وضع داكن
30-04-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 022 - الإيثار
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الإيثار:


أيها الإخوة؛ مع الدرس الثاني والعشرين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين، ومنزلة اليوم منزلة الإيثار، هذه المنزلة مأخوذةٌ من قولهِ تعالى: 

﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾

[ سورة الحشر ]

 

السِّمة والصِّفة والفرق بينهما:


إذا قُلت: إنَّ في المؤمنِ سِمةً، ومعنى السّمة غيرُ الصِفة، قد تعود عشرات الصفات إلى سِمةٍ واحدة، فالسِّمةُ أعمقُ وأوسعُ شمولاً، فإذا قُلت: إنَّ من سِمات المؤمن، من خصائصهِ، من كُليّاتهِ، من الصفات الكبرى التي يتصفُ بها، أي بالتعبير الحديث جداً من مواقفهِ الاستراتيجية، الأساسية الإيثار، ومن صِفات الكافر والفاسق والفاجر الأَثَرَةَ، أي الكافر يؤثِرُ ذاتهُ على كلِّ الناس، ليس عنده مانع من أن يبني حياتهُ على موت الناس، وغِناهُ على فقر الناس، ومجدهُ على أنقاض الناس، وأَمنهُ على خوف الناس، بينما المؤمن من خصائصهِ الكُبرى ومن صِفاتهِ العُظمى ومن سِماتهِ الأساسية أنهُ يُؤثِرُ الآخرين على نفسه، والدليل: هؤلاء الأنصار أثنى الله عليهم فقال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ طبعاً إذا آثرتَ الآخرين وأنتَ في بحبوحةٍ كبيرة فهذه مؤاثرة، فهذا كرم، أما أن تكونَ في خصاصة هذا يُذكّرُنا بالقول: أحبّ الأسخياء وحُبي للفقير السخيّ أشد، أُحبّ الكُرماء وحُبي للفقير الكريم أشد، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( عن أبي هريرة  سبق درهمٌ مائةَ ألف كان لرجلٍ درهمانِ فتصدَّقَ أجودُهما وانطلق رجلٌ إلى عرضِ مالِه فأخذ منها مائةَ ألفٍ فتصدقَ بها. ))

[ النسائي : صحيح  ]

فالإيثارُ لاحظ الآية: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ أمّا الخصاصة تُضاعِفُ قيمة إيثارهم.
القسم الثاني من الآية: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ماذا يُقابل الإيثار؟ الشّح، إذاً الإنسانُ بينَ شُحّ وإيثار، إن كانَ مؤمناً فهو يؤثر، وإن كانَ غير مؤمنٍ فهو شحيح.
الآن هناك معنى دقيق؛ الشحيحُ حريصٌ على ما ليسَ بيدهِ، أي لو أن إنساناً رآه يُنفق لَلامَهُ، لماذا تُنفق يا رجل؟ هذا المال دعهُ لكَ، ادخره لوقت الشدة، لماذا تُنفق؟ أمجنون أنت؟ الشحيحُ حريصٌ على ما ليسَ في يدهِ، فإذا حصلَ هذا في يدهِ كانَ بهِ أشح، وبَخِلَ بإخراجه، والبخلُ صِفةٌ ماديّةٌ أساسُها الشُّح، من الداخل شُح، من الخارج بُخل، ومن يوقَ مرض الشح، هذا مرض عُضال: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالبخلَ سلوكُ النفسِ الشحيحة، والعطاءُ سلوكُ النفسِ المؤاثِرة الكريمة، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عن عبد الله بن عمرو: إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا. ))

[ صحيح أبو داود ]

مرة ثانية: السّمةُ الأساسيةُ، الصّفةُ الثابتة، الحركة اليومية لغير المؤمن هي الشّح، والصفة البارزة للمؤمن هي المؤاثرة والإيثار.
 

مراتب العطاء:


قالَ عبد الله بن المبارك: سخاء النفسِ عمّا في أيدي الناسِ أفضلُ من سخاء النفسِ بالبذل، أي الإنسان إذا تعففَ عن أموال الناس، هذا أولُ مراتب الإيثار، فإذا أعطاهم كانَ أرقى، العطاء لا يُبنى إلا على التعفف، تتعففُ أولاً وتُعطي ثانياً، الحقيقة يوجد ثلاث مراتب متعلّقة بالعطاء: 

المرتبة الأولى: الإيثار:

أعلى هذه المراتب هي الإيثار، الإيثار سُمي إيثاراً لأنهُ يُعطي الكثير ويُبقي القليل. 

المرتبة الثانية: السخاء:

أما إذا أعطيتَ القليل وأبقيتَ الكثير فهذه منزلة هي أقلُّ من منزلة الإيثار بكثير اسمها: السخاء، سخت نفسُكَ بهذا العطاء، أعطيت القليل وأبقيتَ الكثير.

المرتبة الثالثة: الجود:

إذا أعطيتَ بقدرِ ما أبقيت فهذا هو الجود، فإذا أعطيتَ الكثير وأبقيتَ القليل فهذا هو الإيثار، الإيثارُ، الجودُ، السخاءُ، ثلاثُ صفاتٍ أساسيةٍ للمؤمن،

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلانًا؟  قَالَ: سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ. ))

[ صحيح البخاري ]

أنتم الآن تؤثرون، أنتم مُتخلّقون بأخلاق المؤاثرة، ولكن بعدي سوف تلقون أناساً أشحاء، يتخلقون بالأثرة، الأنانية، فالإنسان بينَ الأثرةِ والمؤاثرة، بينَ أن يُفضّلَ ذاتهُ وبينَ أن يُفضّلَ غيره، المؤمن دائماً يبتغي رِضوان ربهِ، إذاً يُفضّلُ غيره، هو المؤمن لا يُؤثِر الآخرين إلا ابتغاءَ مرضاة رب العالمين، إذاً ماذا يفعل؟ يتّخذُ من إكرام الناسِ ومن إيثارهم على نفسهِ سبيلاً إلى الله عزّ وجل، فالطريقُ إلى اللهِ أساسه الإيثار، والقطيعةُ مع الله أساسُها الأثرة، الشّح، فأنتَ بينَ الأثرةِ والإيثار، بينَ الجودِ وبينَ الشّح، بينَ أن تُعطي وبينَ أن تأخذ، وقد صدقَ من قال:
 إذا أردتَ أن تعرِفَ مقامك أمن أهل الدنيا أنت أم من أهل الآخرة دقق ما الذي يُفرِحُك؟ ما الذي يُسعِدُك؟ أن تُعطي أم أن تأخذ؟ إذا كانَ الذي يُفرِحُكَ أن تُعطي فأنتَ وربِّ الكعبةِ من أهل الآخرة، وإذا كانَ يُفرِحُكَ أن تأخذ فأنتَ قطعاً من أهل الدنيا، إذاً صِفتان أساسيتان، سلوكان عامّان، حركتان ثابتتان، إمّا أن تكونَ من أهلِ الأثرة، وإمّا أن تكونَ من أهل المؤاثرة،.
سيدنا قيس بن سعد بن عُبادة رضي الله عنهُما كانَ من الأجواد المعروفين، حتى إنه مَرِضَ مرةً، فاستبطأَ إخوانهُ في العيادة، فسألَ عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لكَ عليهم من الدين، أي الدين الذي عليهم حالَ بينهم وبينَ أن يعودوك، فقالَ سيدنا سعدُ بن عبادة: أخزى الله مالاً يمنعُ الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديّاً يُنادي: من كانَ لقيسٍ عليهِ مالٌ فهوَ مِنهُ حِلّ، فما أمسى حتى كُسِرت عتبةُ بابِهِ لكثرةِ من عاده. 
 

مراتب الجود:

 

1ـ الجود بالنفس:

الآن يوجد عندنا عشرة أنواع أو عشر مراتب للجود، سأُفصّلُ فيها إن شاءَ الله تعالى، فلعّلَّ أحدنا يتخلّقُ ببعضها أو بأكثرِها أو بأقلِّها، فقالوا: أحد هذه المراتب وربما كان أعلاها على الإطلاق الجودُ بالنفس، هذا الذي يُقتلُ في ساحة المعركة شهيداً، هذا الذي قدّمَ للهِ ذاتهُ، قدّمَ نفسهُ، والجودُ بالنفسِ أقصى غاية الجود، النبي عليه الصلاة والسلام ذكرَ للشهيدِ صفاتٍ تكادُ لا تُصدّق، أُولى هذه الصفات أنَّ الله سبحانه وتعالى يجعلُ طريقةَ قتلِهِ ليست مؤلِمةً أبداً، إطلاقاً، ويجعلُ دَمَهُ له رائحةُ المِسك، ويرى منزلتهُ في الجنةِ قبلَ أن يُقتل، قال تعالى: 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾

[ سورة آل عمران ]

ولكن بقوانين لا علاقةَ لها بقوانين الدنيا، لذلك الجودُ بالنفس وهو أعلى مراتِبهِ، وكم من حفرياتٍ تمّت في بلاد الرافدين فعُثِرَ على جُثث الصحابة بعدَ ألفٍ وثلاثمئة عامٍ كما هي! وكم من حفريات تمّت في اليرموك فعُثِرَ على أجساد الصحابةِ كما هي! والشهداءُ الذين قدّموا أرواحهم في سبيل الله هؤلاء لهم أعلى الدرجات، أعلى درجة في الجود أن تجودَ بنفسك. 

2ـ الجود بالرياسة:

يوجد درجة ثانية عاليةٌ جداً وهي الجودُ بالرياسة، لك مكانة رفيعة ضحيّتَ بها في سبيل الله، إنسان أحياناً يكون لهُ منصب رفيع أو مكانة معينة، فإذا أرادَ أن يستقيمَ على أمر الله، وإذا أراد أن يرضي الله عزّ وجل، لابدَّ من التخلّي عن هذا المنصب، أو عن هذه المكانة، أو عن هذه المنزلة، أي المكانة التي يحتلّها الإنسان شقيقةُ الروح، فلذلك كثيرٌ من الذين كفروا واستكبروا وكابروا وأبَوا أن يؤمنوا أو أن يُسلِموا حِفاظاً على مكانتهم، وحفاظاً على مركزهم، وحفاظاً على رياستهم، فإذا ضحّى الإنسان بمكانتهِ أو برياستهِ أو بمنصِبهِ أو بمنزِلتهِ في سبيل ربه، أمّا هُنا المُشكلة، المُشكلة وكما أقول دائماً رُبما تأخذون عليّ أنني أستخدمُ هذه العبارة كثيراً، زوالُ الكونِ أهونُ-أنا والله هذه العبارة ما رأيت عبارةً تُعبّرُ عمّا في نفسي من هذه الكلمة-زوالُ الكونِ أهونُ على الله عز وجل من أن يُضيّعَ مؤمناً آثَرَ رِضاه، آثرتَ رِضاه ويُضيّعُك؟ آثرت رِضاه ويُخزيك؟ آثرتَ رِضاه ويجعلُكَ في مؤخرة الركب؟ آثرتَ رِضاه ويُفقِرُك؟ آثرتَ رِضاه ويُشقيك؟ هذا شيء مستحيل في ذات الله عزّ وجل، لأنهُ الكريم، إنه الشكور، فأكثرُ الناس يقولون: إذا فعلتَ كذا وهو طاعة يُصيبُكَ كذا وكذا، أهكذا؟ لأنكَ أطعتَ الله عزّ وجل دفعتَ هذا الثمن الباهظ؟ هذا كلام، لكن ما الذي يحصل؟ قد يتراءى لكَ أنكَ إذا أطعتَ الله جاءكَ ضررٌ كبير، وشقاءٌ طويل، لكنكَ لشدةِ حُبكَ لله عزّ وجل تؤثِرُ ما عِندَ الله من سعادة وتُضحّي، الذي يحصل أنَّ الله سبحانه وتعالى يُبدّلُ القوانين من أجلك وهي الكرامة، فهذا الذي كانَ من الممكنُ أن يثورَ ويغضب لهذا الموقف الذي وقفته، يعطِفُ ويُقدّرُ ويُبجّل هذا الموقف، ويعودُ الموقف الخطير موقِفاً مُسعِداً، أحد إخواننا الكِرام له عمل مع شركة أجنبية، ودخلهُ كبير جداً منها، وهؤلاء الموظفون يحملون في حقائبهم الخمرة إذا اشتروا من بعض المحلات، فحينما رأى مركبتهُ يوضعُ فيها الخمر أبى عليه إيمانهُ، وأبت عليه مروءتهُ واستقامتهُ وغيرتهُ وحُبه لله عزّ وجل فنوى أن يُضحي بكلِّ هذا الراتب الضخم، وبكلِّ هذه الوظيفة ذات الدخل المُرتفع، ويقول: لا أسمحُ أبداً لأحد أن يركب في مركبتي ومعهُ مشروبٌ حرام، فالمفروض أنَّ هؤلاء يستغنون عنهُ، وهناكَ عشراتٌ بل مِئاتٌ يتهافتونَ على أقدامهم ليعملوا معهم براتبٍ ضخم، الذي حصل عكس ما هو متوقّع، أنهم تمسّكوا بِهِ، وبالغوا في تكريمهِ، وأغدقوا عليه من العطايا، وأَمِنوهُ على بيوتهم، وعلى أموالهم، على عكسِ ما أنتَ متوقع، وأقول لكَ هذا الكلام، وأعني ما أقول: إذا جاءكَ عرضٌ أو جاءكَ موقفٌ بينَ موقفين؛ إمّا أن تُطيعَ الله عزّ وجل، تُضَيّع هذا الكسب الكبير، هذه الدنيا العريضة، هذا المركز المرموق، وإمّا أن تقبلهُ على معصية الله، الذي يحصل أنك إذا آثرتَ الآخرة على الدنيا كَسِبتَ الآخرة والدنيا، وإذا آثرتَ الدنيا على الآخرة خَسِرتَ الدنيا والآخرة، لا يوجد كلمة أتفاعل معها كهذا القول، من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، فالجودُ بالرياسة هو ثاني مراتب الجود. 

3 ـ الجود براحته ورفاهيته:

أمّا المرتبة الثالثة فالجود براحتهِ ورفاهيتهِ، الإنسان يدخل إلى بيته، يتناول طعام الغداء، يستلقي على السرير، يستيقظ، حولَهُ أهلهُ وأولاده، بإمكانهِ أن يبقى مُستمتعاً في بيتهِ، يطلب من حين لآخر ما لذَّ وطاب، لكنهُ تركَ البيت، وتركَ المقعد الوثير، وتركَ الزوجة الوفيّة، وتركَ الأولاد الذينَ هم كالعصافير، تَرَكَ كُلَّ أولئك، ركبَ السيارة الأولى، ورَكِبَ الثانية، وقد يكون فيها ازدحام، ليصلَ إلى بيت الله، ليحضُرَ مجلس عِلم، أنتَ بماذا جُدت؟ جُدْتَ براحتك ورفاهيتك، طُرِقَ بابُك في وقتِ راحتك، من الطارق؟ فُلان، هذا وقتُ نومي، أبلِغوه أنني لستُ مستعداً لاستقباله الآن، آثرتَ الراحة، أمّا إذا نهضت، وأجبتَ طلبه، ورددتَ لهفته، وأغثتهُ، بماذا جُدتَ أنت؟ جُدتَ أنتَ براحتك ورفاهيتك، إذاً الجودُ براحة الإنسان ورفاهيتهِ هذا أيضاً من الجود. 

4 ـ الجود بالعلم:

المرتبة الرابعة الجودُ بالعِلم، أول واحدة بالنفس، الثانية بالمكانة والمنزلة، الثالثة بالراحة، هناك أُناس لا يمكن أن يُضحّوا بأوقاتِ راحتهم، لا يُمكن أن يُضيعوا قيلولتهم كُلَّ يوم، لا يُمكن أن يُضيّعوا سهرتهم كُلَّ يوم، أي لو أنَّ الناسَ تَعِبوا كثيراً هو عليهِ أن يرتاح، هذا أيضاً من ضعفِ الإيمان.
المرتبة الرابعة الجودُ بالعِلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، لأنهُ من أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعاً، أي أيها الأخ الكريم أنت ما تذوقت أنَّ إنساناً كان ضائعاً، تائهاً، شارداً، شقيّاً، بيتهُ جحيم، مُشكلاتهُ كثيرة، دللتهُ على الله فاستقام على أمرِهِ، فشعرَ بالسعادة والطمأنينة، تيسّرت أعمالهُ، يَسّرَ الله له دخلاً وفيراً، يَسّرَ الله له زواجاً سعيداً، فحينما التقيتَ بهِ بالَغَ في شُكرِك، وأثنى على دعوتك، وقالَ لكَ: جزاكَ الله عني كُلَّ خير، كُلُّ أعمالي في صحيفتك، أنتَ سببُ هِدايتي، ألا تشعر وأنتَ تستمعُ من هذا الإنسان لهذا الثناء أنَّ الله يُحِبك، وأنَّ الله قد رَضي عنك، وأنَّ هؤلاءِ الخلق عيالُ الله، وأنَّ أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، ألا تشعر بالغِبطة أن يستخدِمكَ الله في الخير؟ ألا تشعر بالاعتزاز أن تكونَ موظفاً عِندَ الله عزّ وجل؟ ألا تشعر بالقُرب حيثُ أنَّ الله سبحانهُ وتعالى أجرى على يدكَ الخير؟ هذا شعور والله يا أيها الإخوة لا يعرِفهُ إلا من ذاقهُ.
أنا مرة  قلت لكم: هناك مجلة كُنتُ أقرؤها، هي مُترجمة كُلُّها، مرة قرأتُ فيها كلمتين في مؤخرة صفحةٍ فارغة، أي بعض المجلات يكون قد بقي نصف صفحة فارغة يضعون فيها حِكمة، قرأتُ هذه الكلمة ولا أنساها حتى الموت: إذا أردتَ أن تسعَد فأسعِدِ الآخرين، أي إذا أردتَ أن تسعَد فأدخل على قلبِ الناس السرور.
مرة جاءني مُنجّد للبيت معهُ صانع، يبدو أنه فقير جداً، وجههُ كالح ومُعذَّب، أنا شعرت من ملامح وجهه، من لون وجهه، من جمود نظرته، أنهُ طفل هيّن على الناس كثيراً، فنريد أن نأكل، تعال يا أخي تعال كُلْ معنا فتمنّعُ وخاف، تعالَ كُلْ، قال لي: قد أكلت، ألححتُ عليه أن يأكل ورحّبتُ به وابتسمتُ له، سبحان الله! أشرقَ وجههُ، شَعَرَ كأنهُ بينَ أهلِهِ، هكذا المؤمن، طفل صغير، أجير مُنجّد، خائف، هيّن على الناس، من أسرة فقيرة، وجههُ كالح، أكرمتهُ، ودعوتهُ إلى الطعام، وأثنيتُ عليه حتى استأنس، أنتَ مؤمن، هذا عبد لله، والله مرة قرأت حديثاً لا أنساه: الإنسان بنيانُ الله وملعونٌ من هَدَمَ بُنيانُ الله، هذا الطفل تجعله يخاف؟! تُشقيه؟! تبتزُّ ماله؟! فكلّما ارتفعت معرفتُكَ بالله عزّ وجل تشعر بعطف على الخلقِ كُلِّهم، تشعر بمودة لكُلِّ المخلوقات، هؤلاء عيالُ الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.
فالرابعة الجودُ بالعِلم، أي أنتَ:

﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)﴾

[ سورة المائدة ]

لو فرضنا وجدت ابن صديقك ضائعاً، والأب على نار قلقاً عليه، وشوقاً إليه، فأنت هذا الابن ابن الصديق لو أطعمتهُ شطيرة أو ألبستهُ ثوباً وتركتهُ ضائعاً والأب يغلي، لو أنكَ أطعمتهُ وسُقتَهُ إلى أبيه حتى قرّت عينهُ بِهِ، ألا تشعرُ أنَّ سوقَكَ هذا الطفل الضائع إلى أبيه أعظم عملٍ تُقدّمهُ لأبيه؟ أي أنت قد تُطعم الفقير، ولكن هذا الفقير إذا أطعمتهُ، ثم دللتهُ على الله حتى عَرَفَ الله، حتى أنابَ إليه، حتى رَجَعَ إليه، حتى لاذَ بِحِماه، ألا تشعر أنَّ هذا العمل هو أعظمُ عمل عِندَ الله عزّ وجل؟ أن تَرُدَّ إليهِ عِبادهُ الشاردين التائهين الضالين الذين شَقوا بالبُعدِ عنهُ، لذلك الله شكور، ما معنى شكور؟ أيّ يشكر لك عَمَلَك، يشكر لك عَمَلَك ويجعلُ كُلَّ أعمالِ الذين هديتهم إليه في صحيفتك، كُلُّ أعمالِهم في صحيفة من كانَ سبباً في هدايتهم؛ لذلك نقول نحنُ جميعاً: اللهم أجزِ عنّا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهلُه، كُلُّ أعمالُنا في صحيفة النبي عليه الصلاة والسلام.
 

مراتب الجود بالعلم:

 

1 ـ أن تبذله لمن لا يسألك عنه:

لكن أيها الإخوة؛ الجودُ بالعِلم لهُ مراتب، من الجودِ بالعِلمِ أن تبذُلهُ لمن لم يسألكَ عنهُ، هؤلاء جبابرة العلماء، إذا ما سألت، وتذللت، وخضعت، وانتظرت لا يُجيبُك، أمّا من مراتب الجود بالعِلم أن تبذِلهُ لمن لا يسألُكَ عنه، أي أنتَ راكب بمركبة عامّة من هُنا إلى حلب، وبجانبك صديق، سألتهُ عن عمله، عن اسمه، أنِستَ لهُ، حَدثّهُ عن الله عزّ وجل لو لم يسألك، لكَ صديق، لك قريب، لكَ ابن، لكَ جار، لكَ موظف في محلك، هذا لو أنهُ ليسَ طالِباً للعِلم، ليسَ راغباً فيه، بعيداً عن أجوائهِ، حاول أن تُلقي عليه بعضَ العِلم، جُسَّ نبضَهُ بهذا العِلم، قدّم لهُ شيئاً لطيفاً، شيئاً مُحبباً، شيئاً ممتعاً، شيئاً مثيراً، لعلّهُ يتفاعلُ بِهِ، أعِنهُ على دُنياه، دارِهِ، ابذل شيئاً من الدنيا من أجل الآخرة، فهذه المرتبة أن تبذلهُ لمن لم يسألكَ عنهُ، بل تطرحهُ عليه طرحاً، هذه مرتبة عالية بتعليم الناس. 

2 ـ أن يقدم للسائل جواباً شافياً تاماً مستقصياً:

هناك مرتبة أخرى أنَّ السائلَ إذا سألكَ عن مسألةٍ استقصيتَ لهُ جوانِبها، أحياناً شخص تسألهُ يقول لكَ: لا يجوز، أخي لماذا لا يجوز؟ ما الدليل؟ انتهى لا يجوز، لا يوجد عنده روح يفصل لك، هنُاكَ أطباء هكذا، يصفون الدواء، مم أعاني؟ يقول للمريض: استعمل الدواء، مم أعاني؟ مرض خطير أم غير مرض؟ يضن الطبيب على المريض بكلمة أو بتفصيل أو ببيان.
مرة زرت طبيباً على ظهر الوصفة كتب اسم المرض، تشخيصهُ، وشرح للمريض، هذا المرض هكذا، وشِفاؤهُ عاجل إن شاء الله، ألقى في قلبهِ الطمأنينة، فهناك عالِم لا يُجيبُكَ إلا إذا سألتهُ، وهناك عالِم حتى إذا سألته يُعطيكَ جواباً مُقتضباً، أمّا أن يشرح، أن يُبيّن، أن يأتي بالدليل، الغناء حرام؟ حرام طبعاً، لماذا حرام؟ هذا الدليل، أول آية، ثاني آية، أول حديث، ثاني حديث، بارك الله، الآيات هكذا معناها، هكذا تفسيرها.
فالمرتبة الثانية أن يُقدّمَ له جواباً شافيّاً تامّاً متقصيّاً، قال بعض العلماء: كان إذا سُئلَ عن مسألةٍ ذكرَ في جوابِها مذاهِبَ الأئمةِ الأربعة إذا قدر، ومأخذَ الخِلاف، وترجيحَ القول الراجح، وذكرَ متعلقات المسألة التي رُبما تكونُ أنفعَ للسائل، فيكونُ فرحه بتِلكَ المُتعلقات واللوازم أعظمُ من فرحهِ بمسألته. 

3 ـ ألا يقتصر في المسألة على أحد جوانبها:

الآن من جودِ الإنسان بالعِلم ألا يقتصرَ في المسألة على أحدِ جوانِبِها، مثلاً النبي الكريم سُئل عن الوضوء بماء البحر، فقالَ عليه الصلاة والسلام:

(( هو الطهورُ ماؤهُ -أليس هذا هو الجواب؟ ألم ينته الجواب؟-الحِلُّ ميتتهُ. ))

[ صحيح البخاري ]

هذه زيادة، حبة بركة، لو أنهُ قال: ((الطهورُ ماؤهُ)) انتهى الجواب، قالَ: ((الحِلُّ ميتتهُ)) أجابكَ وزاد، مثلاً سألوه صلى الله عليه وسلم عن الحُكمِ في بيع الرّطب بالتمر، فقالَ عليه الصلاة والسلام:

(( عن سعد بن أبي وقاص  أنَّ النَّبِيِّ سُئِلَ عن بيعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ، فقال: أينقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ قالوا: نعمْ، فنهى عن ذلِكَ. ))

[ رواء الغليل: حكم المحدث صحيح ]

التمر جاف والرُطبُ طري، البلح، ((قالوا: نعم، فالَ: فلا إذاً)) لو قال لهم: لا يجوز، لماذا؟ لو بِعتَ تمراً بِرُطّب الوزن واحد، بعد يومين الرّطب جف، صار الكيلو نصف كيلو أو ثلاثة أرباع الكيلو، فلا يوجد تكافؤ، فلمّا نهى عن هذا البيع أرادَ أن يُبيّن العِلة صلى الله عليه وسلم، ((أينقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ قالوا: نعمْ، فنهى عن ذلِكَ)) أعطاك الدليل، أعطاك العِلّة هُنا، هذه العِلّة عقليّة، أنت إذا سألكَ إنسان قد تُعطيه العِلة النقليّة، الدليل النقلي، لكن أكمل جواب أن تُعطيهُ الدليل العقلي والنقلي، أيجوزُ للمرأة أن تكشِفَ عن وجهها؟ تقول: لا، لماذا؟ الآية الأولى، الآية الثانية، الآية الثالثة، وخمسة أحاديث، الآية الأولى فسّرها ابنُ عباس كذا، فسّرها القُرطُبي كذا، فسّرها الإمام مالك كذا، هذا دليل نقلي، العقلي؟ موطن الجمالِ كُلهِ في الوجه، هذا الدليل العقلي، فإذا سُئِلتَ عن شيء قدّم الدليل العقلي والدليلَ النقلي، فإذا جمعتَ بين العقلي والنقلي فقد استوفيت المسألة، وأجبتَ إجابةً صحيحة، هذا من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام في بذلِ العِلم، شخص ضَمِنَ ضمنةً، فجاءت جائحةً فأتلفت كُلَّ المحصول في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام:

(( عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ ))

[ صحيح مسلم ]

بِمَ يأخذُ أحدكم مالَ أخيه بغير حق؟ أي بِعتهُ هذه الثِمار على الأشجار، وجاءت جائحةٌ فأتلفت كُلَّ شيء، الآن تُطالِبهُ بثمانين ألف ثمن ماذا؟ أي المفروض أن يبيع المحصول، ويربح، ويعطيك ثمن المحصول، أمّا هذه الجائحة قضت على كُلِّ المحصول، أنتَ الآن تُطالِبهُ بثمن هذا المحصول، لوجود اتفاق، فالنبي الكريم قال: ((إن بِعتَ من أخيكَ ثمرةً فأصابتها جائحةٌ، فلا يحلُّ لكَ أن تأخذَ من مالِ أخيكَ شيئاً)) يُقاس عليها أنه: ومن ينكل يدفع خمسين ألفاً، لو نكل فُلان؟ أخذتَ منهُ هذا المبلغ مُقابل ماذا؟ أنتَ عِندكَ خياران؛ إمّا أن تُقيلهُ ولكَ أجر وإمّا أن تُلزِمهُ بالبيع، هذا الشرط، إمّا أن أرفعَ الأمرَ إلى القاضي فيلزِمهُ بالبيع، لأنَّ فيهِ إيجاباً وقبولاً، وخالياً من كلّ تدليس وغش، وإمّا أن أعفو عنهُ، وأُقيلَ عِثارهُ، لي عِندَ الله الأجر، الأولى عدل والثانية إحسان، قال تعالى: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾

[ سورة النحل ]

أما يوجد كثير من الباعة يشتري الإنسان حاجة لا تزال في غِلافِها، أرادَ أن يرجعها، تخسر هذه مئة ليرة، هذه المئة ليرة بِمَ أخذتها؟ لكَ أن تقول له: لا أُقيل عِثارك، البيع تم، ولكَ أن تُقيلَ عِثارهُ، أمّا أن تُقيلَ عِثارهُ بثمن هذا الثمن بِلا عِوض، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فلا يحلُّ لكَ أن تأخذَ من مالِ أخيكَ شيئاً، بِمَ يأخذُ أحدكم مالَ أخيه بغير حق؟)) وفي لفظ: ((أرأيت إن منع الله الثمرة بمَ يأخذُ أحدكم مالَ أخيه بغير حق؟)) بيّن العِلة، بيّن أن هذا عقد بيع، عقد معاوضة، لابدَّ من عِوضٍ مكانَ الثمن، كلُّ عقود البيوع عقود معاوضة، لذلك اليانصيب حرام بِلا عِوض. 

4 ـ الجود بالنفع بالجاه:

أحياناً يوجد مرتبة أُخرى من مراتب الجود هي الجودُ بالنفعِ بالجاه، أي أنتَ لكَ مكانة عِندَ فُلان، ولي قضيّة عِند فُلان، أتذهبُ معي إليه؟ يقول لكَ: واللهِ أنا لا أبذِلُ ماءَ وجهي لأحد، إذاً بخيل، ما دام أنا على حق، وأنا أُطالب بحق، وهذا الإنسان متعنت، لكنهُ يخشاك ويرهبُ غضبك، وأنت تمون عليه، ولكَ عليه دالّة فاذهب معي إليه، كُن شفيعي له، يقول لكَ: لا، أنا لا أبذِلُ ماءَ وجهي أبداً لأحد، إذاً شحيح، هذا المؤمن؟! والله مرة شخص لحاجاتي لا يمكن أن أذهبَ إليه إطلاقاً، لكن طرقَ بابي أخٌ كريم، ولهُ عِندهُ حاجة، قُلتُ: والله أذهبُ معكَ إليه، قلتُ: والله لو أنَّ قضيتي عِندهُ مهما كَبُرَ حجمُها لا أذهبُ إليه، لكن من أجلكَ أذهب، هكذا ينبغي أن نفعل، هذا اسمه: الجودُ بالنفعِ بالجاهِ كالشفاعة، والمشي مع الرجلِ إلى ذي سُلطانٍ، ونحوهِ، وهوَ زكاةُ الجاهِ، جميل هذا التفكير، زكاةُ الوقتِ ما هي؟ حضور مجالس العِلم طبعاً والصلاة أولاً، زكاةُ الجاهِ أن تشفعَ لمظلومٍ عِندَ من يأتمرُ بأمرك، أي مثلاً تحلّ قضية إنسان، تمسح جِراح إنسان، إذا لبستَ ثيابك، وذهبتَ إلى فُلان، وأمضيتَ من وقتِكَ ساعتين، والله أشعر أنَّ المؤمن الصادق لا يمكن أن يبخل بوقته إذا كان في هذه الزيارة إذا ذهبتَ إلى بيتِ هؤلاء يردّونَ لهُ زوجتهُ؟ تجمعُ بينَ زوجين، تمسحُ الأسى عن أطفالِهما، وهذا لا يُكلّفُكَ إلا أن تذهبَ إلى بيت أهلِ الزوجة، وتُقنعهم بِردِّ ابنتهم إلى زوجها، ولكَ عليهم دالّة، ويرهبونك، لذلك أفضلُ شفاعةٍ أن يشفعَ الرجلُ بينَ زوجين في نِكاح. 

5 ـ الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه:

المرتبةُ السادسة في الجودِ الجودُ بنفعِ البدنِ على اختلاف أنواعِهِ، كما قالَ عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ. ))

[ متفق عليه ]

إذا إنسان يحمل أغراضاً ينوءُ بِها، وأنتَ شاب، وشخص يستأهل أن تكونَ في خِدمتهِ، فحملتَ عنهُ حاجاتِهِ، بذلت الآن عضلات، بذلت جهداً عضلياً، هذه صدقة، إذا سِرتَ مع إنسان في شدّةِ قدميك هذه صدقة، إذا حملت مع إنسان، إذا شخص في الطريق تبعثرت حاجاتهُ، والطريق مزدحم، وعكفتَ على هذه الحاجات فجمّعتها لهُ، هذا عمل طيب.  

6 ـ الجود بالعرض:

من أغربِ أنواع الجود الجودُ بالعِرض، والعِرضُ في التعريف الدقيق: موطن المدحِ والذمِّ في الإنسان، فأبو ضُمضُم من الصحابة الكِرام كانَ إذا أصبحَ قال: اللهم إني لا مالَ لي، أنا لا يوجد معي شيء، أنا فقير يا رب، أتصدقُ بهِ على الناس، وقد تصدقتُ عليهم بِعِرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حِلّ، فقال عليه الصلاة والسلام: من يستطيعُ منكم أن يكونَ كأبي ضمضم فليفعل، لا يملك شيئاً من حُطام الدنيا، فقال: إذا شخص شتمني، أو تحدّثَ عنيّ بالسوء فأنا أُسامحهُ، تصدّقتُ على الناس بموطن المدحِ والذمِّ فيَّ، بعِرضي، هذا نوع من أنواع الجود. 

7 ـ الجود بالصبر:

هناك نوع آخر، الجود بالصبر، إنسان لهُ ابن، سيارة دهست ابنهُ، صار عنده كسر، يقدر أن يأخذ تقريراً شرعياً، ويستطيع أن يجبر السائق على دفع مبالغ طائلة، والسائق مستقيم، والحادث قضاء وقدر، وعن غير قصد، ورآه قدّم وبذل وأسعف وجَهِد، وليسَ له دخل كبير إطلاقاً، والله سلّم الولد، فأنتَ عفوتَ عنه، بعد أن اطمأنَّ الأبُ على ابنهِ، وصار هناك نوع من العناية الفائقة، فإذا عفوت عنهُ فهذا جود منك، أما إذا كان عفوكَ عنه يدفَعُه إلى أن يتجاوز حدود الآخرين فهذا لا يجوز، أما إذا كان في عفوِكَ عنهُ تكريماً لهُ، وتقديراً لشعورِهِ الأخلاقي، فربما في بعض المواطن يُعدُّ العفو عنهُ مَكرُمة، الدليل، قال تعالى: 

﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)﴾

[ سورة المائدة ]

شخص جرح الآخر، له حق المجروح أن يقتصَّ من الجارح، قال: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ قال تعالى:

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾

[ سورة الشورى ]

شخص خطب وعقد القِران، بعد أيام نَدِمَ ندماً شديداً، عليه نِصفُ المهر، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)﴾

[ سورة البقرة ]

إذا أهل الفتاة عَفَوا عن هذا الخاطب النادم، وسامحوه بنصف المهر، فهذه صدقةٌ لهم تُعدّ. 

8 ـ الجود بالخلق والبشر والبسطة:

المرتبة التاسعة الجودُ بالخُلِقِ والبِشرِ والبسطة، يكون عِندكِ موظفون، عِندكَ صُنّاع، لكَ مكان قيادي، مُعلّم مثلاً، مدير، مدير مستشفى، مدير مؤسسة، أي أحياناً من حولك يؤنسهم أن تبتسمَ في وجوههم، يَضِنُّ عليهم بابتسامة، يَضِنُّ عليهم بكلمة شُكر، الله يعطيكم العافية لا يقولها، يدخل الجميع يقفون بقي ماشياً، جلس، أعطوني القهوة، قُل لهم: السلام عليكم، عافاكم الله، دخل الحاجب لعندك: كيف صحتك يا بُنيّ؟ كيف أحوالك؟ هل أنت بحاجة لشيء؟ هذا لا يُقلل من قدرك إذا أنتَ مُدير عام، وهذا حاجب، لا يُقلل من قدرك، فهناك جود بطلاقة الوجه، بالسلام، بالسؤال، بالكلمة الطيبة، هذا من الجود، الدليل:

(( عَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ، لا يَقُولُ شَيْئًا إِلا صَدَرُوا عَنْهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: لا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلِ: السَّلامُ عَلَيْكَ، قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ أَوْ فَلاةٍ فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ، قَالَ: قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ، قَالَ: لا تَسُبَّنَّ أَحَدًا، قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلا عَبْدًا وَلا بَعِيرًا وَلا شَاةً، قَالَ: وَلا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ، إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ، فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ، فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. ))

[ صحيح أبو داود ]

هذا معروف أن تبتسم لأخيك، طبعاً لأخيك هو مستغنٍ عنك، أمّا أن تبتسم لموظفٍ عِندك، أن تبتسم لصانعٍ صغير يتمنى أن تبتسم بوجهه، يتمنى أن يسمعَ مِنكَ كلمة مؤنسة.  

9 ـ أقل مراتب الجود أن تترفع عما في أيدي الناس:

أقلُّ مراتب الجود أن تترفعَ عما في أيدي الناس، هذا الجود السلبي، هناك إنسان يطمع بأموال الناس، دائماً عينه عشرة عشرة، حائم عليهم، إذا تعففتَ عن أموال الناس فهذا أحد أنواع الجود.
لكن إن شاء الله هناك موضوع دقيق جداً، وأعلّقُ عليه أهميةً كُبرى في موضوع الجود، أرجو الله سبحانهُ وتعالى أن يُتاحَ لي في درسٍ قادم هو موضوع المؤاثرة، أن تؤثِرَ مخلوقاً على حظِكَ من الله عزّ وجل، هذا تَزِلُّ بهِ أقدامُ كثيرين وهم لا يشعرون، هذا الموضوع إن شاء الله سأوفيهِ حقهُ في الدرس القادم، أي لا مؤاثرةَ في الخير والخيرُ كُلهُ في المؤاثرة، أي أن أُوثر إنساناً ولا أُصلي وأنا أُحدثهُ عن الله عزّ وجل؟! لا، آثرتهُ على صلاتك؟ آثرتهُ على طاعةِ ربك؟ آثرتهُ على حظِكَ من الله عزّ وجل؟ هذا موضوعٌ دقيقٌ دقيق، وأكثرُ المؤمنين قد تَزِلّ أقدامهم فيه، فينبغي إن شاء الله تعالى في درسٍ قادم أن نوفّيهُ حقهُ.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور