وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الحجرات - تفسيرالآيتان 6-7 العلاقة بين المؤمنين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

التشريع في القرآن الكريم شفاء للناس:


 أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة الحجرات، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى في الآية السادسة: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾

[ سورة الحجرات  ]

أيها الأخوة الكرام؛ لهذه الآية أسباب نزول، ومناسبةٌ طيبة أن نقف عند حكمةٍ بالغة جعلها الله شبه قانونٍ في أن آيات التشريع تأتي عَقِبَ حوادث، قبل أن نبدأ في شرح هذه الآية، لو أن واحداً ألقيت على مسامعه آلاف المواعظ في موضوعٍ ما، حينما يدخل في تجربةٍ مُرَّة، وحينما يعاني من مشكلةٍ حقيقيةٍ، إذا قرأ القاعدة المتعلِّقة بمشكلته، وبتجربته، تُنْقش في نفسه كما ينقش الحجر، الحقائق إذا جاءت عقب مشكلات تثبت، ولعلماء التربية رأيٌ في هذا الموضوع أن الإنسان لا يتعلم إلا بتجاربه الحقيقية، فلحكمةٍ أرداها الله عزَّ وجل جعل حياة النبي مُفْعَمَةً بالحوادث الجيِّدة والحوادث المؤلمة، ففي كل حادثٍ وقف النبي منه الموقف الكامل وجاء التشريع ليكون شفاءً للناس.

 

الأحكام في القرآن الكريم على الإنسان أن يتشبث بها:


إنسان مثلاً سمع آلاف المرات أنه لابدَّ من كتابة إيصال للدين، كلام، أما حينما يُقْرِضُ قرضاً وينسى أن يكتب إيصالاً، ويضيع عليه هذا المبلغ ثم تلقى عليه القاعدة: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾

[  سورة البقرة ]

هذه الآية يتفاعل معها أشد التفاعل، لأن هناك تجربةً مُرَةً وهي ضياع مبلغٍ كبير بسبب عدم كتابة إيصال لهذا المبلغ، فالإنسان حينما يمر بتجربة ثم تُلقى عليه القاعدة يتشبَّثُ بها، هذا هو التعليم الحقيقي، بل إن هناك نظريات في التعليم أن نضع الطالب في مجموعة تجارب مريرة أو مشكلات، ويكون حلها تلك القواعد التي تُلْقَى عليه. 

 

أسباب نزول الآية التالية:


سأروي لكم من كتب التفسير أسباب نزول هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ قال ابن كثير: ذكر كثيرٌ من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبَة، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المطلق، وقد روي ذلك من طرقٍ عدة ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده.

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق حدثنا عيسى بن دينار حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرارٍ الخُزاعي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أأرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة؟ فمن استجاب جمعت زكاته وترسل أنت إليّ يا رسول الله من يأخذ هذه الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة من قومه بعد أن أسلموا لم يبعث النبي له من يأخذ الزكاة، وظن الحارث أن هناك شيئاً حدث فيه سخطةٌ من الله تعالى ورسوله، من شدة محبته وورعه وحبه للنبي تأخر رسول النبي أوقعه في شكٍ من نفسه، لعل هناك شيئاً لا أعلمه، فدعا بوجهاء قومه فقال لهم: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد وَقَّتَ لي وقتاً ليرسل إلي رسولاً ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخُلْفُ -أي مستحيل أن يخلف وعده- ولا أرى حَبَسَ النبي إلا من سخطةٍ فانطلقوا فنأتي النبي صلى الله عليه وسلم". 

(( عن الحارث بن ضرار الخزاعي النبي عليه الصلاة والسلام كان قد بعث الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده في الوقت المناسب فبعد أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق. خاف، خاف أن يقتلوه، وأن تكون غدرةٌ منهم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا رسول الله إن الحارث منعني من الزكاة وأراد قتلي"، عندئذٍ النبي عليه الصلاة والسلام تريَّث، وفي روايات أرسل سيدنا خالد بن الوليد ليتحقق، وسيدنا خالد بَثَّ عيونه في القوم فرآهم يؤَذِّنون ويصلون ورآهم بأحسن حال، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فلما ذهب هؤلاء الذين بعثهم النبي لقوا الحارث في طريقه إلى النبي، فقالوا: "هذا الحارث" فلما غشيهم قال لهم: "إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولِمَ؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنَّك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمداً بالحق، ما رأيته بَتَّةً ولا أتاني"، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟" قال: "لا والذي بعثك بالحق ما رأيته بتةً ولا أتاني، وما أقبلتُ إلا حين احتبس عليّ رسولك، خشيت أن تكون كانت سخطةٌ من الله تعالى ورسوله علي". فنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ .  ))

[ رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات : إسناده جيد ]

 

الخصومات والشك والحسد أحد أكبر أسباب تفكك المجتمع:


أحياناً تأتي الآية بعد المشكلة وكأنها البَلْسَم، وكأنها الشفاء، وكأنها القاعدة، أنت لاحظ نفسك إذا كنت تمر بمشكلة، أو بتجربة مُرَّة، أو بقضية متعبة، ثم جاءتك القاعدة، هذه القاعدة تتبناها وتصل إلى أعمق أعماق نفسك، وتصبح هذه القاعدة جزءاً من بُنْيانك، لذلك الحقائق إذا تُلِيَتْ بعد التجارب هذه الحقائق لا تنسى ولا تمحى، هذه قاعدة في التربية، أي إذا أردت أن تربِّي ابنك وقد مر في تجربةٍ مؤلمةٍ بعد هذه التجربة ألق عليه القاعدة.

أولاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يبدو أن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نتحابب، أن يكون المجتمع المؤمن مجتمعاً متماسكاً، متراصاً، متعاوناً، متآزراً، متحاباً، ما الذي يفتته؟ ما الذي يُضْعِفُهُ؟ ما الذي يمزقه؟ ما الذي يُضعف شأنه؟ ما الذي يضعه في الوحل؟ الخصومات، والمهاترات، والطعن، والشك، والحسد، فأحد أسباب تفكيك المجتمع أن تصغي إلى فاسقٍ بنبأ عن مؤمن.  

 

المؤمن يتصف بالضبط والعدالة والفاسق يتصف بالكذب والفجور:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ لماذا قال الله عزَّ وجل: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ لأن المؤمن لا يمكن أن يكذب، ورد في الحديث الشريف أن:

(( عن سعدٍ قال : المؤمنُ يطبعُ على الخلالِ كلِّها إِلَّا الخيانةَ والكذبَ. ))

[  الإيمان لابن أبي شيبة: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط الشيخين  ]

حينما يكذب أو حينما يخون نُزِع من الإيمان، عندئذٍ ليس مؤمناً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾ فالفاسق يكذب، والفاسق يفتري، والفاسق يقول ما لم يقع، لمجرد أن يكذب الإنسان في الخبر فهو فاسق، بل بعض علماء الحديث لمجرد أن أحد الرواة كذب على فرسه، جاء من المدينة إلى البصرة ليتلقَّى عنه حديثاً شريفاً فلما رآه قد كذب على فرسه، رفع رداءه لها وأوهمها بالشعير في الرداء فأقبلت عليه، فتقدم منه فلم ير في الرداء شيئاً، عاد إلى المدينة من توه ولم يسأله عن شيء، فقال: "الذي يكذب على فرسه ليس أهلاً أن يؤخذ منه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" .

المؤمن أيها الأخوة؛ يتصف بالضبط والعدالة، الضبط دقة الرواية، والعدالة الصدق، الضبط صفة عقلية والعدالة صفة نفسية.  


  الفاسق من خرج عن أمر الله وعلى الإنسان أن يحاسبه على كذبه:


﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ هذا الفاسق أولاً معنى فَسَقَ خرج عن أمر الله.

﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)﴾

[  سورة الكهف ]

الفسق الخروج عن أمر الله عزَّ وجل، فالفاسق ينبغي أن يحاسب على كذبه. 

 

العجلة من الشيطان والتريث من الرحمن:


﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أي تحققوا، لما سيدنا سليمان جاءه الهدهد وحدَّثه عن قومٍ يعبدون الشمس من دون الله، ماذا قال له سليمان الحكيم عليه أتمّ الصلاة والتسليم؟ 

﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)﴾

[ سورة النمل  ]

أيها الأخوة الكرام؛ ورد: العَجَلَةَ من الشيطان، والتثبُّت من الرحمن، والتريث من الرحمن، حدثني أخ كريم توفي رحمه الله من إخواننا الكرام، قال لي: بعث لي معمل مئة قطعة، فعددتها فإذا هي تسع وتسعون قطعة، فاقتربت من معطف أحد العمَّال في المعمل فرأيت قطعةً في جيبه، هل هناك دليل أقوى من هذا الدليل؟ قال لي: لا أدري ما الذي ألجمني ومنعني أن أقيم عليه الدنيا لخيانته، في اليوم التالي ذهبت إلى صاحب المعمل لأحاسبه قال لي: بعثنا لك بمئة قطعةٍ أخذ أحدها صانعك ودفع ثمنها، أعطنا ثمن الباقي، فعلى الإنسان ألا يتسرع.

 

كل إنسان يتولى أمر الناس عليه أن يضع الآية التالية أمام عينيه:


هذه الآية منهج للمؤمنين، تلقى الأخبار كاذبة، افتراءات على الناس، إفك، كلام غير صحيح، فكلما ارتفع مستواك تتريث، تتأنى، تنظر، تُحقق، تسأل، هناك علاقات كثيرة فُصِمَت لخبرٍ كاذب، هناك أسر شردت لخبر كاذب، هناك شركات فصمت بين الشركاء لخبرٍ كاذب، لذلك كل إنسان يتولَّى أمر الناس ويحقق في قضاياهم يجب أن يضع هذه الآية أمامه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ .

 

البشر صنفان فريق يقبل كل شيء وفريق يرفض كل شيء:


الحقيقة الندم شيءٌ لا يحتمل، أن تتهم بريئًا، توقع به أشد الأذى وهو بريء، الإنسان قد لا يحتمل، الإنسان الذي يملك قلباً طاهراً وإحساساً أخلاقياً سليماً إذا أوقع الأذى بإنسان بريء لا يحتمل ذلك، فربنا عزَّ وجل يبين لنا القاعدة الأولى في التعامل فيما بيننا.

الآيات الأولى كانت في الأدب مع الله ورسوله، أما الآيات التالية فهي في العلاقة بين المؤمنين، وأقول لكم: العلاقة بين المؤمنين.

الآن نحن عندنا صنفان من البشر؛ صنفٌ يقبل كل شيء بلا تحقق، بلا تروٍّ، بلا تثبت، بلا دليل، بلا هدوء، وفريقٌ يرفض كل شيء، كلاهما مُغَالٍ في عمله، هذا غلو وهذا غلو، أن تقبل كل شيء، للعوام قصة غير معقولة مبالغ بها إلى أرقام خيالية يقبلها، وهناك أشخاص لشدة ترفعهم وكِبرهم يرفضون كل شيء، رفض كل شيء غلو في الدين، وقبول كل شيء غلو آخر في الدين، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾ لا تكذبوا ولا تصدقوا حتى تتحققوا، ما قال ارفضوا، قد يكون خبر هذا الفاسق صحيحاً، وقد يكون كذباً، فأنتم إيَّاكم أن ترفضوا بلا دليل، وإياكم أن تقبلوا بلا دليل، عليكم بالتحقق، لذلك اجعلوا الآية الكريمة: ﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ .

 

الإنسان حينما يفسق يكون قد تفلت من منهج الله عز وجل فكلامه كذب:


إذا احتاج الآيةَ مؤمنٌ مرة فيحتاجها من ولّاهم الله أمر الناس ألف مرة، كم من تقريرٍ كاذب! كم من فِرْيَةٍ كاذبة! كم من روايةٍ غير صحيحة! يجب أن يضع الإنسان أمامه هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾ الآن عندنا مشكلة، الإنسان حينما يفسق، حينما يخترق منهج الله عزَّ وجل، حينما لا يطبِّق شريعة الله، هذا الإنسان تفلَّت من منهج الله، فكلامه في الأعم الأغلب كذب، لأن الإنسان وحدة، إذا كان مستقيماً على أمر الله يغلب على الظن أن كلامه صدق، وإذا كان متفلتاً من منهج الله، وما دام يعصي الذي خلقه ولم يصدق كلامه أيصدق مع الناس؟ ما الذي دعا الصحابة الكرام إلى الإيمان برسول الله؟ قال: لأنه ما سمعنا منه كذباً قط أيُعْقَلُ أن يكذب على الله عزَّ وجل؟ دققوا في هذه العلاقة، ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾ الفاسق لا يصدق، والمستقيم لا يكذب، ولكن ضماناً للموضوعية هذا الذي جاءكم بهذا الخبر لا ترفضوه بلا دليل، ولا تقبلوه بلا دليل، موقفٌ معتدلٌ وسطي، بين القبول الساذج وبين الرفض المكابر، بينهما التحقق والتثبُّت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ .

 

من أحسنَ الظن بأخيه فكأنما أحسن الظن بربه:


بعد ذلك: عن عبد الله بن عباس:

(( ان رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بعَثَ معاذَ بنَ جَبلٍ إلى اليمَنِ، فقالَ: اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حجابٌ. ))

[ صحيح الترمذي ]

اتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً، فقبل أن تقول: أخي هكذا فعل!! قبل أن تستمع إلى خبر فاسق، إلى خبر إنسان حاسد، إلى خبر إنسان مُبْغِض، دقِّق في الخبر، أي من أحسنَ الظن بأخيه فكأنما أحسن الظن بربه، هذا أخوك مؤمن، كما أنك تخشى الله هو يخشى الله، كما أنك تخاف الله هو يخاف الله، كما أنك تخاف أن تأكل درهماً حراماً هو يخاف مثلك أن يأكل درهماً حراماً، لماذا تُحْسِنُ الظن بنفسك وتسيء الظن به؟ هذا من الخطأ الكبير. 

 

للإنسان خمسة أعداء عليه أن يحذر منهم:


لذلك أيها الأخوة؛ يجب أن نعد للألف وللمليون قبل أن نصدق خبراً عن مؤمن، وقد ورد في الأثر أن المؤمن لابدَّ له من كافرٍ يقاتله، ومنافقٍ يبغضه، ومؤمنٍ يحسده، وشيطانٍ يغويه، ونفسٍ ترديه، لك خمسة أعداء، واحد يريد أن يقتلك وهو الكافر، وواحد يبغضك وهو المنافق، وواحد يحسدك وهو المؤمن، وواحد يغويك وهو الشيطان، والنفس ترديك، لابد للمؤمن من كافرٍ يقاتله، ومنافقٍ يبغضه، ومن مؤمنٍ يحسده، ومن شيطانٍ يغويه، ومن نفسٍ ترديه.

 

التثبت من الشيء له ثلاث حالات:


إذاً عندما يُنقل لك خبر عن مؤمن -هنا نقطة دقيقة- إذا كنت واثقاً من إيمانه ومن استقامته، وهذا الخبر لم يحرك فيك شعرةً، بل رأيته من كاذبٍ فاسقٍ فاجر، ورميت هذا الخبر كما يلقى الشيء التافه، فلا حاجة لأن تحقق. 

أما إذا ترك هذا الخبر في نفسك شكاً، ترك ثُلْمَةً، ترك ظناً سيئاً بأخيك، واجبٌ عليك أن تحقق، فإن كان هذا الخبر صحيحاً نصحته، وإن كان مكذوباً ارتاحت نفسك، هذه الحالة الثانية، أما الحالة الأولى فالخبر لم يؤثر فيك، الحالة الأولى مقام أخيك عندك كبيرٌ جداً، وثقتك فيه لا نهاية لها، وترى طهره وعفافه رأي العين، فخبرٌ كاذب يُنقل إليك عنه لا يهز شعرةً فيك، هذه حالة.  

إذا كنت في هذا المستوى ولك ثقةٌ بأخيك بهذا المستوى لا مانع ألا تُحقق، أما إذا ترك الخبر في نفسك ثُلْمَةً وقلت: هكذا يفعل فلان؟ أله الحق أن يفعل هذا؟ معناها اهتزت مكانته عندك، مكانته ثُلِمَتْ، خدشت، خدشت عدالته عندك، فالآن واجبٌ عليك أن تحقق، فإما أن تَثْبُتَ براءته فترتاح نفسك، وإما أن يكون قد ابتلي بما بلغك عنه، عندئذٍ تتجه إلى نصيحته، وليس هناك حالة رابعة.  

 

المؤمن مظنة صدق وصلاح وأمانة:


﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ التبين هو التحقق، اطلب الدليل قالوا: لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، كل إنسان يتهم أي إنسان، في المحاكم إذا اتهم إنسان إنسانًا شريفًا عليه أن يدفع كفالة، إنسان له مكانة، تقيم عليه دعوى، تتهمه بأمانته، فالإنسان له شرف وله مكانة، القاضي يطالبه بكفالةٍ باهظة الثمن، فإذا ثبت كذبه أُخِذَ بها، دائماً المؤمن مَظَنَّة صلاح، مَظَنَّة صدقٍ، مَظَنَّة أمانة، مَظَنَّة إنصافٍ، مَظَنَّة رحمةٍ، فقبل أن تتهم المؤمن بصفات لا تليق به، شخص معه دكتوراه في الرياضيَّات قال لك شخص: هذا لا يعرف أن اثنين وثلاثة تساوي خمسة قال: أربعة، هذه تهمة غير معقول أن تُصدَّق عنه، إنسان عرف الله عزَّ وجل، من هذا المُنْطَلق أحياناً يتهم بعض المؤلفين السابقين بتهم، الذي عرف الله هذه المعرفة أيعقل أن يقول هذا الكلام؟ يرجّح أنه ما قاله، يرجح أنه دُسَّ عليه، هذا الموقف يتناسب مع مكانته، لذلك الآية الكريمة يجب أن نأخذ بها جميعاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾ .

 

على الإنسان ألا يضع نفسه موضع التهم ثم يلوم الناس إذا اتهموه:


والله في حياتي آلاف القصص عن إنسان برئ طاهر نقي روِّجت عنه قصةٌ لا أصل لها، طبعاً أحياناً تروَّج القصة بخطأ منه، سيدنا علي يقول: "لا تضع نفسك موضع التهم ثم تلوم الناس إذا اتهموك" ، النبي الكريم كان يمشي في الليل مع زوجته السيدة صفية، مرّ صحابيان جليلان، قال عليه الصلاة والسلام: عن صفية أم المؤمنين:

(( كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معتكفًا فأتَيْتُه أزورُه ليلًا ثمَّ جِئْتُ لأنقلِبَ فقام معي يقلِبُني وكان منزلُها في دارِ أسامةَ بنِ زيدٍ ورآنا رجُلانِ مِن الأنصارِ فلمَّا رأيا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قنَّعا رؤوسَهما فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: على رِسْلِكما إنَّها صفيَّةُ بنتُ حُيَيٍّ، فقالا: سُبحانَ اللهِ يا رسولَ اللهِ قال: إنَّ الشَّيطانَ يجري مِن الإنسانِ مجرى الدَّمِ وإنِّي خِفْتُ أنْ يقذِفَ في قلوبِكما شيئًا أو قال: ( شرًّا).))

[ صحيح ابن حبان: خلاصة حكم المحدث : أخرجه في صحيحه ]

أنت سافرت وكلَّفت شقيق زوجتك أن يتفقَّد أخته بغيابك، ولك جيران لا يعرفون أن هذا شقيق زوجتك، رأوا رجلاً يدخل إلى البيت في غيبة جارهم، فالخطأ منك، ينبغي أن تبلغهم أنني سأسافر وأن شقيق زوجتي سيأتي إليها، هذه زوجتي، هذه يُطبق عليها ألف موضوعٍ وموضوع، دائماً لا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك. 

 

المؤمن العاقل لا يتصرف تصرفاً له تفسيران:


المؤمن العاقل لا يتصرف تصرفاً له تفسيران، واحد لصالحه، وواحد ضده، هذا التفسير غير صحيح، هذا السلوك غير صحيح، أي سلوك تجلس وراء مكتب صديقك بمحله التجاري، ولزمك أن تصرف خمسمئة ليرة، إيَّاك أن تفتح الدرج من دون إذنه وأن تصرفها، وأنت بريء، وأنت ملك طاهر، لكن لو كان هناك خطأ في حسابات الصندوق خمسمئة ليرة ورآك فتحت الدرج يتهمك وأنت بريء، لا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك، لا تدخل بيتاً ليس فيه رجل، لا تخلُ بامرأة، لا تسمح لأحدٍ أن يدخل بيتك في غيبتك، وأنت لا تفعل هذا، دائماً المؤمن كما قال سيدنا معاوية سأل سيدنا عمرو بن العاص قال له:  يا عمرو ما بلغ من دهائك؟ قال له: والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه، قال له: لست بداهية، أما أنا فو الله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه ، عدم الدخول أصلاً، الإنسان يدخل ويخرج، أما الأذكى والأعقل فلا يدخل أصلاً. 


الله عز وجل رفع صلاح البال إلى مستوى الهدى:


كلما كبر عقل الإنسان، وطبق منهج الله عزَّ وجل، واتبع السنة حياته هادئة، الله عزَّ وجل قال:  

﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)﴾

[ سورة محمد  ]

ربنا عزَّ وجل رفع صلاح البال إلى مستوى الهدى من خلال واو العطف، يقتضي التعاطف المشاركة بين المتعاطفين: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ صلاح البال سببه الوضوح، كل شيء واضح، اتفقت اعمل عقداً، سجله في محكمة البداية، انتهى الأمر، قطعت على الطرف الآخر أن يفكر في نقضه، أقرضت اطلب سنداً، وأشهد عليه اثنين، انتهى الأمر، قطعت على المدين أن يتلاعب بقضاء الدين، اتفقت سَجِّل هذا الاتفاق، تصرفاتك وضحها، البيان يطرد الشيطان، وَضِّح، شخص له معك مال، تقول له: لقد تخالصنا، هذا ليس وضوحاً، قدّم له الحساب التفصيلي وبيّن له التساوي في المدفوعات والمصاريف، إدراج الحسابات، توضيح التصرُّفات، إيضاح الغايات، هذه زوجتي، بيّن له.

 

البيان يطرد الشيطان:


مرة كنت في محل تجاري وفيه رجل من أهل الصلاح في المحل، تاجر من مدينة في الشمال يبدو عليه الصلاح والورع، جاءت امرأةٌ لصاحب المحل فاستقبلها استقبالاً يفوق استقبال من تشتري منه بضاعةً، رأيت وجه هذا الزائر قد انعبط، قلت له: لعلها أخته، فلما انصرفت علمنا أنها أخته، كان يجب أن يقول: جاءت أختي، حتى إذا رَحَّبَ بها ترحيباً زيادة على الحد، هذا الترحيب مُغَطَّى، أما إذا كانت امرأة غريبة فهذا لا يليق بمؤمن أن يستقبلها، وأن يسألها عن صحتها، لماذا هذا الغياب الطويل؟ هذا يقال للأخت، لا يقال لامرأةٌ غريبة، فدائماً البيان يطرد الشيطان، وضح أغراضك دائماً.

لزمك أن تدخل إلى المحل التجاري الساعة الثانية عشرة ليلاً لتحضر سنداً منه، عندك سفر باكراً، لا مانع من ذلك، هناك حارس، قل لهذا الحارس: أنا جئت لآخذ هذا السند، إن لم تقل له شيئاً يقول: ماذا يفعل بالليل في هذا المحل؟ له شريك، هذه الزيارة من وراء ظهر شريكه، دائماً وأبداً وضِّح الأمر، وضح أسباب حركتك، أسباب زيارتك، أسباب عدم زيارتك، أسباب سفرك، أسباب عدم سفرك، لماذا أقمت هذا الحفل؟ لماذا لم تقم هذا الحفل؟ لماذا حضرت؟ لماذا لم تحضر؟ وضح، البيان يطرد الشيطان، أما الفاسق فقنَّاص، لو رأى تصرفاً غير معقول قنصه قنصاً ونقله بين الناس، وشوه سمعتك. 

 

على الإنسان أن يتحقق ويطلب الدليل قبل أن يتهم غيره:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ﴾ إن تفيد احتمال الوقوع، أما إذا فتفيد تحقق الوقوع، دققوا في دقة اللغة العربية: 

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)﴾

[ سورة النصر ]

 نصر الله عز وجل لابد من أن يأتي.

أما هنا لو أن الله قال: إذا جاءكم فاسقٌ بنبأ، فهذا ليس قرآناً، لأن الفاسق قد يأتي وقد لا يأتي، ولكن نصر الله عزَّ وجل للمؤمنين لابدَّ من أن يأتي، فإذا تفيد تحقق الوقوع، بينما إن تفيد احتمال الوقوع، ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾ تحققوا، اطلب الدليل، رأيته بعينك؟ يقول لك: لا والله، سمعت فلانًا، فلان رآه بعينه؟ يقول لك: لا والله، القصة لا أصل لها، مختلقة، أحياناً يكون الكذب في أصل الموضوع، أحياناً يكون كذب بالحجم، تُكَبَّر، تكبر، أحياناً بالتعليل، أحياناً بالتفسير، شخص وجد خمسمئة ليرة في الأرض، انحنى ليأخذها، هل تعلم نيته؟ لعله أخذها ليبحث عن صاحبها، لم يفعل شيئاً، هذا ليس دليلاً على أنه أخذها، شخص انحنى إلى الأرض ليأخذ مبلغاً من المال، فعندنا كذب بالتفسير، وعندنا كذب بالحجم والمبالغة، وعندنا كذب بالافتراء، عندنا كذب أن القصة ليس لها أصلٌ كلياً، وهناك قصة لها أصل لكن حجمها صغير، كَبَّرَها الفاسق، وهناك قصةٌ لها أصل لكن لها تفسير يليق بصاحبها، لكن هذا الفاسق وجَّهها توجيهاً آخر. 

 

الغيبة والنميمة من أسباب تفتت المجتمع:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ أولاً: حينما تتهم بريئاً، وتبلغه هذه التهمة يحقد عليك، ويبغضك، وتنقلب المودة عداوةً، والصحبة فُرْقَةً، والمحبة بغضاً، لأن المجتمع تفتت، الحقيقة أن المجتمع يتفتت بالغيبة والنميمة، كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)﴾

[  سورة الحشر  ]

هناك أسر متفتتة، هناك مجتمعات متفتتة، ما الذي فتتها؟ هذه: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ .

 

من يريد معرفة الحقيقة عليه أن يجتمع بالطرفين معاً:


إخواننا الكرام؛ هناك طريقة ناجحة جداً، لو جاءك رجلٌ بنبأ كاذب عن شخص، لو أنك قلت له: ائتِ أنت وإياه، اسمع منه، يتكلم لك ثلاث ساعات، لو جلس مع الطرف الثاني يتكلم خمس دقائق فقط، أين ذهب الباقي كله؟ كله مبالغات، وزخرفة في الكلام، وتعليلات خبيثة شيطانية، أما حينما يجتمعان معاً فلا يستطيع أن يقول إلا شيئاً ثابتاً يُقره الطرف الآخر، فإذا استطعت ألا تصغي لإنسانٍ وحده فافعل، لا أستمع إليك إلا مع الطرف الآخر، تجد الأمور قد ظهرت على حقيقتها، أحياناً تأتي البنت إلى أبيها، تتحدث عن زوجها حديثاً تجعله مجرماً، والأب غير العاقل، وضعيف التفكير، وضيِّق الأفق، يأخذ كلامها على أنه حقيقةٌ ثابتة فيحقد، ويتألم، ويبالغ، ولو أن هذا الأب استدعى صهره وقال له بلطفٍ: قل لي ما المشكلة؟ اسمعها منه ترى بوناً شاسعاً بين الروايتين، لو كل إنسان حتى في موضوع زواجه، أب لك ابنة ولها زوج، وهناك خلاف بينهما، إياك أن تستمع من ابنتك وحدها، قد تكون فاسقة تقول لك ما يروق لها، وتخفي عنك ما تفعله مع زوجها، استدعِ الزوج قل له: ما القصة؟ تأكَّد من روايتها، تحقق، وأنت حينما تتحقق يخاف الناس بعد ذلك أن يلقوا أمامك الكلام على عواهنه، تحقق. 

إذاً المؤمن لا يرفض ولا يقبل بل يتحقق، الرفض غلو في الدين، والقبول الساذج غلو في الدين، القبول سذاجة والرفض تعنُّت، لكن الوسطية في الإسلام أنه إذا جاءك خبرٌ كاذب قل: سنبحث في الأمر، فتتحقق، اطلب الدليل، لا تقبل بلا دليل، لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، وبعدئذٍ يقع الندم، والندم أشد المشاعر إيلاماً للنفس، إنسان بريء تتهمه؟ 

 

الافتراء مكشوف عندما كان الرسول بين الناس والوحي موصول بالسماء:


قال: 

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾

[ سورة الحجرات ]

 انتبهوا ما معنى هذه الآية؟ أي الرسول بين أظهركم والوحي موصول بالسماء، أي الله عزَّ وجل يخبره بحقيقة كل شيء، الافتراء مكشوف، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ .

 

بعد قبض الرسول الكريم الله عز وجل يتولى كشف الكاذب:


لكن بعد قبض النبي عليه الصلاة والسلام لا يوجد وحي، لكن الله هو الحق، إذا حصل افتراء وكذب فاللُه عزَّ وجل يسخِّر أُناساً يتكلمون الحق، ما من كاذبٍ إلا ويُكشف كذبه، بإمكانك أن تكذب على إنسانٍ أمداً طويلاً، وبإمكانك أن تكذب على قومٍ أمداً قصيراً، أما أن تكذب على الناس جميعاً إلى أمدٍ طويل فهذا مستحيل، كأن الله عزَّ وجل يتولى أن يكشف الكاذب، مهما كان الكاذب ذكياً ينكشف، والآن في علم النفس روائز للكذب، يعطونه مئتين أو ثلاثمئة أو خمسمئة سؤال في موضوع واحد عليه عشرة أسئلة متباعدة، فإذا كان الإنسان كذَّاباً يكذب في أول سؤال، وفي الثاني، فيغيب عنه الثالث، والأسئلة الخمس أو العشرة في موضوع واحد لكن بصياغات مختلفة مبعثرة بين خمسمئة سؤال، فالكاذب ينكشف، الكاذب يكاد يقول: أنا كاذب، من زلّات لسانه، من فلتات لسانه، وقد قالوا: إن كنت كذوباً فكن ذكوراً، أحياناً الإنسان يكذب وينسى ماذا تكلم، يعيد الرواية بشكل آخر يبدو كذبه للناس واضحاً.

 

وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ: آية لها عدة معان:

 

1 ـ إذا علم الله منك رغبةً في معرفة الحقيقة فقلبك يميل إلى الحق:

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾

[ سورة الحجرات  ]

الآن هذه الآية تنقلنا إلى موضوعٍ جديد: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ أولاً: الله عزَّ وجل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: عن عائشة أم المؤمنين:

((  إنَّ قلوبَ العبادِ بين إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ ، فإذا أراد أن يقلِبَ قلبَ عبدٍ قلبَهُ. ))

[  تخريج كتاب السنة: خلاصة حكم المحدث : صحيح لغيره  ]

أي الله إذا علم منك رغبةً في معرفة الحقيقة فقلبك يميل إلى الحق، إذا علم منك صدقاً في طلب الحقيقة فقلبك يرتاح للحق، الحق محبب له، أما إذا كان هناك كذب ودجل ونفاق فعندئذٍ تكره الحق وأهله، وتحب الباطل وأهله، أما قلبك فبيد الله عزَّ وجل، والله عزَّ وجل يقلبه كيف يشاء، بعد أن يعلم مشيئتك أنت، هذا معنى، أي عندما يترك الإنسان شيئاً لله، ما كان الله ليعذب قلباً بشهوةٍ تركها صاحبها في سبيل الله، قلبك بيد الله، الله عزَّ وجل يلقي فيه الطمأنينة، يلقي فيه الخوف، يلقي فيه العزوف عن هذا الشيء، وعن هذه الفتاة أحياناً، يلقي فيه محبة هذا المجلس ومحبة أهل الحق، فقلبك بيد الله، أنت إذا طلبت الحق من الله عزَّ وجل تولَّى قلبك فمال حيثما هو خير وصلاح، هذا المعنى الأول.   

2 ـ الإنسان عندما يؤمن ويستقيم ويخلص لله عزَّ وجل ترتاح نفسه:

المعنى الثاني: النفس البشرية مفطورة على معرفة الله، وعلى طاعته، ولا ترتاح إلا بطاعته والالتجاء إليه، فالإنسان عندما يؤمن، ويستقيم، ويخلص لله عزَّ وجل ترتاح نفسه، ولكن الله حبب هذه الفطرة إليه، ألم يقل الله عزَّ وجل: 

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[ سورة الروم ]

أي أن تقيم وجهك للدين حنيفاً، التوجه إلى الله بطاعته، والإقبال عليه، والاتصال به، هذا نفسه فطرة النفس، لا ترتاح إلا بها، أحياناً تمشي السيارة على طريق وعر، حينما تمشي على طريقٍ مُعَبَّد تقول: هذا الطريق لهذه السيارة، يوجد تناسب. 

 

راحة الإنسان تتعلق بمعرفة الله عز وجل والاستقامة على أمره:


الإنسان حينما يشرد عن طريق الحق في عذاب، في قلق، في خوف، في قسوة بالغة، ردود فعله قاسية جداً من الخوف الذي في أعماقه، خوفه مرضيٌ، بطشه مرضي، موقفه مرضي، انحيازه مرضي، أما حينما يتعرَّف الإنسان إلى الله عزَّ وجل ويستقيم على منهجه فترتاح نفسه: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ من فضل الله على كل مؤمن أنه يحب الحق وأهله، قال له: كيف أصبحتَ يا زيد؟ قال: أصبحتُ أحبُّ الخيرَ وأهله، وإن قدرتُ عليه بَادَرْتُ إِليه، وإن فَاتَني حَزِنْتُ عليه، قال له: عرفت فالزم ، إني لك ناصح أمين، إذاً تحبيب القلب إما أنها الفطرة التي فُطِر الإنسان عليها، وإما أن القلب بيد الله يقلِّبُهُ لصالح عبده المؤمن حينما يصدق معه، فأنت وَطِّن نفسك على أنك إذا اتجهت إلى الله عزَّ وجل فالقلب ينشرح، والصدر يطمئن. 

 

من أراد الله أن يكرمه ألقى في قلوب الناس محبته:


أيها الأخوة؛ بقي معنى متعلق بالآية الكريمة: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ عندما يقلب الله عزَّ وجل قلوب العباد كيف يشاء صار قلبك وقلب الآخرين بيد الله، الذين أمامك وهم أقوى منك قلبهم بيد الله، فإذا رضي الله عنك ليَّن قلوبهم تجاهك، إذا رضي الله عنك ألقى في قلوبهم محبَّتك، وإذا غضب الله عليك -لا سمح الله- ألقى في قلوبهم بغضك، فإذا أكرمك الناس، ويسروا أمورك، وأحبوك، فهذه محبة الله تمثَّلت في محبة العباد لك، فكما أن قلبك بيد الله أيضاً قلوب العباد بيد الله، فأنت إذا أراد الله أن يكرمك ليَّن القلوب، ورد: "ما أخلص عبدٌ لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة" ، لذلك محبة الخلق لك هي محبة الله أُلْقِيَت في قلوبهم فأحبوك. 

 

من امتلأ قلبه بمحبة الله سعد في الدنيا والآخرة:


المُلخّص أن هذا القلب بيد الله، أولاً: مفطورٌ فطرةً تتوافق مع الدين، فكل إنسان تعرَّف إلى الله، وسار على منهجه ترتاح نفسه، ويطمئن قلبه، والآية الكريمة: 

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾

[  سورة الرعد  ]

هذا المعنى الأول. 

والمعنى الثاني: قلب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإذا أنت أحببت الحق فالله يقلب قلبك نحو الحق، وإذا أحببت الله عزَّ وجل قلَّب قلوب العباد نحوك، فإذا أخلصت لله واتجهت إليه جعل قلوب المؤمنين تهفو إليك، الإنسان حينما يحب الإيمان ويكره الكفر والفسوق والعصيان هذا هو الرشاد بعينه، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ أي علامة عقلك الراجح أن تحب الحق وأهله، وأنت على هذا مفطور، لكن هذه الفطرة قد تنطمس، فإذا جليت وعاد إليها صفاؤها أصبح قلبك محباً للحق.  

آخر معنى لو أردت أن تدع شيئاً لله، قلبك بيد الله، لن يبقي في قلبك محبة هذا الشيء الذي تركته في سبيل الله، لذلك: ما كان الله ليعذب قلباً بشهوةٍ تركها صاحبها في سبيل الله، فإذا ترك الإنسان شيئًا لله لن يعذِّبه بمحبَّته، الله أكرم وأجلّ أن يُعذب قلباً آثر طاعته بمحبة شيءٍ سواه، الله عزَّ وجل ينزع من قلبك هذه المحبة.  

أخ كريم البارحة قال لي: والله كنت أحب شيئاً وأظن أنني أموت ولا أتركه، فلما تعرَّفت إلى الله عزَّ وجل تركته ببساطة، ولا أقول لك -هكذا قال لي- إنني الآن أتركه بل إنني أكرهه، والله هكذا قال لي، قال: كنت أظن أن هذا الشيء الذي أحبه لن أدعه حتى الموت، فإذا بي بعد أن عرفت الله عزَّ وجل تركته ببساطة من دون جهد، الآن أكرهه وأكره من يفعله، القلب بيد الله، الآية دقيقة جداً، قلبك بيد الله، إذا علم الله منك صدقاً قلّب القلب لصالح إيمانك، وقلوب العباد بيد الله، إذا أحبك الله عزَّ وجل ألقى حبك في قلوب العباد، وقلبك مفطورٌ على محبة الله فإذا أحببته اطمأن قلبك، قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ وسيدنا عمر قال: "تعاهد قلبك" ، القلب بالإنسان إذا امتلأ بمحبة الله عزَّ وجل سعد في الدنيا والآخرة.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور