وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة القمر - تفسير الآيات 9-16
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام: مع الدرس الثاني من سورة القمر، ومع الآية التاسعة:

 بسم الله الرحمن الرحيم

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾

 القرآن الكريم أحياناً آياته تفسِّر آياته.

 

عدم اجتماع الهوى مع الحق:

 قال تعالى:

 

 

﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾

 

( سورة القمر: آية " 3 " )

 أي كذبوا لأنهم اتبعوا أهواءهم، أو كذبوا لأن حالتهم إتباع الهوى، فالهوى والحق لا يجتمعان، ولقد قلت لكم من قبل إن وراء كل عملٍ يفعله الإنسان أحد باعثين العقل أو الشهوة، إرضاء الذات، أو إرضاء الله عزَّ وجل، الإحسان أو الإساءة، القِيَم أو الحاجات، العمل للدنيا أو العمل للآخرة، وهذان الباعثان لا ثالث لهما، فإن لم تكن بالباعث الأول فأنت بالباعث الثاني، فالآية الثالثة وهي قوله تعالى:

﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾

عدم الاستقامة تؤدي إلى عدم التقيُّد بأوامر الشرع:

 أيها الإخوة: حينما قال الله عزَّ وجل:

 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي﴾

 

(سورة النور: آية " 55 " )

 فإن لم تجد الاستخلاف، ولا التمكين، ولا التطمين، فلا استخلاف ولا تمكين ولا تطمين، فكيف تفسر هذه الآية ؟ هذا الوضع تفسره آيةً ثانية:

﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾

( سورة مريم )

 أما إضاعة الصلاة فلا تعني أنهم تركوا الصلاة، ولكن أضاعوا قيمتها بعدم الاستقامة، فالإنسان إذا استقام فإنه يتَّصل، وإن لم يستقم قلا يتصل، وكل إنسانٍ بإمكانه أن يتوضأ، وأن يقف، وأن يقرأ، ويركع، ويسجد، ولكن ليس بإمكانه أن يتصل إن لم يكن مستقيماً، فمن إضاعة الصلاة عدم الاستقامة، ومن إضاعة الصلاة أكل المال الحرام، ومن إضاعة الصلاة عدم التقيُّد بأوامر الشرع، ومن إضاعة الصلاة التفلُّت في العلاقات النسائية، لذلك التكذيب يرافقه إتباع الهوى.

 

التكذيب: ألا يأتي عملك مطابقاً لمعتقدك:

 

﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾

 ولكن أيها الإخوة: أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني إلى توضيح عميق لمعنى التكذيب، وأحياناً الإنسان يصدِّقُ بلسانه وهذا شأن عامة المسلمين، ما من مسلمٍ في العالم الإسلامي يمكن أن يقول: أنا لا أعتقد بالآخرة، ولست مؤمناً بها، وهذا الكلام لا يقع ما دام الإنسان نشأ من أبوين مسلمين في عالمٍ إسلامي، فالجو العام جو فيه آخرة، وفيه جنة، وفيه نار، وحساب، وعذاب، وصلاة، وصوم، وحج، وزكاة، فليس هذا هو التكذيب العميق، فالتكذيب العميق ألا يأتي عملك مطابقاً لمعتقدك.
فالإنسان حينما يرتكب الحرام، أو يأكل المال الحرام، أو يتفلَّت من منهج الله، وهو مقيمٌ على هذه المعصية، وليس في رغبته أن يقلع عنها، وهو يقرأ القرآن ويحضر خطب الجمعة، فهذا مكذبٌ بعمله لا بلسانه.

التكذيب نوعان:

1ـ التكذيب باللسان:

 التكذيب بالعمل أبلغ من التكذيب بالقول، لأن الذي يكذِّب بلسانه تناقشه، وتحاوره، وتجيبه، وتوضِّح له، وتؤكِّد له، وتقنعه، وتقيم عليه الحجة والبرهان.

 

2 ـ التكذيب بالعمل:

 الذي يكذب بعمله فهذا قد يقول بلسانه: أنا مؤمن، والآخرة حق، والجنة حق، والنار حق، ولكن لا ترى في عمله أثراً للإيمان بالآخرة.

 

 

التكذيب العملي أخطر من التكذيب النظري:

 

 الامتحان محدد في شهر حزيران، والطالب لا تراه إطلاقاً يفتح كتاباً، ولا يعكف على دراسةٍ، ولا يسأل سؤالاً، ولا يؤدي واجباً، فهذا عدم الاهتمام بالقراءة والمطالعة والحفظ والمراجعة وأداء الواجبات وهو يعلم علم اليقين أن الامتحان في حزيران فنقول: إنه يكذب بالامتحان لا بلسانه ولكن بعمله، فحذارِ أن يقع الإنسان في هذا المأزق، فتنفصل عقيدته عن سلوكه، ويعتقد أن الإسلام حق ودين عظيم، والآخرة حق، والجنة حق، والنار حق، وهناك حساب، وعذاب، وما شاكل ذلك، فإذا دخلت بيته أو زرته في عمله فلا تجده منضبطاً ولا على طريق الاستقامة قائماً، ولا تجد دخله حلالاً ولا إنفاقه حلالاً، فكيف نوفِّق بين هذا الوضع ؟ لا شك أن يكون هناك ما يسمى بالتكذيب العملي، والتكذيب العملي أخطر بكثير من التكذيب النظري.
 والمؤمن الصادق دائماً وأبداً يطابق بين سلوكه ومعتقده، وبين سلوكه ومنهجه، بين سلوكه والحلال والحرام، وقوام الدين بعد معرفة الله الحلال والحرام:

(( أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))

( رواه الطبراني عن ابن عباس )

التكذيب قديم و مستمر:

 الإنسان حينما يكذب يكون متبعاً للهوى، اتبع الهوى فكذب، أو كذب فاتَّبع الهوى.

 

﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾

 

 فلذلك:

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾

 أي أن التكذيب قديم، والتكذيب مستمر، والإنسان حينما يقرأ كلام الله عزَّ وجل يشعر أن هناك سُنَنَاً ثابتةً في الحياة، فالحق قديم، والحق يعاديه الباطل من القِدَم، وهناك معركةٌ بين الحق والباطل، كانت ولا تزال وستبقى، فإنسان متفلت إن كان له أخ في البيت ملتزم دائماً يحاسبه حساباً عسيراً، ودائماً يضعه تحت الأضواء الكاشفة، ودائماً يكبِّر أغلاطه ليثبت أنه على حق وأن أخاه على الباطل.

عاقبة الإنسان الهلاك إن خالف الدين و اتبع هواه:

 أيها الإخوة الكرام:

 

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾

 

 الحقيقة أن هذه القصص حينما يبيِّن الله لنا جلَّ جلاله أن هؤلاء الأقوام كذَّبوا فأهلكهم، أريد بعد حين بعد أن نأتي على كل قصص هذه السورة، وأريد آيةً أساسيةً في هذه السورة وهي قوله تعالى:

﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) ﴾

( سورة القمر)

 هذه الآية هي مغزى تلك القصص، إذا أهلك الله قوم نوحٍ بأنهم كذبوا واتبعوا أهواءهم، وأهلك قوم عادٍ وقوم ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم شُعيبٍ، فمن نحن ؟ إن أهلك هؤلاء الأقوام، فلابد من أن نهلك إن خالفنا واتبعنا أهواءنا، هذا هو المغزى، وقد يقول الأب لابنه أحياناً: انظر إلى فلان وفلان لقد انحرفا فدمرا نفسيهما، أي لا تنحرف لئلا تدمر كما دمر غيرك، ولا تأكل مالاً حراماً لئلا يتلف مالك كما أتلف مال غيرك، ولا تنحرف أخلاقياً تُصَب بالمرض نفسه، فالإنسان العاقل يستنبط من التاريخ أَجَلَّ المواعظ.

 

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾

 

(سورة القمر)

عدم الإيمان بالآخرة من أكبر المصائب:

 والذي أريد أن أؤكِّد عليه أن التكذيب الخطير هو التكذيب العملي، والتكذيب العملي ألا يأتي السلوك مطابقاً لما تعتقد، وحينما لا تجد في حياة الإنسان ما يؤكد أنه مؤمنٌ بالآخرة فهذه من أكبر المصائب.

 

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾

 

 أما عبدنا، العبد هو سيدنا نوح وأما هذه ( نا ) ضمير الدال على الجماعة، أُضيف هذا الإنسان إلى ذات الله عزَّ وجل، كما قال العلماء: إضافة تكريمٍ وتشريف.

تسخير السماوات و الأرض للإنسان تسخير تعريف و تكريم:

 حينما يقول الله عزَّ وجل:

 

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾

 

(سورة الزمر: آية " 53 " )

 فحينما يقول الله عزَّ وجل:

 

﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

 

( سورة الحجر )

﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾

(سورة الإسراء: آية " 53 " )

﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾

( سورة الحجر: آية " 42 " )

 هل تشعر أن هذا العبد إذا أضيف إلى ذات الله عزَّ وجل فهذه إضافة تكريمٍ وإضافة تشريف، أيليق بالإنسان وهو الذي سخرت له السماوات والأرض تسخير تعريف وتكريمٍ أن يكون غافلاً عن الله في حين أن كل المخلوقات تسبح بحمد الله وتقدِّس له.

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾

(سورة الإسراء: آية " 44 " )

استمرار وجود الإنسان منوط بإتباع تعليمات الخالق:

 حينما يأتي الإنسان ليستمع إلى تفسير آياتٍ من كتاب الله، فهل هناك عمل أجل وأخطر وأنفع من أن تتعرف إلى منهجك في الحياة ؟ فإذا اشتريت آلةً غالية الثمن، غاليةٌ جداً، ولها أرباح طائلة، وجعلتها قِوام عملك، فهل من عملٍ أخطر وأنفع وأجدى من أن تعكف إلى تعليمات الصانع فتدرسها، فالذي عنده آلة ثمنها ثلاثون مليونًا، آلة إلكترونية، ويعلق عليها آمالاً كبيرة، وهي مصدر رزقه الوحيد، فهل من عملٍ أجل وأخطر من أن يعكف على تعليمات الصانع فيترجمها ويفهمها، ويستعملها ؟ وأنتم ؟ ألا تحبون أنفسكم ؟ فالإنسان يحب ذاته، ويحب وجوده، و كمال وجوده، واستمرار وسلامة وجوده، فسلامة وجودك، وكمال وجودك، واستمرار وجودك منوطٌ بإتباع تعليمات الصانع، فالإنسان حينما ينطلق من حبه لذاته في تطبيق تعاليم الله عزَّ وجل فهذا من أعظم النعم.

 

طلب العلم أساس في معرفة الله:

 ذكرت اليوم لمن فاته استماع هذه الحقيقة أن مركبةً فضائيةً أرسلت إلى الفضاء الخارجي قبل أربع سنوات، وهي تقطع في الساعة أربعين ألف ميل، والميل كيلو ونصف تقريباً، وقبل يومين أرسلت إشارةً إلى وجود مجرةٍ تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، أُذيعت هذه الحقائق في إذاعة عالمية، فالمجرة التي اكتشفت حديثاً جداً تبعد عن الأرض ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، ومعنى ذلك أن هذه المجرة كانت في هذا المكان قبل ثلاثمئة ألف بليون سنة وهي تمشي بسرعة مئتين وأربعين ألف كيلو متر في الثانية، وأين هي الآن ؟ ألم يقل الله عزَّ وجل:

 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ﴾

(سورة الواقعة )

 أهذا الإله العظيم يعصى ؟ أهذا الإله العظيم ألا يخطب وده ؟ أينسى ؟ أم يغفل عنه ؟ فالإنسان العاقل يطلب العلم ليتعرَّف إلى الله عزَّ وجل، وليتعرف إلى منهجه، ويملك كما يقولون عزيمة قوية تحمله على تطبيق الأمر والنهي، فهذا هو الفلاح، والنجاح، وهذا هو الفوز والتفوق.

 

الاعتراف بفضل الله عبودية له:

 

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾

 عبدنا، هل أنت عبدٌ لله ؟ وهل تشعر بافتقارك إلى الله ؟ فالعبودية لله عزَّ وجل ليست تأدُّباً ولكن حقيقة، وأحياناً الإنسان يتواضع وهو يعلم أنه كبير، وأنه قوي، وقادر، وغني ولكنه يتواضع، إلا أن العبودية لله شيءٌ آخر، وكلما ازددت معرفةً بذاتك تواضعت لله، وافتقرت إليه، وأقبلت عليه، والإنسان لا شيء، إنه قويٌ بالله، وعالمٌ به، غنيٌ بالله، ومعافى بفضله، إذ يتحرَّك بفضل الله، ويفكر بفضله، والإنسان مُعَرَّض في أية ثانيةٍ إلى فقد أحد أعضائه أو أحد أجهزته، أو إلى خللٍ خطيرٍ يصيب أجهزته، فعندئذٍ تصبح حياته جحيماً، فالذي يعترف بهذه الحقيقة هو عبدٌ لله.
وحينما تشعر أن هذه الآلة كل ميزاتها لا تقوم إلا إذا وصلتها بالتيار الكهربائي، فتشعر أنها مفتقرة إليه، فلو انقطع عنها سكتت، وتعطَّلت وأصبحت عبئاً عليك، وليست في خدمتك، فالاعتراف بالحقيقة عبودية لله عزَّ وجل، فالإنسان حينما يفتقر يرقى، وحينما يستغنى يسقط.

 

طغيان الإنسان سببه الاستغناء عن الله:

 

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾

 متى.

 

﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾

 

(سورة العلق )

 إذا استغنى عن الله يطغى، أما إذا افتقر إلى الله يستقيم على أمره، فإذا شعرت أنك عبدٌ وأن الله هو كل شيء، وأن هذا منهجه، إذاً عليك بطاعته، أما إذا شعرت أنك مستغنٍ عنه فهذه هي الطَّامة الكبرى.

 

خُلق الإنسان ضعيفاً ليفتقر في ضعفه:

 وبالمناسبة أيها الإخوة: ذكرت مرةً أن هذه المنضدة مثلاً موضوع عليها هذا المصحف، وهذه الآلات، وهذا الكأس، لكن هي تتحمل أوزانًا أكبر من هذا بكثير، بمعنى أن هناك احتياطاتٍ كثيرةً أودعت فيها، فيمكن أن يقف عليها إنسان، ويمكن أن تتحمَّل إنسانين، وقلَّما تصاب بالعطب لأن احتياطها كبير، وكان من الممكن أن يكون الإنسان على شاكلة هذه الطاولة، بكل عضو من أعضائه، بكل جهاز من أجهزته احتياط كبير، بحيث لا يمرض أبداً، بل يعيش شاباً إلى أن يأتيه الأجل، فيموت فجأةً، كان من الممكن أن يكون الإنسان كذلك، لكن شاءت حكمة الله أن يخلق الإنسان ضعيفاً، لماذا ؟ ليفتقر في ضعفه، وليرى ضعفه.
 ولعل من حكم الصيام أن الإنسان القوي الشديد، العتيد حينما يدع الشراب والطعام في أيام الصيف الحارة يرى أنه ذاب كما تذوب الشمعة، وذبل كما تذبل الورقة، وتتوقف نشاطاته على كأس ماء، ولعله في الصيام يعرف حجمه، وضعفه، وافتقاره.

 

 

يتولى الله الإنسان بالرعاية إذا افتقر إليه:

 أيها الإخوة: يفتقر الإنسان إلى أن يكون عبداً لله، فالعبودية أن تعرف الله، ولا أبالغ إذا قلت: إن الدرس اليومي الذي نمتحن به مقدار افتقارنا إلى الله ومقدار اعتزازنا بأنفسنا، ففي اللحظة التي نفتقر إلى الله يتولاَّنا الله بالرعاية والعناية، وفي اللحظة التي نعتد فيها بأنفسنا يتخلى الله عنا، ولذلك فمن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين لا إله إلا أنت ))

 

( أخرجه أبو داود عن ابن أبي بكرة )

 فالقانون أنك تفتقر فيتولاَّك، وتستغني فيتخلى عنك، فأنت بين الافتقار وبين الاستغناء، الاستغناء جهل، والافتقار علم، الاستغناء ضعفٌ في الأخلاق، أما الافتقار قمة الأخلاق، ولا تنسوا أن أصحاب النبي رضوان الله عليهم وهم قمم البشرية حينما قالوا: لن نغلب من قلة تخلى الله عنهم.

 

﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾

 

( سورة التوبة )

 يوم حنين أعجبتكم كثرتكم، وفي بدرٍ افتقرتم:

 

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾

 

(سورة آل عمران: آية " 123 " )

العبودية لله أعلى مرتبة من مراتب الإيمان:

 صدقوني أن هذا الامتحان يصيب كل مؤمن في اليوم عشرات المرات، إذا خطر بباله أنه متمَكِّن، وأن خبرته عميقة، وأن ماله وفير، أنه بالدراهم يحل كل مشكلة، فقد اعتز بماله، واعتز بقوته، وبعلمه، و بخبراته، فيتخلى الله عنه، ويلقِّنه درساً لا ينسى، تأتيه المشكلة من حيث لا يحتسب، من مكان طمأنينته، ومأمنه، إذ يؤتي الحذر من مأمنه، فأنا هذا الكلام تعليق على قوله تعالى:

 

﴿ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾

 

 فأنت في شؤون العلم تبدأ بإتمام مرحلة ابتدائية، فإعدادية، فثانوية، فإجازة أو ليسانس أو بكالوريوس، ثم دبلوم عام، ودبلوم خاص، وماجستير، ودكتوراه، ثم بورد إذا كان بالطب مثلاً، أكريجيه، إف آر إس، كيف الشهادات مسلسة هكذا، صدقوني أن مراتب الإيمان مسلسلة إلى أن تنتهي في أعلى مستوياتها في العبودية لله عزَّ وجل، وحينما بلغ النبي سدرة المنتهى، ماذا قال الله عزَّ وجل:

﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾

(سورة النجم)

 أي أنك في أعلى مستوياتك حينما تشعر بعبوديتك لله عزَّ وجل، وأنت في أعلى درجات رقيك حينما تشعر أنك مفتقرٌ إلى الله، وكلما ازددت إدراكاً لعبوديتك لله ازددت رفعةً عند الله وعند الناس، وأمدك الله بقوةٍ منه، وبعلمٍ منه، وغنًى، فأنت غنيٌ بالله فقيرٌ بذاتك، وأنت قويٌ بالله ضعيفٌ بذاتك، وعالمٌ بالله جاهلٌ بذاتك.

 

إكرام الله للإنسان إذ خلقه بأحسن صورة:

 لذلك أيها الإخوة كان الأنبياء عُبَّاداً لله عزَّ وجل، والمؤمن يعرف هذه العبودية، ولذلك حينما يعقل الإنسان هذه الحقيقة لا تجد على لسانه فلتةً تشير إلى شِرْكِهِ، فدائماً يقول: إن شاء الله، لقد أكرمني الله، لقد منّ الله علي بفضله فأعطاني كذا، فلا يرى أن الذي حصله بجهده، ولا بكسبه، ولا بذكائه، فماذا قال قارون ؟

 

 

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾

 

(سورة القصص: آية " 78 " )

 فأهلكه الله:

 

﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾

 

(سورة القصص: آية " 81 " )

 وماذا قال إبليس ؟

﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾

( سورة ص: آية " 76 " )

 فأهلكه الله عزَّ وجل، وماذا قال قوم بلقيس:

 

﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾

 

(سورة النمل )

 هذا هو الشرك، والمؤمن يرى أن الله سبحانه وتعالى أكرمه، أكرمه إذ خلقه.

 

المؤمن من ينسب النعمة إلى المُنعم:

 

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾

(سورة الإنسان )

 أنعم عليه بنعمة الوجود، والإمداد، والإرشاد، ولذلك فالمؤمن دائماً ينسب النعمة إلى المُنْعِم، والكافر يقف عند النعمة، والمؤمن يعزوها إلى المُنْعِم، أما الكافر فيقف عندها ويستمتع فيها بلؤمٍ شديد.

 

مَجْنُونٌ: كلمة لها عدة تفسيرات:

 

1 ـ المجنون من عصى الله:

 إذاً:

 

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾

 

 و الحقيقة إن المجنون من عصى الله، وقد مَرَّ النبي عليه الصلاة والسلام برجل مجنون (في اصطلاح الناس)، فسأل عنه سؤال العارف فقالوا: هذا مجنون يا رسول الله، قال:

((ليس هذا المجنون، المجنون من عصى الله هذا مبتلى))

 هذا مريض، مرضٌ أصاب دماغه، أما المجنون من عصى الله، ولذلك:

﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾

(سورة القلم)

﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾

(سورة هود: آية " 28 " )

2 ـ المجنون من عُميت عليه رحمة الله:

 من هو المجنون ؟ الذي عُمِّيَت عليه رحمة الله، ففي مقتبل العمر يرى المال كل شيء، وفي أوسطه يراه شيئاً وليس كل شيء، وإذا على شفير القبر يراه لا شيء:

 

((يا أهلي يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة علي ))

 

( ورد في الأثر )

 فالمؤمن يرى طاعة الله هي كل شيء، يُصَدِّق الله عزَّ وجل.

 

التعليم عن طريق اللغة يليق بالإنسان:

 هناك نقطة دقيقة جداً ذكرتها اليوم في الخطبة: كان من الممكن أن نأتي جميعاً إلى الدنيا دفعةً واحدة، وأن نغادرها دفعةً واحدة، ولكن شاءت حكمة الله أن نأتيها تباعاً، فلماذا ؟ لأنه يمكن لأحدنا أن يُعَلِّم الآخر، فالإنسان الذي عمره خمسون سنة قد تراكمت عنده الخبرات، والحقائق والتجارب، والمعارف، وعرف الله، فيُلَخِّص كل هذا العمر وكل هذه التجارب لمن كان صغيراً بكلمات، فسر التعليم أنك تأخذ خبرات الأجيال، فهذا كتاب الله عزَّ وجل، حينما تستمع إلى تفسيره، فهذا عمل خطير جداً لأنه منهجك في الحياة، فالتعليم عن طريق اللغة شيء راقٍ جداً، وهذا الشيء يليق بالإنسان، لأن الله عزَّ وجل قال:

 

 

﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾

(سورة الرحمن)

 فأنت مكرم بالبيان، والبيان شفهي، وهناك بيان كتابي، والكتابي أرقى وأسمى لأنه ينقل المعارف من جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أمة، ومن قارة إلى قارة.

 

من علامات آخر الزمان تصديق الكاذب و تكذيب الصادق:

 فلذلك:

 

 

﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾

 

 فإذا أمسك إنسان بكيلو من الذهب الخالص، وقال له آخر: هذا ليس بذهب، بل هو معدن رخيص، فهل هذا الاتهام يجعل هذا المعدن رخيصاً ؟ أبداً، فتقييمك لا يغيِّر حقائق الأشياء، فلو قالوا عنه:

﴿ مجنون وازدجر ﴾

 هو عند الله نبيٌ مرسل، فالمؤمن الصادق لا يلقي بالاً لأقوال الناس، من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به، ازدجر أي زجرته الجن، أي أصابته لوثةٌ عقلية، فهذا من عمل الجن، والحقيقة حينما يتخلف المجتمع وتفشو فيه المادة ويصبح المؤمن غريباً، قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ))

 

( رواه مسلم عن أبي هريرة)

(( طوبى للغرباء فقيل من الغرباء قال أناسٌ صالحون في أناس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ))

( أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص)

 فالإنسان إذا أقام شرع الله وترك كل الموبقات، وترك كل الُملهيات، وضبط لسانه، يتهم عند الناس بأنه مجنون، وأنه لا يعرف كيف يعيش، وأن الذين أكلوا المال الحرام هم الأذكياء والأقوياء، فهذا حال المجتمع في آخر الزمان، يكذَّب الصادق، ويصدَّق الكاذب، ويؤتمن الخائن ويخوَّن الأمين، فهذا من علامات آخر الزمان التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام.

 

الأنبياء قدوة للناس:

 

﴿ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾

 ومعنى ذلك هناك سؤال دقيق الآن، أي أن هذه التهمة التي اتهم بها هذا النبي الكريم سيدنا نوح عليه السلام، ألا يسأل أحدكم هذا السؤال: لماذا أثبتها الله في القرآن الكريم ؟ تهمة طرحت، والنبي عليه الصلاة والسلام قالوا عنه: ساحرٌ ومجنون، وكاهن، وشاعر، فلماذا أثبت الله هذه التهم المفتراة على أنبيائه في قرآنه الكريم الذي يتلى إلى يوم الدين ؟ الجواب بسيط جداً: أي من أنت إذا كان نبيٌ كريم قد اتهم بالجنون، وأثبتت هذا التهمة في القرآن الكريم لتتلى إلى يوم الدين، ومن أنت إذا انتقدك منتقد أو انتقص من قدرك إنسانٌ جاهل ؟ لا تعبأ فربنا عزَّ وجل جعل الأنبياء قدوةً لنا.

الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء:

﴿ وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) ﴾

 فالله عزَّ وجل ما كان بالإمكان أن يخلق النبي وأصحابه المحبِّين في عصرٍ دون أن يخلق معهم إنساناً كافراً ولا مكذباً ولا مفترياً، فيعيش النبي مع أصحابه حياةً هنيئة وادعةً، كلها مودة، ومحبة، وخدمة، ومؤاثرة، والإسلام ينتشر هكذا بيسر، من دون جهد، وحروب، و غزوات، دون أن يوجد رجل كافر ينتقد النبي، ولا شاعر يهجوه، ولا كفار يخرجونه من بلده، ولا أشخاص يتَّبعونه في طريق الهجرة، ولا أشخاص يؤذونه في الطائف، ولا آخرون يأتمرون عليه في الخندق، ألم يكن هذا ممكناً ؟  ممكناً، إنه ممكن، ولكن كيف يظهر كمال النبي ؟ شاءت حكمة الله أن يجعل الحياة الدنيا دار ابتلاء، وامتحان، والإنسان بالابتلاء والامتحان يظهر معدنه، فما كان لنا أن نعرف قدر النبي لولا هؤلاء الكفار الذين نَكَّلوا، واتهموا، وأخرجوا، وكذبوا، وفعلوا الأفاعيل، وقد صبر النبي وصبر حتى أكرمه الله عزَّ وجل.
 أنا أقول لكم هذا الكلام: الإنسان إذا اتبع الحق فربما أصابته بعض المتاعب، وأحياناً من أقرب الناس إليه، وأحياناً من زوجته، وأولاده، و إخوته، و جيرانه، فوطِّن نفسك على أن الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، ووطِّن نفسك على أنك مبتلى، وممتحن، و أن الله لن يمكنك قبل أن يبتليك، ولن يعطيك قبل أن يجعلك تجاهد في سبيله، فلذلك هذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾

أعلى مرتبة ينالها الإنسان أن يكون عبداً لله:

 أثبت لنا هذه التهمة الباطلة المفتراة على نبيٍ كريم كي يكون لنا قدوةً في تحمل الشدائد، وذكر:

 

﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾

 و الله جلَّ جلاله جعل أعلى مرتبةٍ ينالها الإنسان أن يكون عبداً لله، وكلما ازداد افتقاراً لله ومعرفةً بقدره وضعفه ازداد قرباً ورفعةً وقوةً وعلماً وغنى، ولذلك فالنقطة الدقيقة جداً أن الله خلقك ضعيفاً لتفتقر في ضعفك فتسعد في افتقارك، ولم يخلقك قوياً لأنه إذا فعل ذلك استغنيت بقوتك فشقيت باستغنائك، إذن استغنيت فشقيت، وافتقرت فسعدت.

 

 

الدعاء هو العبادة:

 

﴿ فَدَعَا رَبَّهُ﴾

 إخوانا الكرام: والله الذي لا إله إلا هو يكاد الدين كله في النهاية يكون دعاءً صادقاً لله عزَّ وجل، وما أحسن هذه الأدعية التي دعا بها النبي، وأصل الدعاء من أرقى أنواع العبادة، فالدعاء هو العبادة، والدعاء هو افتقار، فالإنسان لما يكون مؤمنًا بالدعاء، فربنا عزَّ وجل قال:

 

﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾

 

(سورة الفرقان: آية " 77 " )

 أي أن الله عزَّ وجل يعبأ بنا إذا دعونا، ويحبنا، ويكرمنا إذا دعوناه، ويستجيب لنا، وينصرنا، وينقذنا، ويحمينا، ويوفقنا إذا دعوناه، فلماذا ؟

 

من أسباب دعاء الله عز وجل:

 أولا ً: لأن الإنسان لا يدعو إلا من يؤمن بوجوده، وهل يمكن لك أن تدخل إلى بيت فارغ لا يوجد فيه إنسان وتخاطب واحداً موهوماً ؟ إنه غير معقول، أنت لا تدعو إلا إنساناً مؤمناً بوجوده.
 ثانياً: وأنت لا تدعو إنساناً لا يسمع، بل تدعو إنسانًا أمامك تراه رأي العين وهو مستمعٌ إليك، فإذا كان لا يسمع فإنك لا تدعوه.
 ثالثاً: وإنسان موجود ويسمعك، لا تدعو عدوَّك، بل تدعو من يحبك.
 رابعاً: الإنسان لا يدعو إلا إنسانًا مؤمنًا بوجوده، يستمع إليه، محباً له، قادراً على إنقاذه مما هو فيه، فأنت حينما تدعو الله حقيقةً فأنت مؤمنٌ بوجوده، ومؤمنٌ بأنه يسمعك، ويحبك، وأنه قادر على إنقاذك مما أنت فيه، لذلك يعبأ بك، والدعاء معناه معرفة، وأنت لا تدعو الله إلا إذا عرفته لذلك:

 

﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

(سورة الزمر )

وراء كل مصيبة للإنسان المستقيم قفزتان:

 شيء آخر:

 

﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾

 

(سورة النمل: آية " 62 " )

 فالمضطر من له غير الله ؟
 إخوانا الكرام: يجب أن تعلموا علم اليقين أن الإنسان إذا أَلَمَّت به مصيبة وكان مستقيماً على أمر الله، فعليه أن يعلم العلم القطعي أن هذه المصيبة التي شاءها الله له وهو على استقامةٍ على أمر الله سوف ترفعه مرَّتين، وسوف ترفع مستوى معرفته بالله، وسوف ترفع مستوى محبَّته لله، وهناك قفزتان وراء كل مصيبة للمؤمن المستقيم.

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ﴾

(سورة البقرة)

إن الله يحب الملحين في الدعاء:

 أيها الإخوة:

 

﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾

 إن الله يحب الملحين في الدعاء، من لا يدعُني أغضب عليه، إن الله يحب من عبده أن يسأله حاجته كلها، إن الله يجب من عبده أن يسأله ملح عجينه:

 

 

((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا نقطع ))

 

( أخرجه الترمذي عن ثابت بن أنس )

 ادع الله:

 

(( إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ))

 

( رواه مسلم عن أبي هريرة)

 فيجب أن تجعل الدعاء أساس حياتك، إذا كان هناك مشكلة، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ بادر إلى الصلاة، فيكون لك صلاة الحاجة، والنبي شَرَعَ لنا صلاة الحاجة، لك مشكلة صلّ صلاة الحاجة.

 

الدعاء سبب قوة الإنسان و غناه:

 

﴿ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) ﴾

 لدينك يا رب، يقولون: إن نور الدين الشهيد (هكذا قرأت والله أعلم)، حينما أراد أن يدفع الفرنجة عن هذه البلاد وكانت هناك معركةٌ حاسمة فسجد وقال: " يا رب من هو نور الدين حتى تنصره ؟ انصر دينك "، وأيضاً أنت ادعُ الله عزَّ وجل، وربنا عزَّ وجل إذا ساق لك شبح مصيبةٍ من أجل أن يسمع صوتك، ومن أجل أن يسمع دعاءك، وأن تستيقظ لقيام الليل، وأن يسمع تهجُّدك، وأن يكرمك، وبعد كل مصيبة هناك شَدةٌ إلى الله، وكل شِدَةٍ وراءها شَدّة، وكل محنةٍ وراءها مِنْحة، هذا هو المعنى.

 

﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً﴾

 

 أنت بالدعاء تصبح أقوى الناس، لأن الله أقوى من كل قوي، وأنت بالدعاء تصبح أغنى الناس لأن الله أغنى من كل غني، فالدعاء، ملخَّص الدين كله أي أن تكون مع الله بالدعاء، وإذا قال الله عزَّ وجل:

﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾

( سورة المعارج )

 أي يدعون الله دائماً في كل أحوالهم.

 

الدعاء في أي لحظة و بأي لغة دعاء مقبول:

 والدعاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

 

 

(( الدعاء مُخّ العبادة ))

 

( أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك )

 ومن لا يدعوني أغضب عليه، والدعاء هو العبادة، والشيء الدقيق أن الإنسان بالدعاء يقفز قفزةً نوعيةً في معرفته بالله، وفي محبته له، وإذا أردت أن تحدث الله فادعوه، وإذا أردت أن يحدثك الله عزَّ وجل فاقرأ كلامه، فهل هناك أمتع من أن تناجي الله عزَّ وجل ؟ ولذلك احفظ أدعية النبي عليه الصلاة والسلام، أدعيةٌ جامعةٌ مانعةٌ محكمة، واجعل كتاب دعاءٍ في جيبك، الإنسان ميِّت أحياناً، فيركب مركبة عامة أحياناً، ويسافر، ويمشي في الطريق، فإذا كان معه كتيِّب دعاء، وقرأ أدعية النبي وحفظها وأصبحت ملكه، فهو قادر على أن يدعو الله في كل لحظة، وإن كان بأي لغة، وبأية طريقة، وبأي أسلوب فالدعاء مقبول.

 

أدعية النبي الكريم:

 تجد أن دعاء النبي جامع مانع، مثلاً:

 

 

(( اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ))

 

( رواه الترمذي عن الحسن بن علي )

 اللهم اهدنا فيمن هديت (بعد الهدى العافية)، وعافنا فيمن عافيت (بعد المعافاة يتولاك)، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، فأحياناً يخلق الله من الشيء القليل شيئًا كثيرًا، وهنا دعاء جامع.

 

(( اللهم إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعفُ عني ))

 

( أخرجه الترمذي عن عائشة )

(( اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ))

( رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري )

(( اللهم اغفر ذنبي، وأقل عثرتي، وأمن حوائجي ))

 اقرأ الأدعية:

 

(( اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ))

 

(أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث ابن مسعود)

(( اللهم اهدنا بالهدى ونقنا بالتقوى ))

(( اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب))

( أخرجه الترمذي عن عبد الله بن يزيد )

(( اللهم دلني عليك ودلني على من يدلني عليك))

 أدعية جميلة جدا.

(( اللهم نحن بك وإليك ))

(( اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، و أغنني بفضلك عمن سواك ))

( أخرجه الترمذي عن علي)

دعاء سيدنا نوح عليه السلام:

﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) ﴾

 سمعت مرة أنه في قرية من قرى إيطاليا نزل فيها أمطار في ليلة واحدة ثمانمئة ميليمتر، ونحن مستوى أمطار دمشق في العام كله مئتان وستة عشر، وهناك في ليلة واحد نزل ثمانمئة ميليمتر، فربنا عزَّ وجل إذا فتح أبواب السماء يصبح الماء مصيبةً.

﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ ﴾

 ماء السماء مع ماء العيون.

 

حفظ الله تعالى للمؤمنين و نجاتهم من الغرق:

 

﴿فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾

 أي أن هذا الأمر هو إهلاك هؤلاء القوم غرقاً، أما المؤمنون:

 

﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾

 

(سورة الأنبياء)

﴿وَحَمَلْنَاهُ﴾

 سيدنا نوح ومن آمن معه.

 

﴿عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾

 أي في سفينة مؤلَّفة من ألواح ومن حبال مربَّطة بها الألواح.

 

 

﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ﴾

 أي بحفظنا، ورعايتنا.

 

 

نجاة المؤمن من الكرب عند نزول البلاء الشديد:

 أحياناً الإنسان يتكلم كلمة لطيفة، فيقول لك: هذه الحاجة لزمتني في وقت الشدة فكأن ثمنها مليون ليرة، فالإنسان حينما تأتي مصيبةٌ كبيرة، يأتي كربٌ عظيم، ويكون مستقيماً سابقاً والله ينجيه، فيشعر بقيمة الإيمان، ففي الرخاء المؤمن غير واضح، إنه مؤمن مستقيم لكنه ضائع مع الناس، أما حينما يأتي الكرب العظيم والبلاء الشديد، فالله عزَّ وجل يجعل الناس كأعجاز نخلٍ منقعر ترى هذا المؤمن قد حفظه الله عزَّ وجل بحفظه الشديد، وهناك آلاف القصص، ولا مجال لذكرها هنا، آلاف القصص تؤكِّد أن المؤمن المستقيم ينجيه الله عزَّ وجل، وأنا أقول لكم دائماً: أنه ما من مصيبةٍ أعظم من أن ترى نفسك فجأةً في البحر، في الليل، وأنت لا تحسن السباحة، في أعماق البحر، ثم يأتي حوتٌ فيلتقمك، فتصبح في بطنه، في ظلمة بطن الحوت، وفي ظلمة البحر، وظلمة الليل البهيم.. فسيدنا يونس نادى في الظلمات:

 

 

﴿ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

 

(سورة الأنبياء )

 يجب أن توقن بهذه الآية، المؤمن ينجِّيه الله من الكرب العظيم دائماً:

 

﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾

 

(سورة الأنبياء)

 قانون، هذا قانون.

 

عاقبة المكذبين بالدعوة إلى الله:

 طبعاًً:

 

 

﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) ﴾

 دعا إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وعلانيةً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، فنادى نوحٌ ربه:

 

 

﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) ﴾

 

(سورة نوح )

 والله عزَّ وجل قال:

 

﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾

 وحفظنا، ورعايتنا.

 

 

﴿ جزاءً لمن كان كفر ﴾

 أي بهذا النبي الكريم الذي كفروا بدعوته.

 

 

﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾

 

إنذار الله تعالى للناس قبل عذابهم:

 نحن يهمنا آخر آية التي هي مفصلية كما يقولون، هنا:

 

﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) ﴾

 وبالمناسبة في ساعة عامة وساعة خاصة، الإنسان إذا طغى وبغى له ساعةٌ خاصة ينتهي فيها، فالموت، والإنسان إذا استقام وعمل أعمالاً صالحة يكون الموت عرسه، وفرحته، وتحفته.

 

 

﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾

 أي هل من متذَكِّر ؟

 

 

﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾

 دائماً العذاب يأتي قبله إنذار، وهذه السور، وهذه القصص إنذار من الله عزَّ وجل، فالإنسان العاقل يبادر إلى طاعة الله، والصلح معه، والإنابة إليه حتى ينجو من عذاب الله، والعذاب محقق ما دام هؤلاء الأقوام فعلوا فاحشة واحدة، أما في آخر الزمان فالفواحش كلها مرتكبة.

 

 

الاستقامة و التوبة ثمن النجاة من عذاب الله:

 لذلك فالله عزَّ وجل:

 

 

﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾

 إن من، أي ما من.

 

﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً﴾

(سورة الإسراء )

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾

(سورة النحل)

 فنحن يجب علينا أن نُعِدَّ الاستقامة والتوبة كي ينجو الإنسان إما من ساعةٍ خاصة أو من ساعةٍ عامة.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور