وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الدخان - تفسير الآيات 51- 59 - مشهد لأهل الجنة ومشهد لأهل النار
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع والأخير من سورة الدخان، ومع الآية الواحدة والخمسين، أيها الإخوة الكرام؛ يقول الله - سبحانه وتعالى- في المقطع الأخير من سورة الدخان: مشهدان من مشاهد يوم القيامة مشهدٌ لأهل النار ومشهدٌ لأهل الجنة، وقبل أن نمضي في الحديث عن هذين المشهدين لابد من مقدمة.

أيها الإخوة؛ نحن الآن في الحياة الدنيا وبعد الحياة الدنيا تأتي الآخرة، ونحن في الحياة الدنيا مخيرون ومن إمكاناتنا أن نؤمن أو لا نؤمن، أن نستقيم أو ألا نستقيم، أن نحسن أو أن نسيء، هذا ضمن خيارات الإنسان، ربنا -جلَّ جلاله- يبين المقدمات والنتائج، من فعل هذا في الدنيا فهذه نتيجته، فهل هناك عاقل واحد يستعمل عقله ساعة من الزمن يحتار في عمل نتيجته نار محرقة إلى أبد الآبدين، وعمل نتيجته جنة عرضها السماوات والأرض؟!


الهدف من خلق الأشياء المزعجة والمسعدة في الدنيا:


أيها الإخوة الكرام؛ اليوم الآخر يجب ألا يغيب عن أذهان كل مسلم ولا لحظة، الآن في حركته اليومية سيعامل زوجته، ماذا أمر الله وماذا نهى؟ إن فعل ما أمر فمصيره إلى الجنة، إن فعل ما نهى وأصر على فعله فمصيره إلى النار، في كسب المال، في إنفاق المال، في كل حركاته وسكناته، ربنا    -سبحانه وتعالى- يقول:

﴿ إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)﴾

[ سورة الدخان ]

أي الله - جلَّ جلاله- يقرب إلينا الأشياء التي لا نحبها من أجل أن نقيس عليها ما في الآخرة من عذاب، بالمناسبة لدينا أشياء في الحياة؛ في الحياة آلام: ألم الحرق، ألم الفقر، ألم الذل، وهناك أشياء مسعدة: الصحة، والجمال، والكمال، والنوال، لماذا كانت هذه الأشياء المزعجة في الدنيا؟ ولماذا كانت هذه الأشياء المسعدة في الدنيا؟ من أجل أن الله -سبحانه وتعالى- إذا حدثنا عن شيء في الآخرة يكون لهذا الحديث معنى، الدليل: إذا ذاق الإنسان ألم الحرق، فالطفل الصغير لا يعرف ما الحرق، يقترب من المدفأة فإذا لامست يده جدار المدفأة يصيح مذعوراً، الآن ماذا حدث؟ خبرة مؤلمة، فكل شيء متعلق بالنار والمدفأة يبتعد عنه بسبب هذه الخبرة، فإذا قلت له بعد حين: "هذا الشيء يحرق" يخاف، كلمة يحرق أثارت عنده خبرات مؤلمة، لذلك الآلام في الدنيا والأشياء المسعدة والسارة في الدنيا لها وظيفة أبعد من وظيفتها الآنية، وظيفتها البعيدة أن الله -سبحانه وتعالى- إذا حدثنا عن عذاب النار، وعن طعام أهل النار، وعن شراب أهل النار، وعن حريق أهل النار ففي الدنيا نار ونار الدنيا تحرق، والحريق مؤلم جداً، الحر لا يحتمل، موجة حر ارتفاع خمس درجات زيادة عن المعدل أو عشر درجات لم يحتمل الناس هذا، فكيف بألم الحريق؟!  بالمقابل الله -عزَّ وجلَّ- خلق أشياء جميلة، لماذا الأشياء الجميلة؟ خلق أماكن جميلة، خلق أشخاصاً حسان الوجوه، أعطى الطعام نكهة طيبة، هذه الأشياء الجميلة لتكون مرتكزات فيما لو أن الله-سبحانه وتعالى- حدثنا عن أحوال يوم القيامة، عن أحوال أهل الجنة، لهذه الكلمات مرتكزات، تصور إنساناً لم ير البحر أبداً ولم ير صورته إطلاقًا، تجربة: ما أرينا إنساناً صورة البحر، ولا صوت موج البحر، ولا منظر البحر، ولا تعامل مع البحر، ولا ركب البحر، قل أمامه كلمة بحر مرة، مرتين، ثلاثاً... مليونًا، هذه الكلمة تعني باء وحاء وراء فقط، ثلاثة حروف لا تعني عنده شيئاً،  وربما خاف من البلل من كأس ماء ولم يخف من البحر، لكن لو أن الإنسان رأى البحر أو ركبه، أو رأى أمواج البحر الهائجة، أو استمتع بمنظر البحر، أو خاف من البحر فهذه كلها خبرات؛ خبرات مسعدة ومؤلمة بعد حين كلمة بحر تثير عنده كل هذه الخبرات، لذلك في التربية أخطر أنواع التعليم التعليم اللفظي؛ كلمات جوفاء لا معنى لها، يقرأ الإنسان كتاباً ويحفظه غيباً وينساه بعد الامتحان لأنه تعليم لفظي، أما إذا فيه خبرات عملية، أية كلمة تغطي هذه الخبرة لو أُعيدت لأثارت كل هذه الخبرات، فلذلك الأشياء المؤلمة في الدنيا والأشياء المسعدة في الدنيا لها وظيفة بعيدة أنها تصبح مرتكزات لوصف أهل الجنة ووصف أهل النار، أليس في الأرض أماكن جميلة، جبال خضراء، بحار صافية؟ أليس في الأرض وجوه جميلة؟ أليس في الأرض طعام طيب؟ هذا كله مرتكزات فيما لو أن الله-سبحانه وتعالى- حدثنا عن أهل الجنة أوعن أهل النار.


ضرورة اغتنام فرصة الحياة الدنيا للتوبة والاستغفار:


المشكلة أننا اليوم في الحياة الدنيا في بحبوحة التكليف، وبحبوحة الاختيار، وبحبوحة التوبة، وبحبوحة المغفرة، وبحبوحة العفو، كل هذا الآن ممكن.

(( قالَ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي ، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً ))

[ أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك   ]

 الآن:

﴿ قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ نَبِّئْ عِبَادِىٓ أَنِّىٓ أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (49)﴾

[ سورة الحجر  ]

إذا تاب العبد توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه،

 إذاً الدرس خطير جداً لأننا في بحبوحة؛ بحبوحة أننا أحياء، بحبوحة أن الله -سبحانه وتعالى- أعطانا الخِيار، بحبوحة أن الإصلاح ممكن، والتوبة ممكنة، وإصلاح الماضي ممكن، فربنا -عزَّ وجلَّ- يصف لنا الآن أحوال أهل النار الذين وقفوا موقفاً سلبياً من الحق، أو الذين عارضوا الحق، أو الذين أرادوا نشر الباطل، أو الذين أوقعوا بين الناس، أو الذين كسبوا أموالاً بالحرام، كل هذه الذنوب الاعتقادية والسلوكية مصيرها إلى النار، وكل الأعمال الطيبة الاعتقادية والسلوكية مصيرها إلى الجنة.


التذكير بطعام أهل النار:


(ٱلزَّقُّومِ) شجر خبيث ليس في الجزيرة أخبث منه، فربنا-عزَّ وجلَّ- ذكّر المؤمنين أو ذكّر قراء القرآن الكريم بأن طعام أهل النار من هذه الشجرة (إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيمِ) فالإنسان أحياناً جائع يريد أن يأكل وقد لا يجد إلا طعاماً لا يؤكل، هو بين ألم الجوع وبين ألم تناول هذا الطعام.

 (إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيمِ) من هو( الْأَثِيمِ) ؟ الأثيم على وزن فعيل، هو الآثم الذي يرتكب الإثم والمعصية، فأنت أمام منهج في كل حركاتك وسكناتك، فإذا تعاملت مع نفسك خلاف منهج الله هذا إثم، إذا قصرت في أداء العبادات هذا إثم، إذا قصرت في معاملة الخلق فيما عليك من واجبات هذا إثم، إذا اعتديت هذا إثم أشد، إذا أخذت ما ليس لك فهذا إثم أشد وأشد (إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ) فالمؤمن عليه أن يعرف ما هي الآثام، ما الأعمال التي إذا فعلها كانت إثماً وكان هو آثماً أو كان أثيماً؟ والأثيم صيغة مبالغة، معنى مبالغة: أي أعماله الآثمة متعددة، أو ارتكب عملاً أثيماً كبيراً، المبالغة إما في الكم وإما في النوع، في النوع ارتكب عملاً في منتهى الإثم، أما أثيم بالمعنى الآخر ارتكب أعمالاً كثيرة، فطبعًا الأثيم غير الآثم، الإنسان إذا ارتكب إثماً واحداً يقال له: آثم، وأما إذا ارتكب مجموعة ذنوب صار أثيماً أو ارتكب إثماً كبيراً جداً يقال: إن هذا أثيم  على وزن فعيل صيغة مبالغة اسم الفاعل، قال: (إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيمِ) هنالك آية أخرى تذكرنا بهذا المعنى:

﴿ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6)﴾

[ سورة الغاشية ]

 ضريع: شوك، (طَعَامُ الْأَثِيمِ) هذه الشجرة، ثم قال: 

﴿ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِي الْبُطُونِ (45)﴾

[  سورة الدخان ]

أي أن الإنسان أحياناً يصب كأس شاي حار جداً ويظن بأن الحرارة معتدلة فيشرب شربة كبيرة يبقى يومين أو أكثر ولسانه محروق، إذا كان الكأس أحر مما ينبغي، وأحياناً يتناول طبق حساء من الوعاء مباشرة فيشرب ملعقة واحدة فيحترق لسانه، فكيف إذا تناول زيتاً مغلياً:

﴿ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ (46)﴾

[ سورة الدخان ]

الحقيقة عذاب الحريق لا يُحتمل، السائل الحار لا يُحتمل، وأحيانًا الغاز الحار لا يُحتمل، ولهب النار لا يحتمل.


قيمة الإنسان تُقاس بطاعته لله:


﴿ كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ (46)خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ (47)﴾

[ سورة الدخان ]

أي الإنسان المجرم حتى في الدنيا إذا وجِدَ إنسان مرتكب جريمتين أو ثلاثًا وكان مختفيًا ثم أُلقي القبض عليه كيف يساق إلى دوائر الأمن؟ تفضل مثلاً! لا يقال له: تفضل، لكن لابد من خمسين أو ستين ضربة أثناء السوق، وهذا الضرب والإهانة تتناسب مع جريمته، ربنا قال: (خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ) كأنه شيء هين رخيص؛ لأنه في الدنيا لم يعرف الله، في الدنيا لم يطع الله فصار على الله هيناً ، والشيء الذي أقوله دائماً: مرة حدثني أخ قال: كنت ببلد من بلاد أوروبا الشرقية، أقسم لي بالله أنه غادر المدينة التي يقيم فيها إلى المطار الساعة الثانية ليلاً حيث أن إقلاع الطائرة الساعة الثالثة أو الرابعة، لفت نظره في أيام الشتاء القارس طابور طوله 5 كم فسأل السائق ما القصة؟ في أيام الشتاء، صقيع، ثلج، برد والناس واقفون لخمسة كيلو متر الساعة الثانية، قال: أذاعوا غداً الساعة الثامنة هنالك توزيع لحم، كان تعليقي على هذا الخبر: هان أمر الله على الناس فهانوا على الله، وبإمكانك أن تفسر أكثر ما يعاني منه المسلم حينما يهون أمر الله عليه يهون هو على الله، الإنسان بقدر طاعته لله يغلو على الله -عزَّ وجلَّ-:

(( ...يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ وتعاظمَها بآبائِها فالنَّاسُ رجلانِ: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّهِ ، والنَّاسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللَّهُ آدمَ من الترابِ....  ))

[ أخرجه الترمذي، وابن حبان عن عبد الله بن عمر ]

معنى كريم أي أن حياتك مقدسة، زواجك مقدس، عملك مقدس، كرامتك محفوظة، رأسك مرفوع، لا يذلك الله -عزَّ وجلَّ-، ولا يجعل كافراً له عليك سلطان، لا يجعلك تقف وتتضعضع أمام إنسان قوي أو أمام إنسان غني، الله -عزَّ وجلَّ- كريم وعزيز، والعزيز من كان معه فهو عزيز، فلذلك لما يهون الإنسان عليه أمر الله يهون هو على الله (خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ) ، فشتان بين إنسان يُدعى إلى حفل ليُكرم، تجد أنهم يسألونه أن يرسلوا له من يأخذه ويُستقبل من أبعد مكان، ويُشيّع إلى باب السيارة، يُعظّم، يُكرّم، يُثنى عليه، يُطلب منه الدعاء؛ هذا تكريم، ولما يكون الإنسان مجرماً يُساق إلى السجن مع الركل والضرب والوخز وما شابه ذلك، قال: (خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ) أنا الذي أتمنى أن أنقله إليكم: نحن الآن أحياء جميعاً والقلب ينبض، باب التوبة مفتوح، باب العمل الصالح مفتوح، باب إصلاح الماضي مفتوح، وهناك علاقات وذمم وأشياء ليست لك، أُخذت في وقت الجاهلية وهي في حوزتك وليست لك وتعرف صاحبها، نحن الآن في بحبوحة؛ بحبوحة أننا أحياء، بحبوحة أن باب التوبة مفتوح، وأن الإصلاح ممكن، أن أداء الحقوق ممكن لأصحابها، حقوق العباد أيها الإخوة مبنية على المشاححة لا تسقط إلا بالأداء أو بالمسامحة، ربما كانت حقوق الله -عزَّ وجلَّ- مبنية على المسامحة لكن حقوق العباد مبنية على المشاححة.

فنحن أمام مشهدين: مشهد لأهل النار ومشهد لأهل الجنة، أهل النار: (طَعَامُ الْأَثِيمِ)  فأنت اسأل أين الآثام؟ النظرة إلى المرأة الأجنبية إثم، سماع ما لا يرضي الله إثم، أن تنطق بالغيبة إثم، أن تنطق بالنميمة إثم، أن تأخذ ما ليس لك إثم، أن تزدري الآخرين إثم، أن تحتقرهم إثم، أن تستعلي عليهم إثم، أن تسيء المعاملة إثم، أن تظلم إثم... (إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ) فاعمل إحصاءً للآثام وابتعد عنها؛ هذا التفكير العلمي، نحن أحياء، أما قد يقول أحدكم: أنا شاب وعمري ثماني عشرة سنة، فكم حادثة شاب رحل للدار الآخرة في ريعان الشباب، ربنا -عزَّ وجلَّ- لحكمة تربوية هائلة جعل انتقال الإنسان من الدنيا في كل الأعمار، شاب يموت، والذي عرسه بعد يومين يموت، والذي نال الدكتوراة ولم يأت إلى بلده يموت، والذي بنى البناء ولم يسكنه يموت، والذي حصّل أموالاً طائلةً ولم يستفد منها يموت، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر، والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر ، أردت من هذه المقدمة: نحن أحياء في بحبوحة، القلب ينبض في بحبوحة، باب التوبة مفتوح، الإصلاح ممكن، الإحسان ممكن، أداء الحقوق ممكن، المسامحة ممكنة، كل شي ممكن في هذه الدنيا وبعد هذه الدنيا كل شيء مغلق.

(خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ)  قال المفسرون: (فَٱعْتِلُوهُ) أي سوقوه سوقاً شديداً-كما تشاهدون- ركلاً، وخزاً، وضرباً وسباباً.

﴿ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِۦ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ (48)﴾

[ سورة الدخان  ]

أحيانًا نشاهد أو نسمع عن ثوران بركان فتجد الحمم سائلة، هذه الحمم صخر بازلتي سائل، حرارته تزيد عن 1500 درجة فإذا تجمد شكّل صخوراً سوداء، بعض المحافظات عندنا أساسها براكين، فمحافظة السويداء أساسها براكين كلها حجار سُوداء.


أنواع العذاب يوم القيامة:


(ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِۦ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ) الآن في عندنا عذاب مادي، أحياناً تُحرق يد الإنسان أو يشعر بموجة ألم في كليتيه، يشعر بألم في رأسه هذا كله عذاب مادي، لكن أحياناً يتلقى الإنسان كلمات قاسية لا ينساها سنوات عديدة، لدينا عذاب مادي وعندنا عذاب أدبي، فالله -عزَّ وجلَّ- جمع لأهل النار كل أنواع العذاب.

﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ (49)﴾

[  سورة الدخان ]

من بعض معاني هذه الآية: أنه كان في الدنيا عزيزاً وقد استكبر على الله أن يطيعه، كان في الدنيا عزيزاً وقد استكبر أن يسجد لها-عزَّ وجلَّ-، كان في الدنيا عزيزاً وأبت نفسه أن يقف عند أمر الله، لم يعبأ بأمر الله، لم يعبأ بنهيه؛ عزة الإثم مع أن الله-سبحانه وتعالى- هو العزيز، ومع أن الله -سبحانه وتعالى- ما كان ليذل مؤمناً وكلكم يقرأ في دعاء القنوت: (سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت) ، فالمؤمن عزيز لأنه مع العزيز والكافر ذليل لأنه عادى العزيز، (خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ *ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِۦ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ) ذق ألوان العذاب إنك كنت في الدنيا (إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ) ، أي كما قلت لكم في الدرس السابق، كما قيل: "أَلَا يا رُبَّ نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا، جائعةٍ عاريةٍ يومَ القيامةِ، أَلَا يا رُبَّ نفسٍ جائعةٍ عاريةٍ في الدنيا، طاعمةٍ ناعمةٍ يومَ القيامةِ" سيدنا الصديق خرج عن كل ماله فلما قال له النبي -عليه الصّلاة والسّلام-: 

((  أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أبقيتَ لأَهْلِكَ؟ قلتُ: مثلَهُ، وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ: يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ؟ فقالَ: أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ ، قلتُ: لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا ))

[ أخرجه أبو داود والترمذي واللفظ له، عن عمر بن الخطاب  ]

والذين استحوذوا على الأموال وعاندوا الواحد الديان وحاربوا النبي ماتوا شر ميتة ولعنهم التاريخ وهم في مزبلة التاريخ، أتمنى على الله -عزَّ وجلَّ- أن نفهم هذه الفكرة فهذه المقدمات تؤدي إلى هذه النتائج، يجب أن نعلم أن هذه المقدمة هذه نتيجتها، فربنا -عزَّ وجلَّ- في صفحة واحدة عرض مشهدين: الآثمون هذا مصيرهم:(خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ *ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِۦ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ) ، ثم يعذب عذاباً أدبياً نفسياً (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ)

إذا كان الإنسان في منصب رفيع ثم اقتيد للسجن فأقل كلمة من الجندي تهينه، إذا قال له: "يا سيادة" هذه إهانة، قد يقولها استخفافاً، فالإنسان إذا كان مستكبراً وكان مترفعاً وكان له مكانة في الدنيا، هذا حينما يُساق إلى النار يذوق عذاباً آخر غير عذاب الحريق وغير العذاب المادي؛ العذاب الأدبي والمعنوي، يتكلم الإنسان أحياناً كلمة يبقى شهراً متألماً من نفسه: كيف قلتها؟! وأحياناً يسمع كلمة من شخص قاسية فيها إهانة، فيها استخفاف وسخرية-لا أبالغ- قد يبقى سنة بأكملها وهو يتألم كلما ذكرها فالعذاب الأدبي لا يقل أحياناً تأثيراً عن العذاب المادي، (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ) كنت في الدنيا عزيزاً وحملتك عزتك على أن تكفر بالله، لقد كنت مستمتعاً بمباهج كثيرة توهمت أنك إذا آمنت بالله ذهبت عنك فتمسكت بها وبقيت في الباطل. 


الكلام مالم يكن مطابقاً للحقيقة فكلامه فلا قيمة له:


الآن:

﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِۦ تَمْتَرُونَ (50)﴾

[ سورة الدخان ]

أي الإنسان إذا كذب بشيء وكان هذا الشيء حقيقة واقعة ثم واجه الحقيقة يتألم أشد الألم، أي عُرِض عليه أن هذا العمل مصيره إلى السجن، في الدنيا لو خالف أنظمة نافذة وكان العقاب شديداً جداً، نُصح، ذُكِّر، نُبِّه، لم يرعَوِ فلما وقع في قبضة العدالة جزاء ما اقترفت يداه يتألم أشد الألم؛ لأنه نُبه سابقاً لكنه لم يصدق، قال: (إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِۦ تَمْتَرُونَ) أي ما كنتم به تكذبون، فلك أن تقول ما شئت، لك أن تصدق ولك أن تكذب ولكن إياك أن تُكذّب شيئاً لابد من أن يقع؛ هنا البطولة، لك أن تقول بهذا اللسان ما شئت أنت مخير، لك أن تقول أن هذه ليست شمساً في رابعة النهار، إن قلت: ليست شمسًا، هي شمس، وكلامك لا يقدم ولا يؤخر، ادّعاؤك، افتراؤك، تكذيبك لا يقدم ولا يؤخر، هذه أشياء دقيقة في المعنى، إن هذا كأس ماء هو كأس ماء فلو قلت عنه شيئاً آخر فالكلام لا يغير من طبيعته إطلاقاً، قل عن هذا الكأس إنه فنجان، يبقى كأساً، قل عن هذا الكأس إنه إبريق يبقى كأساً، لا كلمة فنجان تجعله فنجانًا ولا كلمة إبريق تجعله إبريقًا، كلامك إن لم يكن مطابقاً للحقيقة لا قيمة له لا يقدم ولا يؤخر.

لذلك: (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ * إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِۦ تَمْتَرُونَ) ملخص هذا المشهد أن الإثم في الدنيا إذا كان متكرراً أو كان كبيراً وأصر عليه صاحبه فهذا الإثم يقوده إلى النار، في النار يُصب على رأسه من الحميم ويعاقب عقابين عقاباً مادياً وعقاباً معنوياً وهذا العقاب الواقع كان يكذب به، لذلك قيل:" لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعامًا على شهوة أبدًا -تذهب الشهية، وهذه حقيقة-، ولا شربتم شرابًا على شهوة أبدًا ، ولا دخلتم بيتًا تستظلون به، ولمررتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم وتبكون على أنفسكم"، لذلك المؤمن ساعة الفراق وساعة لقاء الله وساعة الوقوف بين يدي الله -عزَّ وجلَّ- لا تبرح ذهنه ولا دقيقة، لذلك في عطائه ومنعه، في غضبه ورضاه، في وصله وقطعه، في كل مواقفه يفكر كيف يواجه الله -عزَّ وجلَّ- بهذا العمل. 


من المتقي وما مصيره؟ 


الآن الطرف الآخر:

﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍۢ(51)﴾

[ سورة الدخان ]

هذا الذي اتقى أن يعصي الله ويقول لك: هذا حرام، أحياناً في الدنيا الكافر يضحك على المؤمن: ألا زلت خائفاً، إنك لا ترى شيئاً في الدنيا، كل شيء الله وحرام... ما هذه الحياة؟ يسخر منه، هذا المتقي الذي يقف عند حدود الله، يخشى أن يعصي الله، وقّاف عند كتاب الله، يخشى أن يكون كسبه حراماً، يخشى أن يكون إنفاقه حراماً، يخشى أن يستمتع بما يغضب الله.

 (إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ) أي في مقام مُسعد لكن مع السعادة طمأنينة، وأحياناً يكون الإنسان في مقام عالٍ في الدنيا ولكن عنده قلق عميق أن يُنحّى عن هذا المنصب، هذا القلق العميق يفسد عليه الاستمتاع بهذا المنصب، لا يجد أمناً، أو هناك إنسان وصل إلى دخل كبير عنده شيء يفسد عليه هذا الدخل هو خوفه أن ينقطع هذا الدخل، أنت من خوف الفقر في فقر، أنت من خوف المرض في مرض، توقّع المصيبة مصيبة أكبر منها، انظر كلمة (إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ)

﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)﴾

[ سورة الحجر  ]

لا يوجد في الجنة تقدم بالسن، ولا أمراض ولا نوبات كلية، ولا أمراض قلب ولا ضعف سمع، ولا ضعف بصر ولا خرف ولكن شباب دائم، كل شيء تشتهيه بين يديك، لا يوجد المنافسة، لا يوجد إزاحة أحدهم لآخر، كل متاعب الدنيا يبرأ الإنسان منها في الآخرة.


الحكمة من جعل الدنيا متعبة:


 والحقيقة مما يضاعف نعيم أهل الجنة أن الحياة الدنيا متعبة، جاء إلى الدنيا فوجد فيها المتاعب والمخاوف والمقلقات والأمراض والمنافسة أحياناً، والناس لا يرحمون، والناس لا يرضون، ولا يوجد أحد ليس عنده قصص تملأ أشهراً يحدثك عن متاعبه في الحياة، هذه المتاعب لحكمة بالغة أن الله-عزَّ وجلَّ-لو أعطى الإنسان سؤله: 

(( ... يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ... ))

[ أخرجه مسلم عن أَبِي ذَرٍّ الغفاري   ]

 ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام؛ أي أن الله -عزَّ وجلَّ- قادر أن يعطي كل إنسان كل مطالبه؛ شكل يعطيه أعلى شكل، وكذلك أعلى دخل، وأعلى زوجة وأعلى بيت وأعلى مركبة عندئذ نكره لقاء الله-عزَّ وجلَّ-، فالحياة الدنيا شاءت حكمة الله أن تكون مشحونة بالمتاعب حتى تتضاعف السعادة في الآخرة، كل شيء كان في الدنيا يؤلمك يزول في الجنة، فمثلاً يكون الإنسان ساكنًا في بيت صغير فيه متاعب؛ شمسه قليلة فينتقل لبيت الشمس في كل الغرف، كان البيت صغيراً فأصبح كبيراً، كان له درج فصار فيه مصعد مثلاً، كان فيه مدافئ أصبح فيه تدفئة مركزية، كان فيه حر فصار فيه تكييف، كل شيء في البيت القديم يضاعف سعادته في البيت الجديد، كان هنالك أشياء مزعجة كثيرة جداً هنا استراح منها، لذلك من حكمة الدنيا المتعبة أنها تضاعف سعادة آل الجنة، بل إن الناس جميعاً بما فيهم المؤمنون سيردون النار لقوله تعالى:

﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71)﴾

[ سورة مريم ]

ورود النار ليس دخولها لكن المؤمن يطّلع على النار، يطلع على مكانه فيها فيما لو عصى الله في الدنيا، ينظر إلى أهل الدنيا الذين لم يبالوا بطاعة الله، أين مصيرهم؟ يطمئن قلبه لعدالة الله ويرى أين مصير الجبابرة، ثم يرى مكانه في النار لو لم يكن مؤمناً، هذا الورود على النار يوم القيامة يضاعف سعادة المؤمن أضعافاً مضاعفةً، كذلك متاعب الدنيا من شأنها أن تزيد من سعادة المؤمن يوم القيامة.


ماذا أعدّ الله لعباده الصالحين يوم القيامة:


1 ـ البساتين والأنهار 

﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍۢ (51)  فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)﴾

[ سورة الدخان ]

تجد الإنسان إذا كان لديه حديقة وأرض خضراء وأشجار باسقة وينبوع ماء وشلالات أحياناً يقول لك: مثل الجنة، الله -عزَّ وجلَّ- جعل اللون الأخضر والنبات الأخضر والماء العذب الفرات وأصوات العصافير هذه كلها مسعدة للنفس فقال: (إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍۢ*فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ، لابد وأن يكون هناك إنسان دخل إلى بيت ومزرعةٍ جميلةٍ جداً منسقة الأزهار، أشجار‍‍،‍‍ ‍مسطحات خضراء، شلالات أحيانًا، شيء جميل جدًا هذه نماذج مصغرة جداً. 

(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة  ]

لكنه وصف لطيف (إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍۢ*فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي بساتين وأنهار. 

2 ـ الحرير المتنوع:

﴿  يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍۢ وَإِسْتَبْرَقٍۢ مُّتَقَٰبِلِينَ(53)﴾

[ سورة الدخان ]

أي يوجد حرير رقيق وحرير ثخين، السندس: ما رق من الحرير، والإستبرق: ما ثخن من الحرير، (مُّتَقَٰبِلِينَ) جلسات مريحة لا يرى أحدهم إلا وجه الآخر فيه تقابل، طبعاً وهم على هذه السرر المتقابلة يتحدثون حديثاً عذباً، يتحدث كل للآخر عن تجربته في الدنيا، عن معرفته بالله، عن أسباب إيمانه واستقامته، حديث رائع وفيه محبة ولا يوجد حسد ولا غيبة ولا ضغينة ولا تنافس(فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍۢ وَإِسْتَبْرَقٍۢ مُّتَقَٰبِلِينَ)

4 ـ الحور العين:

ومن تمام نعمتهم في الآخرة: 

﴿ كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَٰهُم بِحُورٍ عِينٍۢ (54)﴾

[ سورة الدخان ]

الحور: تحار العين في جمالها، الجمال المطلق في الجنة، في الدنيا الجمال متفاوت ولا يوجد امرأة كاملة، إذا كملت من جهة نقصت من جهة ثانية حتى لو كمل جمالها نقص عقلها، هناك توازن والمجموع ثابت، لكن في الآخرة كمال مطلق في كل شيء، ولحكمة بالغة النساء في الدنيا متفاوتات ولسن على ما ينبغي أن يكن كلهن، في الآخرة: (وَزَوَّجْنَٰهُم بِحُورٍ عِينٍ) كلام مختصر مفيد، الحور: تحار العين في حسنهن، و عين: لهن عيون واسعة، والعيناء: ذات العينين الواسعتين، والحوراء: شدة بياض العين وشدة سوادها، هذا الوصف كان العرب مغرمين به، (وَزَوَّجْنَٰهُم بِحُورٍ عِينٍ) أي امرأة كما ينبغي أن تكون في أعلى مستوى، لا يوجد في الجنة العيوب التي في الدنيا، فالإنسان بعض الأحيان يعاني من الكلام المستمر، من النغص في البيت، قد تكون زوجته جيدة لكن لها إلحاح على موضوعات معينة يضجر منها في النهاية، قال:( وَزَوَّجْنَٰهُم بِحُورٍ عِينٍ)

5 ـ ما يشاؤون من فاكهة وهم آمنون:

﴿  يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَٰكِهَةٍ ءَامِنِينَ (55)﴾

[ سورة الدخان ]

بالإضافة إلى الزوجة الحوراء العيناء لهم فيها ما يشاؤون من فاكهة وهم آمنون، أحيانًا يخاف الإنسان أن تُفقد هذه الفاكهة، أو يخاف أن تنتهي، أو يخاف ألا يشتريها -طبعاً فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة- أو ينتهي وقتها، أو يُمنع استيرادها.

﴿ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)﴾

[ سورة الواقعة ]


حقيقة ما بعد الموت عند المؤمن والكافر:


﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلَّا ٱلْمَوْتَةَ ٱلْأُولَىٰ ۖ وَوَقَىٰهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ (56)﴾

[ سورة الدخان ]

أي لا يوجد إلا موتة واحدة حينما يلقى الإنسان ربه وبعد هذا الموت نعيم في نعيم، آخر شيء يمكن أن يزعج المؤمن حينما تُنزع روحه وتصعد إلى الملأ الأعلى (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلَّا ٱلْمَوْتَةَ ٱلْأُولَىٰ) لذلك الكافر كل شيء بعد الموت أصعب من الموت، والمؤمن كل شيء بعد الموت أهون من الموت، من الموت إلى الجنة، القبر روضة من رياض الجنة لهذا قال سيدنا علي: " يا بني ما خير بعده النار بخير" (أي كل شيء مهما بدا لك عظيماً في الدنيا إذا انتهى إلى النار ليس بخير) ، "وما شَرٌ بعده الجنة بِشر" (حياة كلها شظف وخشونة ومتاعب وأمراض وهموم وأحزان إذا انتهت بك إلى الجنة فهذا ليس شراً بل خير محض) ، "وكل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية" ، إذاً (كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَٰهُم بِحُورٍ عِينٍ* يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَٰكِهَةٍ ءَامِنِينَ) 


نظام الآخرة نظام طلب فقط، ونظام الدنيا نظام كدح وسعي:


﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ (6)﴾

[ سورة الانشقاق ]

نظام الدنيا أساسه الكدح، فإذا أراد إنسان أن يأكل لقمة يحتاج إلى ساعات ليشتري الخضرة واللحم ويطبخ...، وإذا أراد أن يذهب إلى مكان جميل يحتاج أكثر من خمس ساعات أحياناً...، إذ لا يوجد شيء في الدنيا إلا وله ثمن، في الآخرة لهم ما يشاؤون (اطلب تُعط) (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلَّا ٱلْمَوْتَةَ ٱلْأُولَىٰ ۖ وَوَقَىٰهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ) ، فالنعيم مرتان، مرة لأنهم في نعيم، ومرة لأنهم وقوا عذاب الجحيم، إذا كان أحدهم كاد أن يغلط و لم يغلط، فكلما رأى مصير الذين فعلوا هذا الغلط يشكر الله -عزَّ وجلَّ- لأنه لم يتورط وتتضاعف سعادته.


الجنة هي الفوز العظيم:


﴿ فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ (57)﴾

[ سورة الدخان ]

إخواننا الكرام: (ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ) هذا هو الفوز، بعض الأحيان يكون الفوز بنظر الناس شيئاً آخرَ، المال عندهم فوز، المنصب فوز، النجاح فوز لكن الفوز العظيم هو أن تدخل الجنة، لهذا في مرة أحد خلفاء بني أمية التقى بعالمٍ جليل، فقال له: سلني حاجتك، فأجابه: ليس لي عندك حاجة، فلما ألح عليه قال: والله أستحي أن أسأل في بيت الله غيرَ الله، فلما التقاه خارج بيت الله، قال له: سلني حاجتك، قال له: والله ما سألتها من يملكها، أفأسألها من لا يملكها؟ فلما ألح عليه قال: أريد أن أدخل الجنة، قال له: هذه ليستْ لي، فقال له: إذاً ليس لي عندك حاجة. 

(فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ) لابد لكل أخ كريم من أن يتصور ما هو الفوز العظيم، لأن كل إنسان أحياناً يتصور فوزاً، هو في فوز جزئي، يقول لك: لو وصلت إلى هذا المستوى فقد فزت، الدنيا كلها لو وصلت إلى قمة مجدها، وقمة الغنى فيها، وقمة السلطان فيها لا تُعد عند الله فائزاً، الفوز العظيم أن تصل إلى الجنة هكذا كلام رب العالمين: (ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ) هذا الفوز وليس دونه فوز، دون هذا الفوز ليس هناك فوز وليس فوقه فوز، هذا هو الفوز: ليس فوق هذا الفوز فوز ولا دونه فوز و( ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ) ، فكل إنسان متوهم فوزاً غير هذا الفوز فهو جاهل وواهم، المال ليس فوزاً وحيازته ليست فوزاً، أن يتمتع الإنسان بصحة جيدة ويعيش 98 سنة ليس فوزاً عند الله، هنالك طغاة عاشوا 130 سنة، أن تكون في أعلى مرتبة اجتماعية ليس فوزاً، أن تستمتع بكل شيء في الدنيا ليس فوزاً، دقق بالآية: (فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ) ليس فوقه فوز وليس دونه فوز.


الزمن في صالح المؤمن لا في صالح الكافر:


﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)﴾

[ سورة الدخان ]

 هذا القرآنُ تَذكِرة.

﴿ فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (59)﴾

[ سورة الدخان ]

انتظر، لابد من تحقيق الوعد والوعيد، الزمن ليس في صالح الكافر هو في صالح المؤمن؛ لأن مُضي الزمن سوف يؤكد للمؤمن صحة رؤيته وصلاح عمله وفوزه الحقيقي، أما غير المؤمن الزمن يفاجئه بأن أفكاره غير صحيحة ورؤيته كانت مشوشة، ضبابية، قيمه ساقطة، مبادئه هدّامة، فالزمن لصالح المؤمن وليس في صالح الكافر، والدليل: (فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ) الأيام لا تلد للمؤمن إلا الخير:

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

[ سورة التوبة ]

وأما الأيام لا تلد للكافر إلا الشر ، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مُجهِزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر. 


مشهد أهل النار رادع للإنسان ومشهد أهل الجنة دافع له:


فهذا المقطع إخواننا الكرام؛ نحن أحياء والقلب ينبض وباب التوبة مفتوح، باب الإحسان والإصلاح مفتوح، باب المسامحة والأداء مفتوح، وكل عمل له نتيجة، فهذه المقدمة تؤدي إلى هذه النتيجة، الأثيم هذا مصيره والمتقي هذا مصيره، ما معنى متقٍ؟ أي اتقى أن يعصي الله، بكل بساطة هناك مشهدان: مشهد لأهل النار والسبب هو الإثم، ومشهد لأهل الجنة والسبب هو التقوى، هذا وقع في الإثم وهذا اتقى أن يقع في الإثم، هذه المقدمة أدت لهذه النتيجة وختام السور دائماً ملخص لها، ومن نعمة الله علينا، أحياناً المدرس من شدة رحمته بالطلاب يعطيهم نماذج أسئلة لئلا يتفاجؤوا، يقول لك مثلاً: بالفحص يوجد مسألة ومعادلة وسؤال نظري والمسألة خمسة طلبات، وكأن الله -عزَّ وجلَّ- يسرب لنا ما سيكون قبل أن يكون، فهذان المشهدان في القرآن مشهد لأهل الجنة ومشهد لأهل النار، ونحن في الدنيا قبل أن نصل إليها، ولكن من يقول لك: هذا حق ورب الكعبة؟ الذي وصل إلى دار الحق، لكن إن وصلت إلى دار الحق تصبح الرؤيا حقيقية وثابتة ولكنك لا تستفيد من هذه الرؤيا بعد أن رأيتها، إلا أنك في الدنيا لو رأيت هذا أو صدقت بهذا وتبنيت هذا ينعكس هذا إلى عمل صالح واستقامة، فالذي أتمنى من الله -عزَّ وجلَّ- أن ينقلب هذان المشهدان الأول والثاني إلى دافع وإلى رادع؛ مشهد أهل النار رادع، ومشهد أهل الجنة دافع، فإذا كوّن هذا المشهد رادعاً والثاني دافعاً فقد تحقق المراد من هذين المشهدين في أواخر سورة الدخان. 

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور