال والجواب بقصد التعلم فشيء آخر، أقره الشرع، وأكرمه العلماء الربانيون، مثلاً في سورة الإسراء: 

﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً(93) ﴾

[  سورة الإسراء ]

 سؤال التعنُّت، سؤال التعجيز، سؤال التحجيم، سؤال الكِبر، سؤال الفتنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ إما أن تسألوا سؤال التضييق فيُشدَّد عليكم، وإما أن تسألوا سؤال الإحراج فتقعون في إثم كبير، وإما أن تسألوا سؤال الامتحان، فيكون هذا كِبراً واستعلاءً لا يُرضي الله عز وجل.

 أعرابي سأل النبي عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر: يا محمد، متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ رد عليه بسؤال، وماذا أعددت لها؟ أي لا تهتم بمتى ولكن اهتم بما أعددت لها؟!!

(( أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَتَى السَّاعَةُ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ما أعْدَدْتَ لَهَا قالَ: ما أعْدَدْتُ لَهَا مِن كَثِيرِ صَلَاةٍ ولَا صَوْمٍ ولَا صَدَقَةٍ، ولَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ، قالَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ ))

[ صحيح البخاري عن أنس بن مالك ]


اتباع منهج الله وسنة رسوله والاستغفار يجعلنا في مأمن من عذاب الله :

 لذلك أيها الإخوة الله عز وجل قال: 

﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33) ﴾

[ سورة الأنفال ]

 هذه الآية تملأ نفوس المسلمين راحة، لأنهم في مأمن من عذاب الله ما دامت سنة النبي بين ظهرانيهم، إذا كانت سنة النبي مُطبَّقة في حياتهم، في بيوتهم، في أعمالهم، في كسب أموالهم، في إنفاق أموالهم، في تجارتهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في سفرهم، في حلِّهم، إذا كان منهج الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مُطبقة في حياتهم هم في مأمن من عذاب الله، هم في مأمن آخر: 

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال: 33 ]

 الآية التي تليها: 

﴿  مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(102) ﴾

[ سورة المائدة ]

﴿مَا جَعَل﴾ ما نافية ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ .

مهمة التشريع أن كل شيء خلقه الله أعطاه وظيفة :

 أحياناً يأتي الرجل وبيده قطعة من الصابون، ويأتي بقطعة من الجُبن يضعها في المطبخ، طبعاً الجُبن للأكل، والصابون للغسل، جُعل الجبن من أجل الأكل، وجُعل الصابون من أجل الغسل، رَبُّ البيت جاء بقطعتين، قطعة لها استعمال، وقطعة لها استعمال آخر، لو أننا وضعنا هذا الصابون في الطعام لفسد الطعام، ولو وضعنا الجُبن لغسل الصحون لما نجحت هذه العملية.

 إذاً: الذي جعله الله لشيء ينبغي ألا تجعله أنت لشيء آخر، في البراري مثلاً قد تموت بعض الحيوانات، وقد تتفسّخ، وقد يصدر عنها رائحة لا تُحتمل، لذلك خلق الله الخنزير لمهمة تنظيف هذه الأمكنة الخالية، وفيها حيوانات متفسخة، تموت قطة، يموت كلب، يموت حيوان آخر، فيأتي هذا الخنزير، ويرى أن هذا اللحم المتفسخ أطيب طعام له، هكذا صُمِّم، الشيء الذي تهرب منه مئات الأمتار، هو يراه طعاماً من الدرجة الأولى يأكله، إذاً جُعِل هذا الخنزير من أجل تطهير الفلاة من الحيوانات المتفسخة، فإذا جاء الإنسان، وأكل هذا الخنزير، فقد خالف ما جعله الله للتطهير، فجعله طعاماً له، إذاً الجعْل أن هذا الشيء بعد أن يُخلق يُخصص بشيء، الخلق شيء، والجعل شيء آخر، الذي صُنع: شيئاً من لا شيء خلقه، لكن حينما خُلق هذا الشيء خُصّص بوظيفة.

 مهمة التشريع أن كل شيء خلقه الله أعطاه وظيفة، هذا فرض، هذا واجب، هذا مستحب، هذا مباح، هذا مكروه تنزيهاً، هذا مكروه تحريماً، هذا مُحرم، الخمر مُحرمة، لكن هناك ألف نوع من المشروبات حلال، الخمر خُصِّصت للتحريم، فقضية التحريم والتحليل من شأن خالق الأكوان.

 أيها الإخوة، هذا موضوع دقيق، الله عز وجل خالق، وإذا خلق الأشياء جعلها حلالاً أو حراماً خصصها بالحُرمة أو بالحِل، لكن حينما حرم الله علينا لحم الخنزير قد يسأل سائل: لماذا خلقه؟ خلقه لمهمة أخرى واضحة جداً.

لذلك قضية الجعل، أي التخصيص هذا من شأن الله وحده، لذلك قال تعالى: 

﴿  قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ(59)  ﴾

[  سورة يونس ]

 أي أنت لستَ مؤهَّلاً أن تقول: هذا برأيي حلال ولا شيء فيه، وهذا لا أحبه وأحرمه، وقد أباحه الله عز وجل، يقولون: هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند، قضية الجعل أو التخصيص أو التحليل أو التحريم من شأن الله وحده.

نماذج مما جعله الجاهليون في التحريم :

 الآن نقدم نماذج مما فعله الجاهليون في التحريم، قال الله عز وجل: 

﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ البحيرة هي الناقة التي تُشَق أذنها، كعلامة على أنها مُحرمة، فلا يتعرض لها أحد، ولا تُرد عن مرعى، ولا تُرد عن ماء، ولا يُشرب لبنها، ولا يُركب ظهرها، ولا يُجز صوفها، لأنهم قالوا: أنتجت خمسة أبطن آخرها ذكر، من قال هذا؟ من شرع هذا؟ هذه الناقة أنتجت خمسة أبطن آخرها ذكر، إذاً تُشق إذنها علامة تحريمها، لا يتعرض إليها أحد، لا تُرد عن مرعى، لا تُرد عن ماء، لا يُشرب لبنها، لا يُركب ظهرها، لا يُجز صوفها، من قال هذا؟ هذا تحريم من غير مبرر، هي ناقة خلقها الله لنا. 

﴿ وَٱلْأَنْعَٰمَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5) ﴾

[ سورة النحل ]

 إذاً: يمكن أن نركب ظهرها، وأن نشرب لبنها، وأن نأكل لحمها، وأن نردّها عن مرعى ليس لها، الله عز وجل جاء بأمثلة، قال: 

﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ ﴾ أما السائبة فهي الناقة التي يقدمها الرجل إن بَرِأ من مرضه، أو قدم من سفره كنَذر سائب، اذبحها وأطعم لحمها للفقراء، لا، لأنني شُفيت من مرضي، ولأنني سلمت في سفري، هذه الناقة أُسَيِّبها، أيضاً مُحرم أن تُؤكل، أو أن يُشرب لبنها، أو أن تُركب، أو أن يُجزّ صوفها، الله عز وجل قال: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ﴾ هذه الناقة السائبة المُسيّبة لا يربطها أحد، وتأكل كما تريد، وتشرب ما تريد، وتنام في أي مكان، ولا يستطيع أحد أن يتعرض لها، وقد سميت سائبة أخذاً من الماء السائب.

معنى الوصيلة والحام :

 ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ﴾ الوصيلة هي الناقة التي تصل أخاها، كيف؟ الناقة عندما تحمل، وتضع المولود، هنا ينظر أصحاب الناقة إلى جنس المولود، فإن كان ذكراً أكلوه، وإن كان أنثى أبقوها، لأنها تلد نوقاً أخريات، أما إذا أنجبت ذكراً وأنثى يُستَبقى الذكر، لأنه صَاحَب الأنثى، فهذه الأنثى حَمتْه من الذبح والأكل، هذه اسمها وصيلة، أي ناقة أنجبت توأماً أنثى وذكراً، فلو كان ذكراً لذُبح وأُكل، ولو كانت أنثى لاستُبقيت، لأنها تحمل وتلد، أما إذا أنجبت هذه الناقة ذكراً وأنثى معاً إذاً الأنثى تحمي أخاها فلا يُذبح، ولا يُؤكل، هذه اسمها وصيلة، الله عز وجل قال: 

﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ﴾ الحام: هو الفحل الذي يُحمى ظهره من أن يُركب، ويُترَك لينطلق كما يريد، لأنه لقّح عشرة أجيال من الإناث، كفاه، مكافأة له على هذا العمل العظيم، هذا يُحمى ظهره من أن يُركَب، فالله يقول: 

﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾

الاقتصاد في الأحكام :

 لذلك كان العلماء الكبار رحمهم الله تعالى يتحاشون أن يقولوا: حرام أو حلال، لأن التحريم من شأن الله وحده، والتحليل من شأن الله وحده، وأنا كنت في مكان سمعت أباً يقول: هذا حرام، قلت له: خفف من كلمة حرام، التحريم هذا من شأن الله وحده، أحياناً تخترع الأم أن السباحة حرام للبنت، إذا كانت في فتن طبعاً حرام، أما إذا كانت في مكان لا يراها فيه إنسان، مغلق، لا، ليست حراماً، ما من إنسان مسموح له أن يحرِّم وحده من دون دليل، ولا يحلل، لكن العوام أهون شيء أن تقول الأم لابنها: حرام، قد يكون غير حرام، من كثرة استعمال كلمة حرام سقطت قيمة الحرام، صار شيئاً لا قيمة له، لا تستخدم كلمة حرام إلا بدليل قطعي، من كتاب الله، وما صحّ من سنة رسول الله بالمعنى القطعي، ليس الظني، أي يجب أن يكون الدليل قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة، قطعي الثبوت أي قرآن، أو سنة صحيحة، أو قطعي الدلالة لا يحتمل شيئين، أما إن كان هناك احتمال لشيئين لذلك ينبغي أن تقتصد في أحكامك، فلا تقل: هذا حرام وهذا حلال، دع هذا لله عز وجل، لأن الله عز وجل قال: 

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾

الذي يقع في الإفراط والتفريط خرج من منهج الله عز وجل :

 طبعاً الشواهد كثيرة جداً، هناك شخص يدَّعي أنه ورِع، لا يرى أم زوجته، من أنت؟ أنت مُشرِّع؟ أنت أورع من النبي عليه الصلاة والسلام، هناك إفراط في التحريم، وهناك تفريط، فالذي يقع في الإفراط والتفريط خرج من منهج الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي.))

[ صحيح البخاري ]

 بعض الجماعات في البلاد الإسلامية المجاورة يحرمون الزواج على الشبان مثلاً، من سمح لك أن تُحرّم عليه الزواج، قضية الحلال والحرام قضية من شأن الله وحده، فأنت مُكلَّف أن تبحث عن دليل التحريم القطعي الثبوت، والقطعي الدلالة قرآن أو سنة، وأن تبحث عن دليل التحليل، أن يكون الدليل قطعي الثبوت والدلالة، المشكلة أن العادات والتقاليد أحياناً تغلب على الإنسان، لذلك: 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ(104)  ﴾

[ سورة المائدة ]

 أحياناً تنشأ فتن، العادات والتقاليد في الأعراس تخالف الشرع، فإذا رفض الشاب المؤمن التائب أن يجاري أهله، أو أهل زوجته في هذه الاحتفالات التي فيها منكَرات، أُقيم عليه النكير، وقامت الدنيا، ولم تقعد، ماذا فعل؟ أراد تطبيق منهج الله فرفض، لذلك: 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾

ملخص الدرس أن الله تعالى هو الخبير بجعل الأشياء حراماً وحلالاً :

 أيها الإخوة الكرام، ملخص هذا الدرس أن الله سبحانه وتعالى اختص بجعل الأشياء حراماً وحلالاً، وهو الخبير

﴿ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ۖ ويوم القيامة يكفرون بشرككم ۚ ولا ينبئك مثل خبير (14) ﴾

[ سورة فاطر ]

 وأنت ما عليك إلا أن تبحث عن الدليل، دليل التحريم أو دليل التحليل، وأن تنصاع لأمر الله، أما أن تُنصِّب نفسك مشرعاً، وأن تحرم أشياء، وأن تُحلّل أشياء، وتدّعي أن هذه غير منطقيّة، هذا الشيء يقال يومياً، معقول المال لا أستثمره؟! هذا جهدي وعرقي، أضعه في مصرف ربوي، وآخذ فائدته، الزمن تغير، هو يُحلِّل لنفسه، معقول أن أُحجِّب نسائي؟! المرأة يجب أن تكون حرة، وأن تفعل ما تشاء، فكل واحد يضع لنفسه ديناً بتفصيله، يفصِّل الدين تفصيلاً على شهواته ومصالحه، الشيء الذي لا يكلفه شيئاً يفعله، يصلي، يضع: 

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً(1)  ﴾

[  سورة الفتح ]

 ويضع آية الكرسي، ويضع المصحف بالسيارة، لكن إيداع المبلغ في البنك، وأخذ الفوائد يقول لك: هذه أصبحت ضرورة، الله عز وجل كان غافلاً حينما حرم الربا؟! هذا شيء غير مقبول، هناك من يدّعي أن العصر تغير، والأحكام الشرعية لغير هذا الوقت، هذه مشكلة الناس الآن، هو يجعل الشيء حراماً أو حلالاً كما يلوح له.

 لكن هذا الدرس يعني أن الذي حرَّمه، حرمه الله، والذي أحلّه أحلّه، والذي سكت عنه لا تسأل عنه، ولا تقيد نفسك بشيء كنت في بحبوحة منه.

والحمد لله رب العالمين.  

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور