الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من أسماء الله الحسنى الملك:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم الملِك.
أيها الإخوة؛ ورد هذا الاسم كثيراً في الكتاب والسنة، ففي القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)﴾
وفي صحيح مسلم
(( عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ. ))
وفي صحيح مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(( عن أبي هريرة: يَنْزِلُ الله تعالى إِلى السماءِ الدُّنيا كُلَّ لَيلةٍ حين يَمضي ثُلُثُ الليلِ الأولُ فيقول: أَنَا الملكُ، أنا الملكُ، مَنْ ذَا الذي يدعوني فأستجيب له. ))
لذلك
(( عن أبي هريرة: وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. ))
ساعات الفجر ساعات مباركة، ساعات الإجابة.
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)﴾
أيها الإخوة؛ الملك أمره نافذ في ملكه، قد يكون الإنسان مالكاً، وأمره ليس نافذاً في ملكه، أما الملك أمْرُه نافذ في ملكه، لذلك في بعض الآثار القدسية:
(( عن أبي الدرداء: أنا مالك الملوك، وملك الملوك، قلوب الملوك بيدي، وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك، وادعوا لهم بالصلاح، فإن صلاحهم بصلاحكم. ))
[ أخرجه الطبراني: لا يصح: خلاصة حكم المحدث: فيه إبراهيم بن راشد وهو متروك ]
أيها الإخوة؛ العلماء يؤكدون أنه لا ملِك إلا الله حقيقة، الذي يملك كل شيء خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً، لكن هذا لا يمنع أن يسمى إنسان ملكاً، قال تعالى:
﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)﴾
أما الملِك الحقيقي هو الله الذي يملك كل شيء، أي بشرح مفصّل كل شيء يُمَلَّك يملكه الله، سمعُك بيده، وبصرك بيده، وقوتك بيده، ومَن حولك بيده، ومن فوقك بيده، ومن تحتك بيده، والتوفيق بيده، والنصر بيده، والحفظ بيده، أنت حينما توقن أنه لا إله إلا الله، وأنه الملك، أمرُه نافذ في ملكه، تتجه إليه وحده.
على المسلم أن يتوجه للملِك الحقيقي:
دائماً وأبداً أضرب هذا المثل، لو أن لك معاملة لها أثر مصيري في حياتك، والمفوّض بالتوقيع على الموافقة واحد في كل هذا البناء، بناء من عشرة طوابق، فيه ألف موظف، الذي هو مُفوّض بالموافقة على طلبك هو المدير العام، هل تبذل وجهك وماء وجهك لغير هذا المدير العام؟ مستحيل! هل تتضعضع أمام موظف صغير؟ ما دام هذا الأمر بيد المدير العام إذاً تتجه إليه وحده، أنت حينما تؤمن أن كل شؤونك بيد الله.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
متى أمرك أن تعبده؟ بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده، أنت حينما تؤمن أنه لا إله إلا الله، ولا معطي، ولا مانع، ولا خافض، ولا رافع، ولا مُعز، ولا مُذل، ولا مُوفق، ولا حافظ، ولا ناصر إلا الله، تتجه إليه، لذلك المشكلة الأولى في حياة المسلمين أن توحيدهم ضعيف، فلما ضعُف توحيدهم وقعوا فيما هم فيه، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
أيها الإخوة؛ الله عز وجل ملِكٌ مطلقاً، يملك كما قلت خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً، أنت كإنسان قد تملك شيئاً ولا تنتفع به، وقد تنتفع بشيء ولا تملكه، وقد تنتفع وتملك، لكن المصير ليس إليك، لك بيت تملكه رقبة، وتملك منفعته أي تسكنه، لكن قد يأتي قرار تنظيمي للمدينة يؤخذ منك بأبخس الأثمان، فقد تملك ولا تنتفع، وقد تنتفع ولا تملك، وقد تنتفع وتملك، والمصير ليس إليك، أما إذا قلنا: الله الملك أي ملكه مطلق خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً.
من لوازم الملِك أنه يستغني في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل موجود:
معنى الملك أنه يستغني في ذاته، وصفاته، وأفعاله عن كل موجود، الإنسان وجوده مرتبط بإمداد الله له، في أية لحظة يقطع الله عنه الإمداد يموت الإنسان، ما هو الموت؟ الموت انقطاع المدد الإلهي، في أي لحظة يفقد الإنسان حياته، يكون شخصاً مهماً يصبح خبراً، يكون ذا هيبة وسلطان يصبح قصة، يكون شخصاً يركب طائرة يعود بضاعة في نعش لها معاملات معقدة في التخليص، فالله عز وجل ملِك حقيقي لأنه يستغني عن كل موجود، أي وجوده ذاتي، مِن هنا كان هناك عبد القهر، وجميع بني البشر عبيد لله عز وجل، بمعنى أنهم في قبضة الله، بأي لحظة تنتهي الحياة، لأتفه الأسباب، يقول لك: سكتة دماغية، سكتة قلبية، حادث طارئ، فهم عبيدُ قهرٍ، أما المؤمنون لأنهم عرفوا الله اختياراً، وأطاعوه اختياراً، وأحسنوا إلى خلقه اختياراً، وأقبلوا عليه اختياراً هم عباد، جمع عبد الشكر، فهناك عبد القهر جمعها عبيد.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
وهناك عبد الشكر جمعها عباد.
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾
فرق كبير بين أن تكون عبد قهر وبين أن تكون عبد شكر.
معية الله العامة والخاصة:
إذا قال الله عز وجل:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾
هذه معية عامة، أي معكم بعلمه، أما إذا قال:
﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾
هذه معية خاصة، والمعية الخاصة تعني شيئاً كثيراً، تعني أن الله مع المؤمن بنصره، وتأييده، وحفظه، وتوفيقه.
الإعزاز والإذلال والمنع والعطاء من الله خيرٌ كلُّه:
معنى الملك أنه مستغنٍ عن كل موجود، ويحتاجه كل موجود، الآية الدقيقة:
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
الآية ليس فيها بيدك الخير والشر، ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ لذلك قالوا: الشر المطلق لا وجود له في الكون، لأنه يتناقض مع وجود الله، لا يوجد شر مطلق، هناك شر نسبي موظَّف للخير المطلق، والدليل هذه الآية: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إيتاء الملك خير، وأحياناً نزعه خير، إعزاز الإنسان خير، وأحياناً إذلاله خير، لكن علماء العقيدة يرون أنه لا ينبغي أن تقول: الله ضار، مع أنه من أسمائه، ينبغي أن تقول: هو الضار النافع، لأنه يضر لينفع، لا ينبغي أن تقول: الله خافض، قل: الله خافض رافع، لأنه يخفض ليرفع، لا ينبغي أن تقول: الله مُذل، هو يُذِل، قل: الله مُذِل مُعز، يُذِل ليُعز، لذلك ورد في بعض الآثار: إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء، حينما تُكشف الحقائق، وحينما ينكشف سرّ القضاء والقدر يذوب المؤمن كالشمعة تماماً محبة لله عز وجل لِما ساقه له من شدائد، لولا هذه الشدائد لما كان كما هو.
الآن قطعة فحم بحجم البيضة ما قيمتها؟ لا شيء، هناك ألماسة في استنبول قيمتها مئة وخمسون مليون دولار، بحجم البيضة، أكبر قطعة ألماس في العالم، بمتحف طوب قابي، هذه القطعة ثمنها مئة وخمسون مليون، لأن الألماس أصله فحم، من شدة الضغط والحرارة أصبح ماساً.
للتقريب، إذا كان هناك ضغوط، هناك معالجات إلهية دقيقة، هناك شدة، هذه تصقل الإنسان، المؤمن اللهُ تولى تربيته، يحاسبه، فبطولتك أن تكون ضمن العناية المشددة، ضمن المتابعة الإلهية، ضمن التربية الإلهية، فإذا أُعطيتَ الدنيا وأنت على غير طاعة الله هذا مؤشر خطير جداً، معنى ذلك أن هذا الإنسان خارج العناية المشددة، إن رأيت الله يُتابعك، يُحاسبك، يسوق لك بعض الشدائد عند بعض الأخطاء، حينما تُسرف يقلّ دخلك، حينما تستعلي يأتي مَن يُحَجّمك، حينما ترى أن الله يُتابعك هذه نعمة كبرى، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾
مصائب المؤمنين مصائب دفع إلى الله ورفع، بينما مصائب العصاة والفُجار مصائب ردع وقصم، أما مصائب الأنبياء مصائب كشف، ينطوون على كمال لا يظهر إلا في المصائب، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ سَعْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. ))
[ صحيح الترغيب: أخرجه الحاكم ]
المُلك الحقيقي أن تملك نفسك:
أيها الإخوة؛ الله عز وجل يقول:
﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾
لبعض المفسرين لفتة رائعة، أن المُلكَ الذي آتاه الله لسيدنا يوسف ما هو؟ إن كان المُلكُ المألوف أنه عزيز مصر هناك ملوك في الأرض كُثر، أحياناً فجّار، منحرفون، طغاة، فهل هذا هو العطاء الحقيقي؟ بعضهم قال: العطاء الحقيقي أن تملِك نفسك، حينما دعته امرأة ذات منصب وجمال، والعلماء أشاروا إلى عشرة أشياء تُرَغّب هذا الشاب الوسيم بالفاحشة، و:
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾
هذا هو الملك، أن تملك نفسك، أن تملكها عند الغضب، أن تملكها عند الشهوة، أن تملكها عند المغريات، ما كل إنسان يصمد أمام هذه الفتنة، فالذي يملك نفسه، ولا تملكه، يملك هواه ولا يملكه، الذي يملك أن يتصرف وفق منهج الله في الشدائد، وفي الصعوبات.
أيها الإخوة؛ الحياة فيها صوارف، وفيها عقبات، وهذه الصوارف والعقبات من أجل أن يرقى الإنسان عند الله، فإذا استطعت أن تنجو من الصوارف إلى غير منهج الله، وأن تتجاوز العقبات التي وُضِعت على الطريق إلى الله فأنت بطل، فلذلك: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ أي آتيتني سيطرة على نفسي، يقول أحد زعماء بريطانيا: ملكنا العالم ولم نملك أنفسنا.
حتى إن أجمل كلمة تُلَخص الحضارة الإسلامية أنها سيطرة على الذات، حينما فُتِحت القدس من قِبل الفرنجة ذُبح سبعون ألف إنسان في يومين، أما حينما فتحها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لم يُهرق ولا قطرة دم، يوجد سيطرة على الذات، أي أعظم شيء بالمؤمن أنه مُنضبط، مسيطر على ذاته، هذا هو المُلك الحقيقي، أن تملك نفسك.
الإيمان مرتبة علمية أخلاقية جمالية:
لذلك قالوا: الإيمان مرتبة، مرتبة علمية، أخلاقية، جمالية، نحن الآن نستهين بكلمة مؤمن، لكن مثلاً: فلان دكتور، أي معه إتمام مرحلة ابتدائية، معه شهادة إعدادية، معه شهادة ثانوية، معه شهادة ليسانس، أو بكالوريوس، معه دبلوم عام، دبلوم خاص، ماجستير، دكتوراه، والدكتوراه أي يوجد بحث جديد لم يُسبق إليه، وناقشه مجموعة علماء كبار، واعتمدته جامعة، وأصبح كتابًا، إن وجدت اسم د. قبل اسم الشخص يكون قد مرَّ بكل هذه المراحل، للتقريب: وإن وجدت فلاناً مؤمنًا أي يتمتع بمرتبة أخلاقية، لا يوجد مؤمن كاذب، مؤمن محتال لا يوجد، مؤمن متكبر لا يوجد، مؤمن وصولي لا يوجد، مؤمن منافق لا يوجد، مرتبة أخلاقية.
ومرتبة علمية، عرف الحقيقة الكبرى في الكون، عرف الله، عرف سرّ وجود الإنسان وغاية وجوده.
ومرتبة جمالية، له أذواق عالية جداً، منغمس في سعادة لو وُزِّعت على أهل بلد لكفتهم، فالإيمان مرتبة جمالية، أخلاقية، علمية.
المؤمن همُّه كبير ورسالته نبيلة:
لذلك قالوا: المؤمن إنسان متميز يرى ما لا يراه الآخرون، له رؤية عميقة، فَهِم حقيقة الحياة الدنيا، فَهِم حقيقة الوجود، حقيقة الكون، حقيقة الحياة الدنيا، حقيقة الإنسان، طبيعة المهمة التي أُنيطت به، إذاً يرى ما لا يراه الآخرون، ويشعر بما لا يشعرون، الآن هناك أقوياء وضعفاء بالعالم، وهناك أغنياء وفقراء، الضعفاء والفقراء مسحوقون، لكن هناك موقف للنبي عليه الصلاة والسلام
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ-تنظفه-أَوْ شَابًّا، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَنْهَا، أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ. ))
ودعا لها، أي يشعر بما لا يشعرون، لا تكون إنساناً كامل الإنسانية إلا إذا شعرت بمن حولك، هذا الذي يعيش لشهواته، وحظوظه، ولا ينتبه إلى البؤساء، والفقراء، والضعفاء، هذا إنسان بعيد عن منهج الله عز وجل، المؤمن يرى ما لا يراه الآخرون، ويشعر بما لا يشعرون، يتمتع بوعي عميق، وإدراك دقيق، هناك وعي وهناك إدراك، له قلب كبير، هذا القلب يكبر، ولا ترى كبره، فيتضاءل أمامه كل كبير، ويصغر، ولا ترى صغره، فيتعاظم عليه كل حقير، المؤمن له قلب كبير.
صدقوا أيها الإخوة؛ كلمة من القلب، المؤمن أكبر من أكبر مشكلة في الدنيا، هو أكبر، بينما غير المؤمن أصغر من أصغر مشكلة في الدنيا، مشكلة طفيفة تسحقه، تقلِبه إلى يائس، إلى مُحبط، إلى مستسلم لمصيره، أما المؤمن أكبر من أكبر مشكلة تحيط به، له قلب كبير، وعزم متين، همته عالية، وإرادة صُلبة، هدفه أكبر من حاجاته، هناك إنسان حاجته بيت، حاجته زوجة، دخل، هذه كل أهدافه، فإذا تزوج، وكان له دخل، وله بيت انتهت كل أهدافه، يُحِس بالفراغ، يُحِس بالتفاهة، أما المؤمن يحمل همّ أمته، أهدافه أكبر من حاجاته، رسالته أسمى من رغباته، معه رسالة.
إخوتي الكرام؛ هناك صفة بالعالم الغربي، أنا أضع يدي عليها تماماً، الصفة أن الإنسان هناك بلا هدف، هدفه نفسه، هدفه دخله، هدفه شهواته، هدفه حظوظه، هدف كبير يسعى له، والإنسان لا يتقدس إلا بهدف كبير، لا يسعد إلا إذا كان له رسالة، يحمل رسالة، يحمل هدفاً، رسالته أثمن من رغباته، يملك نفسه، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ ، ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ الملك يملك نفسه، ولا تملكه، يقود هواه، ولا ينقاد له، تحكمه القيم، ويحتكم إليها من دون أن يُسَخّرها أو يَسخر منها، تحكمه القيم ويحتكم إليها من دون أن يُسخّرها لمصالحه أو يَسخر منها.
الإيمان مرتبة عالية جداً:
الحقيقة أيها الإخوة؛ الإيمان مرتبة عالية جداً، الإيمان أي إنسان حقق الهدف من وجوده، الإيمان يعني أن الإنسان حقق الهدف الذي خُلِق المؤمن من أجله، عرف الله عز وجل، وعرف منهجه، وانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسِلم وسعِد في الدنيا والآخرة.
فلذلك: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ أي علاقة الإنسان بهذا الاسم أن يملك نفسه عند الغضب، عند العقبات الكأداء، عند الصوارف المُغرية، أن يملِك نفسه، المؤمن رجل مبدأ، المؤمن رجل قِيم، لأنه اتصل بالملك فمَلَك نفسه، وأعظم مرتبة تملكها أن تملك نفسك، وأكبر سيئة تصيب الإنسان أن يتفلت من منهج الله، أن يثيره موقف استفزازي يخرج عن طوره وعن مبادئه وعن قيمه، سبحان الله! هذا الاسم له تطبيقات رائعة جداً، أرجو الله سجانه وتعالى في لقاء قادم أن نتابع هذا الموضوع.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق