وضع داكن
10-11-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - الندوة : 03 - ثناء الله على أخلاق منحة للنبي عليه الصلاة والسلام
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تقديم وترحيب :

أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق ، الذي يأتيكم ظهيرة كل اثنين بمشيئة الله عبر الفضائية السورية ، وكنا قد بسطنا لهذا البرنامج في حلقتين متتاليتين ، وفي نفس هذا الموعد مع أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين .
أهلاً وسهلاً بكم أستاذنا .

تذكير بالسابق وربط باللاحق :

الحقيقة أنك قد بسطت في الحلقتين عن مسألة تغيب عن الكثير منا ، عندما شرحت كلام ابن قيم الجوزية : " الإيمان هو الخلق " ، واخترت لهذا البرنامج هذا العنوان مقتبساً من ابن القيم في قوله ، وتبينا في الحلقتين الماضيتين بأن ميزان التفاضل بين الناس إيماناً من خلال الخلق ، فمن زاد على أخيه في خلقه زاد عليه في الإيمان ، وتبينا في تعريف الخلق والأخلاق بأنها انضباط وعطاء ، الانضباط هو الكابح المعنى السلبي ، العطاء هو المعنى الإيجابي ، الدفع نحو البذل والخير والجود والكرم ، أما الانضباط فلا أؤذي ، فلا أشتم ، فلا أتناول أحداً في مكروه ، إذاً كبح أو منع ثم عطاء ، هذا هو التعريف الذي وصلنا إليه من خلال بسطتم في الحلقتين الماضيتين ، وتبينا أن العبادة طاقة وطاعة ، وأن العبادة توصل إلى مراتب علية ، وأن العبادة إن لم ترطبت بأهدافها فتذهب هباء منثورا ، ولا يستفيد منها من قام بالطاعة ، رغم أن الطاعة يجب أن يؤديها ، ولكن لا يقطف ثمارها .
جئت بمثال أستاذنا ، كمَن يدخل الامتحان ولم يحضر دروسه ، ولم يحضر لمواده ، ولم يداوم ... وجاء إلى الامتحان ، وقد وضع مجموعة من الأقلام الصفراء والخضراء ، وأتى بكل عُدده المساعدة ليتقدم إلى الامتحان هو حضر ، أدى الشكل ، لكنه لم يجِب عن أي سؤال ، ولم ينجح .
وصلنا إلى مسألة هامة جداً عندما امتدح الله عز وجل خاتم أنبياء بمديح ، هذا المديح يعتبر ثناء ، ويعتبر وساماً ربما تفرد به النبي عليه الصلاة والسلام عن بقية الأنبياء والرسل ، وقال : 

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ

( سورة القلم )

توقفنا في الحلقة الماضية عند هذا المحض ، كيف نفسح فيه ، وسننتقل منه إلى مفاصل أخرى .

ثناء الله على أخلاق النبي عليه الصلاة ة والسلام :

الدكتور :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ علاء جزاء الله خيراً ، الله عز وجل منح نبيه الكريم خصائص كثيرة لا تعد ولا تحصى ، منحه الوحي ، منحه المعجزات ، منحه الفصاحة ، منحه البيان ، منحه التأييد ، منحه الجمال ، منحه أشاء كثيرة ، لكن الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى حينما أثنى عليه لم يثنِ عليه لكل هذا الذي منحه إياه ، بل أثنى عليه لخلقه العظيم .
سأوضح المعنى بمثل : لو أنك قدّمت لابنك مركبة ، هل يعقل أن تقيم حفلا تكريميا له لأنك قدمت له هذه المركبة ؟ لا معنى لهذا الحفل ، لكن إذا نال الدرجة الأولى في الثانوية تقيم له حفلا تكريميا ، لأن التفوق من كسبه ، ومن اجتهاده .

1 – الخُلُق جُهدٌ بَشريٌّ :

فالخُلق جهد بشري ، عملية ضبط ، الخلق عطاء ، الخُلق أن تخرج من ذاتك ، الخلق أن ترحم من حولك ، الخلق أن تكون قدوة لهم . 

2 – تزويد الله نبيَّه بأدوات الدعوة :

إن الله عز وجل أعطى نبيه الكريم أدواة الدعوة ، قال عليه الصلاة والسلام : 

(( أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش ))

[ أخرجه الطبراني عن أبي سعيد الخدري ]

أعطاه فصاحة اللسان ، أعطاه ذاكرة تفوق حد الخيال .

سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى

( سورة الأعلى )

أعطاه المعجزات ، أعطاه الوحي ، أعطاه القرآن ، عرج به إلى السماء ، إلى سدرة المنتهى ، ولم يذكر الله هذه العطاءات لأنها من الله عز وجل ، وقد تلقاها بفعل أنه هيأه الله ليكون الداعية الأول في العالم .

3 – وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ :

لكن حينما أثنى عليه ، أنثنى على خلقه :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

أما نحن فقد نجد أحدنا ذا خلق ، ولكن لا كما وصف النبي :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

( على ) تفيد الاستعلاء .
أنا أحياناً أُستفز ، أدخل في صراع مع نفسي ، أنتقم لا أنتقم ، فإذا انتقمت ما النتيجة ؟ قد أنتصر في النهاية على نفسي ، فإذا انتصرت على نفسي فأنا ذو خلق ، لكن لا على خلق عظيم ، مع أنه متمكن إلى درجة أنه لا يدخل في الصراع ليكون أخلاقياً متمكنا من أخلاقه لدرجة كأنه في قمة جبل ، لكن نحن على الساحل ، قد تأتي موجة فتأخذنا إلى البحر ، فنحاول أن نتفلت منها ، نحن في صراع ، وقد كان عليه الصلاة والسلام على خلق في قمة جبل .
تقريباً : إذا كان هناك ميزان ، في الكفة الأولى شهوات الإنسان ، وحاجاته وغرائزه ، وفي الكفة الثانية قناعاته ، لو تصورنا أن شهواته بوزن خمسة كيلو ، وكلما سمع درسا ، أو سمع محاضرة ، يوضع في الكفة الثانية خمسة غرامات أو عشرة غرامات ، مادامت الشهوات والحاجات والميول والغرائز لها ثِقل كبير فهو مع المعصية والإثم والتفلت ، إلى أن تصبح الكفة الثانية فيها قناعات بوزن شهواته ، هنا دخل في الصراع ، أذهب لا أذهب ، أنتقم لا أنتقم ، أخالف لا أخالف ، أما إذا أصبحت القناعات مئات الكيلو غرامات والشهوات خمسة كيلو دخل في الأعماق ، لذلك قال تعالى :

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ

( سورة الحج الآية : 11 )

فأَقلُّ إغراء يأخذه إلى المعصية ، أو أقلّ ضغط ، أما المؤمن إذا كان في الأعماق فلا تثنيه عن هدفه لا سبائك الذهب اللامعة ، ولا سياط الجلادين اللاذعة ، هذا هو الثبات ، أحدُ أحد ، كما قال سيدنا بلال .

(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمين والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

[ السيرة النبوية ]

الأنبياء قِمم البشر :

إذاً :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

شيء رائع جداً ومتمكن ، هو ليس في صراع في الأعماق ، بل هو في قمم الجبال ، لذلك الأنبياء قمم البشر ، ولا ينبغي أن نقبل قصة وردت في بعض التفاسير من الإسرائيليات تأخذ من مكانتهم ، أو تأخذ من كمالهم ، هم قمم البشر ، وقدوة لبني البشر ، ونبينا عليه الصلاة والسلام على رأس هؤلاء القمم من البشر .
المذيع :
أستاذنا ذكرت ما قاله تعالى :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

كأكبر وسام وضع على هامة النبي عليه الصلاة والسلام ، نأتي إلى ما قبل ذلك بقليل ، عند بداية الوحي ، وعند نزول الوحي ، ولما كان النبي عليه الصلاة والسلام يتحنث في الغار ، وجاء وقال :

(( دثِّروني دَثِّروني ))

[ مسلم عن جابر ]

وموقف السيدة خديجة أم المؤمنين في حوارها مع النبي في تثبيته ، لأنه شيء جديد نزل عليه ، قالت له مجموعة أشياء ، تصب في بوتقة وخانة ولوحة :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

الإنسان مفطور على التديُّن :

الدكتور :
والله هناك ملمح رائع جداً قد يغفل عنه بعض الناس ، مَن علّمها ؟ ولم ينزل الوحي بعد ، أن الله لم يخيبه ، وفي الجاهلية لم يخزِه ، لأنه يصل الرحم ، ويحمل الكَلَّ ، ويَقري الضيف ، ويعين على نوائب الدهر ، من علمها هذه الفطرة؟ هذا أكبر شاهد على أن الإنسان مفطور على التدين ، وبفطرتها أدركت أن هذا الإله العظيم لا يمكن أن يخزي إنساناً محسناً يقري الضيف ، يحمل الكَلّ ، يعين على نوائب الدهر ، يصل الرحم ، بفطرتها ، لم يأتِ الوحي بعد إطلاقاً .

لا يستوي المحسن مع المسيء : مع السيدة خديجة :

وأنا والله أقول من أعماقي لكل شاب مؤمن ، لكل شابة مؤمنة : تفاءل ، وثق بالله عز وجل . 

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ

( سورة الجاثية )

أستاذ علاء ، هذا لا يتناقض مع عدل الله فحسب ، بل يتناقض مع وجوده ، أن يستوي المحسن مع المسيء ، الصادق مع الكاذب ، المستقيم مع المنحرف ، المنصف مع الجاحد ، هذا شيء مستحيل وألف ألف ألفِ مستحيل أن يكون . 

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ

( سورة السجدة )

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

قد نتوهم هذا في الآخرة ، لا ، في الدنيا .

﴿ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ ﴾

مكانة المؤمن بيته ، زوجته ، أولاده ، وصحته ، تألقه ، هذا في حساب ، هذه مكافأة الله في الدنيا . 

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ

( سورة الرحمن )

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ﴾

أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ

( سورة القلم )

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ

( سورة القصص )

والله الذي لا إله إلا هو ، وأقول هذا الكلام ، وأنا أعني ما أقوله كلمةً كلمَةً : أن يستوي عند الله المحسن مع المسيء ! والمستقيم مع المنحرف ! والصادق مع الكاذب ! هذا لا يتناقض مع عدل الله فحسب ، وإنما مع وجوده ، ويجب أن نطمئن ، وأن أطمئن كل شاب وشابة ، وكل مشاهد لهذا البرنامج ، أنه إذا استقام على أمر الله فله معاملة خاصة ، أكدَّها بدء الوحي من خلال السيدة خديجة ، لم يأتِ شيء من الوحي بعد ، لم تتعلم شيئاً من النبي ، لكنها بفطرتها أدركت أن هذا الإله العظيم الذي خلق السماوات والأرض لا يمكن أن يعامَل إنسانٌ يصل الرحم ، ويحمل الكَلّ ، ويَقري الضيف ، ويعين على نوائب الدهر ، كما يعامَل إنسانٌ منحرف ، متفلت ، مسيء للبشر .
المذيع :
ونعود في هذه المحطة ، حتى المشركون قالوا عنه : الصادق الأمين ، ولما خرج أبو سفيان على قيصر ، وقال : أخبروني عن صاحبكم ، فشهد بأخلاقه ، وشهد بأنه يؤدي الأمانة ، وأنه على خلق كبير ، وأنه يتحلى بأشياء لا يتحلى بها غيره من الناس .

حُسنُ خُلق النبي وسلوكُه السوي مع الطرف الآخر :

الدكتور :
لذلك المسلمون حينما فهموا دينهم فهماً مغلوطاً ، واستباحوا أموال الطرف الآخر ينقدهم النبي بسلوكه ، قبل أن يهاجر ترك ابن عمه علياً رضي الله عنه ، وخاطر بحياته من أجل أداء الأمانات ، وأموال المشركين ليسوا مؤمنين ، أرأيت إلى هذه الدقة ؟ هذا الذي يستبيح أموال الطرف الآخر بدعوى أنه ليس مسلماً ، فلنأخذ ماله يخالف منهج النبي عليه الصلاة والسلام ، بل إن النبي لما قال عليه الصلاة والسلام :

(( ليس منا من غشَّ ))

[ أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة ]

في رواية :

(( من غشَّنا ))

لو غششت غير مسلم تقع في إثم كبير ، لأن الطرف الآخر إذا أسأت إليه لا يقول : فلان أساء إلي ، يقول : الإسلام سيء ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ))

[ ورد في الأثر ]

كل مسلم سفير الإسلام ، والله وأنا أقول : لو أن الجاليات الإسلامية في العالم طبَّقتْ منهج الله لكان موقف الغرب من الإسلام غير هذا الموقف .
المذيع :
الآن سيدي الكريم ، ننتقل إلى ما بعد أن امتدحه الله عز وجل بقوله :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

فقد بدأت الدعوة ، وبدأ الاحتكاك مع الصحابة الكرام ، ومع العالم ، وبدأ المجتمع مِن حوله يكبر ، وبدؤوا يعركون شخصية النبي عليه الصلاة والسلام في تماس يومي مع النبي عليه الصلاة والسلام ، في المعاملات ، في الطاعة ، في التوعية ، في الحياة اليومية ، معه لساعات طويلة ، نزلت الآية الكريمة التي تقول : 

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ

( سورة آل عمران الآية : 159 )

نقف عند هذا المعنى .

معادلة رياضية :

1 – رحمة ـ لين ـ التفاف :

الدكتور :
هذه الآية معادلة رياضية ، معناها أي يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك من خلال اتصالك بنا ،

﴿ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

فلما

﴿ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

التفوا حولك ، إذاً : رحمة ، لين ، التفاف .

2 – فظاظة ـ غلظة ـ انفضاض :

ولو كنت منقطعاً عنا لقسا قلبك ، فانعكس قلبك غلظة ، فانفضوا من حولك ، رحمة ، لين ، التفاف ، قسوة ، غلظة ، انفضاض .

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

هذا المخاطَب نبيٌّ فكيف بإنسانٍ دونَه ؟!

لكن هنا ملمح رائع ، يا محمد أنت أنت ، على كل ما أوتيت من علم ومعرفة ، ووحي ، ومعجزات ، وفصاحة ، وبيان ، وجمال ، وحكمة ، كل خصائصك على ما أنت فيه من هذه الميزات المذهلة ، أنت أنت بالذات ، مع هذا :

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

فكيف بإنسان لم تؤتَ الوحي ، ولم يؤتَ الفصاحة ، ولا الوسامة ، ولا الحكمة ولا المعجزات ، وفظ غليظ .
جاء واعظٌ بعضَ الملوك ، قال له : سأعظك ، وأغلظ عليك ، قال له : ولمَ الغلظة يا أخي ؟ لقد أتى مَن هو خير منك إلى من هو شر مني ، أرسل الله موسى إلى فرعون فقال له : 

فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى

( سورة طه )

لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ))

[ أخرجه البيهقي ، عن ابن عمرو ]

فهذا العنف ، وتلك القسوة في الدعوة إلى الله مخالفة لسنة النبي عليه الصلاة والسلام .
المذيع :
اسمح لي آخذ هذا المعنى إلى جانب هو إكرام للنبي عليه الصلاة والسلام صاحب الخلق الرفيع والرحمة ، وعدم الغلظة ، لما قال الله عز وجل في كتابه : 

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ

( سورة الأنفال الآية : 33 )

الإكرام لهذا الخلق ، حتى لو أساءوا فبوجودك بينهم :

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ : آيةٌ فيها حلٌّ لمشكلات المسلمين :

1 – معنى الآية بعد وفاة النبي :

الدكتور :
أرأيت إلى هذه الآية ؟ لعل فيها حلاً لمشكلات المسلمين ، إضافة إلى المعنى الذي تفضلت به ، يعني يا محمد ، ما دامت سنتك ومنهجك قائمة في حياتهم بعد موتك ففي وجودك إكرام لك ، فلِمَ يعذبون ؟ ولن يُعذَّبوا ما دمت فيهم ، أما إذا غادرت الدنيا فما كان الله ليعذبهم وسنتك قائمة فيهم ، في بيوتهم ، في أعمالهم ، في كسب أموالهم ، في إنفاق أموالهم ، في حلهم ، في ترحالهم ، في لهوهم ، في أحزانهم ، في أفراحهم ، ما دام منهج النبي قائماً في حياتنا فنحن في مأمن من عذاب الله ، ونحن في بحبوحة ، وهناك بحبوحة أخرى :

وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

( سورة الأنفال )

إما أن تكون على منهج الله فأنت في مأمن ، وإما أن تخطئ فتندم فأنت في مأمن ، هاتان بحبوحتان وأمنان من الله لأمة النبي عليه الصلاة والسلام :

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾

المذيع :
دكتور ، نأتي إلى مسألة الضبط الذاتي ، أن ينضبط الإنسان بخلق أصيل مرتبط بالسماء ، أو أن ينضبط كما تفضلت في حلقات سابقة بالذكاء والعقل ، ولكن هذا الذي ينضبط بالذكاء والعقل ، وهو غير مؤمن ، وليست البواعث الأخلاقية لديه ، كانت اصطباغية سماوية بذكاء وعقل ، هذا إذا ما استنفرته ، أو ما أتيت عليه ، أو دست على طرفه خرج عن كل قيمة وغال ، وتعسف في الرد ، واستباحة حرمات الآخرين .
الآن نأتي إلى آية قرآنية نتبين من خلالها مسألة الضبط ، ومسألة العلم بالشيء ، وآلية الضبط عند الإنسان ، الله عز وجل يقول : 

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً

( سورة الطلاق )

القدرة والعلم ، والانضباط مع القدرة والعلم .

الضبط الذاتي :

1 – نظام الكون وانضباطه على سلوك منتظَم :

الدكتور :
أستاذ علاء ، السؤال الأكبر : مثلاً : هناك نجم يبعد عن الأرض عشرين مليار سنة ضوئية ، هذا الكون العظيم ما علة ووجوده ؟ بنص هذه الآية :

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ﴾

هذه اللام لام التعليل :

﴿ لِتَعْلَمُوا ﴾

من أجل أن نعلم ، من أجل أن نعرف الله ، من أجل أن نحبه ، من أجل نطيعه ، من أجل أن نسعد بقربه ،

﴿ لِتَعْلَمُوا ﴾

لكن متى تسعدون بقربه ؟ إذا أطعتموه ، كيف تطيعونه ؟

2 – انضباط المخلوق مع مخلوق مثله يطوله علمُه وقدرتُه :

لا بد من مثل : مواطن يركب مركبته ، وقف عند الإشارة الحمراء ، والشرطي واقف ، والشرطي الآخر على الدراجة ، ونقيب في الشرطة في سيارة ، هو مواطن عادي ، لا يمكن أن يتجاوز هذه الإشارة ، لماذا لا يمكن ؟ لأنه مركَّب في أعماقه أن علم واضع قانون السير يطوله من خلال هذا الشرطي ، وأن قدرته تطوله من خلال جهاز المركبة ، فمادام علم واضع قانون السير يطوله من خلال هذا الشرطي ، وأن قدرته ، وصلاحية وزير الداخلية تطوله من خلال حجز المركبة ، ولا بد أن يدفع الغرامة ، فلا يمكن أن يعصي المواطن هذا القانون إلا بحالتين ، في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ، حيث لا يطول علم واضع القانون هذا المواطن ، فقد يتجاوز ، أو إذا كان هذا المواطن أقوى من واضع القانون فيتجاوز ، أما إذا كنت موقناً أن عِلم واضع القانون يطولك ، وأن قدرته تطولك فلا يمكن أن تعصيه .
الآن : لمجرد أن توقن أن الله يعلم ، وسيحاسب ، وسيعاقب ، لا يمكن أن تعصيه وهذا أصل في الأخلاق ، الأخلاق انضباط ، آلية الانضباط أن تعلم أن علمه يطولك ، وأن قدرته تطولك انضبط الإنسان .
مثل آخر : مواطن يستورد ما دام تذهب نسخة من المعاملة إلى المالية ، فلابد من أن يُعلن للمالية عن هذه الصفة ، وإلا أهدرت حساباته ، ودفع مبالغ طائلة ، فالمواطن حفاظاً على سلامته ، وعلى ماله يُبلغ المالية عن كل صفة يستوردها ، فإن لم يبلغ أهدرت حساباته ، أي مواطن ، في أي نبد ، في أي نظام ، إذا أيقن أن واضع القانون يطوله علمه وتطوله قدرته لا يخالف ، يخالف إذا ظن أن علمه لا يطوله ، أو إذا ظن أن قدرته لا تطوله .

3 – آلية الانضباط :

فأنت حينما توقن وأفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه . 

وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ

( سورة الحديد الآية : 4 )

إذا علم أن الله معه ، وأنه يعلم ، وأنه سيحاسب ، وأنه سيعاقب لا يمكن أن يعصيه .
المذيع :
الآن بما تبقى من وقت دكتور هل نستطيع أن نقف عند مفصل أخير في حلقتنا عندما نأتي إلى أركان الإسلام ، الأركان الخمسة ، نتبين من هذه الأركان الضوابط والبواعث ، وكيف تصب في لوحتنا التي نتحدث عنها الإيمان هو الخلق ؟ .

حقيقة الإسلام وحقيقة الجاهلية في نص حديث النبي عليه الصلاة والسلام :

الدكتور :
سأقدم للإخوة المشاهدين خطبة خطبها صحابي كبير جداً أمام النجاشي حين قال للصحابة : حدِّثونا عن هذا النبي الذي جاء به نبيكم : فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ :

(( أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ ، وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ))

[ أحمد عن أم سلمة ]

هذا مضمون دعوة الله .

الإسلام بناء من خمسة قواعد ذو مضمون أخلاقي :

الآن أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً ، إذا قلنا : بني الإسلام على خمس ، الإسلام أين هو ؟ هذه لا الخمس ، هذه عبادات شعائرية ، أما مضمون الإسلام فهو مضمون أخلاقي ،

(( وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ))

هذا مضمون منهج الله في الأرض ، وما العبادات الشعائرية إلا مناسبات لتلقي الجائزة على العبادات التعاملية ، وما الامتحان إلا مناسبة إلا لعرض قدرة الطالب العلمية التي حصلها في العام الدارسي كله ، والعام الدراسي كله هو العبادة التعاملية ، وساعات الامتحان الثلاث هو العبادة الشعائرية .

خاتمة وتوديع :

المذيع :
إذا سمحت لي دكتور سوف نبتدئ في الحلقة القادمة إن شاء الله في الأسبوع القادم من حيث انتهينا ، نعود إلى خطبة سيدنا جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي ، ونفسح ، ونتكلم على الحامل والمحمول ، أركان الإسلام ، والمحمول هو الإسلام ، والجوائز التي تحدثت عنها .
أشكر فضيلة الأستاذ محمد راتب الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، شكراً لكل هذا الشرح ، ونعدكم أعزائي المشاهدين بأن نلتقي إن شاء الله في الأسبوع القادم يوم الاثنين في الموعد المخصص .
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور