وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة الزمر - تفسير الآيات 27-31، الأمثال في القرآن الكريم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الله سبحانه وتعالى ذَكَرَ قصصاً كثيرة في القرآن الكريم ليتذكر الناس:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الحادي عشر من سورة الزمَر، ومع الآية السابعة والعشرين من هذه السورة، والذي يليها.

يقول الله سبحانه وتعالى: 

﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)﴾

[ سورة الزمر ]

 من معاني هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ذَكَرَ قصصاً كثيرة، فذكر نبياً كريماً له امرأةٌ كافرة، وذكر امرأةً في أعلى مستويات الإيمان صِدِّيَقة وزوجها كافر، وذكر نبياً كريماً وله ولدٌ كافر، وذكر ابناً نبياً كريماً وله أبٌ كافر، فكل من يدَّعي أن بيئته هي سبب تقصيره، وأن وراثته التي ورِثَها عن أبويه هي سبب تقصيره فهو واهم، وإذا ادَّعت المرأة أن زوجها لا يريد الدين وهو سبب تقصيرها، ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ سيدنا يوسف كان شاباً وسيم الطلعة، وكان في بلدٍ بعيدٍ عن بلده، وفي قصر عزيز مصر، وراودته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال، هو شابٌ أعزب، وسيم الطلعة، في قصرٍ منيف، والتي أمرته سيدته، وليس من صالحها أن يفشو الخَبَر، وهناك أكثر من عشرة دوافع تدفعه إلى أن يقترف هذه المعصية، ومع ذلك قال: 

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

[  سورة يوسف ]

 

كلّ حجَّةٍ مزعومةٍ يزعُمُها الإنسان لتكون مبرِّراً له في تقصيره أبطلها الله جلَّ جلاله:


إذاً هؤلاء الأنبياء، وهؤلاء الصديقون بأوضاعٍ مختلفة، لو أن إنساناً مَلَكَ القوَّة في بلدةٍ معيَّنة، وقال: أنا طبيعة عملي لا تسمح لي أن أكون مع المؤمنين، نقول له: سليمان الحكيم أوتي ملكاً لم يؤته أحدٌ من قبله ولا من بعده، ومع ذلك كان نبياً صالحاً، فالفقر ليس حجَّة، والأب الكافر ليس حُجَّة، والمرأة الكافرة ليست حجَّة، والابن الفاسد ليس حجة، كل الحجج المزيَّفة التي يزعمها الإنسان عائقاً بينه وبين الإيمان ربنا جلَّ جلاله أبطلها بأمثلة كثيرةٍ وردت في القرآن الكريم، ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ إن كنت شاباً أو متقدماً في السن أو كنت غنياً أو فقيراً، إن كنت في بيئة غير مؤمنة سيدنا إبراهيم نشأ في بيئةٍ كافرة، تعبد الأصنام، ومع ذلك.

﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)﴾

[  سورة الأنعام ]

والقصَّة عندكم معروفة إلى أن قال:

﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)﴾

[  سورة الأنعام ]

فكل حجَّةٍ مزعومةٍ باطلة يزعُمُها الإنسان لتكون مبرِّراً له في تقصيره أبطلها الله جلَّ جلاله، هذا مما نفهمه من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ .

 

المثل أسلوبٌ تربوي فعّال:


معنى آخر للآية السابقة هو أن الله سبحانه وتعالى ضرب أمثلةً، والمثل أسلوبٌ تربوي، هناك أسلوب التقرير، وهناك أسلوب التمثيل، وهناك أسلوب الصورة، وهناك أسلوب القصَّة، وهناك أسلوب الحوار، وهناك أسلوب الوَصف، وهناك أسلوب المَثَل، فالمثل الذي يضربه القرآن رائعٌ جداً، ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً للذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً، ضع على ظهر حمارٍ كتاباً في الفيزياء، أو في الرياضيات، وبعد حينٍ اسأله عن معادلةٍ، بماذا يجيبك؟ فالذي يُحَمَّل الكتاب ولا يفهمه ولا يعمل به مثله كمثل هذه الدابَّة، ربنا سبحانه وتعالى ضرب مثلاً للكفَّار، قال:

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾

[  سورة المنافقون  ]

﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾

[ سورة الفرقان  ]

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾

[ سورة الأعراف ]

 

أسلوب المثل أسلوبٌ رائعٌ جداً استخدمه القرآن الكريم واستخدمه النبي الكريم:


في القرآن الكريم أمثلةٌ كثيرةٌ جداً، وحقيقة المثل أن المعاني المجرَّدة الدقيقة، حينما تُجسَّد بمثلٍ حِسِّي تصبح واضحةً كقول الشاعر:

من يهن يسهُل الهوان علــيه          ما لجـــرحٍ بمــيتٍ إيلامُ

[ المتنبي ]

* * *

وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ             طويت أتاح لها لسان حســـــود

[ حبيب بن أوس بن الحارث الطائي ]

* * * 

كيف؟

لولا اشتعال النار فيما جاورت       ما كان يعرف طيب عرف العودِ

[ أبو تمام ]

* * *

فأسلوب المثل أن تجسِّد المعاني المجرَّدة بأمثلةٍ حسيَّةٍ، هذا أسلوبٌ رائعٌ جداً وقد استخدمه القرآن الكريم، واستخدمه النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة، وإذا أردت أن تدعو إلى الله عزَّ وجل فاعتمد هذا الأسلوب لأنه أسلوبٌ قرآني، وأسلوبٌ نبوي، النبي عليه الصلاة والسلام قال: عن أنس بن مالك:

((  لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. ))

[ صحيح مسلم ]

 

﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ الآية تحتمل معنيين:

 

1 ـ في القرآن الكريم نماذج بشريَّة نجد مثيلها في كل عصر:

نقل الحقائق اختصاص، تعلَّم من كتاب الله كيف ينقُل الحقائق، مرَّةً بالتقرير، مرَّةً بالتصوير، مرَّةً بالحوار، مرَّةً بالوَصف، مرَّةً بالمشهد الكامل، مرَّةً بالقصَّة، مرَّةً بالمَثَل، فالآية تحتمل معنيين؛ الأول أن في القرآن الكريم نماذج بشريَّة فكل من يزعم لو زعمت امرأةٌ أنه لولا زوجها البعيد عن الدين لكانت امرأةً صالحة، نقول لها: أنتِ أم امرأة فرعون؟!

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)﴾

[  سورة التحريم  ]

والذي له زوجة سيئة جداً، ولها طلباتٌ غير شرعيَّة، فإذا استجاب لها، فالحجَّة قائمةٌ عليه، لقوله تعالى:

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)﴾

[ سورة التحريم  ]

لو أن إنساناً صالحاً، تقياً، نقياً، ورعاً، له ابن ليس على طريق الاستقامة، لا ينبغي أن نتهم الأب من خلال الابن، الله عزَّ وجل ضرب مثلاً سيدنا نوح:

﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)﴾

[  سورة هود ]

الأب؛ سيدنا إبراهيم:

﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)﴾

[ سورة مريم ]

ممكن أن يكون الأب عظيماً في نظر الناس ولكن من المقياس الديني مقصر جداً وقد ينجب ولداً أفضل منه، إذاً الله عزَّ وجل ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، جميع النماذج البشريَّة قد وردت في القرآن الكريم، سيدنا سليمان أُوتي الملك ومع ذلك كان نبياً عظيماً، ما منعه ملكه من أن يكون في أعلى درجات الإيمان والقرب من الله عزَّ وجل. 

إذاً الحُجَّة التي يزعُمها المقصِّرون والعصاة، يا أخي البيئة، والظروف، والمعطيات، والواقع السيئ، والفساد العام، والبلوى العامَّة، وأنا والدي قاس جداً، وأنا لا أقدر على زوجتي،  هذه كلُّها حججٌ باطلةٌ عند الله عزَّ وجل، لأن الله جلَّ جلاله ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، هذا المعنى الأول. 

2 ـ الله تعالى قرَّب إلينا المعاني الدقيقة المجرَّدة بأمثلةٍ حسيَّةٍ واضحة :

المعنى الثاني أنه قرَّب إلينا المعاني الدقيقة المجرَّدة بأمثلةٍ حسيَّةٍ واضحة، فإذا أردت أن تدعو إلى الله عزَّ وجل فاعتمد أسلوب المثل الذي اعتمده القرآن الكريم كأسلوبٍ تربوي رائع التأثير، شديد الفعل في نفس المُستمع: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أنهم يتمتَّعون بحريَّة إرادة، وحريَّة اختيار، وحرية كَسْب، وأن أحداً لا يستطيع أن يجبرهم، أنت حينما تعتقد أنك مجبرٌ على أفعالك فقد انحرفت عقيدتك انحرافاً خطيراً، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، إذا اعتقدت لثانيةٍ واحدة أنك مجبرٌ على أعمالك التكليفيَّة فقد ابتعدت عن العقيدة الصحيحة: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أنك حملت الأمانة، ومن لوازم حمل الأمانة أن الله أعطاك حريَّة الاختيار، وحريَّة الكسب، وأنك إذا ادَّعيت أنك مجبور فهذا خطأٌ في فهمك، وانحرافٌ في عقيدتك، وهذا الادعاء لن ينجيك من الحساب والمسؤوليَّة يوم القيامة، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ لذلك دائماً في الحياة الدنيا المستقيم حُجَّة على غير المستقيم، العفيف حجَّة على غير العفيف، المُخلص حجَّة على غير المخلص، لماذا فلان استقام وأنت لم تستقم؟ لماذا فلان كان عفيفاً وأنت لم تَعُفَّ عن محارم الله؟ لماذا فلان كان مخلصاً وأنت لم تخلص؟ فربنا عزَّ وجل أعطانا حريَّة الاختيار، وأودع فينا الشهوات لنرقى بها صابرين وشاكرين إلى ربِّ الأرض والسماوات.  

 

الله عز وجل اختار اللغة العربيَّة لأنها تتمتَّع بأعلى درجات الدقَّة والرقِيّ:


﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)﴾

[ سورة الزمر ]

عنى عربي، يقال في اللغة العربيَّة: أعرب عن رأيه، أي بيَّن رأيه، أي القرآن العربي واسع البيان، وما اختار الله هذه اللغة العربيَّة إلا لأنها تتمتَّع بأعلى درجات الدقَّة والرقِيّ، ليس هذا في نظر العرب بل في نظر خصومهم، درسنا مادَّة فقه اللغة في الجامعة، وفقه اللغة يتحدَّث فيها أهل اختصاصها عن أقوال الأجانب في قيمة هذه اللغة العربيَّة التي أكرمنا الله بها، لذلك سيدنا عمر يقول: "تعلَّموا العربيَّة فإنَّها من الدين"

أنا في قصة يوسف عليه السلام ضربت بعض الأمثلة، أي اللغة العربيَّة دقيقةٌ جداً في التعبير، ضربت مثلاً فعل نَظَرَ، كيف أن هذا الفعل في اللغة العربيَّة له مفرداتٌ كثيرة، وكل لفظةٍ من ألفاظ النظر تعني النظر مع حالةٍ خاصَّة، وقلّما نجد هذه المعاني الدقيقة في بقيَّة اللغات الأخرى، فمثلاً إذا ظهر الشيء واختفى تقول: لاحَ، وإذا نظرت وأعرضت تقول: لَمَحَ، وإذا نظرت وتمطيت تقول: استشرفَ، وإذا نظرت ودقَّقت بيديك تقول: استشفَّ، وإذا نظرت مسروراً تقول: حَدَّجَ، إذا نظرت مع المحبَّة تقول: حدَّج، وفي الحديث الشريف:

(( حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم، وأقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت عنك قلوبهم، فلا تحدثهم، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: إذا التفت بعضهم إلى بعض، ورأيتهم يتثاءبون، فلا تحدثهم. ))

[ البغوي: الحسين بن سعود: تحقيق وتخريج شعيب الأرناؤوط ]

وإذا نظرت مع المتعة تقول: رَنَا، وإذا نظرت مع الدهشة تقول: حَمْلَقَ، حتَّى ظهر حملاق العين، وتقول: بَحْلَقَ، وتقول: حَدَّقَ، وإذا نظرت بعينك وأدركت بقلبك تقول: رأى، الرؤية تعني العلم، رأيت العلم نافعاً، وإذا نظرت مع الخوف تقول: شَخَصَ.

﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)﴾

[ سورة الأنبياء ]

طبعاً ليس هناك مجالٌ في هذه العُجالة أن نتحدَّث عن خصائص العربيَّة التي اختارها الله لغةً لكلامه.

﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ أي واسع البيان، ولن يستطيع الإنسان أن يضع يده على دقائق النَظْمِ القرآني إلا إذا أتقن هذه اللغة العربيَّة، وعرف كيف تُستعمل الأدوات، وكيف يكون التعبير، وكيف يكون الإيجاز والإطناب والاعتدال بينهما، وكيف يكون التصوير، وكيف يكون ضربُ المثل، على كلّ نظم القرآن علمٌ قائمٌ بذاته، نظم القرآن، كيف نُظِمَت كلمات القرآن، وكيف صيغت جُمَلَهُ، وكيف جاءت أمثلته، وكيف وردت قصصه، هناك دراسات مطوَّلة جداً عن أسلوب القرآن البلاغي.  

 

على الإنسان أن يفهم القرآن الكريم في ضوء قواعد اللغة العربيَّة:


على كلٍّ ربنا عزَّ وجل قال: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ وكلمة عربي نستنبط منها أن هذا القرآن لا يُفْهَمُ إلا إذا أتقنَّا هذه اللُّغة العربيَّة، أن نفهم القرآن على مزاجنا أو وفق أهوائنا هذا ليس من فهم القرآن في شيء، لابدَّ من أن نفهمه في ضوء قواعد اللغة العربيَّة، لذلك علماء العقيدة اشترطوا على المفسِّر أن يكون متقناً للغة العربيَّة، لأنه بين كل كلمة وأخرى وحرف وآخر مسافات كبيرة جداً، مثلاً: ربنا جلَّ جلاله يقول:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)﴾

[ سورة هود ]

هذا قرآن، فكلمة دابَّة جاءت نكرة ولم تأتِ معرفة، ما نوع هذا التنكير؟ إنه تنكير الشمول، أي أية دابةٍ على وجه الأرض على الله رزقها، لو قلنا: الدواب، قد نقصد الأهلية، الدواب البريَّة، الدواب البحريَّة، أما إذا قلنا: ما من دابَّةٍ، نكَّرناها تنكير الشمول، وأما كلمة من فتفيد استغراق أفراد النوع، إذا دخلت إلى صف وقلت للطلاَّب: كلكم له عندي جائزة، شيء، فإذا غاب اثنان لا يستحقَّان الجائزة، لأنك خاطبت الحاضرين، أما إذا قلت: ما من طالبٍ في هذا الصف إلا وله عندي جائزة، هذه المِن تفيد استغراق أفراد النوع، إذاً: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ نملةٌ على صخرةٍ صمَّاء في ليلةٍ ظلماء على الله رزقها، وَعْلٌ في قمَّة جبال همالايا، في القمَّة هناك ينابيع، والشيء الذي يلفت النظر أنك إذا رأيت نبع ماءٍ في قمم الجبال فلابدَّ من أن يكون مستودعه في جبلٍ أعلى، ولابدَّ من تمديداتٍ تحت الأرض، إذاً: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ فهمنا دابَّةٍ ومِن، أما: ﴿ما من دابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا﴾ النفي والاستثناء يفيدُ الحصر والقصر، أي الدواب على الله رزقها، ولا يعني أنه على الله وحده، على الله رزقها وعلى غير الله رزقها، أما إذا قلنا: ما من دابَّةٍ إلا على الله رزقها، صار هنا معنى الحصر، فمعنى الشمول، ومعنى استغراق أفراد النوع، ومعنى الحصر والقصر، لو قلنا: ما من دابةٍ إلا الله يرزقها، ليس على وجه الإلزام يرزقها أو لا يرزقها، أما: ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ صار هناك معنى الإلزام، ربنا جلَّ جلاله ألزم نفسه برزق العباد، هذا القرآن نظمٌ ما بعده نظم، قال تعالى:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾

[ سورة الحجرات ]

﴿الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ تركيب اسمي، والتركيب الاسمي يفيد الاستقرار والاستمرار، بينما التركيب الفعلي يفيد الحدوث والانقطاع، تقول: دخل الطالب، دخل وانتهى دخوله، أما الطالب خلوقٌ، التركيب الاسمي يفيد الاستمرار والاستقرار، فمن صفات المؤمنين الثابتة أنهم إخوة؛ متحابون، متوادون، متناصحون، وكما قال الله عزَّ وجل في الحديث القدسي: عن معاذ بن جبل:

(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتجالِسينَ فيَّ، والمُتزاورينَ فيَّ، والمتباذلينَ فيَّ المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور، يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ. ))

[ الترمذي ومالك: صحيح ]

أما كلمة ﴿إِنَّمَا﴾ فدقيقة جداً، إنما تفيد القصر، أي ما لم تشعر بهذا الانتماء لمجموع المؤمنين فلست مؤمناً، ولم يقل: إنما المؤمنون إخوانٌ، قال: إخوة، الإخوان هم الأصدقاء، أما الأخوة من كانوا من أبٍ أو أم أو من كليهما، فربنا عزَّ وجل رفع مستوى الأخوة الإيمانيَّة إلى أعلى أنواع الأخوة وهي أخوَّة النسب، ومن نظم القرآن الدقيق قوله:

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)﴾

[ سورة البقرة  ]

لا تأكلوا أموالكم، أنا لو نقلت مبلغاً من هذا الجيب إلى هذا الجيب ماذا فعلت؟ هل المقصود بأموالكم أموالكم فعلاً؟ لا، المقصود بها أموال إخوانكم، لماذا قال الله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ قال علماء التفسير: سمَّى الله أموال إخوانكم المؤمنين أموالكم من زاوية وجوب المحافظة عليها فقط، هي ليست لكم، هذا مال أخيك، لكن من زاوية وجوب المحافظة على مال أخيك كأنه مالُك، أحياناً تعطي مركبتك لإنسان وتقول له: أرجوك اجعلها مركبتك، بمعنى حافظ عليها، اعتن بها، لا تجهدها، ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ فأنت منهيٌّ عن أن تأكل مال أخيك، طبعاً إذا كان هذا المال مالك من زاوية وجوب المحافظة عليه فلأن تمتنع عن أكله باطلاً من باب أولى. 

 

إعجاز القرآن البلاغي:


والله لو أمضيت في أن نقف على دقائق نَظْمِ القرآن الكريم ساعاتٍ طويلة، وأشهراً عديدة، وسنواتٍ مديدة، والله لا ينتهي الأمر، لأنه:

﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)﴾

[ سورة الكهف ]

يجب أن نعلم أنه إذا درست قواعد اللغة العربيَّة، ووضعت يدك على إعجاز القرآن البلاغي والنظمي، لشعرت أن هذا الكلام ليس كلام البشر، إنه كلام خالق البشر، لذلك قالوا: فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ.

 ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ أحياناً الأفعال باللغة العربيَّة تكون لازمة، لازمة كأن تقول: نام الطفل، أو غضب أخي، هذا فعل يكتفي بفاعله، وهناك أفعال متعديَّة تحتاج إلى مفعول به، وأفعال ليست لازمة ولا متعديِّة إنها قاصرة، أي لا تتعدَّى إلا بأداة، تقول: نظرت إلى، بحثت في، عجِبت مِن، هناك أفعال لابدَّ لها من أدوات، في القرآن الكريم الذي يلفت النظر أن بعض الأفعال تُسْتعمل معها أدواتٌ غير أدواتها لعلَّةٍ بلاغيَّةٍ أرادها الله عزَّ وجل كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ لا يوجد أكل إلى باللغة، هنا أكل أعطاه القرآن معنى ضَمَّ، ضمَّ المال إليه فكأنه أكله بالباطل، على كلٍّ المجال لا يتَّسع للإفاضة في الحديث عن إعجاز القرآن البلاغي، هذا كلُّه ينطوي بكلمة: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ معنى ذلك كلام غير الله عزَّ وجل ذو عِوَج، لا يستقيم أحياناً، ليس فيه دقَّة، ليس فيه عُمق، ليس فيه مصداقيَّة تقابل الواقع، لابدَّ من خللٍ، من اضطراب، لذلك قال الله عزَّ وجل:

﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾

[ سورة البقرة  ]

 

كلام القرآن المُعْجِز يدفع الإنسان إلى طاعة الله عزَّ وجل:


﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ لعلَّ هذا الكلام المُعْجِز يدفعهم إلى طاعة الله عزَّ وجل، لعلَّ هذا البيان الدقيق، العميق، الواضح، المُعجز يدفعهم إلى طاعة الله عزَّ وجل: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ، ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي ما من كتابٍ من دون استثناء من تأليف البشر إلا وتقف له على خَلَل، أو على عِوَج، أو على نَقْص، أبداً، قال تعالى:

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾

[  سورة المائدة ]

القرآن غير ذي عِوَج، غير ذي خَلَل.

 

من أسباب سعادة المؤمن أن له أمراً واحداً ينصاع له وهو أمر الله عزَّ وجل:


من هذه الأمثلة التي ضربها القرآن الكريم مثل الموحِّد ومثل المُشرك، قال: 

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(29)﴾

[ سورة الزمر ]

أحياناً يموت الأب ويخلِّف أولاداً ولهم معملٌ ضخم، هؤلاء الأولاد متشاكسون، متنافسون، متباغضون، وعندهم موظَّفٌ يعمل في المعمل على عهد أبيهم، فكلُّ أخٍ من هؤلاء يعطيه أمراً مناقضاً للأمر الثاني، هو يتمزَّق إن أرضى زيداً أغضب عُبيداً، وإن لبَّى فلاناً قصَّر مع علان، وإن انحاز إلى هؤلاء أثار حفيظة هؤلاء، ماذا يفعل؟ حياته كلُّها اضطرابٌ، وتمزُّقٌ، وصراعٌ، وحيرةٌ. تصوَّر إنساناً في أعلى درجات الكمال عنده موظَّفٌ مخلص، يعيشان عمراً مديداً في وئامٍ، ووفاقٍ، وراحةٍ نفسيَّةٍ، وسرورٍ، وطمأنينةٍ، وانسيابٍ، وانسجامٍ، أمر واحد. 

لذلك أحد أسباب سعادة المؤمن له مرجع واحد، له أمر واحد ينصاع له وهو أمر الله عزَّ وجل، لا يخاف أحداً، لا يخاف إلا من الله، لا يرجو إلا الله، لا يخشى إلا الله، لا يعقِدُ الأمل إلا على الله، لا يخاف في الله لومة لائم، لا تحزنه الدنيا، حسبه الله ونِعْمَ الوكيل، لذلك حياة المؤمن حياة سعيدة ليس لأنه غني، قد يكون المؤمن فقيراً، ليس لأنه صحيح قد يكون مريضاً، ولكن سلامته النفسيَّة، مشاعره الداخليَّة مشاعر مريحة جداً، لأنه لا يرى مع الله أحداً، لا يرى مع الله متصرِّفاً، وإذا ارتقى لا يرى مع الله موجوداً، الله جلَّ جلاله لا وجود لغيره، فالأحداث التي من شأنها أن تسحق الناس، وأن تقلقهم، وأن تضعهم أمام مسؤولياتٍ، وأمام تمزُّقاتٍ، المؤمنون في منجاةٍ منها، لأنه وحَّد، لا يرى مع الله أحداً، لذلك:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾

[ سورة الشعراء ]

أما الذي يخافُ من زَيد، ويخشى عبيداً، ويحسب حساباً لفُلان، ويأمل عطاء علان، ويرضي هذا، ويغضب هذا، فحياته ممزَّقة، حياته مبعثرة، مشرذمة: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ مستسلم له: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ .

 

التوحيد وحده يضيف على حياة المؤمن طمأنينةً وسعادةً:


والله أيها الأخوة، التوحيد وحده في الدين يضفي على حياة المؤمن طمأنينةً وسعادةً لا توصف، لأنه يخاطب ربه فيقول: يا رب ليس في الكون أحدٌ سواك، تعلم السرَّ وأخفى، تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، لا حول ولا قوَّة إلا بك، لا إله غيرك، لا رافع ولا خافض، ولا معزَّ ولا مذلَّ، ولا معطي ولا مانع، ولا قابض ولا باسط، ولا مغني ولا مفقر إلا أنت، فحينما أيقنت أنه لا إله إلا الله اتجهت إلى الله بكلِّيتك، فسعدت في الدنيا وسعدت في الآخرة. 

أحياناً الكفَّار يقولون: يا أخي لو أن هذا النبي مات وارتحنا منه، قال: 

﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)﴾

[ سورة الزمر ]

 هناك تفكير ساذج عند مُعظم الناس، يظن أنه إذا مات فلان يرتاح ويرث أمواله، فهل أنت لن تموت بعده؟ أو ربما تموت قبله، شخص توفي من المحسنين ترك ألف مليون، أحد الورثة له نصيب كبير، عمل ليلاً نهاراً لأخذ نصيبه من هذه الثروة الطائلة، بعد عدَّة أشهر قبل أن يأخذ درهماً واحداً من هذا الإرث الضخم توفي وهو في الحَمَّام، فهذا الذي يقول: لو مات فلان لاسترحنا منه، هل أنت ضامن أن تعيش بعده؟ فالكفار كانوا يتمنَّوْنَ موت النبي عليه الصلاة والسلام. 

 

﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ للآية التالية معنيان:

 

1 ـ ما من مخلوقٍ إلا وسيموت :

ربنا قال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ أنت بشر، لأنه ما من مخلوقٍ إلا وسيموت، كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت:

والليل مهما طــــال فلا بد من طلوع الفـــجر     والعمر مهما طــــال فلابد من نزول الــــقبر

[ صالح بن محمد بن عبد الله ]

* * *

فالموت حق، الأنبياء ماتوا، والمؤمنون ماتوا، والكفَّار ماتوا، والأغنياء ماتوا، والفقراء ماتوا، والأصحَّاء ماتوا، والمرضى ماتوا، والأقوياء ماتوا، والضعفاء ماتوا، والظالمون ماتوا، والمظلومون ماتوا، وكل مخلوقٍ يموت: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ هم سيموتون أيضاً، يقول لك: مسكين مات، فهل أنت لن تموت؟ ما هذا الكلام؟ مسكين مات، لا شماتة في الموت، يقول لك: فلان مات، وإذا مات؟ وإنك ميتٌ معه، طبيب تراءى له أن مريضه سيموت بعد ساعتين، عاش ثلاثين سنة بعد هذه الكلمة، والطبيب مات بعد اثنتي عشرة سنة، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ ، هذا المعنى. 

2 ـ كلنا عبيد لله عزَّ وجل والله وحده الباقي:

المعنى الآخر: أن كلَّنا عبيدٌ لله عزَّ وجل، والله وحده الباقي، وهو الذي سيحاسبنا جميعاً، وهو الذي سيُوقفنا أمام أعمالنا، لماذا فعلتم؟ لماذا لم تفعلوا؟ ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ .

 

بطولة الإنسان أن يكون مع الحق المبين:


هنيئاً لمن كان على الحق، كل إنسان يدَّعي في هذه الدنيا أنه على حق، القضيَّة سهلة:

﴿ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)﴾

[ سورة المؤمنون ]

كل إنسانٍ يدَّعي أنه على حق، ومعه الأدلَّة، ومعه البراهين، ومعه الشواهد، ويظن نفسه محور العالَم، والناس كلهم جَهَلة، أما البطولة أن تكون على الحق فعلاً، البطولة حينما ترجع إلى الله عزَّ وجل أن تكون مع الله، أن تكون مع الحق المبين، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾

[ سورة النمل ]

يا محمَّد، البطولة أن تكون على الحق فعلاً: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ .

 

خير الإنسان منه وشره منه ويوم القيامة كل نفس بما كسبت رهينة:


﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)﴾

[ سورة الزمر ]

هل يبقى الناس في اختلاف إلى الأبد؟ لا، كلُّ يدَّعي وصلاً بليلى هل نبقى مختلفين إلى الأبد؟ لا، لابدَّ من أن تنكشف الحقائق، لابدَّ من أن يظهر الحق، لابدَّ من أن يزهق الباطل:

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾

[ سورة الإسراء ]

لابدَّ من أن يقف الإنسان يوم القيامة ليحاسب عن أعماله كلها، أما في الدنيا فالإنسان قد يؤتى لساناً ذَرِبَاً، منطقاً، حجَّةً، أما يوم القيامة.

﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)﴾

[ سورة يس ]

فبشكل أو بآخر لو معك كيلو من الذهب الخالص، والناس جميعاً ظنُّوه معدناً خسيساً، لا تبالي بهم، ولو أنك أوهمت الناس أن معك ذهباً خالصاً وهو معدنٌ خسيس، لا تفرح بهذا الإيهام، خيرك منك وشرُّك منك، سعادتك منك وشقاؤك منك، ويوم القيامة.

﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)﴾

[ سورة القيامة ]

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)﴾

[ سورة المدثِّر ]

 

الموت مصير كل حيّ:


إذاً: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ وقد قالوا: سبحان من قهر عباده بالموت، الإنسان له أن يقول ما يشاء، وله أن يفعل ما يشاء، ولكن لابدَّ من أن يموت، وبعد الموت يحكم الواحدِ الديَّان، من العلماء؟ يقوم العلماء أو يقوم بعضهم، فيقول الله عزَّ وجل: كذبتم تعلَّمتم العلم ليقال عنكم كذلك وقد قيل. فالإنسان يمكن أن يكون له في الدنيا مظهر، وقد يوهم الناس أنه كذا وكذا، ولكن عند الله عزَّ وجل ليس بهذه المكانة التي أوهم الناس بها، فمن أدعية الصالحين: "اللهمَّ إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علَّمتني مني، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس فيه أحداً سواك، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أتزيَّن للناس بشيءٍ يشينني عندك" ، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ .

 

أية حجَّةٍ يزعمها الإنسان داحضةٌ عند الله عزَّ وجل لأنه بيَّن له كل شيء:


يقول أحدهم: لعن الله الشيطان، والله هو وسوس لي يا أخي، يوم القيامة تفضل تكلم، الشيطان يا رب، تكلم أيها الشيطان:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

تكلَّم ما شئت، أما الحجَّة الدامغة فلله عزَّ وجل، أخي لولا أن أبي هكذا ربَّاني ما كنت بهذا الوضع، هذا سيدنا إبراهيم، لولا زوجتي، هذا سيدنا لوط، لولا زوجي، هذه السيدة آسيا لولا الفقر، سيدنا محمد كان فقيراً، قال: عن أنس بن مالك:

(( لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ مِنَ اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثَةٌ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِعِيَالِي طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا مَا يُوَارِي إِبِطَ بِلالٍ. ))

[ مختصر الشمائل: أحمد: صحيح ]

ذاق الفقر، وذاق الجوع، وذاق الخَوف، وذاق ترك الوطن، ليس لك حُجَّة، أية حجَّةٍ تزعمها داحضةٌ عند الله عزَّ وجل لأنه بيَّن لك كل شيء.

 

من يشترِ بآيات الله ثمناً قليلاً فقد ظلم نفسه:


﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾

[ سورة الزمر ]

أظلمُ صيغة تفضيل، أظلمُ أي أشدُّ ظُلماً، ما من إنسانٍ أشد ظلماً: ﴿مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾ قال عن الله شيئاً غير صحيح لمصلحةٍ ماديَّة، تكلَّم بالباطل لمصلحةٍ دنيويَّة، قال كلاماً ليس قانعاً به ليرضي زيداً أو عُبيداً، أخفى حقيقةً اتقاءً من فلان، هذا الذي يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، هذا الذي يجرُّ الدين إلى أهوائه، يفسِّر الآيات وفق مِزاجه، يردُّ النصوص التي تكشف غلوَّه، هذا الذي يُسخِّر النصوص لصالحه، هذا الذي يتَّخذ الدين مطيَّةً للدُنيا، هذا الذي يتخذ الدين ليعلو على الناس، ليأكل أموال الناس بالباطل، هذا الذي يتكلَّم على الله عزَّ وجل ما ليس بحق، يوهم الناس بأشياء لمصلحةٍ يريدها، قال: هذا ما من إنسانٍ على وجه الأرض ظلم نفسه كهذا الظلم: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾ الظالم الثاني الذي جاءه الحق فكذَّب به، أعرض عنه، لم يبالِ به، أي ما من رجلين على وجه الأرض أشدُّ ظلماً مِمَّن زوَّر الحقائق الدينيَّة لمصلحةٍ شخصيَّة، كذب على الله، أو جاءه الحق الصريح فرفضه وكذَّب به ليحافظ على مكانته، أو على دخله، أو على ماله، أو على شأنه في المجتمع، هذان الرجلان أشدّ الناس ظلماً لنفسيهما. 


  استغلال الدين لأغراض الدنيا يفقده قيمته:


مرَّة ذكرت مثلاً وأعيده للفائدة: لو أحدنا معه شيك بألف مليون دولار، ظَهْرُ الشيك ورقة بيضاء، ظنَّ أن هذه ورقة ليستعملها لإجراء عمليَّةٍ حسابيَّة، فكتب عليها، ثم انتهى منها فمزَّقها، ثمَّ اكتشف بعد ذلك أن هذه الورقة التي مزَّقها قيمتها ألف مليون دولار، ماذا يفعل بنفسه؟ هذا الدين حينما تستغلَّه لأغراض الدنيا، حينما تَجُرُّهُ لمصالحك ولأهوائك تكون قد جهلت قيمته، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ إذا أردت الدنيا فاطلبها في مظانِّها، اطلبها في التجارة، والصناعة، والزراعة، وفي الأعمال، لكن دع الدين في مكانه العلوي، دع الدين في صفائه، دع الدين في السماء ولا تنزله إلى الوحول من أجل دريهماتٍ تكسبها: 

﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(32)﴾

[ سورة الزمر ]

 لينتبه الإنسان، ليطلب الدنيا من مظانها لا من الدين، ليجعل الدين في عليائه صافياً نقياً طاهراً، ليفصل كل مصلحةٍ ماديَّةٍ عن الدين، إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور