وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 01 - سورة الأحزاب - تفسير الآيات 1 - 3 عظمة النبي وتقوى الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

خصوصية نداء الله للنبي بلفظ الرسالة والنبوة دون سائر الأنبياء:


أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة الأحزاب، ولهذه السورةِ أهميَّةٌ خاصَّة في التنظيم الاجتماعي، يقول الله سبحانه وتعالى في مطلع هذه السورة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ ..الشيء الذي يَلْفِتُ النظر هو أن الله سبحانه وتعالى خاطب معظم الأنبياء بأسمائهم، فقال: 

﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)﴾

[  سورة البقرة ]

وقال: 

﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)﴾

[  سورة آل عمران ]

وقال: 

﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)﴾

[ سورة هود ]

وقال: 

﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)﴾

[ سورة مريم ]

فمعظم الأنبياء خوطِبوا بأسمائهم، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام تكريماً له، وبياناً لعظيم شأنه عند الله، النبي وحده لم يُخاطَب باسم ذاته؛ بل خوطِبَ بوصفه الذي بيَّنه القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ .. 

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾

[  سورة المائدة ]

ففي الخطاب ليس هناك إلا خطابٌ بألقاب النبي، وبالتعبير الدقيق بأسماء صفاته، الإنسان له اسم ذات، وله اسم صفة، فقد يكون اسم الإنسان سعيداً، وقد تكون صفته طبيباً، مثلاً، فإذا قلنا: يا سعيدُ، خاطبناه باسم ذاته، أما إذا قلنا: يا أيها الطبيب، خاطبناه باسم صفته، فالنبي عليه الصلاة والسلام - وهذا شيء دقيق- في القرآن الكريم كلِّه لم يُخَاطَب إلا بأسماء صفاته، ومن أبرز أسماء صفاته أنه نبيّ، وأنه رسول. 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)﴾

[  سورة التحريم ]

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ ..﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ .

 

ورود اسم النبي في معرض الإخبار عنه:


قد يقول قائل: لقد ورد اسم النبي، اسم ذاته في بعض آيات القرآن الكريم.

الحقيقة أن الكلام خبر أو إنشاء، الخطاب هو إنشاء؛ الأمر، النهي، التمني، التَرَجِّي، الاستفهام، الحَض، كل هذه الصيغ يجمعها محورٌ واحد وهو الإنشاء، والخبر هو الحديث عن شيءٍ مضى، فالكلام في علم البلاغة يُقسَّم إلى قسمين، خبر وإنشاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام ورد اسم ذاته في معرض الخبر، ولم يرد في معرض الإنشاء أي الخطاب، فقال الله عزَّ وجل: 

﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)﴾

[  سورة الفتح ]

أي ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يعرِّفنا أن هذا الرجل الذي أمامكم، الذي ترونه رأي العين، الذي نشأ بين ظَهْرَانِيكُم، هذا الرجل الذي اسمه محمَّد هو رسول الله، لا تخاطبوه باسمه، قولوا له: يا رسول الله، يا نبيَّ الله، إذاً: ورد اسم النبي لا في معرض الخطاب، معرض الإنشاء؛ ولكن في معرض الإخبار، والإخبار هدفه أن يعرِّفنا ربُّنا سبحانه وتعالى أن هذا الرجل الذي تعرفون نسبه، وأمانته، وصدقه، وعفافه، والذي نشأ بين ظهرانيكم أنه رسول.. ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ ..

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144)﴾

[  سورة آل عمران  ]

لم يَرِد اسم رسول الله اسم ذاته (محمد) إلا في هاتين الآيتين حصراً، وفيهما أخبر الله سبحانه وتعالى أن هذا الرجل - كما قلت قبل قليل - الذي تعرفون صدقه، وأمانته، وعفافه، ونسبه، إنما هو رسول الله، تأدَّبوا معه، اعرفوا قدره، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته.. 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)﴾

[  سورة الحجرات ]

هكذا، وفيما سوى هذين الموضعين، حتى في الإخبار، ورد اسم النبي باسم صفاته. مثلاً: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)﴾  

[ سورة المؤمنين ]

 

لفظ النبوة والرسالة إشعار بالتعظيم وعلوِّ الشأن:


آياتٌ كثيرة تزيد عن عشر آيات ورد فيها ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بأسماء صفاته لا بأسماء ذاته، هذا الموضوع كلُّه مُفَادُهُ أن النبي عليه الصلاة والسلام له شأنه الخاص عند الله، وكفاه فخراً أن الله سبحانه وتعالى خالق السماوات والأرض أقسم بعمره الثمين قال: 

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾

[ سورة الحجر  ]

وقد زكَّى الله عقله فقال: 

﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾

[  سورة النجم  ]

زكَّى لسانه فقال: 

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)﴾

[ سورة النجم  ]

زكّى شرعه فقال: 

﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾

[ سورة النجم  ]

زكَّى بصره فقال: 

﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)﴾

[ سورة النجم  ]

وزكَّاه كلَّه فقال: 

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾

[ سورة النجم  ]

وأقسم بعمره الثمين فقال: 

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)﴾

[ سورة الحجر ]

 

قيمة البحث في خصوصية خطاب الله للنبي بلفظ الرسالة والنبوة:


الحقيقة قد يسأل سائل: ما قيمة هذا البحث؟ كلُّكم يرى أن المجتمعات الإسلاميَّة مجتمعاتٌ فيها بعض الضَياع، لماذا؟ يعزو بعض العلماء إلى أن ضياع المجتمع بسبب أن المثل الأعلى فيها قد فُقِد، أي ألف خطبةٍ، وألف مقالةٍ، وألف كتابٍ لا يحدث في النفس ما يحدثه المثل الأعلى في نفوس الناس، لأن الأنبياء فعلوا شيئاً لا يصدَّق، لأنهم صادقون مع ذواتهم صدقاً لا حدود له، لأن حياتهم ليس فيها ازدواجٌ أبداً، ليس عندهم ظاهرٌ وباطن، ليس عندهم موقفٌ معلَن وموقفٌ حقيقي، ليس عندهم شيء للاستهلاك، ليس عندهم حقيقة تخالف غير الحقيقة، إنهم كانوا صادقين، اعتقدوا ما قالوا، وقالوا ما اعتقدوا، فعلوا ما علموا، وعلموا ما فعلوا، فلذلك إذا أردت أن يفتح الله عليك في تعريف الناس بالله عزَّ وجل فكن قدوةً ومثلاً أعلى، لأن القدوة والمثل الأعلى من حيث التأثير تفوق في تأثيرها وقوة فاعليَّتها أضعافاً مضاعفةً من الكلمات البَرَّاقة والخُطَب الرنانة.. ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ (1)﴾ ..

 

بيان عظمة شأن النبي:


أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيِّن لنا عِظَمَ شأن النبي، والذي يَلفت النظر أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يقول في آياتٍ أخرى: 

﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)﴾

[ سورة المؤمنون ]

أي ما عرفت قيمة النبي؟ ما عرفت خُلُقَ النبي؟ ما عرفت سنَّة النبي؟ ما عرفت أخلاق النبي؟ إن عرفت أخلاق النبي كان لك نِبْرَاسَاً، وكان لك مشعلاً وضَّاءً، وكان لك قدوةً، وكان لك أسوةً، وكان لك مثلاً.

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذا معنى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ (1)﴾ .

وإعراب يا أيُّها: يا أداة نداء، وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نَصب، والهاء زائدة، والنبي بدل من أيٌّها، هذه صياغة مألوفة في اللغة العربيَّة.. ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ (1)﴾ .. 

﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)﴾

[ سورة الفجر  ]

 

المفهوم الصحيح لهذا الأمر الإلهي للنبي: اتَّقِ اللهَ:


﴿اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ ..أولاً: قد يَفْهَمُ إنسانٌ هذه الآية فهماً غير صحيح، أي ما كل من يقول لآخر: اتقِ الله، يُفْهَم من هذا الكلام أن المخاطب لا يتقي الله، هناك قاعدةٌ أصوليَّة تقول: إنك إذا أمرت من هو مقيمٌ على هذا الأمر فليس معنى أمرك أنه لا يأتمر بهذا الأمر؛ ولكن معنى أمرك أن تتابع هذا الأمر. أي إذا قلت لابنك: اجتهد، وهو مجتهد، معنى اجتهد حصراً،  استمرَّ على اجتهادك، إذا جاء الأمرُ لمن يطبِّق الأمرَ فالمعنى الاستمرار والدوام، فإذا قال الله عزَّ وجل للنبي عليه الصلاة والسلام: ﴿اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ معنى ذلك: يا أيها النبي تابع طريق التقوى، استمر على تقواك، كن متقياً دائماً، هذا معنى.

المعنى الثاني؛ أن الله سبحانه وتعالى قد يَتَلَطَّفُ بالمؤمنين، فيأمرهم من خلال النبي عليه الصلاة والسلام. 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)﴾

[ سورة الطلاق ]

النبي عليه الصلاة والسلام لم يطلِّق، ﴿إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ فإما أن يكون الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام على صيغة الاستمرار والمتابعة؛ وإما أن يكون أمراً للمؤمنين من خلال أمر النبي عليه الصلاة والسلام، هذا معنى أن يُخَاطب الله نبيَّه فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ .

 

معنى التقوى لغة واصطلاحا:ً


ولكن ماذا تعني كلمة اتقِ الله؟ اتقِ فعل أمر، الماضي وقى، يَقي، قِ، إذاً: وقى مضارعه يقي، وأمره قِ، حرف القاف فقط فعل أمر، لكن اتّقِ ماضيه اتَّقى، ومضارعه يتَّقي، والأمر اتَّقِ، فاتّقى على وزن افتعل، وافتعل فيها معنى المبالغة، أي بالغ في وقاية نفسك من غضب الله، بالغ في وقاية نفسك من سخط الله، بالغ في وقاية نفسك من عقاب الله، اتقِ الله، اتقِ غضبه بإرضائه، اتقِ عقابه بطاعته، اتقِ سخطه باتباع رضوانه، وكيف يُتَبَع رضوان الله؟ بطاعته، فكلمة اتَّقِ الله تعني أطع الله، بشكل مختصر. 

 

مستويات التقوى:


لكن هذه الطاعة لها مستويات؛ من مستويات هذه التقوى أن تطلع على أمرٍ من أوامر الله..  

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور  ]

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)﴾

[  سورة البقرة ]

﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)﴾

[ سورة فصلت ]

إذاً طاعة الله بامتثال أمره، واجتناب نهيه، والوقوف عند حدوده، والحكمة أن تفعل الشيء المناسب، في الوقت المناسب، في القدر المناسب، في المكان المناسب، مع الشخص المناسب، فأن تأتمر بأمره، وأن تنتهي عن نهيه، وأن تقف عند حدوده، وأن تكون حكيماً في فعلك الذي يوافق الشرع، هذا معنى: ﴿اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ ..

ولكن هناك مستوى آخر للتقوى، أنت إذا وقفت أمام مجموعة قارورات فيها مواد كيماويَّة، كُتِبَ على لاصقة كل قارورة اسم المادَّة التي تحتويها القارورة، فأنت عرفت أن هذا صوديوم، وهذا في الماء يغلي، وأن هذا زئبق، وهو معدن غالٍ جداً، وأن هذا المعدن سام، وأن هذا المعدن رخيص، أنت عرفت خواصَّ المواد من خلال اللصاقات، هذه درجة، لكن لو جئنا بإنسان خبير أعطيناه هذه القوارير بما فيها من مواد من دون لصاقات يعرفها، ويقول: هذا زئبق، وهذا صوديوم، وهذا كلور، يشمُّ رائحته، فلذلك إما أن تعرف الشيء بالتعريف به؛ وإما أن تعرف الشيء بنور الله عزَّ وجل، فالتقوى درجات أوَّلها أن تقرأ أمر الله، وتقول: هذا حلال وهذا حرام، هذه درجة، وأرقى من هذه الدرجة أن تتصل بالله عزَّ وجل فيقذف الله في قلبك نوراً كما قال الإمام الغزالي: بهذا النور ترى الحقَّ حقَّاً والباطل باطلاً، ترى الخير خيراً والشر شراً، ترى الصحيح صحيحاً والخطأ خطأ، لذلك: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾

[ سورة الحديد ]

إذاً: ﴿اتَّقِ اللهَ﴾ من بعض معانيها أطع الله، هذا أمر فامتثِله، وهذا نهي فابتعد عنه، وهذا حدّ من حدود الله فلا تقربه، هذا معنى: ﴿اتَّقِ اللهَ﴾ ..

 

المعنى العام للتقوى: اتق الله وأطعه في كل شيء:


هناك معنىً آخر: أي انظر بنور الله، لو فرضنا خطبت فتاتين، الأولى من أعلى مستوى من المستويات التي تطمح إليها، لكن في دينها رقَّة، دينها رقيق، والثانية مستواها أقلّ، لكن في دينها قوَّة، فإذا نظرت إلى الفتاتين بنور الله تختار صاحبة الدين.. تختار الديّنة، من تزوَّج المرأة لجمالها أذلَّه الله، من تزوَّجها لمالها أفقره الله، من تزوَّجها لنسبها زاده الله دناءةً فعليك بذات الدين تربت يداك. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:

(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك. ))

[ صحيح البخاري ]

فإذا أردت الزواج، ونظرت بنور الله عزَّ وجل تختار الدَّيِّنة، ذات الدين على ذات الجمال، وإذا عُرِضَت عليك شراكة، أرباحٌ طائلة، وأعمالٌ كثيرة، وسوقٌ رائجة، ومركزٌ تجاريٌّ رفيع، لكن هذه البضاعة محرَّمة بل فيها شبهة، وإنَّ بعض دخلها حرامٌ، وهناك عمل آخر أقلّ مردوداً، أقلّ شأناً، أقلّ فائدة، لكنَّه حلالٌ مئة في المئة، فإذا نظرت إلى هذين العملين تختار الأقلَّ دخلاً، والأقلَّ شأناً، لأنه أكثر صلاحاً وانطباقاً للشرع، فاتقِ الله. 

أي إذا دخلت إلى بيتين، بيتٍ فخمٍ جداً، وبيتٍ متواضعٍ جداً، وعلِمت أن صاحب البيت الأول قد جمع هذا المال من طرقٍ لا ترضي الله عزَّ وجل، أي إنسان توفي، وترك أولاداً خمس، أحد أكبر الأخوة اغتصب مال الأبِ كلَّه، واشترى هذا البيت، وأثّثه، وزيَّنه، ثم دخلت إلى بيت رجلٍ آخر متواضعٍ جداً، وعرفت أن صاحبه مستقيم، وأن هذا البيت اشتراه بمالٍ حلال، فإذا نظرت بنور الله تقدِّر الثاني، وإذا نظرت بعين الدنيا تقدِّر الأول، فمعنى:﴿اتَّقِ اللهَ﴾ دائماً انظر بنور الله في كسب المال، في إنفاق المال، في اختيار الزوجة، في اختيار العمل، في اختيار الأصدقاء، قد يكون لك صديق ذو شأن، وله مكانة، ويده تطول، وتعلِّق آمالاً كبيرةً على صداقته، وتعلِّق آمالاً في الانتفاع منه؛ ولك صديقٌ آخر أكثر علماً، وتقىً، وصلاحاً، فإذا نظرت بعين المصلحة إلى هذين الصديقين تختار الأول لغناه، ولعِظَم شأنه، ولقوَّته، وإذا نظرت بنور الله تختار الثاني، لأنك تستفيد من علمه، ومن أخلاقه، ومن تقواه، فدائماً ربُّنا سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيا على شكلٍ عجيب، الشيء الذي يَبْرُقُ أمام الناس قد لا يرضي الله، والشيء الذي ليس له بريق قد يكون الخير كلُّه كامناً فيه، فإذا قرأت قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ المعنى الأول: أي أطع الله، أطعه؛ هذا أمر طبِّقه، هذا نهي اجتنبه، هذا حَد لا تقربه، هذا معنى.

المعنى الثاني: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ أي انظر بنور الله، قَيِّم الأشخاص، قيِّم الدخول، قيِّم الأعمال، لو فرضنا أن عملاً يُدِرِّ على صاحبه مئات مئات الألوف، والبضاعة محرَّمة، فإذا نظرت إلى هذا العمل بعين المصلحة ربَّما أقبلت على هذا العمل، أما إذا نظرت إلى هذا العمل بنور الله أحجمت عنه. 

إذاً المعنى في هذه الآية: ﴿اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ المعنى الأول: أطع الله ، هذا أمرٌ، وهذا نهي، وهذا حدّ.

والمعنى الثاني: ﴿اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ أيْ انظر بنور الله، في اختيار شريكة حياتك، في اختيار عملك، في اختيار جيرانك، أي قد تشتري بيتاً بثمن رخيص، وبمواصفات جيِّدة، ولكن له جيران بعيدون عن الله عزَّ وجل، بل إن في أخلاقهم خللاً، فأنت لك بنات ولك أولاد، وربَّما سرت العدوى إلى بيتك، إذاً: اتقِ الله، ولو أنه بيتٌ كبير، وله مناظر مشرفة؛ لكن الجوار لا يرضي الله عزَّ وجل، ابحث عن جيران أفاضل أكارم يتَّقون الله عزَّ وجل، أي المؤمن مأمور أن يتَّقي الله، أن يطيعه أولاً، وأن ينظر بنوره ثانياً في كل مناحي حياته. 

دخلت وغضبت، دخلت إلى البيت فرأيت شيئاً لا يروق لك من زوجتك، اتقِ الله، أي هذه الزوجة يمكن أن تصلحها؛ بحلمٍ، برقَّةٍ، بكلمةٍ، بموعظةٍ، بإعراضٍ، بتأديبٍ، أما أخذتك الحَمِيَّة وطلَّقتها بالثلاث، ونقعت غُلَّتَكَ في هذا الطلاق، بعدئذٍ تعالَ إلى العلماء تسألهم واحداً وَاحداً عن طريقةٍ تفدي بها يمين الطلاق، فأنت يا أخي اتقِ الله في الأول، فلذلك دائماً هناك سؤال كبير: أين عقلك؟ أوضح مثل: لو أن معك جهازاً إليكترونياً تكشف به العملة المزيَّفة، وقبضت مبلغاً من المال كبيراً ثمن بيتك، ولا تملك إلا هذا البيت، والآن صار عُمْلَة، فإذا بهذه العملة كلُّها مزيَّفة، والجهاز في جيبك، ولم تستخدم هذا الجهاز حين القبض، فماذا يقال لك؟ أين عقلك؟ معك جهازٌ يكشف زيف العملة من جَيِّدها، لِمَ لمْ تستخدم الجهاز؟ والإنسان أكرمه الله عزَّ وجل بهذا العقل..﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ .

 

التقوى والطاعة أمران متلازمان:


بالمناسبة، سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام قال الله عنه:

﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾

[ سورة الشعراء  ]

هذه كلماتٌ دقيقةٌ جداً، أيْ الله سبحانه وتعالى وحده يخلُق ويهدي، ويرزق ويشفي، ويُحيي ويميت، ويغفر، الله سبحانه وتعالى وحده متفرِّدٌ بالخَلْقِ، وبالهداية، وبالرزق، وبالشفاء، وبالإحياء، وبالإماتة، وبالمغفرة يوم القيامة، ما دام الله مُتَفَرِّداً في كل هذا هل هناك أشياء أخطر من هذه الأشياء في حياتك؟ أن تُخْلَق، وأن تُهدى، وأن تُرزَق، وأن تُشْفَى، وأن يحيا الإنسان، وأن يموت، وأن تُغْفَر له ذنوبه، ما دام الله متفرِّداً بهذه الأفعال الخطيرة في حياتك فمن باب أولى أن تفرده بالطاعة، والعبادة، والحب، والإخلاص، وما إلى ذلك.

 

سبب نزول الآية التالية:


﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ(1)﴾ .. هذان أمران متكاملان، أي أطع الله ولا تطع الكافرين والمنافقين. 

جاء في أسباب النزول أن كفَّار قريش عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يكفَّ عن آلهتهم، وأن يعتقد أنهم يعبدونها من دون الله لتقرِّبهم إلى الله، وهم في المُقابل يكفّون عن دعوته، وعن دلالته، وعن أي شيءٍ آخر، أي مصالح متبادلة، افعل كذا نفعل كذا، تسامح معنا في هذه الموضوعات نَدعْك وشأنك في هذه الدعوة، فهؤلاء الكفَّار هذا عرضهم، والمنافقون أيّدوهم، فقال الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(1)﴾ .

 

الإنسان بين منهج الخالق وتعليمات المخلوق:


النقطة الدقيقة هي أن الله سبحانه وتعالى وحده ينبغي أن تطيعه، وأن ما سواه:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾

[  سورة الكهف ]

أنت أمام منهجين؛ منهج الخالق وتعليمات المَخلوق، منهج الله ومنهج البشر، توصيةٌ من الله أن تفعل كذا، وتوصيةٌ من زيدٍ أو عُبيد أن تفعل كذا، أي لا يوجد تناسب، ليس هناك تناسب بين خالقٍ ومخلوق، بين قديمٍ ومُحْدَث، بين قوي وضعيف، بين غني وفقير، بين عالمٍ وجاهل، بين مُحِب ومبغض، فالشيء العجيب أن يدع الإنسان هدى ربِّه، وأن يتَّبع هوى نفسه، أو أن يتَّبع توجيهات مجتمعه. 

 

إسقاطات على الحياة اليومية:


بعض الأمثلة التي تنبع من حياتنا؛ الله عزَّ وجل يأمرك أن تغضَّ البصر، ويأمرك ألا تكون في مكانٍ فيه اختلاط، وفيه نساءٌ كاسياتٌ عاريات، وبعض الأشخاص يستحيون من الناس في أعراسهم، ويجلسون أمام النساء الكاسيات العاريات وهم مسلمون، ماذا فعل؟ رأى أن طاعة الناس أولى من طاعة الله. 

بالمناسبة، هذه الكلمات التي يرددها المسلمون: الله أكبر مثلاً، لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، هذه الكلمات لو وقفنا عند معانيها الدقيقة لأخذنا العَجَب العجاب، أي الله أكبر، أي إنسانٍ يطيع مخلوقاً ويعصي خالقاً فهو ما قال: الله أكبر ولا مرَّة، أنت حينما تطيع زوجتك وتعصي ربَّك، ماذا رأيت؟ رأيت أن طاعة الزوجة خيرٌ من طاعة الله، وأن غضب الزوجة شرّ من غضب الله، هكذا، لمجرَّد أن تطيع مخلوقاً وتعصي خالقاً معنى هذا أنك أشركت، فلذلك:  ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1)﴾ أيْ أطع الله أولاً، المعنى الأرقى: انظر بنور الله.

 

إيّاكم وطاعة الغافلين :


﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ (1)﴾ ..أي إيَّاك أن تطيع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، إنسان أعمى يُطاع؟ إنسان جاهل يُطاع؟ لا والله، إنسان له مصلحة ماديَّة يُطاع؟ لا والله، إنسان مُبغض يطاع؟ لا والله، فالكافر والمنافق أولاً في جهل، وفي مصالح، وفي بُغض، وفي حِقد، وفي حسد، ودائماً المقصِّر يحبُّ أن يقصِّر الناس جميعاً. 

الآن اسأل طالباً أهمل وظيفته يقول لك: لم نكتب الوظيفة يا أستاذ، أنت كم واحد؟ أنت واحد، لم نكتب، يستأنس كلَّما كثُرَ المقصِّرون، دائماً العاصي يحب الناس كلهم أن يقصروا، اسأل شخصاً مقيماً على معصية تجد أنه ينصحك فيها: أخي لا يوجد فيها شيء، يقول لك: لا تتزمَّت، لأنه خرق الاستقامة من هذه الناحية، دائماً العاصي ينصحك بالمعصية، المقصِّر ينصحك بالتقصير، الذي يطلق بصره في الحرام ينصحك بأن هذا الشيء فوق طاقة البشر يا أخي، أين أذهب بعيوني؟ فالمؤمن الصادق لا يمكن أن يستنصح كافراً، ولا منافقاً، ولا مقصِّراً، ولا متلبِساً بمعصية، لأن الجواب معروف، سوف ينصحك بما هو فيه، فأنت أمام توجيهين، أمام منهجين، أمام قانونين، أمام دستورين، أمام توصيتين، توصية الخالق وتوصية المخلوق، والخالق أولى. 

ممكن إذا كنت جندياً بثكنة عسكرية، جاءك أمر من عريف، وأمر مناقض ممن هو أعلى رتبة، هل من المعقول أن تنصاع لأمر العريف وتُغضِب الأعلى رتبة؟ يقول لك: عماد أو عميد، ممكن؟ هذا كهذا؟ أيعصى الله عزَّ وجل ويطاع مخلوق؟! هذا ما قاله الله في الحديث القدسي: "إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبَد غيري، وأرزق ويشكر سواي".

 

العلم والحكمة صفتان لذات الله وتشريعاته وأفعاله:


إذاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(1)﴾ ..أي "عليماً" في تشريعاته، "حكيماً" في أفعاله، العليم يُطاع، والحكيم يُطاع، والقدير يُطاع، والغني يُطاع، والمُحِب يُطاع، والعادل يُطاع، واللطيف يُطاع، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا (1)﴾ فيما أمر﴿حَكِيمًا (1)﴾ فيما فعل.

الله عزَّ وجل له أمر تكليفي، وأمر تكويني، يأمرك بغض البصر هذا أمر تكليفي، ينهاك عن الكذب أمر تكليفي، وهناك أمر تكويني أي ساق لإنسان مصيبة، هذا أمر تكويني، جعله عقيماً، جعله ذا عيالٍ كثير، جعل نسله من البنات فقط مثلاً، فهذا أمر تكويني، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا (1)﴾ في أمره التكليفي، وكان حكيماً في أمره التكويني، فأنت إذاً أطع الله، لأنه العليم فيما أمر، الحكيم فيما فعل، فعله حكمة، أي كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وأفعاله متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، فهل من الممكن أن يتوازى أمر البشر مع أمر خالق البشر؟

 

وجوب الانقياد إلى الوحي وتعليماته:


﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ(2)﴾ ..اتبع أي أنت آلة معقَّدة، يوجد تعليمات الصانع، هناك آلة كمبيوتر مثلاً، جهاز معيَّن معه تعليمات، معقول هذا الجهاز المعقَّد الغالي، ثمنه ثلاثون مليوناً، كمبيوتر، تذهب إلى جارك الخضري، وتأخذ منه تعليمات التشغيل؟ لو أعطاك تعليمات ستكون مضحكة، كل إنسان له قدر عند الله، ولكن هذا ليس اختصاصه، ممكن تتلقَّى تعليمات تشغيل كمبيوتر من إنسان جاهل؟ من إنسان لا يفقه ما هذا الجهاز؟ وأنت أغلى على الله من هذا الجهاز، أنت أعقد مخلوق في الكون، ممكن تتلقَّى التعليمات من جهات جاهلة؟ من جهات مغرضة؟ من جهات لها مصلحة؟

 

الوحي كمالٌ مطلَق لا نقص فيه:


﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ (2)﴾ ..لأن الوحي: 

﴿ مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾

[ سورة النجم  ]

الوحي لا يوجد فيه خطأ أبداً، أي الوحي فيه حق مُطْلَق، فيه كمالٌ مطلق، فيه عدلٌ مطلق، كما قال بعض العلماء: "الشريعة عدلٌ كلها، مصلحة كلها - لصالح البشر، أي مصلحتك الحقيقيَّة في الشرع، في الزواج، في الطلاق، في العمل- الشريعة رحمةٌ كلها، الشريعة عدلٌ كلها، مصالح كلها، وكل أمرٍ خرج من العدل إلى نقيضه، ومن المصلحة إلى ضدِّها، ومن الرحمة إلى خلافها، فليس من الشريعة ولو أُدْخِل عليها بألف بابٍ وباب". 

يجب أن تعلم علم اليقين أن هذا الشرع رحمةٌ كله، مصلحةٌ لك، ولأسرتك، ولأولادك، ولمجتمعك، ولبلدك، ولأمَّتك كلِّها، ورحمةٌ كلُّه، عدل ورحمة ومصلحة، وكل أمرٍ خرج من الرحمة إلى خلافها، من العدل إلى نقيضه، من المصلحة إلى ضدِّها، فليس من الشريعة، ولو أُدخِل عليها بألف تأويلٍ وتأويل، مهما حاولت أن تقول: هذا من الشرع، ليس من الشرع ما دام خلاف المصلحة، خلاف مصلحتك، خلاف المنطق، خلاف الواقع، خلاف الفطرة، خلاف العقل، خلاف النقل، ليس هذا من الشريعة، ولو أُدْخِلَ عليها بألف تأويلٍ وتأويل. 

 

أي انحرافٍ عن منهج الله له مضاعفات خطيرة على كل المستويات:


إذاً: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(2)﴾ ..سمعت في بعض البلدان أنهم أرادوا أن يضعوا تشريعاً وضعيَّاً للعلاقات الشخصيَّة، فألزموا كل متزوِّج إذا أراد أن يطلِّق امرأته أن يعطيها نصف ما يملك حصراً، إنسان عنده معمل، إنسان عنده أرض، عنده بناء، إذا أراد أن يطلِّق زوجته فعليه أن يعطيها نصف ما يملك، هذا قانونٌ وضعيّ وضِعَ في بعض البلدان الإسلاميَّة تقليداً للمناهج الوضعية المطبَّقة في بلادٍ لا تؤمن بالله عزَّ وجل، ما الذي حصل؟ الذي حصل أن سوق الزواج بار، أي من خلال مئة شاب لا يُقدِم على الزواج شابٌ واحد، لأنه خلاف الشرع، فسمعت أن آباء الفتيات كانوا يعرضون على أولياء الشباب سندات قانونيَّة بمبالغ طائلة، أنه لو طلَّقها يستحقُّ هذا السنَد، ليتلافى الزوج كتابة نصف ماله لزوجته، أي تعديل طفيف بقانون الأحوال الشخصيَّة خلاف الشريعة بارت سوق الزواج وانتهت، فعندما يشرِّع ربنا عزَّ وجل حكيم، خبير، المرأة لها مهر عند الطلاق تستحقُّه، أما أن تستحقَّ نصف ما يملك زوجها هكذا، صار هناك طلاق كيدي، فبارت سوق الزواج، أي يجب أن تعتقد أن أي انحرافٍ عن منهج الله عزَّ وجل له مضاعفات خطيرة على أي مستوى تشاء.

 

الله تعالى خبير بالنوايا والمقاصد البعيدة:


﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(2)﴾ ..كلمة خبير أبلغ من عليم، العليم يرى أما الخبير فيعرف الدوافع، أنت قد تعلم أن هذا الإنسان أعطى فلاناً هذا المبلغ، هذا علم، أما الخبير فأن تعرف النوايا التي وراء هذا الإعطاء، تعرف المقاصد البعيدة، تعرف طبيعة هذا الإنسان، جِبِلَّتَهُ، تعرف الصراع الذي جرى في نفسه، تعرف لماذا أحجم؟ لماذا أعطى؟ فربنا عزَّ وجل يقول: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(2)﴾ لديه خبرة، أي أنت مكشوف، كل نوازعك، كل صراعاتك، كل مطامحك، كل أهدافك، كله مكشوفٌ عنده.


  إشارات الآية التالية ومفهوماتها:


﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)﴾ ..هنا إشارة، أي أنت إذا اتبعت ما يوحى إليك هناك من يعارضك، هناك من يكيد لك، هناك من يحاول أن يطفئ نور الله عزَّ وجل، هناك من يفعل شيئاً لا يرضيك، لأن معركة الحق مع الباطل معركةٌ أزليَّةٌ أبديَّة، ما دام هناك حق هناك باطل، مادام هناك حق وباطل هناك صراعٌ بينهما، فإذا اتبعت منهج الله عزَّ وجل ربَّما عاداك أقرب الناس إليك، يمكن أن تكون زوجتك تقول: ما كنت هكذا، أنت تغيَّرت، ما هذا دينك السميك؟ يمكن أن يكون أولادك ألا يتحمَّلوا، جيرانك، شركاؤك، أقرب الناس إليك، فعندما يفهم الإنسان الإسلام فهماً اجتماعياً، عواطف دينيَّة، القضيَّة سهلة؛ أما حينما يطبِّق الإسلام تطبيقاً حقيقياً ينشأ من هذا التطبيق المتضرِّرون، المعارضون، فينشأ حوله مشكلة، فإذا أراد الإنسان طاعة الله عزَّ وجل لا يتوقَّع أن الطريق ورود؛ يتوقعَّ أن الطريق فيه متاعب وأشواك. 

أنت إذا كنت في شركة، وأردت أن تطبِّق أمر الله عزَّ وجل، الشركاء لا يرضون عن ذلك، هنالك أرباح طائلة يجنيها الشركاء من بعض الأساليب غير المشروعة في كسب المال، فإذا قلت: أنا لا أوافق على هذا الشيء، تنتهي الشركة طبعاً، لا يتركونك في الشركة، فدائماً وطِّن نفسك أن طاعة الله لها ثمن، ولا يمكن أن تجمع بين الدنيا والآخرة ببساطة.. لأن من أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرته أضرَّ بدنياه.. هذا ليس تشاؤماً، ولكن من طبيعة الأمور أنك إذا أردت أن تقيم منهج الله عزَّ وجل فهناك معارضون، هناك متضرِّرون، هناك من يُسَفِّه هذا الاتجاه، هناك من يقف في طريقك، هناك من يكيدُ لك، جاءت الآية الكريمة: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)﴾ ..

 

من نتائج وجود المعارضين التوكُّل على الله وحده:


أقوى جهة في الكون توكَّل عليها، الله معك، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (3)﴾ لذلك ورد في بعض الأحاديث أنه:  إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله، إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله، إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، ألا تحبُّون جميعاً أن تكونوا أقوى الناس وأكرم الناس وأغنى الناس؟ عليكم بطاعة الله عزَّ وجل، ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)﴾ والله لو توكَّلتم على الله حقَّ التوكُّل، والله الذي لا إله إلا هو زوال الكون أهون على الله من أن يتخلَّى عنكم، ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيَّته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيَّته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه، وفي الحديث: عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم : 

(( (( من كانت الدُّنيا همَّه، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ. )) ))

[ السلسلة الصحيحة :  خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد رجاله ثقات ]

ومَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، أنت تريد، وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد ، لي عليك فريضة، ولك عليّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلِّطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البريَّة، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك، ولا أبالي، وكنت عندي مذموماً

إذاً: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ(4)﴾ هذه الآيات إن شاء الله نشرحها في الدرس القادم.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور