وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة القمر - تفسير الآيات 47-55
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون: مع الدرس الخامس والأخير من سورة القمر، ومع الآية الكريمة السابعة والأربعين وهي قوله تعالى:

﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾

الخاسر من خسر نفسه و انساق مع شهواته:

 المجرم هو الذي أجرم بحق نفسه، والخاسر هو الذي خسر نفسه، والظالم هو الذي ظلم نفسه، وأشد أنواع الظلم أن تظلم نفسك، وأشد أنواع الإجرام أن تجرم بحق نفسك، وأشد أنواع الخسارة أن تخسر نفسك في الأبد الذي خلقك الله له، فهؤلاء المجرمون الذين ما عرفوا الله، وبالمقابل ما طبقوا أمره، ولا ائتمروا، ولا انتهوا، وابتعدوا، وانساقوا مع شهواتهم.

 

الكافر في ضلال أفكاره مشتتة و أقواله متناقضة:

 هؤلاء المجرمون كما قال الله عنهم:

 

 

﴿فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾

 الضلال هنا والسعر هنا، عقولهم في ضلال، وأفكارهم مشتتة، وتصوراتهم غير صحيحة، وأقوالهم متناقضة، وهدفهم غير واضح، وسر وجودهم غير مُعَرَّف لديهم، يعيشون على هامش الحياة، ويتحركون حركةً عشوائية، في ضلالٍ، مذهبٌ يأخذهم ومذهب يجلبهم، ويتأرجحون، ويتذبذبون، ويتحركون حركةً عشوائية، في ضلال، المؤمن على خلاف ذلك ؛ عرف حقيقة الوجود، فعرف حقيقة الدنيا، وعرف حقيقة نفسه، فعرف سر وجوده، وعرف غاية وجوده، فعرف لماذا جاء الله به إلى الدنيا، عرف أين كان قبل أن يُخْلَق، وما يؤول حاله بعد الموت، وعرف الحكمة البالغة التي خلقه الله من أجلها الإنسان، وعرف الأمانة، والتكليف، والمنهج، والحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، وتفاصيل المنهج الإسلامي، في حياته الخاصة، وفي علاقته بزوجته، وعلاقته بجسده، وأهله وأولاده، وفي بيعه وشرائه، وفي كسب المال، و إنفاقه، وفي كل نشاطاته، في لهوه، وفرحه، وحزنه، وعرف الله، فعرف منهجه، فالكافر في ضلالٍ.

 

 

المؤمن لا يضل عقله و لا تشقى نفسه:

 والمؤمن:

 

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾

(سورة طه )

 لا يضل عقله ولا تشقى نفسه، أما الكافر..

 

﴿ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾

 الآن قلبه ملتهب، في حرقة، يعصره الألم والقلق، والضياع، إنه مشتت، مبعثر، قلق، متشائم، ممزق، فوصف ربنا عزَّ وجل جامعٌ مانع.

 

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾

حياة الكافر خطأ و تشرد و عقاب:

﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾

 زواجه يشقيه، وبيته قطعة من جهنم، وعمله غير موفَّق، وهو في علاقاته غير ناجح، لأنه انحرف عن منهج الله.
 أيها الإخوة الكرام: لو أنه من الممكن أن تبتعد عن أصل الله وعن منهج الله عزَّ وجل وأن تستقيم أمورك، إذاً لا حاجة إلى الدين، لكن كل إنسانٍ ما عرف الله وما عرف منهجه فلابد من أن ينحرف، ومن لوازم جهله وشروده أن يعتدي، ومن لوازم عدوانه أن يحاسب وأن يعاقب، ولذلك فحياة الإنسان خطأٌ وعقابٌ، وانحرافٌ وعقابٌ، وتشردٌ وعقابٌ.

﴿فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾

 صورة قدمتها الآية التالية لكنها رهيبة.

النار مثوى من لا يدخل الآخرة في حساباته:

 الآن ائتِ بإنسان وقيِّد يديه واربطه من رجليه واسحبه وراء مركبةٍ في أرضٍ وعرة على وجهه، لا يستطيع أن يتلقى الصدمات بيديه، يداه مقيدتان، وهو مربوطٌ من رجليه تسحبه مركبةٌ على أرضٍ وعرة فيها النتوءات، والصخور، والأشواك، والنباتات، فما حال هذا الإنسان ؟ قال:

 

﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾

 

 هذه التي كذَّبتم بها، وهذه التي استهزأتم بها، وهذه التي لم تدخلوها في حساباتكم إطلاقاً، دقق في أحوال الناس، يحسب حساباً لكل شيء، ويخطط لكل شيء، فهو يخطط لعشرين عاماً قادمة، ويخطط لأولاد أولاده، إذا بنى مسكناً، فهذا المسكن لا يستهلكه لا هو ولا عشرة أجيال من بعده، يخطط لكل شيء، إلا هذا الذي وعدنا الله به أو توعدنا به أخرجه من حساباته.

﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾

العاقل من استقام على أمر الله:

 لذلك:

﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) ﴾

(سورة النجم )

 هذه الحقائق مصيرية متعلقةٌ بمصير كل إنسان، وبسعادته الأبدية، وباستحقاقه دخول الجنة أو دخول النار.

 

﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾

 

 المؤمنون لا يضل عقلهم ولا تشقى نفوسهم.

﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾

 فالأولى بالإنسان العاقل أن يأخذ موقفًا واضحاً من هذا الكلام، هذا كلام خالق الأكوان، أعندك شكٌ في أنه ليس كلام الخالق ؟ ائتِ بالدليل، إما أن تأتي بدليل إيجاب، أو بدليل سلب، إن أتيت بالدليل على أنه كلام خالق الكون فيجب ألا تنام الليل، وألا تركن إلى الدنيا، وأن تدقق في كل عملٍ تفعله، لأنّ الله سيحاسبك، إن كنت تعتقد أن الله موجود، ويعلم، وسيحاسب وإن لم تستقم على أمره فلابدَّ أن في العقل خللاً.

 

﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾

 

كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر: آية تدل على وجود الله و حكمته:

 ثم يقول الله عزَّ وجل حقيقةً الكون كله ينطق بها، بل إن هذه الحقيقة تنتظم كل ما في الوجود، وهذه الحقيقة لو درست مئة عام، ولو قرأت كل كتاب، ولو انتسبت لكل الجامعات، لا تفي كل الدراسات بحق هذه الآية، يقول الله عزَّ وجل:

 

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

 كلمة: بقدر دليل وجود الله، ودليل علمه، ودليل حكمته، فمثل بسيط، مفتاح الكهرباء يمكن أن يوضع في أعلى السقف، أو أعلى الحائط، ويمكن أن يوضع على مستوى الأرض، وأن يوضع على ارتفاع مترين ونصف، أو على ارتفاع متر، فإن رأيته في مكانٍ مناسب، في مستوى اليد ألا تستدل من هذا على أن هذا المكان المناسب مقدرٌ تقديراً حكيماً، وأن الذي وضعه في هذا المكان إنسان عاقل، ودرس حاجة المستعمل إليه، فلو جعله في أعلى الحائط لاضطررت إلى استعمال السلم لإطفاء المصباح، ولو جعلته على مستوى الأرض لاضطر صاحب البيت أن ينبطح كي يغلق المصباح، وهذا ليس حكمةً، أما حينما تراه في مكان مناسب، وفي تقدير دقيق، فمعنى ذلك أن الذي وضعه في هذا المكان حكيم، فإذا نظرت إلى ما حولك تجد أن كل شيءٍ خلقه الله بقدر، بقدرٍ معجز، أي أن الكون كله مصداقٌ لهذه الآية، وهذه الآية تنتظم الكون كله، وهي أكبر دليلٍ على وجود الله، وعلى حكمته، وعلى قدرته، وعلى خبرته، وعلى علمه.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

القدر دليل على كمال الله و وحدانيته:

 أما كلمة:

 

﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾

 الشيء الصغير بقدر، والشيء الكبير بقدر، والشيء الصامت الجامد بقدر، والشيء المتحرِّك، كالحيوان، بقدر، والشيء الذي ينمو، كالنبات، بقدر، والذي يفكر، أي إنسان، بقدر.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 فالساكن والمتحرك بقدر والصامت والناطق والصغير والكبير والحاضر والغائب والمعلوم والمجهول كلها بقدر.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 هذا القدر قدَّر حقيقته، وقدر صفته، وقدر مقداره، وقدر زمانه، ومكانه، وعلاقاته، وتأثُّره، وتأثيره.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 ويكاد يكون هذا أكبر دليلٍ على وجود الله وعلى علمه وقدرته وحكمته وكماله ووحدانيته.

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ:

1 ـ حجم الأرض خلقه تعالى بقدر معين:

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 أيها الإخوة: حجم الأرض بقدر، فلو زادت عن حجمها الحقيقي لأصبح وزن الأشياء عليها كبيراً جداً غير محتمل، ولو قل حجمها لكان وزن الأشياء عليها غير محتمل، والدليل أن الإنسان حينما صعد إلى القمر كانت حركته مزعجةً جداً، فأية قفزةٍ يرتفع خمسة أمتار، لأن وزنه هناك سدس وزنه على الأرض، ولو كان الإنسان على أرضٍ أكبر من أرضنا بضعفين لكان وزنه ضعفين.
 إذاً: حجم الأرض بقدر، ودورتها حول نفسها بقدر، ولو أنها تدور كل ساعة، ساعة ليل، وساعة نهار، فشيء غير معقول وغير محتمل، ولو أن الأرض تدور حول نفسها كل شهرٍ مرةً، لصار النهار شهراً والليل شهراً، ولو أنها تدور حول الشمس كل ألف عامٍ مرةً فالإنسان يرى الربيع فقط، أو الخريف فقط، أو الشتاء فقط، أما دورتها حول نفسها بقدر، وحجمها بقدر، ودورتها حول الشمس بقدر، ومساحة اليابسة الخمس، والمسطحات المائية أربعة أخماس بقدر.

2 ـ الحرارة على الأرض:

 الحرارة التي عليها بقدر، من عشر إلى أربعين يحتملها الإنسان، ولو أن الأرض توقَّفت عن الدوران لأصبح وجهها المقابل للشمس ثلاثمئة وخمسين درجة فوق الصفر، والذي على خلاف الشمس مئتين وسبعين تحت الصفر (أي الصفر المطلق). أما الحرارة فمعقولة، والمياه بقدر، والهواء بقدر، ولو أن الأوكسجين في الهواء زاد عن حده لاحترق كل شيء، فنسبة الأوكسجين بقدر، ويصبح الهواء نافعاً غير ضار.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

3 ـ دوران الأرض حول الشمس خلقه بقدر معين:

 الآن دورتها حول الشمس بقدر، وتسير بمدار إهليلجي له قطران، قطر طويل وقطر قصير، فإذا وصلت إلى القطر القصير، فالمسافة قلَّت بينها وبين الشمس، فهناك احتمال أن الشمس تجذبها، لذلك تزيد سرعتها زيادةً ينشأ عنها قوةٌ نابذةٌ تكافئ القوة الجاذبة بقدر، فإذا وصلت إلى القطر الأبعد وبقيت على سرعتها العالية، فهناك احتمالٌ كبير أن تتفلت من جاذبية الشمس فتنطلق إلى الفضاء الخارجي، ولذلك تقل سرعتها هنا ليكون جذب الشمس كافياً لربطها بمداها.

 

4 ـ ارتفاع سرعة الأرض بقدر معين:

 الآن: ارتفاع السرعة بقدر، فلو ارتفعت فجأةً لانهدم كل ما على الأرض، ولو انخفضت فجأةً لانهدم كل ما على الأرض.

 

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

 فمحور الأرض مائل بقدر، وهذا الميل نتج عنه الصيف والشتاء والخريف والربيع، ولو كان عمودياً على مستوي الدوران لأُلْغِيَت الفصول !، لكن بقدر.

5 ـ بعد الشمس عن الأرض بقدر:

 الآن: الشمس بعدها عن الأرض مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر بقدر، فلو اقتربت لاحترقت، ولو ابتعدت لهلك من عليها، بعدها عن الشمس بقدر، وعن القمر بقدر، وحجم القمر بقدر، والشمس تتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض، بقدر.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

6 ـ الجبال موزعة بقدر معين:

 الجبال موزَّعةٌ في الأرض توزيعاً دقيقاً جداً حيث إن الجبال تغدو رواسي أن تميد بكم، لئلا تميد بكم، وكيف أنك تضع على العجلة خمسة غراماً أو عشرة غرامات من الرصاص في مكان دقيق جداً من أجل أن لا تميد أثناء الدوران السريع، كذلك الجبال كانت رواسي للأرض لئلا تميد بها.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

7 ـ المد و الجزر خلقه الله تعالى بقدر:

 الآن: لو نزلنا إلى الأرض لرأينا الجُزُر في هذه الجزيرة لها مهمة أن تستقطب المنخفضات الجوية، وهذه الصحراء الحارة الهواء عليها ساخن، وإذا سخن الهواء تمدد، وإذا تمدد تخلخل، فالضغط منخفض هنا، والمنطقة القطبية باردة والهواء مكثَّف، فالضغط مرتفع، ومن تباين الضغطين تنشأ الرياح من القطبين إلى خط الاستواء، والأرض إذا دارت صارت الرياح مائلة من الغرب إلى الشرق، رياح غربية تسوق السحب.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

8 ـ المعصرات خلقها تعالى بقدر معين:

 أما بخار الماء، فالهواء يحمله ولكن بقدر، وكل درجة حرارةٍ للهواء تتحمَّل كميةً من بخار الماء، فإذا قلَّت الحرارة تخلَّى البخار عن الماء فكانت الأمطار، فهنا سحابة مشحونة ببخار الماء فإذا لامست سحابةً باردة انكمش بخار الماء وشكَّل قطراتٍ تنعقد على ذرات الغُبار فتكون الأمطار.

 

﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً﴾

 

( سورة النبأ )

 سمَّاها الله المعصرات، وكأن قماشاً غمسته في الماء فاحتمل ماءً كثيراً فإذا عصرته نزل منه الماء، وهذه حقيقة نزول الأمطار من السحب المحملة ببخار الماء ثم لامست جبهةً باردةً فتخلَّت عن مائها، فانقلب بخار الماء إلى قطرات من الماء فكانت الأمطار.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

9 ـ النباتات:

 أما الآن النباتات، فكل محصول له نظام، فالقمح ينمو في وقتٍ واحد، والمحاصيل تنمو في وقتٍ واحد، وأما الفواكه والثمار والخضار فتنمو في فتراتٍ بعيدة، فثلاثة أشهرٍ حقل البطيخ يعطيك البطيخ كل يوم، وأكثر الخضراوات والفواكه مؤقتة، فتنضج في فترة ما بين شهرٍ أو شهرين، وبإمكانك أن تقطع من ثمار هذه الشجرة لشهرين أو ثلاثة دون أن تصاب بأذى.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

10 ـ الحيوان:

 هذا هو النبات، والبقرة من عالَم الحيوان، تعطيك من الحليب أضعاف ما تأكل، فلو أنها تستهلك من الطعام ما يقابل ثمن الحليب لما ربَّى أحد البقر أبداً، ولو أن الدجاجة تعطيك في الشهر بيضة واحدة فلا أحد يربي الدجاج، بل تعطيك كل يومٍ بيضة، ويجب أن يكون إنتاجها أكبر من مصروفها من أجل أن تقتنيها.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

 وبعض الشواهد الأخرى من عالم الحيوان والنبات، الجوارح، فالطيور الجوارح التي تتغذَّى بصغار الطير عددها قليل، لأنها قليلة التفريخ، تعيش في مواطن خاصة، ولكنها طويلة الأعمار، فلو أن هذه الطيور الجوارح كانت تبيض كثيراً وتفرِّخ وتعيش في كل بقاع الأرض لأكلت كل الطيور، ولكن أعمارها طويلة، وأعدادها قليلة، وأماكنها محدودة، وبيضها محدود، وتفريخها محدود.
 أما الذباب فيبيض ملايين البويضات لكنه يعيش أسبوعين فقط ويموت، فلو أن الذباب عاش شهرين أو سنتين أو عقدين لغُطِّيَت الأرض كلها بالذباب، فنمط التوالد أيضاً بقدر.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

11 ـ الميكروبات:

 الميكروبات من أكثر مخلوقات الله عدداً، ومن أكثرها توالداً، لكن بالمقابل من أضعفها ؛ فالبرد يقتلها، والحر يقتلها، وحمض المعدة يقتلها، والمصول تقتلها، والهواء وحده يقتلها، فهي من أكثر المخلوقات عدداً ومن أشدها توالداً لكنها ضعيفةٌ جداً، فهناك تناسب.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

 والحيَّات الصغيرة سمها ناقع، زعاف، وسرعتها كبيرة وسلاحها في الهروب واللدغ، أما الثعابين الكبيرة فسلاحها بقوة عضلاتها، ضعيفة السُمِّيَة ولكن عضلاتها قوية.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 وهناك حيوان يدافع عن نفسه بالجري، وحيوان يدافع عن نفسه بالتلوُّن كالحرباء، وبعض الأسماك تطلق صعقةً كهربائية أحياناً أربعة آلاف فولط تقتل من حولها، وبعض الأسماك يطلق سحابة سوداء حوله فيغيب عن الأنظار، فكل حيوان له وسيلة للدفاع عن نفسه.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

12 ـ البويضة في الإنسان:

 البويضة في الإنسان بعد أن تلقَّح وتتجه نحو الرحم تأكل جدار الرحم، ففيها صفة آكلة اللحوم، وتنغرس في هذا الجدار، بينما تتهتك جدار الرحم في مكان انفصال البويضة، فتصبح وسط بركة من الدم هو غذاؤها.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

13 ـ طول الحبل السري:

 الحبل السري للطفل طوله بحكمةٍ بالغة، ولو كان أكثر طولاً لفسد الغذاء في داخله، ولو كان أقل طولاً لكان الغذاء غير مناسبٍ للطفل، فحبله مناسب جداً.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

14 ـ تركيب حليب الأم:

 وكلكم يعلم أيها الإخوة أن ثدي المرأة بعد الولادة يفرز سائلاً أبيضَ مائلاً إلى الصُفْرَة وفيه كل مناعة الأم، وفيه مادةٌ تذيب الشحم الذي داخل أمعاء الطفل، ولذلك هذه المادة تعطيه مناعة الأم وتذيب الشحوم التي داخل الجهاز الهضمي، وفي اليوم التالي يفرز اللبن.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

 حليب الأم تتبدَّل كميته من بضع كؤوس إلى لتر ونصف إذا نضج، فمن يحدد هذه الكمية.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 تركيب حليب الأم يتبدَّل.. وقد تعجبون إنه يتبدل في الرضعة الواحدة، فلو أخذنا الحليب في أول الرضعة لكان ماؤه كثيراً، وفي آخرها قل ماؤه وتركزت فيه المواد الغذائية، فيتبدل تركيب الحليب في رضعةٍ واحدة، وكل يومٍ بحسب نمو الطفل.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

15 ـ الطحال خلقه الله له نشاطاً معيناً:

 الطحال يأخذ الخلايا الكريات الحمراء التي ماتت، يأخذها فيحللها إلى عواملها الأولية، حديد، هيموغلوبين، الحديد يعاد سوقه إلى نقي العظام، ليعاد تصنيعه من جديد والهيموغلوبين يذهب إلى الكبد ليكون الصفراء، وفي الثانية الواحدة يموت اثنان ونصف مليون كرية حمراء، والطحال يأخذ هذه الكريات ويحللها فهو مقبرةٌ لها، والطحال معمل دم احتياطي، فلو تعطَّلت مراكز تصنيع الكريات الحمراء في نقي العظام لعمل الطحال كمعملٍ لكريات الدم الحمراء، والطحال مستودع لكريات الدم الحمراء، أعرف شاباً جامعياً في كلية الطب انتهى أجله بسببٍ قد لا يصدَّق، أن هذا الطحال عمل بنشاطٍ أكبر مما ينبغي، فصار يأخذ كريةً طيبةً فيقتلها، مات هذا الشاب بسببٍ مرضٍ اسمه فرط نشاط الطحال، ومعنى ذلك أن كل واحد منا لو اختل توازن الطحال أو عمل أنشط مما ينبغي له لانتهت حياة الإنسان.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

16 ـ نسبة الملح في الدم لها قدر معين:

 ونسب الملح في الدم من سبع إلى ثمان بالألف، فلو قلَّت أو زادت لمات الإنسان، فتأتي الكلية لتعيِّر الملح في الدم، فإن أكلت طعاماً مالحاً فالكلية تطرح الملح الزائد، ولو أكلت طعاماً من دون ملح، فالجسم يأخذ الملح حتى من الفواكه، فإن أكلت الملح الزائد طرحته الكلية لتبقى النسبة سبعة إلى ثمانية بالألف، وإن لم تأكل الملح اشتقَّته الأجهزة من أي غذاءٍ آخر.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

17 ـ الغدد النخامية خلقها الله بقدر معين:

 الغدة النخامية ملكة الغدد، تسيطر على كل الغدد الصمَّاء في الجسم، وتفرز اثني عشر هرمونًا، وزنها نصف غرام، ولها إفراز لو تعطل لأمضى الإنسان الوقت كله إلى جانب الصنبور والمرحاض، ليشرب مئات اللترات من الماء وليفرغها في المرحاض، وهي مركز ضبط السوائل في الجسم، ومركز الحرارة في الجسم، ولما يكون الإنسان مضطجعاً ويريد أن ينهض، فلو لم تكن هناك شوارد في الدم تضيِّق لمعات الشرايين فإذا وقف الإنسان يقف ويقع، لأنه كان مضطجعاً، فلما وقف بحكم الجاذبية نزل الدم إلى الأسفل، وحصل نقص تروية فأصيب بالدوار فوقع، فحينما يزمع الإنسان أن ينهض فهذه الشوارد تنبه الأوعية وتضيق لمعتها وتبقي الدم محبوساً في القسم الأعلى.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

18 ـ مطابقة العين:

 العين، مطابقة العين أمرٌ عجيب، فلو أنك شاهدت سيارةً تجري في الطريق، و أنت تراها بشكلٍ دقيقٍ دقيق في كل أحوالها، والعدسة واحدة، والشبكية واحدة، ولوحة المحرق واحدة، فكيف ينطبع الخيال على المحرق الثابت على العدسة والشيء المرئي متحرك ؟ فمعنى ذلك هناك عضلات دقيقة جداً، وحساسة جداً، وعالمة جداً تضغط الجسم البلوري في العين ثلاثة ميكرون من أجل أن يبقى الخيال على الشبكية، فكيفما تحركت السيَّارة، أو كيفما تحرَّكت الكرة تراها أنت على الشبكية بشكلٍ دقيق، فالمطابقة التي في العين يعجز عن فهمها الإنسان، بل إن الإنسان حينما يرى ما دون ستين متراً فالعين تجري أدق عملية مطابقة، ولو أنّ الله سبحانه وتعالى أوكل هذه العملية إلى الإنسان لما عرف ماذا يفعل، ولغابت عنه المشاهد والحقائق، فالعين تطابق وأنت لا تشعر.

 

19 ـ القلب:

 والقلب له مطابقة، فلو أنَّ الإنسان خُطِّط قلبه في العناية المشدَّدة لرأيت أنَّ الإنسان إذا حمل الوسادة ارتفعت نبضات قلبه، على مستوى كيلو، وعلى مستوى عشرين غراماً أحياناً، و مئتي غرام، ورأيت اللوحة تشير إلى التخطيط وعدد ضربات القلب لرأيت فرقاً واضحاً، فالإنسان يمشي، ويجري فترتفع نبضات قلبه، ويصعد الدرج فترتفع، ويبذل جهداً فترتفع، ما هذا المُحَرِّك المتوافق مع الجهود ؟ ليس في عالَم الميكانيك محرِّك استطاعته متبدِّلة بحسب حمولته، فهذا الشيء غير موجود، لكن قلب الإنسان تتبدَّل استطاعته بتبدُّل الجهد المفروض عليه.

 

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

 أيها الإخوة: عندما يشاهد الإنسان كما تعلمون شيئاً مخيفاً، كيف فالصورة تنتقل إلى العين، وإلى الدماغ، فالدماغ يأمر الغدَّة النخامية الملكة بالتصرُّف، والغدَّة النخامية تأمر الكَظَر، والكظر يأمر القلب برفع نبضاته، ويأمر الأوعية بتضيّيق لمعتها، ويأمر الكبد بطرح سكّرٍ في الدم إضافي، ويأمر الكبد بطرح هرمون التجلُّط، ويأمر الرئتين برفع وجيبهما، في ثوانٍ معدودة.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

20ـ الأذن:

 كيف يمشي الإنسان في الطريق فيستمع إلى صوت بوق سيّارة فينحرف نحو اليمين وهو لا يشعر ماذا فعل ؟ كيف أنَّ الصوت وصل إلى الأذنين معاً، فوصل إلى الأولى قبل الثانية بجزء من ألف ومئتين وستمئة وعشرين جزء من الثانية، وعرف الدماغ أن الصوت وصل إلى هنا قبل هنا إذا الصوت من جهة اليمين فيعطي أمراً إلى جهة اليسار.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

21 ـ اللعاب:

 والإنسان أحياناً عند طبيب الأسنان إذا كان هناك عمل طويل يضع له أنبوباً يسحب لُعَابَه، لماذا ؟ لأن الإنسان لا يستطيع بلع ريقه إلا إذا أغلق فمه، فما دام الفم مفتوحاً فاللُعاب يتجمَّع، ولكن في النوم كيف ينام الإنسان ثماني ساعات أحياناً وفمه مغلق ؟ أين اللُعاب ؟ أين يذهب ؟ كلُّما تجمَّع اللُعاب في فمِ النائم أعطى الجسم إشارةً إلى الدماغ، والدماغ يأمر البلعوم ولسان المزمار بفتح طريق المري وإغلاق طريق التنفُّس فيبلع الإنسان لُعابَه وهو نائم، وهو لا يشعر.

 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

حكمة الله من تقلب الإنسان في نومه:

 الإنسان وهو نائم هناك هيكل عظمي، وهناك عضلاتٌ تحت الهيكل العظمي، وعضلات فوقه، وزن الهيكل العظمي مع وزن العضلات التي فوق الهيكل العظمي تضغط على العضلات التي هي تحت الهيكل العظمي، فإذا ضغطت عليها فإن الأوعية الدموية تضيق لمعتها، فإذا ضاقت ضَعُفَت التروية، فإذا ضعفت التروية شعر الإنسان بالتنميل، وهو نائم وهناك مراكز ضغط في الجسم تتحسَّس فتُبلِّغ الدماغ، والدماغ يأمر العضلات بأن يقلب على الطرف الآخر، وأنت نائم، والإنسان النائم يتقلَّب ثماني وثلاثين إلى أربعين مرَّة، فلو صوَّرنا إنساناً نائماً فإننا نراه يتقلَّب من ثمانٍ وثلاثين إلى أربعين مرَّة، والله عزَّ وجل قال:

 

﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾

 

( سورة الكهف: آية " 18 " )

 ومن إعجاز القرآن العلمي، لو أنَّ أهل الكهف لم يتقلَّبوا لتفسَّخوا بعد شهرٍ واحد، فبقوا في كهفهم ثلاثمئة وازدادوا تسعاً، إذاً هذا تقليب الإنسان.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 والله أيها الإخوة: لو أمضيت الوقت كلَّه في تأمُّل بديع صنع الله عزَّ وجل، في جسمك فقط لما وصلت إلى نتيجة، ولما أحطت بهذه الآيات.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

التفكر و التأمل أساس معرفة الخالق:

 قلت قبل قليل: إن هذه الآية تنتظم الكون كلَّه، وإن الكون كلّه مصداقٌ لهذه الآية، وأي شيءٍ تراه عينك إنما هو من تقدير حكيم عليم، ولذلك إذا أردت أن تعرف الله فتأمَّل في بديع صنعه، وإذا أردت أن تعرفه حقَّ المعرفة فتفكَّر في خلق السماوات والأرض، وانظر إلى طعامك، قال تعالى:

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ﴾

(سورة عبس )

 انظر إلى أصلك ممَ خُلِق ؟

 

﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾

 

( سورة الطارق )

رحمة الله بالإنسان:

 خمسمئة مليون حوين تحتاج البويضة إلى حوينٍ واحد، فلماذا تُفرَزُ الحوينات التي عند الرجل إلى آخر أيام حياته ؟ الرجل قد يُنْجِب وهو في الثمانين وفي التسعين، أما المرأة فبويضاتها محدودة فإذا انتهت دخلت في سنِّ اليأس.

 

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 

 و لو أنَّ امرأةً في التسعين حملت فهذا شيء لا يُحتمَل، ولا يُعقَل، رحمةً بالمرأة، فبويضاتها معدودة تنتهي في الأربعين، أو في الخمسين، أو في السادسة والأربعين وتدخل سنَّ اليأس، أما الرجل فغير محدودة.

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 و الرجل قد يفقِدُ شعره كلَّه، لكن المرأة يقلُّ شعرها ولكن لا تفقده كلِّياً.

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

 أي أن هناك حِكَمًا بالغة يحتاج الإنسان أن يقف عندها، وعلى كلٍّ فالموضوع طويل، فالأطيار تحتاج إلى درس، والأسماك إلى درس، والجُزُر والخلجان والرؤوس، والأمطار والسُحُب، والرياح كل واحد يحتاج إلى درس، وكل مخلوقٍ لو تأمَّلت صنعته ودقَّته لعرفت أن الله سبحانه وتعالى.

﴿ قَدَّرَ فَهَدَى﴾

(سورة الأعلى)

بين إرادة الله و أمره لا يوجد وقت أبداً:

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) ﴾

(سورة طه )

 و لذلك فهذه الآية تعدُّ إحدى الآيات الجامعة في كتاب الله.

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) ﴾

 هذا تقريبٌ لنا، لمح البصر يحتاج إلى وقت، أما الله عزَّ وجل فالوقت من خلقه، وبين إرادته وأمره ليس هناك زمن إطلاقاً.

﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾

 أي أن الله عزَّ وجل يزلزل أعظم المدن في أربع ثوان، مدينة عريقة، كبيرة، فيها ناطحات سحاب، يمكن بسبع رختر أن تكون منتهية كلها، أكثر من مئة عام شُيّدت فيها الأبنية فتسقط في أربع ثوان، وأغادير أربع ثوان انتهت كلها، فالله عزَّ وجل رحيم، خمس وثلاث من عشر في الشام فهذه نعمة لأنه لم يحدث شيء، وفي العقبة سبع واثنتين، أكثر الأبنية فيها تضعضعت، وفي القاهرة ست وثلاث، أما سبع خالصة فعظَّم الله أجركم، فما هذه الحياة ؟ كل منجزات الإنسان، وعماراته، وكل شيء بناه بسبع رختر يكون كل هذا منتهياً.

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

إنذار الله تعالى للمنغمسين في الملهيات:

 هذه الهزَّات الخفيفة إنذار مبكِّر، إذا عَمَّ الفساد، وانغمس الناس في المُلهيات، وأكلوا الربا، واستباحوا المحرَّمات فأقلقهم الله عزَّ وجل.

 

﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾

 مرَّة ضربت مثلاً أيها الإخوة هناك رافعات ضخمة في المعامل تقوم على المغنطة، فإذا أُحيطت قطعة حديد كبيرة بوشيعة كهربائية تصبح مغناطيسية، ويمكن لهذه الرافعة أن تحمل عشرة أطنان، ولا يستطيع إنسان مهما كان قوياً أن ينزع منها شيئاً، لكن الذي يعمل على هذه الرافعة لو ضغط الزر الذي يقطع الكهرباء عن هذه الرافعة ربع الميلي فإن كل شيء يقع، فقطع الكهرباء يلغي عمل الرافعة، وهذا مثل تقريبي، فضغط بسيط، عشرة أطنان حديد محمولة ملتصقة بالرافعة، والإنسان مهما كان رياضياً لا يستطيع أن ينزع منها شيئاً، أما العامل الذي على هذه الرافعة فضغطة أقل من عشر الميلي لقطع الكهرباء كل شيء يقع، فكيف بخالق الكون؟

 

﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾

 كن فيكون زُلْ فيزول.

 

 

إهلاك الأقوام السابقة بأفعالهم:

 

 

﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾

 أي من كان على شاكلتكم، ومن شايعكم، ومن كان مثلكم.

﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾

 من قبل، عاد وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب.

﴿ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) ﴾

 أي في الكتب مسجَّل كل شيء فعلوه.

 

العاقل من يتوب قبل الموت و الحساب الدقيق:

 الإنسان يوم القيامة يقول:

 

﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾

(سورة الكهف: آية " 49 " )

 و الآن يخالف السرعة فتُرسَل له إلى البيت صورة سيارته مع رقمها ملونة ومع التاريخ والسرعة، ويجعلونه يدفع الغرامة، والإنسان يمكنه أن يضبط الحركات، فيقول لك: الطريق مراقب بالرادار، الصالة مراقبة تلفزيونياً، والإنسان مراقب من قِبَل أخيه الإنسان فكيف من قِبَل الواحد الديَّان ؟.

 

﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾

 

 ما قولك أن يأتي الإنسان يوم القيامة وأن يشاهد أفعاله كلَّها صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، بوقتها، وزمنها ومكانها، وملابساتها، ونياتها وكل ما يرافقها أن يراها أمامه معروضةً وينادي الحقّ جلَّ جلاله:

﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾

( سورة الإسراء)

 فالإنسان إذا أدخل في حسابه اليومي أن كل أعماله مُسَطَّرةٌ عليه وسوف يحاسَب عنها لابدَّ من أن يستقيم على أمر الله.

 

تسجيل أعمال الإنسان عليه:

 

﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) ﴾

 مسجَّل.

﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾

 و الله قال:

﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾

(سورة آل عمران: آية " 181 " )

 هذه سجِّلت عليهم.

 

نسيان فضل الله على الإنسان كفر به:

 هناك كلمات فيها كفر أحياناً، يقول:

 

﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾

(سورة القصص: آية " 78 " )

 وأناسٌ كثيرون يقولون لك: هذا جهدي، وهذه خبرتي، وهذا كدّي وسَعْيي، وينسى فضل الله عزَّ وجل، بدل أن يقول: هذا من توفيق الله، وهذا من فضل الله عليّ.

﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾

(سورة القصص: آية " 78 " )

 أحدهم في سهرة قال: أنا لن أموت قريباً، فسُئل ما الدليل ؟ قال: لأنني أمشي كثيراً، وآكل قليلاً، وأبذل جهداً، ولا أحمل همَّاً، ولا أُدَخِّن، إنه قال هذا الكلام يوم السبت وفي السبت الذي يليه كان تحت الأرض، واجتمع أصدقاؤه ولم يكن بينهم، فعلى الإنسان ألا يتكلَّم كلاماً أكبر من حجمه.

﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾

(سورة آل عمران: آية " 181 " )

التوحيد يخفف من المصائب:

 طبعاً الإنسان يجب أن يأكل قليلاً، وأن لا يدخِّن وأن يبذل جهداً، ولا يتلقَّى الأمور بهمٍِّ شديد، فالله المدبِّر، والتوحيد يخفِّف من وقع المصائب، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ولكن أن تعتقد أن هذه الأشياء وحدها تطيل العمر فهنا الشرك.

﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾

إكرام المؤمنين يوم القيامة إما:

1 ـ إكرام مادي:

 الآية بدأناها.

﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾

 والآن الطرف الآخر (طرف المؤمنين) قال:

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾

 هؤلاء الذين اتقوا ربهم في الدنيا، وهؤلاء الذين التزموا أمر الله ونهيه، والذين تقرَّبوا إليه، وتعرَّفوا إليه، وأقبلوا عليه، وذكروه أناء الليل وأطراف النهار، واستقاموا على أمره، وخدموا خلقه، واتقوا أن يعصوه، أو أن يغضبوه، اتقوا سخط الله عزَّ وجل.

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾

 هذا النعيم المادي.

2 ـ إكرام معنوي:

 أما المعنوي:

﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾

 فأحياناً الإنسان يُدْعَى إلى وليمة ويكون ضيف الشرف، فهناك إكرامان: إكرام مادي، وإكرام معنوي، ترحيب منقطع النظير، وتكريم، يوضَع في أفضل مكان، وتُقَدَّم له آيات الاحترام والتبجيل، فأحياناً الإنسان يجمع بين التكريم المادي والتكريم الأدبي.

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾

 ماديّاً، أما معنوياً:

﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾

مركز المؤمن عند الله كبير:

 إن مركز المؤمن عند الله كبير، وقد كان النبي الكريم يدعو ويقول:

 

(( اللهمَّ اجعلني في عين نفسي صغيراً وفي عين الناس كبيراً))

 

 وهناك أشخاص عند الله كبراء، وعند أنفسهم صغراء: أهلاً بمن خبَّرني جبريل بقدومه:

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ))

( أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك)

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾

 

﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾

 

﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾

 اللهمَّ اجعلنا من هؤلاء.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور