وضع داكن
29-03-2024
Logo
موضوعات متنوعة - السيرة الذاتية : 04 - الدكتور راتب شخصية مركبة، لواقع معقد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

منهج الدكتور محمد راتب النابلسي الدعوي يمكن تلخيصه بعدة نقاط:

 إذا أردنا أن نلخص الخط الدعوي الذي انتهجه الدكتور محمد راتب النابلسي (و هو بحق من أنجح الدعاة على مستوى العالم الإسلامي قاطبة) و نتلمّس الملامح العامة له نجد:

 1- عقلانية نيّرة، بعيدة عن العاطفة الساذجة:

فواقع أمتنا الذي تحيا به اليوم يحتاج ـ أكثر ما يحتاج ـ إلى هذه العقلانية الفذة، عقلانية مشوبة بتعاليم الدين الروحانية، لتعطينا مزيج رائع يغذّي العقل و الروح معاً، و هو الذي ما فتئ يردد مقولة "محمد إقبال" من أن الأمة لا تنهض إلا بـ "قلب شرقي و عقل غربي".

 خاصة أن واقع أمتنا المعاصر يشف عن حاجتها إلى العقلانية، و ذلك لانخفاض مستوى تمثيلها ـ إن صح التعبير ـ على مستوى الفرد و الأسرة و المجتمع، فمجتمعاتنا تمتاز بعاطفية "طفلية" تحكم معظم تصرفاتها، أما صوت العقل الناضج فهو خافت و خجول.

 2- المثال المتقن:

فمرةً ضرب مثالاً على من لديه من العلم الشيء الكثير، و لكن لا يطبّق، فقال: لنفرض أن مريضاً ذهب إلى أحد الأطباء الماهرين، فشخّص له الطبيب عين المرض، و كتب له وصفة ممتازة، هل ينتفع المريض أن يقرأ هذه الوصفة عشرات المرات، و بصوت فصيح رخيم، دون أن يشتري الدواء الموصوف و يتناوله!

 3- محاكاة قضايا الشارع الإسلامي:

كقضية البنوك الربوية، و التأمين التقليدي و الإسلامي، و تعرض المسلمات للظلم.

 4- قصص واقعية، و عليه تأثير أعمق:

فالقصة الواقعية جزء أصيل من منهج الدكتور محمد راتب النابلسي الدعوي، و هو ـ كصاحب أسلوب تربوي رفيع ـ يرى أن الطفل الذي يذهب مع أبيه إلى خطبة الجمعة أو أحد الدروس لا يشدّه إلا القصة، و هي ـ على كل الأحوال و حسب رأيه ـ يجب ألا تُقرأ من الفصل الأخير فقط.

 5- هدوء في الطرح، ينم عن شخصية متزنة:

و هو هدوء ممزوج بحكمة واضحة، "أعظم عطاء للإنسان الحكمة، فبالحكمة تسعد بزوجة من الدرجة الثالثة، و بدون حكمة، تشقى بزوجة من الدرجة الأولى" الدكتور محمد راتب النابلسي

 6- تكرار للقضايا الجوهرية، ترسيخ في النفوس:

فمما كرره كثيراً أن: "الكون قرآن صامت، و القرآن كون متكلّم، و النبي عليه الصلاة و السلام قرآن يمشي".

 كما صحح مفهوم الحب عامة، و مفهوم حب الله خاصة، فقد أكّد أن الله لم يقبل دعوى محبته إلا بالدليل، "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونِ يحببكم الله".

 7- أسلوب منطقي بديع، بعيد عن التناقض و التعارض:

فهو يؤكد أن مسلمي اليوم ليس لهم أيه مزية عند ربهم، فقد قال اليهود في الآية: "نحن أبناء الله و أحبائه، قل فلمَ يعذبكم بذنوبكم، بل أنتم بشر ممن خلق"، فلو أن مسلمي اليوم محبوبون عند الله، فلم يعذبهم بكثرة البلايا و المحن التي تصيبهم، و من هنا استنبط الإمام الشافعي أن الله لا يعذب من يحبه. أما "كنتم خير أمة أُخرجت للناس"، أي أصبحتم بهذه الرسالة و تطبيقها خير أمة.

 

8- روحانية لطيفة، تنساب مع كلماته انسياباً.

 9- جرأة في معالجة قضايا المجتمع الساخنة، بلا مداهنة و مهادنة:

فهو يجزم أن المرأة مظلومة في مجتمعاتنا، و كم حذّر من كثرة الدعاوى بلا دليل (كلٌ يدعي وصلاً بليلى و ليلى لا تقر لهم بذاك)، و أن محبة الله و رسوله تظهر عند التعارض مع المصلحة. و كم ردد أن "الصحابة كان واحدهم بألف، و الآن الألف بواحد"،

 10- إجلاء مفاهيم الإسلام الكبرى، و خاصةً التوحيد و الشرك:

فمن أقواله "أن المحبوب إذا لم يكن ممن يدلنا على الله فهو حب مع الله و هو عين الشرك، أما إذا كان المحبوب يذكّرنا بالله فهو حب بالله و هو عين التوحيد".

 كما جعل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر (و أنا أسميه: [آلية إصلاح الذات ذاتياً]) ثابتاً لا يتغير أبداً و لا يُتَخلّى عنه بحال.

 11- مناهضة البدع و الدجل:

حدّث أن زاره أحدهم ذات مرة (و هو يعاني من تسارع في دقات القلب) فقال للدكتور راتب أنه كلما دق عليه الباب تتناقص دقات قلبه تناقصاً كبيراً، فرد عليه بلغته الشامية (و الله مو صحيح)، و زاد قائلاً: أنه يمكن أن يعطيه شيئاً من العلم لا أكثر و لا أقل.

 12- غزارة في الإنتاج، تنوع في المعالجة، من غير تكرار ذات:

فقد فسّر القرآن الكريم، و شرح أسماء الله الحسنى، و تكلّم في فقه السيرة، و استطرد في الإعجاز العلمي، و روى سير الصحابة و بعض التابعين، و تحدّث في مدارج السالكين و شمائل المصطفى (عليه الصلاة و السلام)، كما عالج قضايا حياتية كثيرة.

 13- لغة عربية سليمة، طلاقة بديعة، و جانب تربوي واضح:

كيف لا و الداعية مربٍ بالمقام الأول، و على كل الأحوال هذا بديهي، فهو مجاز باللغة العربية و آدابها، و حاصل على الدكتوراه في التربية كما أسلفنا في المقال الأول.

 14- حسن انتقاء الدليل، مع غزارة و قياسات بديعة غير مسبوقة:

فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة فهو غير متبع لرسول الله صلى الله عليه و سلم، كما قال، لأن الله تعالى يقول: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة،  أنا و من اتبعنِ".

 15- خطاب موجه للكل، من غير طيف و لا مذهب:

فالمتتبع لدروسه و ندواته و كتبه، لا يجد فيها طائفية أو مذهبية ضيقة البتة، و هو يلمّح توريةً، دون أن يذكر الفرقة أو المذهب المُرّض به أبداً.

 16- قوة في الكلمات، من غير تكلّف و لا صراخ.

 17- معالجة قضايا لم يسبقه إليها أحد:

فمثلاً: "بر الوالدين"، معظم الدعاة ينادون به و يسوقون الآيات و الأحاديث التي تؤكّد ذلك، و لكن الدكتور محمد راتب النابلسي رأى أن بر الآباء لأولادهم ـ قبل أن يبروهما ـ مأمور به بأمر فطري، فكل الآباء يحبون أبنائهم و يعتنون بهم بدافع الفطرة، و لذلك لم يأمر بهذا البر ربنا، فهل يمكن أن يأمر ربنا سبحانه بالطعام و الشراب مثلاً، و أكبر بر للآباء تجاه أبنائهم أن يعلموهم شؤون الدين، و أن يجدوا فيهما القدوة. فهذا خرق للخطاب الديني التقليدي في محله.

 18- خطاب دعوي شامل، صوت أدبي و جمالي رفيع، و علمي بلغة الإعجاز الدقيقة:

فالمستمع له، القارئ لكتبه، يحار بين أن يصنفه بين الأدباء، أم بين العلماء.

 19- مشوار دعوي متطاول، خبرة في هذا المجال لا نظير لها:

و ذلك منذ حوالي أربعين عاماً (فمنذ عام 1974، كُلّف أن يخطب في جامع جده العلامة عبد الغني النابلسي، و منذ ذلك التاريخ و الخطب و الدروس والمؤلفات تترى عاماً بعد عام).

 20- منهج بعيد عن التجريح و الاستعداء:

فكما أسلفت، يلمّح عن الرأي المخالف تلميحاً خاطفاً و بليغاً، دون أن يساجل شخص أو فكرة.

 21- وضع قواعد للداعية، سنّية و جلية:

فمن قواعده تلك: "الإحسان قبل البيان"، "القدوة قبل الدعوة".

 22- تعرية المتدينين المزيفين:

فقد تحدث عن إسلام الصالونات مطوّلاً، و عن الإعجاب السلبي بالإسلام بلا تطبيق، و توزيع الألقاب و غيره.

 23- نقد للواقع، من غير تفاؤل مخل، أو قنوط يدعو إلى السلبية و اليأس:

فكم سمعته يحذّر من انهزام المسلمين من الداخل.

 24- البعد عن موائد السياسيين.

 25- إعلاء شأن العلم:

و من مقولاته التي لا يفتر عن تردادها: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، و إذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، و إذا أردتهما معاً فعليك بالعلم".

 كما قال: أنه حدّثه مرة أحد الدعاة المرموقين أنه حلف بالله ما وقع كتاب بيده إلا قرأه.

 26- مهارة في استنباط الأدلة من النصوص:

من استدلالاته في قوله تعالى "يتلو عليكم آيات الله" أن هذه الآيات هي الآيات الكونية، وليس القرآن، لأنه قال بعدها: "و يعلمكم الكتاب و الحكمة"، فهنا، المقصود بالكتاب هو القرآن.

 27- الفهم العميق لمسائل الدين:

فقد قال في "فقه السيرة": "أن أفعال الرسول عليه الصلاة و السلام ـ من خلال سيرته ـ أبلغ من أقواله، لأن أقواله تحتمل التأويل، أما أفعاله فهي "حدية"، لا تقبل فهماً آخر.

 28- الالتزام الكامل بالدليل، بعيداً عن الأقوال الجزافية:

و من أقواله: "لولا الدليل لتكلّم من شاء بما شاء".

 29- اطرادٌ في هموم الشباب، و عناية خاصة بهم:

و على رأس هذه الهموم: الزواج، و قد حاول ـ غير مرة ـ تقديم حلول عملية في هذا المضمار. كما يسرد ـ في معرض المدح ـ أن ديدن كل شاب هو حب التفوق و تأكيد الذات.

 30- إخراج الدين من مفهوم العبادات الشعائرية:

فهو يقول أن الإسلام أكثر من خمسمائة بند، أما العبادات الشعائرية فهي خمسة فقط.

 كما قدّم قرينة على ذلك حاسمة، مقولة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما سأله النجاشي عن الإسلام فأجابه: "كنا قوم أهل جاهلية، نعبد الأصنام و نأكل الميتة و نأتي الفواحش و نقطع الرحم، حتى بعث الله فينا رسولاً نعرف نسبه و أمانته و صدقه، فدعانا إلى الله لنعبده و نوحده، و نخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة و الأوثان، و أمرنا ـ و هنا الشاهد ـ بصدق الحديث، و أداء الأمانة، و صلة الرحم، و حسن الجوار، و الكف عن المحارم و الدماء".

 هذه النقاط كانت ما استطعت أن أستسقيه من منهج الدكتور محمد راتب النابلسي الدعوي، و أنا على يقين بأني لم أوفّيه حقه.

خلدون حمودة

تحميل النص

إخفاء الصور