وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة الزمر - تفسير الآيات 16-20، البشرى والعبادة الخالصة لله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الخسارة الحقيقية هي التي تبدأ بعد الموت:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثامن من سورة الزُّمَر، ومع الآية السادسة عشرةَ من هذه السورة.

يقول الله عزَّ وجل بعد أن حدثنا في هذه السورة الكريمة عن العبادة الخالصة لوجهه الكريم، فقال جلّ شأنه: 

﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾

[ سورة الزمر ]

 كما قلت في الدرس الماضي: أشدّ أنواع الخسارة الخَسارة التي ليس بعدها تعويض، والخسارة الحقيقية التي يخسرها الإنسان في وجوده، حينما يشعر ساعة فراق الدنيا أنه خسر الدنيا، وخسر الفرصة الوحيدة التي كان من الممكن أن يستغلها ليسعد إلى الأبد، هذه هي الخسارة، أما أية خسارة يخسرها الإنسان في الدنيا لو خسر ماله كله، لو خسر مسكنه، لو خسر أحد أكبر مقوِّمات حياته، هذه خسارةٌ تعوَّض، وخسارةٌ تنتهي عند الموت، لكن الخسارة الحقيقية هي التي تبدأ بعد الموت، الخسارات التي يعانيها البشر مهما عَظُمت تنتهي عند الموت، لكن خسارة الدار الآخرة تبدأ بعد الموت، فشتانَ بين الخسارتين، أن تخسر كل شيء، وألا تملك شيئاً، بل يعاني الإنسان من عذابٍ لا ينتهي، هذه خسارة، وأن يخسر شيئاً يأتي الموت فينهي هذه الخسارة.

 

العمل من لوازم العقيدة الصحيحة:


صار المعنى أن الإنسان إذا لم يُدخل موضوع الموت في برنامجه اليومي فقد ضلّ ضلالاً مبيناً، وإذا تصرَّف على أن هذه الحياة هي كل شيء، وقد بيَّنت في الدرس الماضي هذه النقطة الدقيقة، دعونا مما تتوهم، أو مما يعتقد بعض الناس، السلوك اليومي إما أن يؤكِّد أنك مؤمن بالدار الآخرة أو لا يؤكِّد، فالذي يتصرف على أساس أن هذه الدنيا هي كل شيء، وإذا اعتدى على أموال الناس وكأن الله غير موجود، فهناك تصرُّفات تؤكِّد عدم الإيمان بالله، وهناك تصرفات تؤكّد عدم الإيمان باليوم الآخر، فالعقيدة الصحيحة هي العقيدة التي تنقلِب إلى عمل، أو العقيدة التي يؤكِّدها العمل، فالعمل من لوازم العقيدة الصحيحة، والعمل أيضاً يؤكِّد العقيدة الصحيحة. 

ماذا في الآخرة؟ 

﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)﴾

[ سورة الزمر ]

 الظّلل أي الطبقات، أي طبقاتٌ من النار من فوقهم، وطبقاتٌ من تحتهم، وفوق الذين من تحتهم طبقاتٌ بعضها فوق بعض، والإنسان حينما في الدنيا يشعر بألم الحريق، يبقى أياماً معدودات لا يطيق ألم الحريق، هذا الحريق في الدنيا مس وليس حريقاً مباشراً، وليس بقاءً في الحريق إلى ما شاء الله، فهذا كلام الله عزَّ وجل، الله جلّ جلاله يقول:

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)﴾

[ سورة البقرة ]

 أي كيف يصبرون على هذه النار المحرقة؟!!

 

الله عزَّ وجل هو الجهة التي تستحق العبادة في الكون:


﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)﴾

[ سورة الزمر ]

 الطاغوت صيغة مبالغة من طغى، والطاغوت هنا هو الشيطان، والإنسان بشكلٍ أو بآخر إما أن يتَّبع وساوس الشيطان، وإما أن يهتدي بإلهامات الملائكة، فالإنسان رحماني أو شيطاني، إما مع الحق رحماني، مع الباطل شيطاني، مع الشهوة شيطاني، مع المبدأ رحماني، مع الإحسان رحماني، مع الإساءة شيطاني، مع الإخلاص رحماني، مع الخيانة شيطاني، فهذه الاثنينية الله عزَّ وجل جعل الحياة مثانيَ، والقرآن مثاني، أهل إيمانٍ وأهل كفرٍ، أهل حقّ وأهل باطل، أهل إحسانٍ وأهل إساءةٍ.

﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ أيضاً في هذه الآية اجتناب سلوك سلبي، وإقبال على الله عزَّ وجل سلوك إيجابي، فالمؤمنون من خصائصهم ومن لوازمهم أنهم يجتنبون الطاغوت أن يعبدوها، والعبادة كما مرَّ بنا من قبل هي: غاية الخضوع مع غاية الحُب، فالجهة التي تخضع لها والتي تحبها إنك تعبدها وأنت لا تدري، ولو كان لسانك موحداً، أي إذا خضعت لإنسان أمرك بمعصيةٍ فخضعت له، وبقي في جوانحك أمداً طويلاً، فهذا الحُب وهذا الخضوع هو العبادة، فالجهة التي تستحق العبادة في الكون هي الله عزَّ وجل، فإذا اتجهت إلى مخلوقٍ مما سوى الله، ومحَّضته حبك، وخضوعك، واستسلمت له، فأنت تعبده وأنت لا تدري، إذاً المؤمنون يجتنبون الطاغوت أن يعبدوها.


  في الآية التالية بشرى يسوقها الله لعباده:


﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾  البشرى الحقيقة، القرآن الكريم فيه بشارات للمؤمنين، فالمؤمن إذا قرأ القرآن، وقرأ ما وعد الله به المؤمنين يستبشر، ويطمئن، لكن يوجد بُشرى من نوع آخر، هو أن المؤمن يشعر شعوراً واضحاً مركزاً أن الله سبحانه وتعالى أعدّ له خيراتٍ كثيرة في الدنيا والآخرة، هذا الشعور يجعله يطمئن ولو كان واقع المؤمن بعيداً عن شعوره، لكن ما دام الله عزَّ وجل قد طمأَنَهُ بعطاءٍ في الدنيا وعطاء في الآخرة، هذا يعطيه ما يسمَّى في التعبير الحديث: معنويات مرتفعة، فالبشارة إنها قولية من كتاب الله عزَّ وجل، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشارةٌ نفسية هي شعور المؤمن أنه مكرمٌ عند الله عزَّ وجل، وأن عطاءً كثيراً ينتظره في الدنيا وبعد الدنيا، ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ أي عادوا إليه، ناب وأناب بمعنى رجع، أناب إلى الله أي رجع إلى الله:

﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾

[ سورة لقمان ]

أي اتبع سبيل من عاد إلى الله، كيف يعود الإنسان إلى الله عزَّ وجل؟ أي كلما عرض له موقف يرجع إلى حكم الله فيه، هذا معنى العودة، واجه مشكلة في بيته، في تجارته، في عمله، في قبض المال، في إنفاق المال، في إرواء بعض الشهوات، في أي نشاط؛ نفسي، اجتماعي، جسمي، عقلي، هذا النشاط يعود إلى حُكم الله في هذا الأمر، سمع قصةً يعود إلى القرآن، قرأ مقالة عن أن هذا الدواء يُطيل العمر يعود للقرآن ِيجد أن عمر الإنسان لا يزيد ولا ينقص، أي في عقيدته، وفي سلوكه، وفي نشاطاته، يعود إلى حُكم الله في كتاب الله، وليس من صفات المؤمن أنه إذا رأى حكماً لله عزَّ وجل ابتعد عنه لقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 

الآية التالية ﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ تحمل عدة معانٍ:


الشيء الدقيق - الآن دخلنا في لُبّ الموضوع - الشيء الدقيق أنك أنت عبد، العبد جاهل والله هو الذي يعلم، العبد فقير والله هو الغني، العبد ضعيف والله هو القوي، جاءك خطاب من الله هو القرآن الكريم، فموقف العبودية أن تعود إلى هذا الكتاب في كل أمر يَعْرض لك، فهُمُّ المؤمن الأول أن يتحرَّى أمر الله عزَّ وجل ليقيمَهُ، بعد أن عرف الله، واطمأنت نفسه لوجود الله، ولكمال الله، ولوحدانية الله، ولأنه رب العالمين، وأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، بعد أن اطمأنت نفسه له همّ واحد، في كل حركة، في كل سكنة، في كل تصرُّف، في كل إقدام، في كل إحجام يعود إلى أمر الله، هذا معنى: ﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ أي عادوا إليه ليعرفوا أمره ونهيه في كل أحوالهم، هذا معنى. 

المعنى الثاني: عاد إليه بمعنى أقبل عليه، لو أن الإنسان كان أمام عِدّة أشخاص، تركهم جميعاً واتجه لشخصٍ آخر، نقول: عاد إلى فلان، ترك هؤلاء وعاد إلى فلان، فأناب تحمل معنى الرجوع إلى حكم الله، القرآن هو الحَكَم، هو الفَيْصَل، هو الدستور، هو المنهج، هو القاعدة، هذا رجوع. 

أحياناً لاحظ موظفاً حريصاً على منصبه، ويريد أن يبت في أمر في معاملة، القوانين كلها في مكتبه، فإذا شكّ في قضية يقول لصاحبها: انتظر، تعال غداً، يعود إلى القوانين السابقة يطالعها، هذا المواطن حينما طلب منه هذه الموافقة يا ترى سمحت بها القوانين؟ يُسْمَح للمدير العام إعطاء هذا التعويض ؟ يعود للقوانين، فالإنسان الحريص على سلامة قراراته يعود إلى التشريعات الثابتة، والمؤمن الحريص على سلامة علاقته مع الله عزَّ وجل كلما عرض له أمر يعود إلى حكم الله فيه، إذاً كل إنسانٍ لا يُبالي كثيراً في حكم الله عزَّ وجل فهذا إما من ضعف إيمانه أو من انعدام إيمانه، أما المؤمن فقد أناب إلى الله.

 

المؤمن يعود دائماً إلى الثوابت والقرآن هو الثابت:


قال تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾

[  سورة الكهف 28 ]

وإليك آية أخرى: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ عاد إليّ، فالقضاة أحياناً، الأطباء أحياناً يأتيهم مريض، بعض الأطباء أنا أعرفهم كثيراً يعود إلى المراجع أمام المريض، يصف له هذا الدواء، هذا الدواء أله تأثيرات جانبية؟ يعود الطبيب إلى مراجعه ليكتب الوصفة بشكل صحيح، فالطبيب الحريص على سمعته، وعلى أداء واجبه أداءً طيباً، يعود دائماً إلى المراجع المُعتمدة في تشخيص المرض، ووصف الدواء، والقاضي الحريص على سلامة حكمه يعود دائماً إلى اجتهادات محكمة النقض، ليرى ما إذا كان هذا الحكم موافقاً لاجتهادات المحكمة أم ليس موافقاً، فهذه العودة، أن تعود إلى المراجع الثابتة، أن تعود إلى الثوابت، وربنا عزَّ وجل قال في كتابه:

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)﴾

[ سورة إبراهيم ]

من معاني هذه الآية أن القرآن هو القول الثابت، أي كلامٌ قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، فيه الحق، هو الفَيْصَل، هو الحَكَم، هو الرأي الصحيح، الحكم الصحيح في القرآن الكريم، إذاً المؤمن يعود دائماً إلى الثوابت والقرآن هو الثابت، فأي قضيةٍ، أية فكرةٍ، أية مقالةٍ، أي خطبةٍ، أية نظريةٍ، أي مذهبٍ عرض له أو قرأه، يرجع إلى القرآن فيقبلها أو لا يقبلها، إذاً: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ أنابوا في كل ما يعترضهم من أحكام، ومن نظريات، ومن مبادئ، و"أنابوا" بالمعنى الثاني أنه عاد إلى الله مقبلاً عليه.  

 

الله عزَّ وجل جاء بنا إلى الدنيا من أجل أن نعمل عملاً يصلح للعرض عليه:


ذكرت اليوم في الخطبة مما يمس هذا المعنى أن الإنسان لماذا ينفق؟ لأن الله عزَّ وجل خلق الإنسان ليسعده، الآن لو أردت أن تسقي نبتةً - مثل بسيط - فهذا الماء الذي تُلقيه على النبتة يتناسب مع كرمك أم مع قوة احتمال النبتة؟ لو أن إنساناً عنده نبتة صغيرة صبّ عليها ماء كثيفاً قوياً أتلفها، يا ترى الماء الذي ينبغي أن أعطيه لهذه النبتة يتناسب مع كرم المُعْطِي أم مع احتمال المُعْطَى؟ مع احتمال المُعْطَى. فالإنسان جاء إلى الدنيا من أجل ماذا؟ من أجل أن يُؤهِّلَ نفسه لعطاء الله عزَّ وجل، كيف يؤهِّل الإنسان نفسه لعطاء الله؟ بالعمل الصالح، ضربت مثلاً قريباً، لو تصورنا قائد جيش، عنده مجنَّد، فبين رتبة المجند ورتبة قائد الجيش مسافةٌ كبيرةٌ جداً، ربما كان الضبَّاط الأُمَرَاء لا يستطيعون أن يقابلوه، وإذا أرادوا وأصروا هناك إجراءات طويلة وطلبات، وعلى رؤسائهم أن يعلِّقوا على هذه الطلبات، لكن جندياً أنقذ ابن هذا القائد من غرقٍ مُحَتَّم، وضَحَّى وخاطر بحياته لينقذ ابنه، هذا العمل الذي فعله المجنَّد يجعله يدخل عليه في أية لحظة، ما إن يقول هذا الجندي للحاجب قل للقائد: فلان بالباب. حتى يقال له: تفضَّل. ما الذي جعل هذا الجندي يدخل إلى صاحب هذه الرتبة العالية جداً متى أراد ومتى شاء؟ ما الذي جعله؟ عمله الطيِّب، هذا مثل قائد جيش وعنده ضباط كبار وجندي صغير حينما ضحى بحياته أو كاد أن يضحي بحياته لينقذ ابن هذا الضابط وأنقذه فعلاً، كان لهذا الجندي عند هذا الضابط يد عظمى، إذاً هذا العمل الطيب يجعله يدخل عليه متى شاء، ويطلب منه ما يشاء، وربما فاق في مكانته مكانة أناس كبار جداً ممن يعاونوه، هذا المثل يمكن أن يوسع قليلاً، الله عزَّ وجل جاء بك إلى الدنيا من أجل أن تعمل عملاً يصلح للعرض على الله، من أجل أن تعمل عملاً بإمكانك أن تُقْبل به على الله، فهذه (أنابوا إلى ربهم) أي عملوا أعمالاً صالحة استطاعوا بها أن يقبلوا على الله عزَّ وجل، الله عزَّ وجل غني، غنيّ عنا جميعاً:

(( عن أبي ذر الغفاري  قال اللهُ تعالَى: يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُه مُحرَّمًا فلا تَظالموا، يا عبادي! إنَّكم تُخطِئون باللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا ولا أُبالي فاستغفروني أغفِرْ لكم، يا عبادي! كلُّكم جائعٌ إلَّا من أطعمتُ فاستطعِموني أُطعِمْكم، يا عبادي! لم يبلُغْ ضُرٌّكم أن تضُرُّوني ولم يبلُغْ نفعُكم أن تنفعوني، يا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإِنسَكم اجتمعوا وكانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منكم لم يُنقِصْ ذلك من مُلكي مثقالَ ذرَّةٍ، ويا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإنسَكم اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني جميعًا فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَه لم يُنقِصْ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يُنقِصِ المَخيطُ إذا غُمِس في البحرِ، يا عبادي! إنَّما هي أعمالُكم تُرَدُّ إليكم، فمن وجد خيرًا فليحمَدْني ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلَّا نفسَه. ))

[ حلية الأولياء : خلاصة حكم المحدث : صحيح ثابت ]

فكيف تتقرب إلى الله وهو الغني عن كل أعمالك؟ تتقربُ إليه بخدمة عباده، هؤلاء كلهم عباده، فإذا خدمتهم، أطعمتهم، أنفقت عليهم، دللتهم على الله، ترأَّفت بهم، أنصفت في حقهم، قرَّبك الله إليه، هذا المثل، بإمكان هذا المُجَنَّد الصغير أن يدخل على هذا القائد الكبير متى شاء، لماذا؟ لأنه كاد أن يضحي بحياته من أجل إنقاذ ابن هذا القائد، هذا العمل العظيم يجعله يُقبل على قائده متى شاء.

 

المؤمن وقَّاف عند كتاب الله ولا يتحرك عشوائياً:


هذا المثل لو أردنا أن نوسعه، وأن نطبقه على علاقة المؤمن بربه، أعماله الصالحة كلها من أجل أن يكتسب ثقة أن الله يحبُّه، هذه الثقة التي هي كنزٌ عظيم كما وصفها النبي الكريم، هذه الثقة برضاء الله عنك هي التي تُعينك على الإقبال على الله، هي التي تدفعُك إلى الاتصال به، إذاً معنى أنابوا إلى الله، أي عملوا أعمالاً صالحة أقبلوا بها على الله، هذا المعنى. 

المعنى الأول: أنابوا إلى الله كلما اعترضهم أمرٌ قال: قفوا لنسأل القرآن عن حكمه في هذا الشيء، فالمؤمن ليس شارداً، ليس دابةً غير منضبطة، إنه إنسان مكرَّم، تحكمه الشرائع، تحكمه القيَم، تحكمه المبادئ، فالقرآن قَيَّدَ المؤمن عن كثيرٍ من هوى نفسه، لذلك قيل عن سيدنا عمر: كان وقَّافاً عند كتاب الله، يروى أن عبداً أساء إساءة بالغة لسيده، فلما غضب سيده، قال: يا سيدي لقد قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾

[ سورة آل عمران ]

قال: قد كظمت غيظي، قال العبد: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال: قد عفوت عنك، ثم قال العبد:

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾

[ سورة آل عمران ]

قال: أنت حرّ لوجه الله، مثل، فالمؤمن وقَّاف عند كتاب الله، لا يتحرك عشوائياً، لا تحركه شهواته، ولا أحقاده، ولا مزاجه العصبي، تحركه مبادئ الشرع، لهذا ترى الناس يطمئنون للمؤمن، لا يخافونه، وفي الحديث القدسي: يا موسى خفني وخف نفسك وخف من لا يخافني، المؤمن لا يخاف، لا يخاف إلا الله، إذاً لا تخف منه لأنه مقيَّد بالشرع، لن يأكل مالاً حراماً، لن يغشَّك، لن يكذب عليك، فلو سألت المؤمنين إذا تعاملوا مع مؤمن يرتاحون له أشدَّ الراحة، هذه الراحة نابعة من أنهم واثقون من استقامته، ومن خوفه من الله، ومن وقوفه عند كلام الله.

 

البشرى نصِّية نصّ عليها القرآن والسنة الشريفة:


﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)﴾

[ سورة الزمر ]

والبُشرى كما قلنا: بشرى نصِّية، يقرأ آيةً فيها بشرى..

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت ]

هذه بشرى..

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور  ]

هذه بشرى:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

هذه بشرى:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[  سورة طه ]

هذه بشرى.

 

البشرى نصيةٌ ونفسية:


البشرى نَصِّيَة، وهناك بشرى نفسية، تجد المؤمن مرتاحاً، معنوياته عالية جداً، شعوره أن الله يحبه يغنيه عن كل شيء، فهو غني ولو كان فقيراً، والغني غير المؤمن فقيرٌ ولو كان غنياً، المؤمن مطمئنٌ ولو أحدقت به الخطوب، وغير المؤمن خائفٌ ولو ملك كل أسباب القوة، شيء عجيب، هذا العجيب هو المؤمن، مطمئن، وجميع الخلق أحياناً يتنكرون له لأنه على حق، والكافر بيده أسباب كل القوى ومع ذلك خائف، قلبه فارغٌ من الأمن، أو ممتلئٌ رُعْبَاً، المؤمن الفقير غني في نفسه مع أنه فقير في يديه، غير المؤمن فقير في نفسه، مع أنه غني فيما بين يديه، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ البشرى إذاً نصيةٌ ونفسية، والإنابة عن طريق الرجوع إلى أحكام الشريعة هذه إنابة، وعن طريق الإقبال على الله على أثر العمل الصالح هذه إنابة، وهؤلاء المؤمنون الصادقون: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ .

 لهم صفةٌ أخرى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ أي إذا الله عزَّ وجل وصف الدنيا ووصف الآخرة، يتَّبعون طريق الآخرة، وصف أهل الجنة ووصف أهل النار، يسلكون سبيل أهل الجنة، أحسن القول، أمر ونهى، يأخذ بأمر الله ويدع ما نهى الله عنه، أي حينما يخيَّر بين شيئين يختار أرضاهما لله عزَّ وجل. 

 

المؤمن كلما عرض له شيئان يختار أقربهما وأرضاهما لله عز وجل:


﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)﴾

[ سورة الزمر ]

من أبسط معاني هذه الآية إذا الله عزَّ وجل أمر ونهى، حينما يتَّبع الأمر اتَّبع أحسن القول، وحينما اجتنب النهي انتهى عن أسوأ القول، إذا الله وصف أهل الجنة وأهل النار، يتبع سبيل أهل الجنة، إذا الله عزَّ وجل وصف السابقين السّابقين ووصف أهل اليمين يسلك سبيل السابقين، كلما عرض له شيئان يختار أقربهما إلى الله عزَّ وجل وأرضاهما لله، ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ هنا الاستماع سهل، كلكم يستمع وأنا أستمع معكم أحياناً، والتكلُّم أيضاً سهل، وكلكم له لسانٌ طليقٌ في الدعوة إلى الله، لكن العبرة أن كل مستمعٍ لا جدوى من استماعه إن لم يُطَبِّق الذي استمعه، وكل متكلمٍ لا جدوى من كلامه إلا إذا طبَّق ما يقول، فما كل مستمعٍ مرضيّ عند الهع عزَّ وجل، وما كل متكلمٍ مرضيّ عند الله عزَّ وجل، لا المتكلم يرقى بكلامه، ولا المستمع يرقى باستماعه، لكن المستمع إذا اتَّبع: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ إذا اتبع أحسن القول هذا هو المستمع المثالي الذي أراده الله عزَّ وجل.

 

المستمع المثالي هو الذي يتبع أحسن القول:


كذلك في آية أخرى يشير الله عزَّ وجل إلى أنَّك إن لم تلتزم بما استمعت فلست عند الله مستمعاً، الآية الكريمة:

﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)﴾  

[ سورة الأنعام ]

يوجد آية أخرى أيضاً تؤكِّد هذا المعنى أنه هو يستمع لكنه لم يسمع، استمع ولم يسمع، كيف؟ كنت أضرب على هذا مثلاً، لو قلت لأحد: يوجد عقرب على كتفك. فقال لك: أنا شاكر لهذه الملاحظة، وأنا مدين لك بالفضل لهذه البادرة الطيِّبة التي ذكرتها لي، وأنت إنسان كريم وفاضل، والعقرب التي على كتفه؟! معناها أنه لم يفهم ماذا قيل له، ما دام يجامله وهو هادئ ومرتاح، ويثني على ملاحظته القيِّمة، وعلى مبادرته الطيِّبة، هذا لم يستمع لم يفهم قول القائل، فالمعنى أن الاستماع ليس أن تُصْغي والدليل:

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾

[ سورة التحريم  ]

علامة الإصغاء هي السلوك: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ فإذا كان إنسان بحاجة ماسة لبيت، وبلغه أن هناك بيتاً ثمنه مئتا ألف، وهو يبحث عن بيوت من شهرين وأقل بيت بخمسمئة ألف، فالبيت بمئتين، لكن الدلال بالمخيم وهو ساكن بالمهاجرين، والمواصلات سَيِّئة جداً، فلما يعلم أن هذا البيت ثمنه مناسب جداً ويخاف أن يسبقه أحد، حينما يتوجه على قدميه مشياً إلى صاحب البيت، هذا دليل على أنه فهم الموضوع تماماً، فكل إنسان يتحرَّك بعد الاستماع يعني أنه قد سمع، وكل إنسان لا يتحرك فالمعنى أنه لم يسمع، ولو أبدى إصغاءً مثالياً، ولو أثنى وشكر وقال: تباركنا واستفدنا.

 

أجمل ما في الآية أنك إن تبت إلى الله عزَّ وجل فقد صغى قلبك إلى هذا الحديث:


أحياناً تُجالس إنساناً تقول له: هذه حرام، وهذه حلال، وآخرة، وجنَّة. تجده لطيفاً يقول لك: والله تباركنا، والله كأن النبي زارنا عندما تكرمت بهذه الزيارة يا سيدي، الله يبارك فيك ويخليك لنا، ولا تجده مغَيِّراً شيئاً؛ دخلٌ حرام، واختلاطٌ، ولكن لسانه أحلى من العسل، فهل هذا استمع؟ والله لم يستمع إطلاقاً. أحياناً الإنسان يستمع إلى محاضرة، إلى خطبة جمعة، إلى درس تفسير، إلى درس فقه، إلى درس سيرة، فالمقياس الدقيق الدّقيق أنه إذا لم يستجب بعد هذا الاستماع فهو لم يستمع، صار هناك موجات صوتية لامست غشاء الطبل، والغشاء تحرَّك، ونقل أصواتاً مُقَطَّعَة إلى الدماغ، أما هو فيعيش بأحلام أخرى، أما: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ إذا تُبت، فأي شيءٍ تسمعه؛ محاضرة، درس تفسير، درس سيرة، درس حديث، إذا كنت قد أثنيت على المتكلم، وعلى علم المتكلم، يا أخي ما هذه الطلاقة؟! واستفدنا، وتأثرنا، وخشعت قلوبنا، ونسأل الله أن يجزيه الخير، وأنت أنت لا غيرت، ولا بدَّلت، دخلك دخلك، إنفاقك إنفاقك، علاقاتك علاقاتك، غيبتك غيبتك، لم تغير شيئاً، فهذا هو عدم الاستماع، وأجمل ما في الآية أنك إن تبت إلى الله عزَّ وجل فقد صغى قلبك إلى هذا الحديث، وإن لم تتب فأنت لم تستمع ولو وقفت الموقف الأمثل في الاستماع، ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ .

 

الاستماع الحقيقي والإصغاء الحقيقي هو الذي يتبعه عمل:


الإنسان قبل أن ينام ينبغي أن يُحاسب نفسه حساباً عسيراً، أنا استمعت اليوم إلى خطبة، والخطيب قال: أي مبلغٍ تنفقه الله جلَّ جلاله يعوضه عليك في ثماني آيات، وأي مبلغٍ تنفقه يعلمه الله، ذكر الخطيب حول الإنفاق الشيء الكثير، إن لم تنفق لن تستمع إلى الخطبة ولو حضرتها، ولو كتبت بعض الفقرات والآيات، ولخَّصت، وحدثت بها الناس مراراً، وقلت: أنا سجَّلتها كلها عندي بنقاطها الدقيقة، الموضوع شامل، الخطيب استوعب الموضوع بكامله، خير إن شاء الله، أنت ألم تنفق شيئاً؟ إذاً أنت لم تستوعب الموضوع، هذه النقطة الدقيقة: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ إن طبَّقت معناها استوعبت، إن طبَّقت معناها استمعت، إن طبَّقت معناها أصغيت، الاستماع الحقيقي الذي يتبعه عمل، الإصغاء الحقيقي الذي يتبعه عمل، التأثُّر الحقيقي الذي يتبعه عمل، ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ .

بالمناسبة بين الاستماع وبين التطبيق كما بين لفظ ألف مليون وامتلاك ألف مليون، المسافة بين الاستماع وعدم التطبيق وبين الاستماع والتطبيق هي المسافة نفسها بين أن تقول: ألف مليون ولا تملكها وبين أن تقولها وتملكها، هذه المسافة، قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ لهذا العلماء فرَّقوا في أمة محمد بين أمة التبليغ وأمة الاستجابة، فهذا الوهم الذي شاع بين الم سلمين أنهم أمة محمدٍ وهي أمة مرحومة، من قال لك: إن أمة محمدٍ كلها مرحومة؟ من قال لك ذلك؟ المرحومة المستجيبة والدليل:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾

[  سورة آل عمران  ]

أي أنتم يا أمة محمد، فمعنى كنتم بمعنى أصبحتم، أي أصبحتم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ..

 

ما نريده هو إسلام ملتزم لا إسلام شكلي:


طبعاً هذه الآية مكتوبة على مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، كتبوا آيتين، الأولى:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾

[  سورة آل عمران ]

والثانية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ والله شيء جميل، آيتان هما محورا هذه الجامعة، أكمل الآية: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فإذا أمرت هذه الأمة بالمُنكر ونهَت عن المعروف ماذا بقي من خيريَّتها؟ لم يبق شيء، كلام ربنا واضح، فالإنسان عندما يتمسَّح بألفاظ لا تعني شيئاً، يذكر آيات هو بعيد عنها، أحياناً تجد على واجهة المحل التجاري:

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)﴾

[  سورة الفتح  ]

خيرٌ إن شاء الله، فهل الغلَّة فقط هي الفتح؟ أو يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، في كذب، وغش، واحتيال، ولديهم تدليس بالبيع، وعندهم بضاعة محرَّمة، ويحلفون أَيْمَاناً كاذبة، ما قيمة: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ مع كل هذه المخالفات؟ أو أحياناً يضع السائق المصحف على مقدِّمة السيَّارة ويسب بالدين كل النهار، ما قيمة هذا؟ قلنا إن هذه النماذج البشعة القذرة بالحياة فنحن نريد مسلماً ملتزماً.

 

فرق كبير بين أمة التبليغ وأمة الاستجابة:


إذاً نحن خير أمةٍ إن أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإذا أمرنا بالمُنكر ونهينا عن المعروف فلسنا خير أمةٍ، ولسنا من أمة محمدٍ المرحومة، أمة محمدٍ المرحومة هي أمة الاستجابة:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[  سورة الأنفال ]

أما أمة التبليغ أي كل طالب أخذ شهادة ثانوية وتبلَّغ فروع الجامعة وعلاماتها فهل صار يحمل ليسانس؟! لا، تبلغ أن العلامات الفلانية تؤهله دخول كلية الطب، الفلانية هندسة، الفلانية صيدلة، الفلانية حقوق، آداب، تبلَّغ العلامات، ولكن لم ينتسب للجامعة، ولا داوم، ولا درس، ولا قدَّم فحصاً، ولم يأخذ ليسانس، فنحن نقول: هل كل واحد تبلَّغ قرار إدارة الجامعة بعلامات الكليَّات صار مجازاً؟ لا، ما صار مجازاً، مازال طالباً في الثانوي، أما الذي يدخل للجامعة ويستجيب، ويدرس، ويقدم فحصاً، وينجح هذا صار مجازاً، فالميِّزات لا لمن بُلِّغوا قرار الإدارة، بل لمن اجتازوا فحص الليسانس، فالنقطة دقيقة جداً، هكذا انتماء شكلي، انتماء تاريخي لهذه الأمة، أصبحنا أمةً مرحومة بلا عمل، بلا انضباط، بلا استقامة، هذا شيء لا يكون.

 

البطولة في الإسلام الالتزام:


﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)﴾

[ سورة الزمر ]

 لذلك فرِّق بين إنسان له ثقافة إسلامية وبين إنسان مهتد إلى الله، المهتدي شيء، والمثقَّف ثقافة إسلامية شيء آخر، عُقِد مؤتمر إسلامي قال لي أحد الحاضرين، المؤتمر في آسيا، أَذَّنَ المغرب ثم العشاء وبعض الحضور لم يصلوا المغرب، هذا عضو فخري، أو عضو فكري فقط:

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)﴾

[ سورة النساء ]

أحياناً إنسان يحمل فكراً إسلامياً لكنه لا يصلي، يحمل فكراً إسلامياً ولكن دخله حرام، يحمل فكراً إسلامياً لكنه ليس ملتزماً بالإسلام، فالبطولة الالتزام: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أولو الألباب، تصور علبة فخمة جداً مغلفة بورق هدايا ثمين، وعليها شريط حريري معقود ببراعة ومهارة، هذه العلبة مظنة شيء ثمين، فيها عقد ألماس، فيها ساعة ذهبية، فيها أقلام فاخرة جداً، فيها شيء ثمين، سبائك ذهبية، فتحتها لم يكن فيها شيء، ليس فيها لُب، فالإنسان قد يكون له مظهر فقط.

 

الهدى استقامة:


القصة معروفة: دخل رجل طويل القامة عريض المنكبين، يرتدي زياً فخماً مفخماً إلى مجلس علم، وكان المتكلِّم يشكو ألماً مُمضَّاً في رجله وحوله تلامذته، وقد مدّ رجله لعذرٍ بالغ، والنبي عليه الصلاة والسلام ما رُئي مادّاً رجليه قط، والدرس كان عن صلاة الفجر، وبعد أن انتهى الدرس هذا الإنسان الذي دخل إلى المجلس عظيم الهيئة طويل القامة عريض المنكبين يرتدي ثياباً فخمة مفخمة هذا المتكلم، هذا المدرس فلما دخل عليه - هو يُروى عن أبي حنيفة القصة - استحيا ورفع رجله، قال له: يا سيدي كيف نصلي إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ قال: عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفةٍ رجله. طبعاً إذا ما كان كلام الإنسان سديداً يسقط من نظر الآخرين: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ الهدى استقامة، فليست الهدى فلسفة وتنطُّع، وليست الهدى صف كلام، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ فرِّق بين الثقافة وبين الهدى، عليك أن تبحث عن الهدى، أنا أقول لإخواننا دائماً: تريد الفتوى أم التقوى؟ لكل معصية يوجد فتوى - فالأمور مدبَّرة - أية معصيةٍ هناك من يفتي بأنها حلال، تريد التقوى، استفتِ قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك، البطولة بالتقوى، بتقوى الله عزَّ وجل.

 

تعريف المهتدي:


إذاً: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ انظر (الذين)، ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ أولاً ابتعد عن كل مظان للمعصية: ﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ في عقيدتهم وفي أحكامهم وفي إقبالهم، ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ في نصِّ القرآن وبشرى نفسية: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ﴾ اجتنبوا الطاغوت، وأنابوا إلى الله، واستمعوا القول، واتبعوا أحسنه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ إذاً من الممكن أن نعرف المهتدي بأنه إنسانٌ ابتعد عن المنكر كليةً، وتقَصَّى أمر الله دائماً، وعمل صالحاً، وأقبل على الله، وما خُيِّرَ بين شيئين إلا اختار أرضاهما لله عزَّ وجل، هذا المهتدي. 

ممكن أن تعرِّف المهتدي بالتعريف التالي: استقامة تامة، أعمال صالحة، اتصال بالله، ابتغاء مرضاة الله، هذا المهتدي بنص هذا القرآن الكريم، ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ .

 

نفي مفهوم الشفاعة الساذج الذي يعتقده مُعظم الناس:


أما إذا لم يجتنب الإنسان الطاغوت؛ بل كان مع طواغيت الإنس والجن، تعامل معهم، واستجاب لهم، وائتمر بأمرهم، وفعل ما يريدون، وأرضاهم وأسخط الله عزَّ وجل، هذا جانب، وما عاد إلى الله في أحكامه، بل اتبع أهل الدنيا، اتبع أهل الضلال، اتبع الأحكام الوَضعية، اتبع مصالحه المادية، لم يُنِب إلى الله أناب إلى مصالحه، وحينما يستمع القول يتبع أحسنه للدنيا، إذا خُيِّرَ بين أمرين دنيوي وأخروي اختار الطريق الدنيوي، فعن هؤلاء قال تعالى: 

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) ﴾

[ سورة الزمر ]

 أيها الأخوة، هذه الآية من الآيات الأساسية في نفي مفهوم الشفاعة الساذج الذي يعتقده مُعظم الناس، المفهوم الساذج، الشفاعة حق، وقد وردت في الكتاب والسنة لكن بمفاهيم دقيقة جداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يشفع إلا لمن مات غير مشركٍ بالله، لا شركاً خفياً ولا جَلياً، إنسان دخل الجامعة، ودرس، قد تأتيه بعض المُساعدات، قد تأتيه بعض المكافآت، بقي له علامتان لينجح، هناك قرار بإضافة هاتين العلامتين، فما دمت أنت في الجامعة لك ميِّزات كثيرة منها الشفاعة، أما إذا لم تنتسب أصلاً فهذه الآية لا يوجد غيرها: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ .

 

شفاعة النبي محمد ينالها المؤمنون الصادقون:


إذا كنت خارج الجامعة كلياً، ميزات الكتب المجَّانيَّة ليس لك الحق فيها، مساعدتك بعلامتين كي تنجح ليس لك حق بهذا القرار، اللباس المجاني ليس لك فيه حق، ارتياد المكتبة والاستعارة منها ليس لك حق فيها، هناك آلاف الميزات لا ينالها إلا من كان ضمن الجامعة، فإذا كانت الشفاعة من بعض الميزات التي خَصَّ الله بها النبي ليشفع للمؤمنين، إذاً لا ينالها إلا المؤمنون الصادقون، أما أن ينالها شارِبو الخمر، مرتكبو الحرام، أصحاب الدخل الحرام، يفعلون كل ما يفعلون ويتَّكلون على شفاعة النبي لهم يوم القيامة، فهذا هو الحمق بعينه، وإجابة هؤلاء هذه الآية: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ أفأنت - يا محمَّد - تنقذ من في النار، طبعاً هذا استفهام إنكاري، أي أنت لا تنقذه، ولا تستطيع إنقاذه: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ* لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الذين عبدوا الطاغوت: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ .

 

مشهد آخر من مشاهد أهل الجنَّة:


﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)﴾

[ سورة الزمر ]

مشهد آخر من مشاهد أهل الجنَّة..﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ﴾ أي قصور في الجنة، وجنَّات تجري من تحتها الأنهار، أنهارٌ مما لَذَّ وطاب، فواكه، حور عين، كلها في الجنة: ﴿غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ أي:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[  سورة التوبة  ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[ سورة النساء ]

الله عزَّ وجل وعده حق، لذلك أخباره كأنَّك تراها، قال تعالى:

﴿  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾

[  سورة الفيل  ]

هذا حديث قديم، قصة قديمة جداً قبل آلاف السنين، لكن لأن الله أخبرك عنها يجب أن تعتقد بوقوعها كأنَّك تراها الآن.

 

أيُّ شيءٍ ذكره القرآن وصحَّ عن النبي هو حقّ من عند الله عزَّ وجل:


لما ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)﴾

[ سورة المائدة ]

جاء هذا الخبر عن المستقبل بصيغة الماضي، وقال علماء البلاغة: هذا الماضي الذي يؤكِّد تحقق الوقوع، فالله إذا حدثنا عن شيءٍ مستقبلي بالفعل الماضي، وعن شيء غائب عنا بفعل رأى، معنى ذلك أن كلام الله عزَّ وجل حق، وعده حق، والجنة حق. 

أثناء تلقين الميت اعلم أن الجنة حق، وأن النار حق، أي واقعة لا محالة، ثابتة، لن تفاجأ بشيء خلاف ما قرأت في القرآن، اعلم أن الجنة حق، والنار حق، وعذاب النار حق، والصراط حق، والحَوض حق، أيُّ شيءٍ ذكره القرآن وصحَّ عن النبي عليه الصلاة والسلام هو حقٌ من عند الله عزَّ وجل، ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ .

الآية التي بعدها إن شاء الله تعالى ندرسها في الدرس القادم: 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21)﴾

[ سورة الزمر ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور