وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة الزمر - تفسير الآيات 23-26 ذات الإنسان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الإنسان مؤلفٌ من نفسٍ وجسدٍ وروح:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس العاشر من سورة الزُّمَر، ومع الآية الثانية والعشرين، وهي قوله تعالى: 

﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)﴾

[ سورة الزمر ]

 هذه الآية رأيت من المناسب أن نَمُرَّ عليها مرةً ثانية. 

أولاً أيها الأخوة: ذات الإنسانِ الإنسان مؤلفٌ من نفسٍ، ومن جسدٍ، ومن روح، الجسد هذا القالب المادِّي، الجسد يحتوي النفس، أما أنت فذاتك هي نفسك، فحينما قال الله عزَّ وجل:

﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)﴾

[  سورة التغابن ]

أي أنت نفسك، هذه النفس لا تموت، تذوق الموت ولا تموت، هي خالدةٌ مخلَّدة؛ إما في جنةٍ يدوم نعيمها، أو في نارٍ لا ينفد عذابها، هذه النفس هي التي تؤمن، هي التي تكفر، هي التي تحب، هي التي تُبْغض، هي التي ترقى، هي التي تَسْفُل، وما الجسد إلا قالبٌ مادي لها، تتحرك من خلاله، تنتقل بالرجلين، تبطش باليدين، ترى بالعينين، تسمع بالأذنين، تنطق باللسان، الفكر جهازٌ موضوعٌ تحت تصرُّفها، جهاز استشاري، فإذا أَعْمَلته عرفت الحقيقة، فإذا قال الله عزَّ وجل: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي النفس التي في صدرك، مقر النفس في كل الجسد لكن مركزها في القلب، فحينما قال عليه الصلاة والسلام:عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ. ))

[  صحيح البخاري ]

بعضهم قال: قلب النفس، وبعضهم قال: قلب الجسد. 

 

الروح قوة محركة:


على كلٍّ:

﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)﴾

[  سورة الحج ]

المقصود هنا النفس، لسنا في صدد الدخول في تفاصيل بُنْيَة الإنسان من جسمٍ، ومن روحٍ، ومن نفس، الروح القوة المحرِّكة تماماً، من باب التشبيه والتقريب والتوضيح الكهرباء في الآلة، إذا قُطعت توقفت الآلة، المكيف يتوقف، البرَّاد يتوقف، المدفأة تتوقف، المسجلة تسكت، قوةٌ محركة، روح الله عزَّ وجل، عند الموت يقطع الله عن هذا الجسد روحه، كان كبداً بخمسة آلاف وظيفة صار سودة، أعطنا كيلو سودة بالله، له عينان تتألقان، وتبصران، وتريان الأشياء بألوانها، وأحجامها، وأشكالها، ودقائقها، وتستمتعان، مئة وثلاثون مليون عصية، وسبعة ملايين مخروط، وعشر طبقات شبكية، وتسعمئة ألف عصب، وجسم بلوري، وسائل زجاجي، وقُزحية، وقرنية، وأجفان، وعضلات مائلة، فجأةً تُلقيها في القُمامة، العين لا تؤكل تلقى في القمامة. 

هذا اللسان كان ينطق، أعطنا سندويش لسانات، كان يتكلم، صار قطعة لحم لا قيمة له. 

هذه الكلية تقوم بأدق الأعمال، تصفِّي الدم، فيها طريق طوله مئة كيلو متر، يعبره الدم في اليوم خمس مرات، من أجل أن يتنقى مما علق به من فضلات الاحتراق الخَلَوي، فإذا هي كلية لا قيمة لها بعد الموت.

إذاً الروح هي القوة المحركة، بشكل أدق من ذلك، انظر إلى الإنسان في بيته مصدر أنس، جاء أبي، وجاء بابا، إذا مات يخافون منه، ماذا فقد؟ فقد الروح، كان مصدر أنس، كان يملأ البيت بهجة، وسروراً، وعطاءً، له مكانته، له شخصيته، له عطاءاته، الكل ينتظره، الكل يأنس به، الكل يتقرَّب منه، فإذا خرجت روحه خافوا من الغرفة التي هو فيها، وبعد الموت تبقى هذه الغرفة مشؤومة لشهر أو شهرين، خافوا منها، هنا مات، هذه الروح إذا سُحبت أصبح الجسد جيفةً، انتهى، فالجسد بالغ التعقيد، بعضهم قال: الجسد إذا حللناه إلى مواده الأولية فيه حديد يكفي لصنع مسمار، فيه كلس يكفي لتبييض بيت دجاج، فيه مواد دهنية تكفي لصناعة لوح من الصابون، فأنت كجسد قيمتك ثمن لوح صابون، ثمن مسمار، الخلاصة، لوح صابون، ومسمار، وقليل من الكلس يكفي لدهن بيت دجاج، وسبعون بالمئة ماء، وانتهى الأمر، هذا هو الجسد. 

 

أفضل نعمة أن يكون الإنسان مهتدياً بهدى الله عزَّ وجل:


أما النفس فشيء عظيم، الكون كله مسخرٌ لها، هي التي تعرف، هي التي تُحِب، هي التي تُبْغض، هي تؤمن، هي تكفر، هي تنافق، هي تكون قذرة، هي تكون نظيفة، هي تكون أخلاقية أو لا أخلاقية، الوفاء والخيانة، الصدق والكذب، الاستقامة والانحراف، الإحسان والإساءة، كلها صفات النفس، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾

[  سورة الشمس  ]

البارحة قلت: الإسلام كله، والإيمان كله، والدين كله، والحياة كلها، ملخصةٌ في كلمتين حسن الخلق، فمن زكَّى نفسه استحق الجنان، ومن لم يزكِّها استحق النيران، لذلك في القرآن: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ هذه الآية: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ إذا اختار الإنسان الحق، إذا اختار الحقيقة، إذا اختار ما عند الله، إذا اختار الجنة، إذا اختار أن يمشي على أمر الله، مكافأةً له ربنا سبحانه وتعالى يعينه على هذا القرار الخطير فيشرح صدره للإيمان، تجده يحب المساجد، يحب أهل الله، يحب المؤمنين، يحب القرآن، يحب السنة النبوية، يحب أن يخدم الناس، يحب أن يعطي، يحب أن يتصدَّق، يحب أن يجلس مع مؤمن، ينزعج جداً لو التقى بكافر، ينزعج من مُزاح رخيص، ينزعج من موقف فيه قسوة، ينزعج من خيانة، ينزعج من كذب، وهو حينما اختار هذا الاختيار الراقي فربنا أعانه على نفسه، فشرح صدره للإسلام، فهو على نور من ربِّه، الأمور واضحة جداً أمامه، واضحة وضوح الشَمس، كل شيء واضح؛ بشكله، بحجمه، بمكانه، بخطورته، بمفعوله، بفائدته، بمقدماته، بنهاياته، هذه نعمةٌ عظمى أن تكون مستنيراً، ما من نعمةٍ تفوق أن تكون مهتدياً بهدى الله عزَّ وجل، لأنك إذا عرفت الله عرفت كل شيء، وإن فاتتك الحقيقة العُظمى فاتك كل شيء.

 

الكفر والفسوق والعصيان تمجُّه النفس لأنه يتناقض مع طبيعتها وفطرتها:


ربنا عزَّ وجل يصف أن الإنسان قلب النفس، القلب البشري، حينما يختار الحق، حينما يختار الصدق، حينما يختار الوصول إلى الله، ربنا عزَّ وجل يشرح الله له صدره، هذا الإنسان المؤمن بمجلس علم تجده يرتاح ويقول لك: ارتحت كثيراً وانبسطت نفسي، كنت متضايقاً فارتحت، كنت في ضيقٍ ففرِّج عني، كنت في يأسٍ فأشرق في نفسي الأمل، كنت في حيرةٍ فاهتديت إلى ذاتي، كل هذا الذي يقوله المؤمنون حقّ وصواب، لأن الله عزَّ وجل شرح الله صدورهم بالإسلام، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾

[  سورة الحجرات ]

الكفر والفسوق والعصيان تمجُّه النفس، لأنه يتناقض مع طبيعتها، يتناقض مع فطرتها، تصور من باب الأمثلة: غابة فيها حفر عميقة، فيها أشواك، فيها أفاعٍ، فيها عقارب، فيها أشجار مثمرة، فيها كل شيء ولا يوجد فيها ضوء، فلو سار الإنسان في هذه الغابة، قد يقع في الحفرة، قد تلدغه الأفعى، قد يصطدم بشجرة، قد تجرح أعضاءه الأشواك، فإذا كان مزوداً بمصباحٍ قوي الضوء، كل شيء واضح أمامه، صدقوني المثل ينطبق على حالة المؤمن تمام الانطباق:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾

[ سورة الأنفال ]

الأمور واضحة، المؤمن لو أعطوه ملك الدنيا على أن يعصي الله فإنه لا يعصي الله، لأنه يعرف أن الدنيا لا قيمة لها، تنتهي بالموت وتبقى المعصية، لذلك الميِّت ترفرف روحه فوق النعش تقول: "يا أهلي يا ولدي لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرُم فأنفقته في حِلِّهِ وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة عليّ"

 

انقضاء الدنيا بكل ما فيها من لذائذ ومتاعب وبقاء الموقف الذي اختاره الإنسان:


اللذائذ تنتهي وتبقى التبعات، والمتاعب تنتهي وتبقى الإكرامات، أحياناً حينما كنا بالمدرسة قبل عشرين أو ثلاثين عاماً كرَّموا الأوائل بحفلة ضخمة جداً، فقلت: هؤلاء الأوائل تعبوا أثناء العام الدراسي، ونسوا تعبهم، وبقي التكريم، تكريم، واحتفالات، وبعثات، وكل شيء، وحينما يعودون يحصلون على أعلى المناصب، المتفوقون، هؤلاء انقضت متاعبهم وبقيت ثمار عملهم؛ والذين أمضوا العام الدراسي في الكَسَلِ، والسهرات الفارغة، والكلام السخيف، والمُتَع الرخيصة، هذه اللذائذ الأرضية انقضت وبقيت تبعة إهمالهم وكسلهم، فهكذا الدنيا، الدنيا تنقضي بكل ما فيها؛ بلذائذها وبمتاعبها، ويبقى الموقف المشَرِّف، ويبقى الموقف الذي فيه خزيٌ وعار، هذا أو ذاك: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ هذا الكون له خالق فلا ينبغي أن تهتدي بغير الخالق، هناك اتجاهات، وتوجيهات، وكُتُب، ومبادئ، ونظريات، هذه كلها من صنع الفكر الذي أودعه الله في الإنسان، هذا الفكر طاقة هائلة جداً بإمكانها أن تغيِّر الحقائق، أن تزيِّف، أن تحوِّر، أن تبدِّل، لكن نور الله عزَّ وجل حقٌّ صُراح، فبطولتك أن تكون على نورٍ من ربك، ماشٍ بتوجيهات الصانع، ماشٍ بتعليمات صانع هذه الآلة، لا يوجد مشكلة، لا أعتقد أن إنساناً عنده جهاز معقد غال جداً - كمبيوتر - له صديق حميم تاجر، له جار صاحب محل تجاري صغير، لا يمكن أن يسأل هؤلاء في إصلاح هذا الكمبيوتر، يسأل الخبراء، يسأل الشركة، يسأل خبير الشركة، يسأل مقر الصيانة، لأن هذه الشركة هي الجهة الوحيدة المخوَّلة لإصلاح هذا الجهاز، وأنت لك إله، على نورٍ من ربك. 

 

القلب البشري أصل النفس الإنسانية:


يوجد شهوات، يوجد طموحات، يوجد حاجات، يوجد صراعات، يوجد فكر، يوجد نفس، يوجد حاجات أرضية، يوجد شهوة جنسية، يوجد شهوة العلو في الأرض، يوجد شهوة للطعام والشراب، مجموعة قيَم، على مبادئ، على شهوات، الإنسان كائن معَقَّد جداً فهل يعقل أن يتحرَّك بلا هدى؟ بلا توجيهات الصانع؟‍! ﴿فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ هذا نموذج، قلبٌ بشري اتصل بالله، أولاً: اختار الحق، اختار ما عند الله، اختار الجنة، فاتصل بالله، فربنا عزَّ وجل تجلَّى على هذا القلب فشرحه، صار مُنشرح الصدر، متفائلاً، أنت لاحظ اجلس إلى رجلين؛ رجل مؤمن، ورجل غير مؤمن، تلمح في كلام المؤمن الثقة بالله، تلمح الطمأنينة، تلمح الرضى، تلمح المعنويَّات المرتفعة، تلمح الراحة، تلمح الاستسلام، تلمح التفويض، تلمح التوكُّل، اجلس إلى إنسان غير مؤمن؛ تلمح السخط، التبرُّم، الشكوى، القلق، الخوف، القهر، الحرمان، فهذا القلب البشري الذي هو أصل النفس إن أراد الحقيقة، واتصل بالله عزَّ وجل، شرح الله له هذا القلب فأقبل على مجالس العلم، ارتاحت نفسه في بيوت الله، سكنت نفسه لتلاوة القرآن، اطمأنَّ قلبه بذِكر الله، أحبَّ المؤمنين، أحبهم حباً شديداً، عاش معهم، تبادل وإيَّاهم المشاعر الصادقة، تبادل وإيَّاهم التناصح، تبادل وإياهم المودَّة، المؤمن يعيش بين أحباب، والله بينما أهل الكفر يعيشون بين أعداء، هم كالذئاب، وكما سمعت عن الذئاب من أن أحدهم ينام بعينٍ ويبقي العين الأخرى مفتوحة خوفاً من ذئبٍ آخر ينقضُّ عليه، إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، مجتمع الكفر مجتمع الذئاب، بينهم عداوة تفوق حدّ الخيال.

﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)﴾

[  سورة الحشر ]

أما المؤمنون فهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. 

 

علامة إيمان الإنسان محبته الشديدة للمؤمنين:


علامة إيمانك محبتك الشديدة للمؤمنين، علامة إيمانك أنك تُؤْثرهم على نفسك ولو كان بك خصاصة، علامة إيمانك أنك تفرح إذا أصابهم الخير وكأنه أصابك أنت، تتألم أشد الألم إذا أصابهم مكروه وكأنَّه أصابك أنت، مسرَّاتهم مسرَّاتك، آلامهم آلامك، قضيَّتهم قضيَّتك، هذه علامة الإيمان، إذا كانت قضية أخيك المؤمن كقضيتك فأنت مؤمن، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)﴾

[ سورة البقرة  ]

معناه أنّ هذا المال الذي هو لأخيك عزاه الله إليك، قال لك: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ لأن حق الأخوة أن تحافظ على ماله وكأنه مالُك، فلأن تمتنع عن أكله، أو عن العدوان عليه من باب أولى، فهذا شرح الصدر. 

 

رأسمال الإنسان عند الله قلبه السليم ونواياه الطيِّبة ونفسه الطاهرة:


أنا أقول لكم وأعني ما أقول: الذي يشدُّ المؤمن إلى الدين ليس فقط القناعات، وليس المبادئ فقط، هذه السكينة التي ينزلها الله على قلوب المؤمنين لتزيدهم إيماناً على إيمانهم، أي هناك نقلة نوعية في حياة المؤمن قبل الإيمان وبعد الإيمان، قبل الإيمان ضياعٌ، وشقاء، وتعاسة، وقلق، وتشاؤم، وخوف، وقهر، وحرمان، وانحطاط في التفكير، وفي المطالب، وفي التصرفات، وبعد الإيمان سمو، لذلك ورد في الحديث الشريف: عن الحسين بن علي بن أبي طالب:

(( إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها. ))

[ صحيح الجامع :خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

أنت بقلبك، والدليل:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

[ سورة الشعراء ]

قلب سليم، رأسمالك عند الله قلبك السليم، نواياك الطيِّبة، نفسك الطاهرة، حبك للآخرين، المؤمن متألِّق، أخلاقي، حيي، خجول، أديب، منصف، متواضع، هذا الإيمان، الإيمان صبغه بصبغة الله عزَّ وجل، قال تعالى:

﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)﴾

[ سورة البقرة ]

هذه صبغة الله. 

 

قلوب الكفار أشدّ قسوة من الحجر الصلد:


الآن القلب الذي أراد الدنيا، أراد الشهوة فانقطع عن الله عزَّ وجل، ما صفته؟ قال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ قلب كالحجر.

﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)﴾

[  سورة البقرة ]

بل قلوب الكفار أشدّ قسوة من الحجر الصلد.

﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ فالإيمان قضية كبيرة جداً، قلبك يكون مؤمناً، قلبك يكون مصطبغاً بالكمال الإلهي، قلبك يكون رحيماً، قلبك يكون متواضعاً منصفاً، هذه صفات النفس، لأن القلب مركز النفس كما قلت قبل قليل: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ فالعقل عقل النفس للحقيقة، مركزه القلب، فهناك قلبان قلب الجسد، هذا الجسم الصنوبري، الذي له أذينان، وبطينان، ودسَّامات، وشريان أبهر، وشريان تاجي.. الخ، والثاني قلب النفس الذي أودعه الله في الصدر فقال: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ .

 

علامة حياة المؤمن أنه يتألَّم لأخطائه:


إذاً عندنا قلبان، قلبٌ موصول وقلبٌ مقطوع، القلب المقطوع قاسٍ، مُتَصحِّر، قلب لا يرحم، قلبٌ لا يخاف الله، لا يرجو ما عند الله، قلبٌ جلمود، قلبٌ فيه كِبرٌ، قلبٌ فيه ضغينةٌ، فيه حقدٌ، فيه حسدٌ، فيه رغبةٌ أن يعيش وحده ويموت الآخرون، وقلب المؤمن قلبٌ رحيمٌ، طبعاً بالمقابلة، ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أحياناً أخ كريم يكلمني قائلاً: أنا حينما تزلُّ قدمي أتألَّم ألماً شديداً، فأقول له: بخٍ بخٍ هذا محض الإيمان، لأن المؤمن من سرَّته حسنته وساءته سيِّئته، قلبه حيّ، أحياناً الطبيب يجد النبض صفراً، يكون القلب هبط ضغطه إلى درجة لا يسمع خفق نبضته، فيطلب الطبيب مرآة يضعها على فم المريض، فإذا انطبع على المرآة شيء من بخار الماء معنى هذا أن فيه نَفَساً، يطلب أحياناً مصباحاً، يفتح عينه ويشعل المصباح في عينه، فإذا ضاقت القُزَحية معناه عند المريض فعلٌ مُنعكس، القزحية لم تضق، وبخار الماء لم يجده على المرآة، والنبض صفر، والتخطيط خط مستقيم، والدماغ مستقيم، فيقول لأهل الميِّت: عظَّم الله أجركم، انتهى الأمر. 

الدماغ إذا كان التخطيط خطاً مستقيم معنى هذا مات الدماغ، جذع الدماغ مات، وإذا كان تخطيط القلب مستقيماً فمعناه مات القلب، توقف القلب ، ولا يوجد بخار ماء، ولا توجد أفعال منعكسة، المعنى أنه انتهى. 

قلب المؤمن فيه نبض، فيه حياة، علامة حياة المؤمن أنه يتألَّم لأخطائه، تسوءه سيِّئَته، وتسرُّه حسنته، أما إذا فعل الإنسان السيئات، وافتخر بها، وتبجح بها، وذكرها للناس، فهذا انتهى، هذا قل له: عظَّم الله أجركم، لا أمل فيه إطلاقاً. 

 

الإنسان حكيم قلبه:


لذلك:

﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)﴾

[  سورة هود ]

الجماعة انتهوا، حينما لا تبالي بالذنب فالقلب ميِّت، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : 

(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ . ))

[ صحيح مسلم ]

هذا الحديث يحتاج إلى تفسير، على ظاهره معناه خطير جداً، أي هذا القلب البشري إذا فعل ذنباً ولم يشعر بهذا الذنب إطلاقاً فمعنى هذا أنه ميت، أما إذا شعر بذنبه فهذا جيِّد، فهذه علامة الحياة، إذا شعر المذنب أنه أذنب، وندم، واستغفر، وتألم، فهذه علامة أن قلبه حيّ، فيه نبض، فيه حياة. 

فيا أيها الأخوة؛ سيدنا عمر يقول: "تعهَّد قلبك". والإنسان حكيم قلبه، يراقب قلبه؛ فيه حسد؟ فيه حقد؟ فيه ضغينة؟ فيه شرك؟ هل يعلِّق الآمال على بني البشر؟ هل يرجو ما عند الله أم ما عند الناس؟ هل تؤلمه حسنات المؤمنين؟ يحسدهم ؟ هل يفرح لخيرٍ أصابهم؟ يراقب نفسه لأنه يوم القيامة رأسمالك الوحيد قلبك الذي بين جنبيك، فإن كان هذا القلب سليماً فأنت من أهل الجنة، وإن كان مليئاً بالضغائن والحسد والكبر والبُعد والاستعلاء فالقضية خطيرة جداً. 


  أمراض الجسد تنتهي عند الموت لكن أمراض القلب تبدأ بعد الموت:


مشكلة أمراض الجسد تنتهي عند الموت، لكن أمراض القلب تبدأ بعد الموت، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، ما دام يوجد طعام، وشراب، وسهرات، وحفلات، ومسلسلات، ولقاءات، وسفر، ورحلات، وصفقات، وأرباح، واختلاط، ونساء كاسيات عاريات، فهو غارق بالشهوات، فإذا جاء مَلكُ الموت الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، كل أغراض القلب يبدأ فعلها الخطير حين نزول القَبر، لهذا القبر حفرةٌ من حفر النيران أو روضة من رياض الجنان، ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾ أيضاً بعضهم قال: إن المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، سابح، فإذا دخل الأسواق تعكَّر، نساءٌ كاسيات عاريات، بضائع جميلة، الأسعار غالية، دخله محدود، فشرُّ البلاد أسواقها، بينما حين يدخل بيت الله عزَّ وجل، التوجيه إلى الله، توجيه للدار الآخرة، القيَم، الحقائق، غذاء العقول، غذاء القلوب، تجليَّات الله عزَّ وجل، تحفهم الملائكة، تغشاهم الرحمة، تنزل على قلوبهم السكينة، ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله إلا حفَّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده، فهذه اللقاءات في بيوت الله عزَّ وجل هذه رياض الجنان.

 

القلب المقطوع عن الله عزَّ وجل متكبِّر قاسٍ تعليقاته لاذعة:


القلب المقطوع عن الله متكبِّر، قاسٍ، تعليقاته لاذعة، يُحرج غيره، لا يعترف بالحق، يكيل بمكيالين دائماً، يعامل ابنه لا كما يعامل الصانع، أنا وقفت في محل تجاري ورأيت بعيني صاحب المحل عنده صانع وابنه عنده في المحل كان اليوم عطلة فنزل معه، فحمَّل الصانع أثواب قماش، أول ثوب، الثاني، الثالث، الرابع، قال له الصانع: معلمي أصبحت لا أقدر، قال له: أنت شاب، حَمَل ابنه حاجة ثقيلة فصاح به: احذر ظهرك يا بني، فنظرت خلال دقائق يكيل بمكيالين، غير المؤمن أيضاً معاملته مع ابنته غير معاملته مع كنته، أمه بخلاف حماته، والده ليس كعمه، الصانع ليس كابنه، يكيل دائماً بمكيالين، إذا باع يزيِّن البضاعة، إذا اشترى يذم البضاعة لينزِّل السِعر، إذا باع يعطيها المديح زائد، فهذا شأن القلب المقطوع عن الله عزَّ وجل. 


  الويل لكل قلب متكبر جبار:


﴿فَوَيْلٌ﴾ ما معنى ويلٌ ؟ أي هلاك ينتظرهم، إذا راكب أحدهم مركبة، وكان الطريق منحدراً شديداً، وينتهي هذا المنحدر بمنعطف حاد، تسعون درجة، وهو نازل بسرعة كبيرة جداً اكتشف أن المِكْبَح مُعَطَّل، ماذا يقول؟ يقولون لك: وَلْوَلَ، أي أيقن بالهلاك، فكل قلب مقطوعٍ عن الله عزَّ وجل، كل قلبٍ متكبرٍ، كل قلبٍ جبَّارٍ، كل قلبٍ فيه الضغائن، فيه الحَسد، فيه البُعد، فيه القسوة، فيه الظلم، هذا القلب الويل له، أي أن الهلاك ينتظره، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ .

 بالمناسبة القلب القاسي الذي امتلأ شهواتٍ لا يحب ذكر الله، لا يحبُّ مجالس العلم، لا يحب تلاوة القرآن، لا يحب موعظةً، لاحظ إذا كان هناك جلسة والحديث فيها عن التجارة، عن أمور أخرى تستمر الجلسة حتى الساعة الواحدة ليلاً، لو أن أحدهم تكلم كلمة حق، لصار عندهم جميعاً مواعيد وارتباطات، نظروا إلى الساعات على أنهم مشغولون، عجيب حينما تبدأ تذكر الله عزَّ وجل تشمئزُّ من ذكر الله قلوب الكفار، لا يريدون سماعه: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أما المؤمن يستمع، يرحِّب، ينسى الوقت لأنه منسجم، أما غير المؤمن فيتضايق، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ في ضلال مبين، واضح وضوح الشمس، في ضلال بعيد.

 

فضل كلام الخالق على كلام خلقه كفضل الله على خلقه:


﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)﴾

[ سورة الزمر ]

أقول لكم هذه الحقيقة: من تشرَّفَ قلبه بمعرفة الله وتلاوة القرآن لا يستطيع أن يهبط مستواه الثقافي - يقرأ مثلاً قصة من ثمانمئة صفحة، أحداثها كلها مفتعله وفارغة، وملخص كل هذه القصة كلمتان - وقته أثمن، فإذا تشرَّف قلبك بمعرفة كتاب الله عزَّ وجل لا تستطيع أن تتعامل مع كتابٍ آخر، هذا كتاب الخالق، فضل كلام الخالق على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، مسافة كبيرة جداً، النظم المُعجز، الأدب الجَم..

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾

[  سورة النساء ]

لا تخدش حياء أحد، مثلاً:

﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)﴾

[ سورة المعارج ]

إشارات ذكيَّة، نَظم مُعجز، كلام موجز، كلام دقيق مُحكم، الكلمات تُختار بشكلٍ رائع جداً، أحسن الحديث، ولهو الحديث الكلام الفارغ الذي لا طائل منه، ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ كتاب فيه تنويع، قصة، مشهد، خبر، تاريخ، آية كونية، حُكم فقهي، مثل، هذه كلها تُعطي النفس شوقاً وإقبالاً لعلة التنويع والإحكام. 

 

آيات القرآن الكريم يشبه بعضها بعضاً في الحكمة والدقة والإعجاز والنظمِ:


قال: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ كل آياته يشبه بعضها بعضاً في الحكمة، وفي الدقة، وفي الإعجاز، وفي النظمِ، متشابهة، كل الآيات متشابهة لا تستطيع أن تفضِّل آية على آية، ولا مشهداً على مشهد، ولا سورة على سورة، ولا مقطعاً على مقطع، ولا جزءاً على جزءٍ، متشابه، كله في منتهى الروْعَة ومنتهى الدقة، لكن المؤمن قد ينكشف له وجه الإعجاز في بعض الآيات، ولا ينكشف له وجه الإعجاز في آياتٍ أخرى، فإذا أقبل على هذه الآيات، لا لأن هذه أرقى، لا، الكتاب في مستوى واحد من حيث الإتقان، الإعجاز، الدقة، الإحكام، البلاغة، الصواب. 

هذه الآيات علامة المؤمنين إذا ذُكِر الله وجلت قلوبهم، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، فالمؤمن إذا قرأ آيات الرحمة أو قرأ آيات العذاب لاقشعر جلده، يقول لك: جلدي اقشعر، أو يقول لك: نَمَّلَ أي شعر بصدمة انفعالية جعلت جلده يقشعر من شدة الخشوع، وأحياناً تأتي آيات البشارات؛ بشرى وراء بُشرى، وصف أهل الجنة وهم في الجنة يتنعمون، تطمئن النفس، إذاً هذا الكتاب متشابه، مثانٍ، أي فيه وصف أهل الجنة وأهل النار، الدنيا والآخرة، الخير والشر، الإيمان والكفر، الإخلاص والخيانة، أي القرآن فيه نماذج متناقضة، أو أن كل آيةٍ تنثني على أختها فتفسِّرُها:

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)﴾

[  سورة القدر ]

آية ثانية:

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾

[ سورة الزمر ]

إذاً أنت في ليلة القدر ينبغي أن تُقدِّر الله حق قدره، من التقدير والتعظيم، فكل آيةٍ تنثني على أختها فتفسرها، هذا معنى كلمة "متشابهاً" ، هذا معنى "مثاني"

 

رحمة الله عزَّ وجل هي غاية الغايات:


﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أي إنّ القلوب لتصدأ، قيل: وما جلاؤها؟ قال: ذكر الله. ذكر الله يطمئن القلب، والإنسان سعادته بقلبه، قد يتوافر له كل شيء ويفقد رحمة الله عزَّ وجل فلا يجد شيئاً، وقد يفقد كل شيء ويجد رحمة الله عزَّ وجل فلا يشعر أنه فقد شيئاً، فرحمة الله عزَّ وجل هي غاية الغايات، قال: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾ العقل المستنير، والقلب المطمئن، والجسد الليِّن في الطاعات، كله طاعات، عينه تغض عن محارم الله، وأذنه لا تستمع إلا إلى الحق، ولسانه لا ينطق إلا بذكر الله، ويده لخدمة الناس لا للبطش، ورجله ليأتي إلى المساجد، فأعضاء الإنسان ليِّنةٌ في الطاعات، ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي هذا الهدى ليس مِلك أحد، ولكن كل واحدٍ بإمكانه أن يصل إليه، ففي العصور الوسطى كان رجال الدين المسيحي يبيعون صكوك الغفران، ويبيعون قِطَعاً في الجَنَّة، أوراق طابو رسمية، فجاءهم رجلٌ خبيث جداً أراد أن يشتري منهم النار، استغربوا ما هذه الصفقة؟! ما شأنك بها؟ هذه رغبتي، فاشتراها بثمنٍ بخس، الجنة كانت غالية جداً يشترونها شراءً بالمال، بعد أن اشتراها أذاع بين الناس: لا تشتروا في الجنة فأنا اشتريت النار وأغلقتها، فاضطر الذين باعوه النار أن يشتروها منه ثانية بأعلى الأثمان - وقد وقعت هذه القصة فعلاً - بعد أن باعوه جهنم اشتروها منه، أوقف لهم البيع كله. طبعاً هذا الهدى ليس مِلك أحد، إنه من عند الله يعطيه من سأله، قال: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ من يشاء، كل من شاء الهدى ودفع ثمنه وصل إليه: 

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾

[ سورة المائدة ]

 

رحمة الله عزَّ وجل لها ثمن ثمنها:

 

1 ـ تقوى الله:

رحمة الله عزَّ وجل لها ثمن، ثمنها تقوى الله..

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾

[ سورة الحجرات ]

هذا أول ثمن. 

 2 ـ طاعة الله و الرسول:

﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)﴾

[  سورة آل عمران ]

ثاني ثمن.  

3 ـ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة:

﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)﴾

[ سورة النور  ]

ثالث ثمن.  

4 ـ الإنصات عند سماع القرآن الكريم:

﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)﴾

[  سورة الأعراف ]

رابع ثمن.  

5 ـ الإحسان:

﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾

[  سورة الأعراف  ]

خامس ثمن.... الخ، أثمان واضحة. 

 

تفاضل العباد عند الله عز وجل بطاعتهم له:


لذلك النبي ماذا قال؟ قال: "اللهم إنا أسألك موجبات رحمتك" ، الموجبات، اطلب الموجبات، لو فرضنا أباً مَلِكاً، طلب منه ابنه - ضربت مرة هذا المثل- طائرة خاصة، فقدمها له، القضية سهلة جداً، يخت في البحر، هذا يخت، قصر، هذا قصر، لكن بعد ذلك طلب هذا الابن أن يكون أستاذاً في الجامعة فقال له: هذه ليست لي، هذه عليك، فهذا الابن عليه أن يطلب موجبات هذه المرتبة العلمية، موجباتها يدخل الجامعة، موجباتها الكُتب، موجباتها الأساتذة، فأن تسأل رحمة الله بلا ثمن هذا عمل فيه حُمق، النبي عليه الصلاة والسلام سأل رحمة الله لكن سأل معها موجباتها، فالأمر بمنتهى البساطة فيه وضوح، علاقتك مع الله تشبه القوانين، أتحب أن تلقى الله عزَّ وجل؟ أن تتصل به؟ القضية سهلة كثيراً:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[  سورة الكهف ]

تحب أن ترتاح نفسك؟ القضية سهلة:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت ]

تحب حياة طيبة؟

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

اقرأ القرآن تجده كله قوانين، كل شيء له ثمن، فأنت ادفع الثمن وخُذ النتيجة، لا يوجد زيد وعُبيد، كلنا عباد الله عزَّ وجل، الناس سواسيةٌ كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى..

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات  ]

لا يوجد تمايز إطلاقاً، فكلنا عباد الله، نتفاضل عند الله بطاعتنا له. 

 

الهدى مبذول لكل الناس:


﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾ أيْ هذا الهدى، قلب ليِّن، عقل مستنير، جسد ليِّن بالطاعة، نفس متفائلة، واثق من الله، راضٍ عن الله، متوكِّل على الله، مستسلم لأمر الله، موَحِّد، أعصابه مرتاحة، ليس عنده أية مشكلة، هذا الهُدى بمجموعه، الجانب الفكري، والنفسي، والجسمي، والاجتماعي، والعلاقات، والمهن، والزواج..﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فالهدى مبذولٌ لكم يا عبادي، أحياناً يكون مثلاً هناك بثّ إذاعي، كل واحد أحضر جهاز استقبال يسمع الإذاعة، اشترِ الجهاز واسمع البث موجود للكل، مبذول للكل، ما عليك إلا أن تقتني جهاز الاستقبال وتسمع الأخبار أو القرآن، البث مستمر، الهدى مبذول، أخي حتى يهدينا الله، كلام مضحك، الله هداك وانتهى الأمر، الهدى مستمر، عليك أن تستقبل الهدى، الهدى مستمر، لماذا لا تصلي؟ الله لم يكتب لي الهدى بعد، من قال لك ذلك؟ هذا كلام شيطاني، الهدى مبذول، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ عليك أن تستقبل الهدى، ولكنك تحتاج إلى جهاز الاستقبال، تحتاج إلى قلب، قلب فارغ من الشهوات، ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه، قلب فارغ من الشهوات ليستقبل الهدى من الله عزَّ وجل، درسنا عن القلب اليوم.

 

الإنسان المعرض عن الله إنسان مضل ضلالاً جزائياً مبنياً على ضلال اختياري:


﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ ..فإذا رأى الله عزَّ وجل إنساناً معرضاً عنه، مصراً على الدنيا، هذا الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، هذا ماله من هاد، هذا منتهٍ، أحياناً يرى المؤمن بحياته أشخاصاً بعيدين جداً عن الله عزَّ وجل، لا يبالي أحدهم من أين يكسب المال؛ من حرام؟ من حلال؟ همه كله أن يجمع المال، ظُلم، عدل، قسوة، عدوان، احتيال، كيفما كان يريد المال، هذا ميت، منتهٍ، هذا لا خير فيه إطلاقاً، فالذي لا يبالي أطاع ربه أم عصاه، أغضب ربه أم لم يغضبه، كله سيَّان، هذا إنسان ميت، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ .

 

من أصرّ على الدنيا ومالها الحرام يتقي نار جهنم يوم القيامة بوجهه:


الآن يوجد صورة مؤلمة جداً، الإنسان أحياناً يُدْفَع إلى النار، ماذا يفعل؟ لو أن مدفأة مشتعلة ومتوهِّجة وإنسان دُفِعَ إليها، تجده يتقي النار بيديه، أخف من حرق الوَجه، أما إذا كان مقيِّد اليدين ودُفع إلى النار فبماذا يتَّقيها؟ بأكرم أعضائه وهو وجهه، إنسان يتقي النار بوجهه؟!! وإذا ضرب فإنه يتقي الضربة بيده، أحياناً بكتفه، أما إذا اتقى الضربة بوجهه فهذه حالة مؤلمة جداً، قال: هؤلاء الذين أصروا على الدنيا، وأصروا على مالها الحرام، وانقطعوا عن الله عزَّ وجل، أعرضوا عن طلب العلم، ابتعدوا عن الحق، هؤلاء: 

﴿ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)﴾

[ سورة الزمر ]

 لأن يديه مغلولتان، الأغلال في يديه وفي عنقه، يُرمى في النار، يتقي هذا الوهج وذاك الجَمْرِ بوجهه، ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ أحياناً تجد شخصاً يكسب مالاً حراماً ويفتخر ويقول: دَبَّرت حالي، يظن حاله ذكياً،  مُنتهى الغباء، منتهى الحمق، منتهى الجهل، تأتي ساعة يقال له: ذُق ما كنت تكسب:

﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)﴾

[  سورة التوبة ]

 

كلّ شي له ثمن:


هنا: 

﴿ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(24)﴾

[ سورة الزمر ]

تصور حالك، كل حركاتك وسكناتك مراقب مصوَّر، صورة وصوت، ثم اقتيد الإنسان ليحاكم، عرضوا عليه الشريط، لماذا فعلت كذا؟ هذه ممنوعة، لماذا فعلت كذا؟ ؟ حدثونا عن رجل من الأغنياء، هو غني كبير وجاءته المَنِيَّة، أولاده خافوا عليه من أنكر ونكير - وهي قصة رمزية- طلبوا من شخص فقير جداً أن ينام مع والدهم ليلة في القبر لعله يؤنس وحشته وأعطوه مبلغاً كبيراً، فحينما قدم الملكان لهذا القبر رأيا رجلين، غريب هذا الموضوع، يوجد اثنان، هذا سمع حركة فخاف فحرَّك رجله، فقالوا: هذا حيّ وليس ميتاً، نبدأ به، كان يلبس كيساً من الخيش وقد ربطه على جسده بحبل، فسألاه: من أين هذه الحبل؟ قال لهم: من البستان، كيف دخلت للبستان؟ نزلوا فيه ضرباً إلى أن أرهقوه من الضرب، كيف دخل للبستان بدون إذن ليحضر هذا الحبل؟ فلما خرج من القبر في اليوم الثاني قال لهم: أعان الله والدكم، فكل شيء له ثمن، الذي يقبض مالاً حراماً، يلعب على الناس، يغتصب بيوتاً، يغتصب أراض، يكذب، يحتال، يغش، يبيع أشياء كلها من نوع سيئ جداً بمواصفات عالية، يلعب بالحسابات، يحسب نفسه ذكياً، الآن كل الغش محرم بالإسلام، وتقريباً أكثر البيع غش، والتاجر يرى نفسه ذكياً لأنه قدر أن يجمع ثروة طائلة، وأنشأ بناية، واشترى سيارة، وضحكته ملء فيه، يظن نفسه عمل عملاً عظيماً، فانظر: ﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ انتبه:

(( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع؛ عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ أما ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟))

[ صحيح عن أبي بزرة الأسلمي ]

الله عزَّ وجل يجمع العباد يوم القيامة فيقول لأحدهم: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول: يا ربي أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين، فيقول الله: يا عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك، ويقول لعبدٍ آخر: أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول: يا ربي لم أنفقه على أحدٍ مخافة الفقر على أولادي من بعدي، فيقول الله عزَّ وجل: ألم تعلم بأني أنا الرزَّاق ذو القوة المتين؟ إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم. 

 

على الإنسان أن يحرر دخله ويضبط جوارحه ويستقيم في سلوكه فيرتاح ويسعد:


إذا إنسان جمع مالاً حلالاً، وأطاع الله عزَّ وجل، الله عزَّ وجل يكرمه بأن يحفظ له أولاده من بعده، فهذه الآية: ﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ قال عليه الصلاة والسلام لرجل: قل آمنت بالله ثم استقم. قال: أريد أخف من ذلك، فقال النبي الكريم: إذاً فاستعد للبلاء.

 فأنا أتمنى وأرجو الله عزَّ وجل ألا يفرح الإنسان بكسب حرام، لا يفرح بشيء ليس له، هذا: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)﴾

[  سورة النساء ]

فالإنسان عليه أن يحرر دخله، ويضبط أعضاءه، جوارحه، يستقيم ويرتاح. 

 

من أساء وانقطع عن الله عز وجل يأتيه العذاب من حيث لا يشعر:


﴿ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)﴾

[ سورة الزمر ]

 الخزي في الدنيا عذاب شديد، الإنسان يعيش بكرامته، يعيش بمكانته، يعيش بحسن سيرته بين الناس، يعيش بثناء الناس عليه، أما إذا فُضِح، ومزَّقته الألسنة، ونهشته الأفواه، وأصبح في الحضيض، في الوحل، في مزبلة التاريخ،  والله هذه مشكلة، هذه مصيبة في الدنيا قبل الآخرة، هؤلاء الذين أساؤوا وانقطعوا عن الله عزَّ وجل أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، يتفاجأ من جهة أمنه، يؤتى الحذِر من مأمنه، ﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور