- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث والسبعين، ولعله الدرس الأخير من سورة الأنعام، ومع الآية الرابعة والستين بعد المئة، وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164) ﴾
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا
1 ـ معنى الربّ ولوازمه :
أيها الإخوة:
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾
لذلك الخيرات التي تتأتّى من رب الأرض والسماوات لا يعلمها إلا الله، لذلك في كل صلاة:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) ﴾
هو الذي أوجدك من عدم، هو الذي ألقى محبتك في قلب أمك وأبيك، هو الذي خلقك على نحو يقربك إليه، هو الذي يسرك لما خُلقت له من معرفته .
2 ـ معنى : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا
الآن السؤال الصيغة استفهام إنكاري:
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾
يعني متى يكون الاستفهام إنكارياً؟ لأنه ولا واحد بالمليار يمكن أن تصدق أن يكون مخلوق حادث لئيم ضعيف الإمكانات أن تتخذه رباً ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾
﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾
﴿ لهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وأمره كن فيكون .
﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ
أتتخذ إلهاً آخر غيره ؟
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾
(( من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس ))
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾
معنى : أَبْغِي
أيها الإخوة ﴿أَبْغِي﴾
أحياناً يخاف من مخلوق، وكأن لسان حاله يقول: نجني، لكن المؤمن لا يخاف إلا الله، ولا يرجو غير الله، ولا يتكل إلا على الله، ولا يعطي قلبه إلا لله، ولا يكون محسوباً على جهة أرضية، المؤمن محسوب على الله، ولا يليق بالمؤمن أن يكون لغير الله، هو إن كان لغير الله يحتقر نفسه .
﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ
أيها الإخوة، الآية تقول: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾
وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾
(( لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخي وصاحبي ))
لا يوازَن خالق مع مخلوق، لا يوازن رب السماوات والأرض مع سيد في عملك .
الآن: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
يتجلى على هذه المادة فتكون خشباً، يتجلى على هذه المادة فتكون حجراً، يتجلى على الماء فهو ماء، الهواء هواء، كل المخلوقات مَن خصّصها بخصائصها؟ الله جل جلاله ثم هو يمدها، النبات ينمو، والحيوان ينمو ويتحرك، والإنسان ينمو ويتحرك، ويفكر الجماد ذراته تدور حول بعضها.
معنى : وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا
أما معنى قوله تعالى:
﴿وَلَا تَكْسِبُ﴾
﴿
العمل الشرير هو من اكتساب الإنسان، من اكتسابه، والعمل الخيّر من كسبه، يعني أنت تريد، أنت تختار، والله عز وجل يحقق اختيارك، الخيّر أو الشرير، لكن الاختيار الخيّر يقال له: كسب.
يعني أنت جالس، وأذن المؤذن، فقلت: يا رب، فوقفت كي تصلي، فأمدك الله بقوة تحقق فيها اختيارك الخيّر، ولما يصرّ إنسان على فعل معصية، أو على كسب مال حرام، أو على ابتزاز إنسان، أو على اعتداء على عِرض، حينما يصر الله عز وجل لأنه جعله مخيراً يسمح له أن يفعل هذا، لكن الشيء الخيّر يعبَّر عنه بالفعل الثلاثي، أما الشيء غير الخيّر الشرير يُعبّر عنه بالفعل الرباعي، كسب، اكتسب الخماسي، والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، يعني إذا كسب الإنسان الخير يُسجل له فوراً، أما الشر اكتسب خمسة أحرف، إن فعل الشر فملَك الشمال يُمنع أن يكتب عليه هذا الشر، لعله يندم، لعله يتوب، لعله يصلح، فإذا فعل الشر ولم يندم، ولم يتب، وأصر عليه، وتباهى به، وافتخر به يقول له: اكتب، يعني فعل اكتسب فيه مراحل عديدة، أما أيّ فعل خيّر يُسجَّل لك، أما فعل الشر ينتظرك الله عز وجل، هل تتوب؟ هل تندم؟ هل تصلح ما أفسدت؟ هل تعتذر؟ هل تستغفر؟ هل تدفع صدقة؟ فإذا فعلت الشر -لا سمح الله - ولم تندم، ولم تتب، وأصررت عليه، بل وافتخرت به يقول لملَك الشمال: اكتب اكتسب﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾
يعني هناك أشخاص يبنون رزقهم على إيذاء الناس، وعلى ابتزازهم، وعلى إلقاء الرعب فيهم، يبدو أنه بعد حين تنطمس فطرته، فيفعل هذه الشرور دون أن يحاسب نفسه، وكأنه يفعل الخير، هذا معنى جديد، إذا أبدلنا فعل كسب باكتسب، يعني تركنا اكتسب واستعملنا كسب، وأتينا بحرف جر بمعنى عليه، أي هو عمل شرير، فالمعنى أن هذا الإنسان من كثرة ما فعل الشر ألِفه، وأصبح فعله عليه هيناً وكأنه فعل خير ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
أحيانا يقترف الإنسان جرائم، وهو قوي، ولا أحد يحاسبه، لكن هو يحمّل نفسه يوم القيامة ما لا يحتمل، لذلك قال الله عز وجل :
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
هؤلاء الذين يقصفون، يبيدون البشر، يدمرون كل شيء، بل يدمرون كل المنشآت، يقتلون الأطفال، النساء، الضعاف، يستخدمون آلة من أعتى الآلات لقتل طفل بريء، وكأنها بطولة، لو جاء ملاكم من الطراز الأول أمسك طفلاً صغيراً، هل تصفق له؟ يكون الذي صفق له أحمق؟ لأن هذا ملاكم، هذا يصفق له إذا انتصر على ملاكم آخر، جيش وطيران، وأسلحة حارقة وخارقة، وقنابل عنقودية، وذكية، على طفل، على امرأة، على بيت للسكن، ليس هناك قلعة، ولا سلاح مع الطرف الثاني، وليس هناك شيء، ويسمى هذا بطولة، هذا الشيء من مفارقات الحياة .
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ
حتى لو أن الابن جاء من الزنا لا علاقة له بسبب مجيئه إطلاقاً، لذلك من أصعب العادات الجاهلية هي الأخذ بالثأر، قتيل قُتل في قرية يجب أن يُقتل إنسان من قبيلة القاتل، هذا الذي قتل اختفى، أقرباء القاتل ما ذنبهم؟
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9) ﴾
لا يجوز تحميل البريء أثر جناية المتهم :
والله أيها الإخوة، لو أن هذه الآية: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46) ﴾
يعني حمّلها ما لا تحمل، يعني ملايين التصرفات، إنسان بريء يعاقب، لذلك: يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى، ولا يستطيع أن يغير، إن سكت استباحوه، وإن تكلم قتلوه .
أيها الإخوة ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
أحياناً الإنسان يقول لك: أنا مسؤول كبير، لو عرف معنى مسؤول لسقط مغشياً عليه، سوف يُحاسب عن كل كلمة، وعن كل إشارة، يقول لك مسؤول كبير، معناها أعانك الله ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
قال الله عز وجل :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) ﴾
يعني كان الوحي صعباً على النبي الكريم، لأن هناك صفة ملائكية في سيدنا جبريل تريد أن تلتقي بصفة بشرية، من السهل جداً أن تلتقي مع إنسان من بني البشر، لوجود قواسم مشتركة كبيرة جداً، لكن تصور مخلوقاً ملائكياً يملأ الأفق كله سوف ينزل على النبي الكريم، فكان أول الوحي يشعر بضغط شديد، لو أن رِجلَ النبي عليه الصلاة والسلام فوق رِجل أحد أصحابه لكادت هذه الرجل تنسحق، لو أنه يركب دابة تئن الدابة .
﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5) ﴾
يعني صفة ملائكية تلتقي مع صفة بشرية، فلابد من تفاعل هاتين الصفتين، لكن بعد حين ألِف النبي الوحي، فإذا انقطع عنه الوحي تألم ألماً شديداً .
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾
﴿ وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) ﴾
أيها الإخوة، الإنسان في الدنيا يحمل مسؤولية كبيرة، يحمل أمانة التكليف، أن الله جعل نفسه أمانة بين يديه، مُحاسَب عن كل حركة وسَكَنة، محاسب عن اتصاله، انقطاعه، عطائه، منعه، ابتسامته، أحياناً تسأل عن امرأة يقول لك: لا نعرف، ما تكلم ولا كلمة، فقط لا يتكلم، لكن عبر عن كل شيء، يُحاسب عليه.
متى يحمل الإنسان وزر غيره ؟
لكن متى تزر الوازرة وزر أخرى؟ ممكن، قال عز وجل: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ
أنا أحمل وِزر الآخرين إذا أسهمت في إضلالهم، إذا عمّيت عنهم الحقيقة، إذا غششتهم، يعني علمت موظفاً عندك على الغش، ثم تركك، صار أكبر غشاش، كل أعماله السيئة حتى الموت في صحيفة من دله على الغش، دللته على معصية، زيّنت له المعصية، زيّنت له أكل المال الحرام، أقنعته أن هذه الدنيا هي كل شيء، تمتع بها إلى أقصى درجة، ولا تعبأ بشيء، كل معاصيه في صحيفة الأول.
إذاً في الأصل: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
متى يكسب الإنسان أجر غيره ؟
الآن هناك معنى معاكس :
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
هناك تجارات، شركات ضخمة عملاقة، مبيعاتها اليومية خمسة ملايين، هناك شركة بأوربا فائضها النقدي 100 مليار لا تجد له استثماراً، هناك أشخاص يملكون 100 مليار دولار، إذاً هناك تجارات رابحة، لكن والله أعظم تجارة أن تربي ابناً لك صالحاً، وأن يكون من بعدك استمراراً لك، فكل أعماله، وأولاد أولاده إلى يوم القيامة في صحيفتك .
اسمعوا الآية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
ثم يقول الله عز وجل :
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165) ﴾
معنى الخلافة في الأرض :
الخلافة إخواننا الكرام، فلان خليفة فلان، يعني أتى بعده، أو هذه خليفة زمان، يعني هذا المحل شغله إنسان، كبر في السن، أو توفي، له ورثة باعوا المحل، شغله إنسان آخر، جاء بعده إنسان آخر، هذا البيت، قف أمام سوق مشهور، كسوق الحمدية تأكد أن كل خمسين سنة هناك طقم جديد لأصحاب المحلات، هكذا سنة الله في خلقه، يموت الأب فيبيع الورثة البيت، والمحل، والسيارة، يأتي إنسان ويشتري البيت فيحسنه، هناك خلائف .
معنى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ
المعنى الزماني :
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾
المعنى المكاني :
المعنى المكاني: إنسان يحتل منصباً معيناً، ثم يُعزل، ويحل محله آخر، هذا استخلاف مكاني، الأول زماني، وهذا مكاني، عُزل حلّ محله فلان .
المعنى الدقيق للآية :
لكن يبدو أن هذه الآية لا تعني أن يخلف إنسان إنساناً، تعني شيئاً آخر، تعني أن يخلف الإنسان ما أوكله الله به، تخلف الله في عباده، يعني أمرَك أن تكون عادلاً، وجعلك حاكماً، جعلك قاضياً، جعلك وزيراً، يجب أن تكون خليفة الله في أرضه، بمعنى أن تحكم بالعدل، ينبغي أن تخلف الله بأن ترحم خلقه .
هذا المعنى دقيق جداً، لا أن تخلف أخاك في الإنسانية، خلافة زمانية أو مكانية لا، أن تخلف الله في خلقه، الله عز وجل قال :
﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
يعني أمركم أن تستعمروها، أي أن تجعلوها معمرة، لذلك الإنسان خليفة الله في الأرض .
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
يعني الله عادل، فإذا كان العبد الفقير عادلاً خلف الله في خلقه، الله رحيم، فإذا كان العبد رحيماً خلف الله في خلقه .
وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
إخواننا الكرام، الآن هناك معنى دقيق جداً في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾
أولاً: الكون كله عدا الإنسان والجن منفعل بأمر الله، الكون كله جماد، ونبات، وحيوان، من دون استثناء منفعل كله بأمر الله، كن فيكون، زل فيزول، أي كن مسيراً، المخلوقات كلها مسيرة إلا الإنسان :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ
الإنسان مخير، تكريماً له جعل الله عز وجل بعض الأشياء تنفعل له، أنا أرفع يدي، أمرتها فائتمرت، شربت الماء فارتويت، أكلت الطعام فشبعت، حركت رجليّ فانتقلت من مكان إلى مكان، فالله عز وجل كرّم الإنسان أن أبعاضه جعلها بإمرته، لكن قلبك ليس بأمرك، التنفس ليس بأمرك، القلب والرئتين، وعمل الكبد، والبنكرياس، والهضم، والتنفس هذا بأمره، لكن بأمرك الأوامر الإرادية، تتحرك، ترفع يدك، تتكلم، تمشي، تنام تستيقظ، تكسر، تضرب، تنفع، تقدم صدقة، تسلب مالاً، كله باختيارك، فالله عز وجل سمح لك أن تفعل بأشياء كثيرة ما تريد، هذه أول ميزة للإنسان.
الله عز وجل قال: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾
فنحن في تبادل، أنت أحياناً تحتاج إلى طبيب، والطبيب يحتاج أن تعطي ابنه دروس رياضيات، فلما يكون ابنه ضعيفاً بالرياضيات هو بحاجة إليك، لما تشعر بقضية في قلبك فأنت بحاجة إليه ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾
الإنسان مرة فاضل ومرة مفضول :
يعني كل إنسان مفضَّل ومفضول، بكل قضية، مرة يكون مفضَّلاً، ومرة يكون مفضولاً، هناك عدالة، لكن العلماء يقولون: بالمجموع ثابت، يعني أنت ما جعلك صاحب شركة، جعلك محاسب بشركة، معاشك محدود، صاحب الشركة أعلى منك في الدخل، لكن أنت أكثر راحة بالٍ منه إذا حدثت مشكلة في الشركة، أنت لا علاقة لك، إذا كان هناك إشكال على البضاعة، ويوجد ضرائب، أنت لا علاقة لك، احترق المستودع، أنت مرتاح، محاسب، فالمحاسب دخله قليل، ودخل صاحب الشركة أكثر، لكن في الأزمات شديدة الصعوبة تنعكس الآية .
معناها الله أعطى كل شخص مئة درجة لكنهم موزعين، عنده زوجة ممتازة، أخذ من العشرة ثماني درجات على الزوجة، عنده ولد سيئ أخذ واحداً عليه، شخص آخر عنده زوجة سيئة جداً علامتها واحد، عنده أولاد نجباء ثمانية، فوزع الدخل مع الصحة، مع راحة البال، مع النشاط، مع السمعة، مع الذكاء، يتبين أن كل شخص أخذ عشر درجات من الله، أو مئة درجة، هذا يسمونه المجموع ثابت.
﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾
يعني لا تبتعد، لو عندك مجاري مسدودة، تبحث عن رجل عمله في المجاري، تقول: هل نكسر البلاط؟ طمئني، هو مرح بهذا الموضوع، يقول لك: أنا مهندس مجارير، هو يقول لك: الأمر يحتاج إلى تكسير البلاط، أو لا يحتاج، إذا سدت المجاري تأتي إليه، وإذا سدت شرايينك تأتي إلى الطبيب، كله أصبح مسدوداً.
﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾
كل إنسان ممتَحن فيما فضله الله به :
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾
أقسم لي بالله طبيب، قال لي: أستطيع أن أُبيّع رجلاً بيته دون أن يشعر، لكن يخاف من الله فلا يقدر، المحامي يمكن أن يقول: إن الدعوى رابحة، وأنت عندك يقين بالمئة مليون أنها لن تربح، لكن أين ثماني سنوات؟ بعد هذا تبلغه الخبر السيئ مرة واحدة، تكون أخذت منه 500 ألف ليرة، أنت باعتبار أن الله فضلك عليه بالخبرة صار عندك إمكان أن تُمتحن، إما أن تكون صادقاً، أو كاذباً.
هل يحتاج المريض إلى إيكو أو لا يحتاج ؟ الله يعلم، إذا أنت كلفت مريضاً بصورة شعاعية غالية جداً، والجهاز عندك بالعيادة، تُحاسب، امتحنك الله عز وجل .
تأتي بسؤال صعب جداً، يأخذ معظم الطلاب أصفاراً، يجب أخذ دروساً خصوصية عندك، الأصل أن يكون السؤال معتدلاً، أما أنت فقد افتعلت سؤالاً صعباً جداً حتى تجعل كل الآباء يطلبون منك درساً خصوصياً، رفعك الله فتستغل هذه الخبرة، وتبتز أموال الناس، أم أن تكون صادقاً معهم؟ هذا معنى دقيق جداً
سأل سيدنا عمر رجلاً: أتحبني؟ قال له: والله لا أحبك، قال له: وهل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي؟ قال له: لا والله، محبتي أو عدم محبتي لا علاقة لها بإعطائك حقك .
أيها الإخوة، هذه الآية مهمة جداً، أنك ممتحنٌ فيما آتاك الله، جعلك قوياً أنت ممتحن، هناك أقوياء في الأرض، لكن لهم حساب دقيق جداً، أعطاك مالاً، امتحنك بالمال، أعطاك صحة، امتحنك بالصحة، أعطاك طلاقة لسان تقنع الناس بالحق أم بالباطل؟ هناك أدباء معهم أدب رفيع جداً يستخدمونه لإضلال الناس، لإثارة شهواتهم، امتحنك بالأدب، رسام امتحنك بالرسم، هل ترسم صور نساء عاريات، أم صوراً طبيعية، يسبح الإنسان ربه إذا رآها، امتحنك، أعطاك مثلاً شكلاً جميلاً، هل تغوي بهذا الشكل الفتيات، أو كلما رأيت نفسك في المرأة تقول: الحمد لله كما حسنت خلقي فحسن خُلقي يا رب، امتحنك بشكل، امتحنك بذكاء، بطلاقة لسان، امتحنك بالمال، امتحنك بالقوة، امتحنك بزوجة صالحة وطيبة، هل تتفنن في إذلالها؟ هذه امرأة ليس لها أحد، مقطوعة، أم تخاف الله فيها؟ امتحنك ببيت مطل على مدرسة، مدرسة بنات، تجلس طوال النهار، وتنظر إليهن من فوق، أم تغض بصرك، وتضع زجاجاً عازلاً مثلاً؟ امتحنك بكل شيء، يعني أنت ممتحن بكل دقيقة فيما آتاك، بماذا ميزك؟ امتحنك فيما آتاك، بدءاً من شكل وسيم، كيف تستخدم هذا الجمال الذي وهبك الله إياه؟ امتحنك بطلاقة لسان، امتحنك بمال، امتحنك بمنصب رفيع.
يعني بهذه الطريقة الله عز وجل قهرنا على أن نكون مع بعضنا بعضاً، تصور رغيف الخبز كم إنسان يحتاج ؟ أرض، وحراسة، وزراعة، وبزار، وتسميد، وسقي، وبعدها حصاد وبعدها دراسة، وبعدها طحن، وبعدها خبز، لتأخذ كيلو خبزاً جاهزاً، لا تعلم كيف يُصنع الخبز، لكن مكّنك من التعليم، تعلّم أولاداً، لكن ما عندك إمكانية أن تصنع الخبز، فامتحنك الله عز وجل، فمنحك ميزة جعلك دائماً مفضلاً أو مفضولاً عليه، امتحنك حينما جعلك مفضلاً، وامتحنك حينما كنت مفضولاً على غيرك.
أيها الإخوة، يبدو أن هذا هو الدرس الأخير من دروس سورة الأنعام .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين