وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة طه - تفسير الآيات 1 - 8 القرآن حمَّال أوجهٍ
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  تفسير كلمة ( طه ) :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الأول من سورة طه . 

بسم الله الرحمن الرحيم : ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ .

أولاً : طه ، قال بعض المفسِّرين : " الله أعلم بمراده " .

وقال بعضهم الآخر : " إن القرآن الكريم إنما صيغَ من هذه الحروف ، وهذه الحروف الهِجائيَّة بين أيديكم ، فإن استطعتم أن تأتوا بمثل هذا القرآن فائتوا بمثله ، وإن استطعتم أن تأتوا بسورةٍ منه فافعلوا " :

﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) ﴾

[ سورة البقرة  ]

تفسير ثالث : " إن هذه الحروف التي صُدِّرت بها بعض السور إنما هي أسماء لهذه السوَر " ، فهذه السورة اسمها : سورة طه ، لكن الإمام الفخر الرازي في تفسيره الشهير يورد تفسيراً لتابعي جَليل هو سعيد بن جبير ، يقول هذا التابعي الجليل : " طه اسمان لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، الاسم الأول الطاهر ، والاسم الثاني الهادي ، والله سبحانه وتعالى يخاطب النبي علبه الصلاة والسلام ويقول له : يا طاهراً من الذنوب ، ويا هادياً إلى علّام الغيوب " ، وهناك تفسيرٌ آخر هو أن الطاء تمثِّل طَرَبَ المؤمنين في الجنَّة ، والهاء تمثِّل هوان الكافرين في النار ، وبعضهم يقول : " طوبى لمن اهتدى " .

 

القرآن حمَّال أوجهٍ :


القرآن كما تعلمون أيها الإخوة حمَّال أوجه ..

﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)﴾

[  سورة الكهف  ]

فإذا قلت : الله أعلم بمراده فقد أصبت ..

﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) ﴾

[  سورة آل عمران ]

وإن قلت : إن طه حرفان ، منهما ومن أمثالهما صيغَ هذا القرآن الكريم ، وهو الكتاب المعجز فقد أصبت ، وإن قلت : إن طه اسمٌ لهذه السورة فقد أصبت ، وإن قلت : إن طه اسمان لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، يا طاهراً من الذنوب ، ويا هادياً إلى علام الغيوب ، فقد أصبت ، وإن كانت طه إشارةً إلى العبارة طوبى لمن اهتدى فقد أصبت ، وإن رمزت إلى الطاء بطرب أهل الجنَّة بالجنَّة ، والهاء هوان أهل النار في النار فقد أصبت ، والله سبحانه وتعالى هو وحده يعلم سرَّ هذين الحرفين ﴿ طه ﴾ .


 

الراجح في كلمة ( طه ) :


لكنَّ الذي يُرَجِّحُ أن هذين الحرفين اسمان لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن الله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ أي يا طه ما أنزلنا عليكَ ، فهذه الكاف هي كاف الخطاب . 

شيءٌ آخر ؛ ورد في بعض التفاسير أن للنبي عليه الصلاة والسلام أسماء كثيرة منها طه و يس .. ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ قبل أن ننتقل إلى الآية الثانية ، إذا كان أرجح التفاسير أن الطاء تعني أن النبي عليه الصلاة والسلام طاهرٌ من الذنوب ، وإذا كانت الهاء تعني أن النبي عليه الصلاة والسلام هادٍ إلى علام الغيوب ، وبما أن المؤمنين قد أُمِروا بما أُمِرَ به المرسلون ..عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :

(( يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا ، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقالَ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك. ))

[ صحيح الترمذي ]

 

موقف المؤمن من هذين الحرفين :


ما موقفنا نحن المؤمنين من هذين الحرفين ؟ هل طَهَّرنا أنفسنا من الذنوب ؟ هل حاسبنا أنفسنا في الدنيا حساباً عسيراً ليكون حسابنا يوم القيامة حساباً يسيراً  ؟ هل راجعنا أنفسنا ؟ هل أيقنا بقوله تعالى :

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ﴾

[ سورة الزلزلة ]

هل راجعنا حساباتنا مساء كل يوم ؟ هل تَبَصَّرنا بأعمالنا أفيها مخالفةٌ ؟ أفيها انحرافٌ ؟ أفيها تقصيرٌ ؟ أفيها معصيةٌ ؟ أفيها خرقٌ لحدود الله ؟ هل طهَّرنا أنفسنا من الذنوب ؟ هل ضبطنا سلوكنا وَفْقَ كتاب الله وسُنَّة رسوله ؟ إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يثني الله عليه بأنه الطاهر الهادي فأين نحن من هاتين الصفتين ؟ هل طهَّرنا أنفسنا ؟ هل طهَّرنا قلوبنا مما سوى الله ؟ هل طهرنا قلوبنا من الأمراض النفسيَّة ؟ من مشاعر الاستعلاء ومشاعر الأنانية  إن صح التعبير- أي الأثرة ، من المشاعر التي لا تليق بالإنسان ، أين نحن من تطهير أنفسنا من الذنوب ؟

يا أيُّها الإخوة المؤمنون ؛ كل صفةٍ وُصِفَ بها النبي عليه الصلاة والسلام لابدَّ من أن يكون للمؤمن منها نصيب ، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد وصفه الحقُّ جلَّ وعلا بأنه الطاهر الهادي فلابدَّ من أن يكون المؤمن على شيءٍ ولو يسيرٍ من الطهر ومن الهدى ، يا طاهراً من الذنوب ، يا هادياً إلى علام الغيوب .

 

رفعة النبي عليه الصلاة والسلام وحرصه على هداية الناس :


شيءٌ آخر ؛ هو أن الله سبحانه وتعالى يبيِّن رفعة هذا النبي الكريم.. ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ كأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قد شَقِيَ بمعنى أتعب نفسه ، حَمَّلها فوق ما تطيق ، إما لأنه تَحَسَّر على قومه ، وتأسَّف عليهم ، وحزن لصدِّهم عن سبيل الله ، إما لأنه رأى أن كل إنسانٍ هو أخوه في الإنسانيَّة ، إما لأن قلب النبي عليه الصلاة والسلام مُفْعَمٌ بالرحمة ، فحينما يرى البشر قد حادوا عن الطريق المستقيم تتفطَّر نفسه ، ويتفطَّر قلبه ألماً لِما سيحلُّ بهؤلاء الناس الغافلين من آلامٍ ومن عذابٍ في الدنيا والآخرة .

 

معاني قوله تعالى : مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى : 


1 ـ الله تعالى يُسَلِّي نبيَّه الكريم ويُخَفِّف عنه بأنه ما كلفه فوق ما يطيق :

﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ .. كأنَّ الله سبحانه وتعالى يُسَلِّي نبيَّه الكريم ، يُخَفِّف عنه ، يطمئنه ، تجاوزت الحد المعقول ، تجاوزت الحد الذي كُلِّفْتَ به ، ما كلَّفناك هذا ، ما كلفناك فوق ما تطيق ، ما أردنا أن تتعب نفسك هذا التعب ، ما أردنا أن تشقى من أجل الناس ، الله سبحانه وتعالى يخفِّف عن نبيه ، ويسلِّيه ، ويبيّن لنا النفس الكريمة التي انطوى عليها .

نحن إن اهتدى الناس اهتدوا ، وإن لم يهتدوا تقول : لا يهتدون ، ماذا أفعل لهم ؟ بماذا يُحِسُّ المؤمن إذا دعا إلى الله ولم يُسْتَجَب له ؟ هل يحسُّ بهذا الإحساس المُضني ؟ هل تتمزَّق نفسه ؟ هل يتفطَّر قلبه لما يرى من إعراض الناس وغفلتهم وانغماسهم في الشهوات وبعدهم عن الحق وتورُّطهم في بعض المعاصي ؟

أيُّها الإخوة الأكارم ... النبي عليه الصلاة والسلام هذا حاله ، وهو على خُلُقٍ عظيم ، وهو سيِّد الخلق ، وهو سيد ولد آدم ولا فخر - كما يقول عن نفسه - وهو العروة الوثقى ، وهو الوسيلة ، وهو صاحب الشفاعة ، إن الله عزَّ وجل يبيِّن لنا رحمة هذا النبي الكريم .

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)  ﴾

[  سورة التوبة  ]

إذا قرأت هذه الآية لا شكَّ أنك تحسُّ عظمة النبي عليه الصلاة والسلام ، كما يقول عليه الصلاة والسلام : عن عائشة أم المؤمنين :

((  يهودية كانتْ تَخْدِمُها فَلَا تَصْنَعُ عائشةُ إليْها شيئًا منَ المعروفِ إلَّا قالَتْ لها اليهوديةُ وقَاكِ اللهُ عذابَ القبرِ ، قالَتْ : فدَخَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَيَّ ، فقلْتُ : يا رسولَ اللهِ هل للقَبْرِ عذابٌ قبلَ يومِ القيامةِ ؟ قال : لا وعمَّ ذاكَ ؟ قالَتْ : هذه يهودِيَّةٌ لا نَصْنَعُ إليْهَا شيئًا مِنَ المعروفِ إلَّا قالَتْ : وقاكِ اللهِ عذابَ القبْرِ ، قال : كَذَبَتْ يهودٌ وهم على اللهِ كُذُبٌ لا عذابَ دونَ يومِ القيامةِ ، قالتْ : ثمَّ مكثَ بعدَ ذلكَ ما شاءَ اللهُ أنْ يمكُثَ فخرجَ ذاتَ يومٍ بنصفِ النهارِ مشتَمِلًا بثوبِهِ محمرةٌ عيناهُ ، وهو ينادِي بِأَعْلَى صوتِهِ : أَيُّهَا الناسُ أظَلَّتْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ الليلِ المظلِمِ أَيُّها الناسُ لَوْ تعلمونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثيرًا أيُّها الناسُ استعيذوا باللهِ من عذابِ القبرِ فإِنَّ عذابَ القبرِ حقٌّ ))

[  الهيثمي  :مجمع الزوائد خلاصة حكم المحدث : رجاله رجال الصحيح‏‏ ]

إذاً النبي عليه الصلاة والسلام يرى المصير ، مقام النبوَّة مقام الرؤيا ، لقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام مصير الإنسان إذا كان معرضاً عن الله عزَّ وحل ، رأى شقاءه الأبدي ، وهو أرحم الخلق بالخلق ، إذاً هو حينما يدعو الناس إلى الله عزَّ وجل ، وهم يعرضون إنه يتفطَّر عليهم ، ويتألَّم ، ويحزن ، من هذه المعاني قول الله عزَّ وجل :

﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) ﴾

[  سورة الكهف  ]

﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) ﴾

[ سورة الأعراف  ]

﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) ﴾

[  سورة النحل  ]

﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)  ﴾

[ سورة فاطر  ]

هذه الآيات الأربعة من هذا القبيل .. ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ هل يؤلمك أن ترى أخاً لك في طريق الضلال أم تقول في نفسك : ما لي وله ليفعل ما يشاء ؟ إن قلت : ما لي وله ليفعل ما يشاء ، فليس في القلب رحمة .

هل تتألَّم إذا دعوت إنساناً لطاعة الله وسخِرَ من هذه الدعوة ؟ هل يتفطَّر القلب ألماً إذا رأيت مَن حولك في طريقٍ الهاوية ؟ إن كنت كذلك فأنت تقفو أثر النبي عليه الصلاة والسلام ، إن كنت كذلك فأنت من أمَّته ، لأن الراحمين يرحمهم الله ، ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ هذا هو المعنى الأوَّل . 

2 ـ النبي الكريم حمَّل نفسه فوق طاقتها كان في الليل قَوَّاماً وفي النهار داعياً :

المعنى الثاني : النبي عليه الصلاة والسلام لشدَّة عنايته بهذا الكتاب تلاوةً ، وتعليماً ، وقراءةً ، وتعبُّداً ، حمَّل نفسه فوق ما يطيق ، إنه يمضي معظم الليل يصلي قائماً إلى أن تورَّمت قدماه ، إنه يمضي معظم أوقاته في تعليم الناس ، وفي توجيههم ، وفي هدايتهم ، إنه يحفظ هذا الكتاب ، وينقله نقلاً أميناً للبشر الذين أنيط هداهم به ، فالله سبحانه وتعالى يخفِّف عنه .. ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ بعض الجُهد ، لا تُحمِّل نفسك ما لا تطيق ، جسدك له عليك حق ، استرح ولو قليلاً ..

﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)﴾

[ سورة المزمل ]

إذاً إما أن تفهم الآية : ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ على أن النبي عليه الصلاة والسلام لشدَّة ما انطوى قلبه على رحمةٍ مُزجاةٍ للبشر كافَّةً إذا رآهم منحرفين ، أو معرضين ، أو ضالين يتفطَّر قلبه ، ويتحمَّل كما تتحمَّل الأم الرؤوم من الآلام حينما ترى أولادها على غير الطريق الصحيح سائرين كالأم تماماً .

والمعنى الثاني أن النبي عليه الصلاة والسلام حمَّل نفسه فوق طاقتها ، فأتعبها ، وكان في الليل قَوَّاماً ، وفي النهار داعياً ، 

قام قومةً واحدة ، ودعا إلى الله ، ولبث في قومه ثلاثة وعشرين عاماً ، حقَّق من خلالها ما لا يفعله البشر قاطبةً ، قَلَبَ وجه الأرض ، أرسى قواعد العدل ، جاء الحياة فأعطى  ولم يأخذ ، قدَّس الوجود ، رعى الإنسان ، كان مثلاً أعلى ، ألم يَدْعُه أترابه حينما كان صغيراً إلى اللعب ، فقال عليه الصلاة والسلام وهو في سنِّ الطفولة : " لم أُخْلَق لهذا " .

ألم ينزل عليه قوله سبحانه وتعالى :

﴿  أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) ﴾

[ سورة الشرح  ]

هذا الحِمل الثقيل ، عبء الدعوة ، عبء الهداية كان يحمله ، ولا يدري ما المخرج ، كيف يدعوهم ؟ بأية صفةٍ يدعوهم ؟ إلى أن أنزل الله عليه الوحي .

ألم يقل الله عزَّ وجل :

﴿ وَالضُّحَى(1)وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) ﴾

[ سورة الضحى  ]

 

اقتداء المؤمن بحرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية الناس :


لذلك هذه الآية : ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ ما أردنا أن يكون هذا القرآن مُتْعِبَاً لك إلى هذا الحد ، ما أردنا أن يكون القرآن يحمِّلك ما لا تطيق ، نحن بعد ألفٍ وأربعمئة عام نتمنَّى على الأخ الكريم أن يحضُر إلى المجلس ليستمع ساعةً في الأسبوع لتفسيره ، قد يأتي في هذا الأسبوع ، وقد لا يأتي في الأسبوع الآخر ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد حَمَّلَ نفسه فوق ما يطيق ..﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ في هذه الآية بيانٌ لِعِظَم شأن النبي عليه الصلاة والسلام ، في هذه الآية بيانٌ لما أُتْرِعَ قلبه من الرحمة ، للرحمة البالغة التي ملأت جوانحه ، في هذه الآية بيانٌ إلى حرصه الشديد على هداية الخلق .

ويا أيُّها الإخوة المؤمنون ... هذا الذي لا يحبُّ الناس ليس أهلاً أن يهديهم إلى سواء السبيل ، يجب أن تُحِبَّ الخلق ، أن تحبَّ الناس جميعاً لأنهم عيال الله ، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله ، يجب أن يمتلئ قلبك رحمةً ، إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ، وما من عملٍ يفوق أن تدلّ الناس على الله عزَّ وجل ، وأن تهديهم إلى سواء السبيل ، وأن تعرفهم بربهم ، إذا عرفوه سعدوا به .. " ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتُّكَ َفاتَكَ كل شيء ، وأنا أحبُّ إليكَ من كل شيء"

 

القرآن تذكرة لمن يخشى :


﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ .. إنه تذكرة ، من هو الذي يخشى ؟ في عالمنا وفي حياتنا اليوميَّة من الذي يخشى ؟ هو الذي يُفَكِّر ، هذا الذي يُعمِل تفكيره في حياته يخشى ، فقد يخشى الإنسان أن يتسرَّب الغاز فيحرق البيت ، تراه حريصاً على ضبط الأمور ، يفكِّر ، هذا الذي يشتري دواءً سامَّاً يخشى أن يكون بين أيدي الأطفال ، يضعه في حرزٍ حريز ، يخشى ، أيْ يفكِّر ، هذا الذي يخشى أن يرسُب في آخر العام ، معنى ذلك أنه يفكِّر عاماً بأكمله ، لو أنه أهمل الدراسة لكان ضياعاً من حياته ، فكأنَّ الذي يخشى هو الذي يفكِّر ، هو الذي يُعْمِلُ فكره ، هو الذي يدرُس ، هو الذي يتدبَّر ، هو الذي ينظُر في الأمر ، يتأمَّل ، فهذا الذي لا يفكِّر لا جدوى منه.

 الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : " ما ناقشت عالماً إلا غلبته ، ولا ناقشني جاهلٌ إلا غلبني " ، لأنه لا يفكِّر .

﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) ﴾

[  سورة فاطر  ]

فكأنَّ الله عزَّ وجل أراد هذا القرآن ليس لكل الناس ، هو لكل الناس ، ولكن لا يستفيد منه إلا من أعمل فكره في أمور معاده ، أما هذا الذي يعيش لحظته ، ويعيش وقته ، وهو مع الناس إن أحسن الناس أحسن ، وإن أساؤوا أساء ، هذا الذي لا يعنيه إلا أن يكسب المال ، لا يعنيه إلا أن ينغمس في الملذَّات ، وهو غافلٌ عن ساعة الرحيل ، عن ساعة نزول القبر ، هذا الذي لا يفكِّر ليس مؤهَّلاً أن يفهم هذا القرآن الكريم ، هو تذكرةٌ لمن يخشى لا لكل الناس ، قيل:

أيُّها الناسُ لا تُعطوا الحكمةَ غيرَ أهلِها فتظلِمُوها ولا تَمنعُوها أهلَها فتظلموهُمْ ، ولا تُعاقبوا ظالمًا فيبطلَ فضلُكمْ ، ولا تراؤُوا الناسَ فيحبطَ عملُكمْ ، ولا تَمنعوا الموجودَ فيقلَّ خيرُكمْ ، أيُّها الناسُ إنَّ الأشياءَ ثلاثةٌ ؛ أمرٌ استبانَ رشدُهُ فاتبعوهُ ، وأمرٌ استبانَ غيُّهُ فاجتنبوهُ ، وأمرٌ اختلفَ عليكُمْ فردُّوهُ إلى اللهِ تعالَى ، أيُّها الناسُ ألا أُنبئُكُمْ بأمرينِ خفيفٍ مؤنتُهُما عظيمٍ أجرُهُما لمْ يلقَ اللهَ بمثلِهما الصمتِ وحُسنِ الخلقِ .

﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ إذا كنت ممن يفكِّر فأنت ممن يخشى ، وإذا كنت ممن تخشى فهذا القرآن لك ، اقرأه وتدبَّر آياته .. ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ لذلك يقول الله عزَّ وجل في آياتٍ أخرى :

﴿  فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى(9)سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10) ﴾

[ سورة الأعلى  ]

هذا المفكِّر يتذكَّر ، من السخْفِ بالمرء أن يستخدم هذا الفكر العظيم ، الذي هو أثمن شيءٍ في الوجود أن يستخدمه لأغراض رخيصة ، لأهداف خسيسة ، لمطالب محتقرة ، فالله كرَّمك بهذا الفكر من أجل أن تعرفه به ﴿ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ أي أيها النبي الكريم لا تُتعب نفسك مع هؤلاء الذين لا يفكِّرون ، لا تجهد نفسك معهم ، إنه لا جدوى منهم ، ما لم يفكِّر فأنت لن تستطيع أن تؤثِّر فيه ، ما دام قد عطَّل تفكيره ، لذلك ربنا عزَّ وجل قال :

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) ﴾

[  سورة محمد  ]

﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)  ﴾

[  سورة التكوير  ]

﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)  ﴾

[  سورة يونس  ]

﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)  ﴾

[ سورة الجاثية  ]

﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)﴾

[  سورة غافر  ]

 

خالق الكون هو من أنزل القرآن :


﴿ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا﴾ .. ماذا أقول في هذه الآية ؟ هل نعلم نحن ممن هذا الكتاب ؟ من عند مَنْ ؟ من عند الذي خلق السماوات والأرض ، ماذا نعلم عن السماوات ؟ من منا يصدِّق أن الرقم التقديري الأولي أن في الفضاء الخارجي ما يزيد على مليون مليون مجرَّة ، أي واحد أمامه اثني عشر صفراً ، مليون مليون مجرة ، وفي المجرَّة والواحدة ما يزيد عن مليون مليون نَجم ، وبعض هذه النجوم المعتدلة يزيد حجمها عن حجم الأرض والشمس مع المسافة بينهما ، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة ، أي الشمس تتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض ، وبين الشمس والأرض مئةٌ وخمسون مليون كيلو متر يقطعها الضوء في ثماني دقائق ، وهذا الكوكب المتوسِّط في برج العقرب اسمه : قلب العقرب ، هذا الكوكب المتوسِّط يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، وأما بعض هذه المجرَّات يبعد عنَّا ستة عشرة ألف مليون سنة ضوئيَّة .

وأن الإنسان حينما طبل وزمر وقال : غزونا الفضاء ، ما قطع من الفضاء الخارجي إلا ثانيةً ضوئيَّةً واحدة ، في حين أن بعض المجرَّات يزيد بعدها عنا عن ستَّة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة .

هذا الذي خلق المجرَّات ، وخلق الأرض والسماوات ، هذا كلامه ، وهذا كتابه ، وهذا المنهج الذي ينبغي أن نسير عليه ، وهذا هو كتابنا وهادينا إليه ، فلذلك شرفُ الرسالة من شرف المُرسل ، إذا كنت في الخدمة الإلزامية ، وجاءتك ورقةٌ من عريف ، لك موقفٌ منها ، فإن جاءتك من رقيب لك موقفٌ آخر ، فإن جاءتك من الملازم ، فإن جاءتك ممن هو أعلى ، فإن جاءتك من قائد الجيش ، وقد وُقِّعَتْ بالأخضر لك موقفٌ آخر، فإن جاءك هذا الكتاب من ملك الملوك ، من خالق السماوات والأرض ، ممن بيده حياتك وموتُك ، ممن بيده كل شيء ، ما موقفك ؟ أيلقيه وراءه ظهرياً ؟ 

﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)  ﴾

[ سورة الفرقان  ]

شرف الرسالة من شرف المُرسل ﴿ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا﴾ .

 

القرآن مفتاحُ سعادتِنا :


والله الذي لا إله إلا هو لو عرفنا عظمة هذا الكتاب ، لو عرفنا تماماً أنه كلام رب العالمين ، وأن كل سورةٍ ، بل كل آيةٍ ، بل كل كلمةٍ ، بل كل حرفٍ ، بل كل حركة من حركات هذا القرآن مفتاحٌ لسعادتنا، منهجٌ لنا ، لكان أمرنا غير ما ترون ، آيةٌ واحدة :

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ﴾  

[ سورة النور ]

كم يعاني الناس من مشكلات ؟ لو أن الإنسان قرأ قوله تعالى وأيقن أن هذا القرآن كلام الله عزَّ وجل ، وأنه لا محالة واقع ، ماذا يفعل ؟ ماذا ينتظر ؟ 

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

لو أن الإنسان قرأ قوله تعالى وهو موقنٌ بأن هذا الكلام كلام الله رب العالمين ، وأن هذا الكلام حقٌّ لا مِرْيَةَ فيه ، ولا شكَّ فيه ..

﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾

[ سورة فصلت ]

من قرأ قوله تعالى :

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[  سورة طه  ]

لو ملكت الملايين ، لو طرت إلى السماء ، لو فعلت الأفاعيل ، ما لم تكن مقبلاً على الله عزَّ وجل فهذا الإنسان أشقى الأشقياء ، هذا كلام رب العالمين .

لو قرأت قوله تعالى :

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

لاختلفت حياتك ، لذلك ماذا أملك حيال هذه الآية ؟ هذا الكتاب.. ﴿ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا﴾ .

﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ﴾  

[ سورة الحشر  ]

على جبل ، وبعض الناس يقرؤونه وهم ساهون لاهون ، يقرؤونه ولا يعملون بأحكامه ، لا يحِلُّون حلاله ، ولا يحرِّمون حرامه ، ولا يتعظون بأخباره ، ولا يخافون وعيده ، ولا يرجون وعده ، يقرؤونه تبرُّكاً ، أو يقرؤونه تعبُّداً ، وهم عنه غافلون ، وعن صهيب بن سنان الرومي :

(( مَا آمَنَ بالقرآنِ مَنْ استحلَّ محارمهُ . ))

[ ضعيف الترمذي : حكم المحدث:  ضعيف ]

 

مذهب الخلف ومذهب السلف في تفسير الآية التالية :


﴿ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ .. سُئِلَ الإمام مالكٌ رضي الله عنه عن هذه الآية فقال : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة " ، لأن هذا السؤال متعلِّقٌ بذات الله عزَّ وجل ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نفكِّر في مخلوقات الله ، أما التفكُّر في ذاته فقد يودي بنا إلى الهلاك ، على كل  مذهب الخلف ومذهب السلف في تفسير هذه الآية .

السلف الصالح قال : " هذه الآية يجب أن نفهمها من غير تكييف ، أي كيف استوى على العرش ؟ ومن غير تحريف ، ومن غير تشبيه ، أي هو كالملك يجلس على كرسي العرش ؟ لا .. ومن غير تعطيل لهذه الآية ، ومن غير تمثيل "، لا تمثِّل ، ولا تعطِّل ، ولا تُشَبِّه ، ولا تحرِّف ، ولا تكيِّف ، هذا مذهب السلف الصالح في فهم هذه الآية .

وأما مذهب الخلف أيضاً فمذهبٌ مقبول ، الخلف يقولون : " هذه الآية كنايةٌ عن الاحتواء على المُلْك ، والأخذ بزمام الأمور كلِّها " ، أي الله سبحانه وتعالى محيطٌ بالكون ، والله سبحانه وتعالى بيده كل شيء ، توحيد الربوبيَّة في هذه الآية ، أي هو الذي خلق ، وهو الذي أمدَّ ، وهو الذي  ربّى ، وهو الذي أعطى ، وهو الذي منع ، وهو الذي عَلا ، وهو الذي قَهَر ، وهو الذي أخذ ، وهو الذي رفع ، وهو الذي خفض ، كل شيءٍ بيده، ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ استواءٌ بمعنى السيطرة والأخذ بزمام الأمور ، هو الواحد القهَّار . 

 

سرُّ اقتران الاستواء باسم الرحمن :


لكنَّ الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى لم يقل : الله على العرش استوى ، ولم يقل : القوي على العرش استوى ، ولم يقل : الغني على العرش استوى ، ولم يقل : الربُّ على العرش استوى ، قال : ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ .. أي أقرب اسمٍ من أسماء الله الحُسنى اسم الرحمة ، أي هذا الذي خلق الكون رحيم ، والذي يحرِّك الأجرام السماويَّة رحيم ، والذي يسوق الرياح رحيم ، والذي يُنْزِلُ الأمطار رحيم ، والذي بيده كل مخلوقٍ رحيم ، أي اطمئن أيُّها الإنسان الأمور بيد الرحمن الرحيم ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ .

شيءٌ آخر هو أن الله سبحانه وتعالى رحمنٌ في ذاته ، رحيمٌ في أفعاله ، العرش هو المُلْك ، أي :

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)  ﴾

[ سورة آل عمران  ]

وقد جاء في بعض الأحاديث القدسيَّة : إن الله عز وجل يقول : 

(( أنَا اللهُ لا إله إلا أنا ، مَلِكُ الملوكِ ، ومالِك الملوكِ ، قُلوبُ الملوكِ بيَدِي ، وإنِ العِبادُ أطاعوني حوَّلتُ قلوبَ ملوكِهم عليهم بالرأفةِ والرحمةِ ، وإنِ العبادُ عَصَوْنِي حولتُ قلوبَ ملوكِهم بالسَّخَطِ والنِّقمةِ فساموهم سوءَ العذابِ ، فلا تَشْغَلُوا أنفسَكم بالدعاءِ على الملوكِ ، ولكن أَشْغِلُوا أنفسَكم بالذِّكْرِ والتَضَرُّعِ أَكْفِكُم ملوكَكُم . ))

[ السلسلة الضعيفة : حكم المحدث : ضعيف جداً ]

 أنا ملك الملوك ، ومالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فإن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد عصوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسُخط والنقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بالملوك وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم . 

هو ملك الملوك ، ومالك الملوك ، وبيده كل شيء صغيرٌ كان أو كبيراً ، جليل كان أو حقيراً . 

 

من لوازم الاستواء الملكية المطلقة للكون خَلقاً وتصرفاً ومصيراً : 


﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ .. من لوازم الاستواء له ، هذه اللام لام الملكيَّة .. ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ لا يوجد آية شاملة شمول هذه الآية .. ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ قال العلماء : له بمعنى أن ما في السماوات وما في الأرض تعود إليه مُلْكِيَّتها ، ويعود إليه التصرُّف فيها ، ويعود إليه مصيرها ، وهذا أوسع أنواع الملكيَّة ، لأنك قد تملك بيتاً ، ولست تنتفع به ، فأنت مؤجّره ، وقد تنتفع بالبيت ولا تملكه ، وقد تملكه وتنتفع به ، ولكن لا تدري أيصدر قرارٌ باستملاكه ؟ ليس لك مصيره ، أما أن تملك الشيء وأن تكون حرَّاً في التصرُّف فيه ، وأن يكون إليك مصيره ، فهذا أوسع أنواع المُلكيَّة ، فالعلماء حينما قالوا : له بمعنى له ملكاً وتصرُّفاً ومصيراً.. ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من النجوم ، والمجرَّات ، والكواكب ، والمذنَّبات ، والكازارات ، قالوا : الثقوب السوداء في الفضاء الخارجي هي أماكن ضغط عالٍ جداً ، لو دخلت الأرض أحد الثقوب السوداء - دقِّقوا في هذا الكلام - لأصبح حجمها كحجم البيضة ، وبقي وزنها كما هو ، الأرض بأكملها إذا دخلت في أحد الثقوب السوداء أصبح حجمها كحجم البيضة وبقي وزنها كما هو ، ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من ثقوب سوداء ، من كازارات ، من مجرَّات ، من نيازِك ، من مذنَّبات ، من فضاء ، ربنا عزَّ وجل قال :

﴿  فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) ﴾

[  سورة الواقعة  ]

المواقع وحدها ، هذه المسافات التي بين النجوم ستة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة ، إذا أحبّ أحدكم ليلاً أن يتسلَّى بعد الدرس ضرب ثلاثمئة ألف كيلو متر - هذا ما يقطعه الضوء في ثانيةٍ واحدة – ضربهم بستين دقيقة ، ثم ضربهم بستين صاروا ساعة ، ثم ضربهم بثلاثمئة وخمسة وستين صاروا سنة ، ثم ضربهم بستة عشر ألف مليون سنة يظهر رقم يحتاج إلى كرار ، لذلك هذه المسافات البينيَّة بين النجوم لا يعلمها إلا الله ..

﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ قال : وما تحت الثرى هذه إشارةٌ دقيقةٌ جداً إلى أن تحت الثرى هناك الثروات ، والمعادن ، والفوسفات، والبترول ، ومناجم الحديد ، ومناجم الفحم ، ومناجم النحاس ، ومناجم المعادن الثمينة ، واليورانيوم .. ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ ، أحياناً يقال لك : هذه صحراء ، نظنُّها صحراء ، فإذا هي مستودعات للمعادن ، والفِلْزات ، والأشياء الثمينة لا يعلمها إلا الله . 

 

الله تعالى يعلمُ السّرَّ وأخفَى :


 ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ .. أي إن جهرت بالقول أو لم تجهر ، إن تنحَّيْتَ مع إنسانٍ إلى مكانٍ بعيدٍ عن الناس ، إلى أرضٍ خاليةٍ عنهم ، وأسررت له كلاماً فإن الله يعلم ذلك .

صفوان بن أميَّة أخذ عُمَيْر بن وهب إلى خارج مكَّة ، إلى الصحراء ، قال له عمير : والله لولا خشية العَنَتِ على أطفالٍ صغار ، ولولا ديونٌ ركبتني لذهبتُ إلى محمدٍ وقتلته وأرحتكم منه ، شخصان لا يعلم بوجودهما إلا الله ، فقال له صفوان : أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر ، وأما ديونك فهي عليّ بلغت ما بلغت فامضِ لما أردت - اقتله وأرحنا منه -  ما كان من عمير إلا أن حمل سيفه وسقاه سمَّاً ، وجهَّز راحلته وتوجَّه إلى المدينة .

في المدينة رآه سيدنا عمر متنكِّباً سيفه فقال : هذا عدو الله عُمَيْر جاء يريد شرَّاً ، أخذ سيفه وقيَّده بحمالة السيف ، وقاده إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، الأمر كان بُعَيْد معركة بدر ، بمعنى أن مجيء عمير إلى المدينة مغطَّى بسبب أنه جاء ليفَكِّ أخاه من الأسر ، فلمَّا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام قال له النبي الكريم : فكَّ أسره يا عمر - فكَّ قيده - فَكَّ قيده ، قال : ابتعد عنه ، فابتعد عنه ، قال : ادنُ مني يا عمير ، تعال ، قال : سلِّم علينا قال : عمت صباحاً يا محمَّد ، قال : سلِّم علينا بسلام الإسلام ، فقال عمير : لست بعيد عهدٍ بالجاهلية -  هذا سلامنا - فقال له النبي الكريم : يا عُمير ما الذي جاء بك إلينا ؟ ، قال :  جئت أفكُّ أخي من قيد الأسر ، قال : وهذه السيف الذي على عاتقك لماذا جئت بها ؟! ، قال :  قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟! ، قال : ألم تقل لصفوان : لولا ديونٌ ركبتني ، وأطفالٌ أخاف عليهم العنت لقتلت محمَّداً ، وأرحتكم منه ؟ ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ فوقف عمير وقال : أشهد أنَّك رسول الله ، والله الذي قلته ما علمه إلا الله وأنت رسوله  ، صار هذا دليلاً قطعيَّاً ، فصفوان امتلأ قلبه فرحاً ، بعد أيامٍ قليلة يأتي النبأ السار ، وهو قتل محمد عليه الصلاة والسلام ، فكان يقول للناس في مكَّة : انتظروا أخباراً سارَّةً بعد أيَّام ، مضى يومان وأربعة ، وخمسة وستَّة ، ومضى أسبوع وآخر ، وهذه الأخبار السَّارة لم تصل إلى مكة ، فكان يخرج إلى ظاهر مكَّة ويسأل القوافل : ماذا عندكم من أخبار ؟ ماذا حدث في المدينة ؟ لم يحدث شيء ، ما أخبار عمير ؟ ، قيل له : لقد أسلم عمير ..﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ تتكلَّم بصوت عال ، تتكلَّم هَمساً ، تأخذ أخاً ، تأخذ صديقاً إلى مكان خالٍ من الناس ، تُحْكِم إغلاق الأبواب ، تُسِرُّ له في أذنه ..﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ تفكِّر في نفسك ، تضمر نيَّةً ، العلماء قالوا : السر ما كان بينك وبين إنسان ، والذي هو أخفى من السر ما كان بينك وبين نفسك ، بعضهم قال : لا ، السر ما كان بينك وبين نفسك ، وأما الأخفى فهو الذي يخفى عنك أنت ، لا تعلمه ، لذلك قال سيدنا علي كرَّم الله وجهه : " علم ما كان ، وعلمَ ما يكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون " .

قد يقول أحدكم : أنا بهذا الوضع مستقيم ، لو معي ألف مليون الله أعلم ، يا ترى تبقى معنا في هذا المسجد ؟ لا نعرف ، من الذي يعرف ؟ الله عزَّ وجل- وعَلِمَ ما لم يكن لو كان كيف كان يكون - لهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، أي ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني 

 

الله تعالى وحده المنفرد بالألوهية :


الآية الأخيرة ؛ ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ .. الله : اسم الذات ،  صاحب الأسماء الحسنى .. ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ الإله المُنْفَرِد بالتسيير ، والذي ينبغي أن تعبده وحده ، الذي يستحقُّ أن تعبده هو الله وحده ، والمنفرد بالتسيير هو الله وحده .. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾ أي ليس في الكون من إلهٍ إلا الله ، والإله هو الذي يسيِّر ، وهو الذي يُعْبَد بالمقابل ، يُعْبَد لأنه يسيِّر ، لأن الأمر كلَّه بيده إذاً ينبغي أن يُعْبَد ..

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود ]

لماذا ينبغي أن تعبده ؟ لأن الأمر كلَّه راجعٌ إليه ، ما دام الأمر راجعاً إليه في كل شيء إذاً ينبغي أن تعبده .

﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) ﴾

[ سورة مريم ]

مشابهاً ، ندًّا ، كُفئاً .

 

أسماء الله كلّها حسنى :


﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ ..أسماؤه كلُّها حسنى ، وصفاته كلُّها فُضلى ، حتى ما يبدو لك ، الجبَّار ، المنتقم .. مثلاً .. المُعطي المانع ، هو يمنع ليُعطي ، قيل:

أَيُّها الناسُ ! إنَّ هذه الدنيا دارُ التِوَاءٍ لا دَارُ اسْتِوَاءٍ ، ومَنْزِلُ تَرَحٍ لا مَنْزِلُ فَرَحٍ ، فَمَنْ عَرَفَهَا لمْ يَفْرَحْ لِرَجَاءٍ ، ولَمْ يَحْزَنْ لِشَقَاءٍ ، ألا وإِنَّ اللهَ تَعَالَى خلق الدنيا دارَ بَلْوَى ، والآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى ، فَجَعَلَ بَلْوَى الدنيا لِثَوَابِ الآخِرَةِ سَبَبًا ، وثَوَابَ الآخِرَةِ من بَلْوَى الدنيا عِوَضًا ، فَيَأْخُذُ لِيُعْطِيَ ، ويَبْتَلِي لِيَجْزِيَ ، وإِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ ، وشِيكَةُ الانْقِلابِ ، فَاحْذَرُوا حَلاوَةَ رَضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا ، واهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِهَا لِكَرِيهِ آجِلِهَا ، ولا تَسْعُوا في عُمْرَانِ دَارٍ ، وقَدْ قَضَى اللهُ خَرَابَهَا ، ولا تُوَاصِلُوهَا وقَدْ أَرَادَ اللهُ مِنْكُمُ اجْتِنَابَهَا ، فَتَكُونُوا لِسَخَطِهِ مُتَعَرِّضِينَ ، ولِعُقُوبَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ .

إذا أخذ الله منك شيئاً ليعطيك أضعافاً مضاعفة ، يبتلي ليجزي ، يمنع ليعطي ، الضار النافع ، يضرُّ لينفع ، الإنسان الضال الله عزَّ وجل قد يضرُّه في صحَّته ، أو بماله ، فيتوب إليه ، فيستقيم على أمره ، فيسعد بقربه ، فالمعطي والمانع ، والخافض والرافع ، يخفض ليرفع ، والمعز والمذل ، يُذلّ ليعز ، المتكبر يذلُّه الله عزَّ وجل ليخضع له ، فإذا خضع له أعزَّه ، وهكذا أسماء الله كلِّها حسنى ، وصفاته كلُّها فُضلى ، ولكن اسأل به خبيراً ، ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) ﴾

[ سورة النحل  ]

لا تسمح لنفسك أن تفهم الاسم الإلهي لوحدك ، قد لا تفهم أبعاده ، فالعلماء قالوا : هناك أسماءٌ لله عزَّ وجل يجب أن تُذكَر مَثنى مثنى " المعطي المانع ، الضار النافع ، المعز المذل لأنه يذلّ ليعز ، ويمنع ليعطي ، ويخفض ليرفع ، ويضر لينفع ، وقد يقهر عبده ، القهَّار ، هذا العبد متكبِّر يقهره ليتوب ، وهكذا.. ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ .

وفي الدرس القادم إن شاء الله عزَّ وجل نبدأ بقصَّة سيدنا موسى ، وفي هذه السورة وردت بأطول روايةٍ لها ، أي أطول قصَّة عن سيدنا موسى جاءت في هذه السورة سورة طه ، وسوف نستعين بالله عزَّ وجل على توضيح بعض المعاني .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور