وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة طه - تفسير الآيات 25 – 50 قصة موسى عليه السلام2.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


الحكمة من عدم وقوع معجزة موسى أمام الملأ :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث من سورة طه .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾

أولاً : هذا النبي الكريم .. سيدنا موسى عليه وعلى نبيِّنا أتم الصلاة والتسليم .. يجب أن يعلم هو قبْلَ غيره أنه نبي ، فحينما أمره الله عزَّ وجل أن يلقي هذه العصا التي بيده فصارت حيَّةً تسعى ، هذه معجزة ، قد يقول قائل : لِمَن ؟ هذه أولاً لسيدنا موسى ، ليعلم سيدنا موسى أنه نبيٌّ مُرْسَل ، وأن هذه معجزة أيَّده الله بها لتكون حُجَّةً له على الذين يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى .

إذاً قد يسأل سائل : لماذا كانت هذه المعجزة فيما بين موسى وبين ربِّه ولم تكن أمام الملأ ؟ هذه أولاً ليتعرَّف النبي بشكلٍ قطعي أنه نبيٌّ مُرْسَل ، كذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءه جبريل في غار حِراء عرف النبي يقيناً أنه نبي وأنه مُرْسَل .

 

من فقه الفتوى جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل :


شيءٌ آخر : استنبط العلماء من هذا ، حينما سأل الله عزَّ وجل نبيَّه فقال : ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾  أي إذا كان الجواب على قدر السؤال ينبغي أن يقول : هي عصا ، فلمَّا قال : ﴿ هِيَ عَصَايَ﴾ نسبها إلى نفسه ﴿ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ استنبط بعض العلماء أنه يجوز أن يكون الجواب أكبر من السؤال ، أو أطول من السؤال ، أو أوسع من السؤال ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام سُئلَ عن البحر فقال عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة :

(( هوَ الطَّهورُ ماؤُهُ الحلُّ ميتتُهُ . ))

[ صحيح البخاري ]

فالنبي عليه الصلاة والسلام أجاب أكثر من السؤال ، وقد ذكرت لكم في الدرس الماضي كيف أن هذا النبي الكريم أراد أن يطيل المُناجاة مع الله عزَّ وجل لما في هذه المناجاة من سعادةٍ لا توصف ، فقال : ﴿ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ وكيف أنه قد شعر لعلَّه أطال ، وأساء الأدب ، فقال : ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ فإذا كان الله يحبُّ أن يتابع نبيُّه الحديث والحوار والكلام يقول له : وما هذه المآرب الأخرى يا موسى ؟ على كل كانت الحكمة من هذا السؤال أن يُلْفِتَ الله نظر سيدنا موسى إلى أن هذه التي بيده هي عصاه ، لأنها بعد قليلٍ سوف تكون حَيَّةً تسعى ، لتكون المفارقة حادَّةً بين ماضي هذه الحيَّة وبين حاضرها .

لذلك تَروي كتب الأدب أن الحجَّاج لقي أعرابيًّا فقال له : " من أين أقبلت يا أعرابي ؟ " ، قال : " من البادية " ، قال : " وما في يدك ؟ " في يده عصا ، قال : عصايَ أرْكُزها لصلاتي - أجعلها سترةً لي - وأعدُّها لِعُداتي ، وأسوق بها دابَّتي ، وأقوى بها على سفري ، وأعتمد عليها في مشيتي لتتسع خطوتي ، وأثِبُ بها النهر ، وتؤمنني من العثر ، وألقي عليها كسائي - أي ردائي - فيقيني الحر ، ويدفئني من القر - القر هو البرد- وتدني إليَّ ما بَعُدَ عني ، وهي مَحمل سفرتي - طعامه - وعلّاقة إداوتي- أي محفظة كتبه - أعصي بها عند الضِّراب ، وأقرع بها الأبواب ، وأتقي بها عَقور الكلاب ، وتنوب عن رمحي في الطعان ، وعن السيف في منازلة الأقران ، ورثتها عن أبي ، وأورثها بعدي ابني . ﴿ وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾  كثيرةٌ لا تُحصى ، هذا هو التفصيل ، ما هي هذه المآرب ؟ مآرب كثيرة .

كان السلف الصالح يحمل بيده عصا يستعين بها في المشي ، يقرع بها الباب ، يقتل بها الحيوان العقور ، وهكذا .

 

الخوف من طبيعة البشر :


﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ﴾ .. ليس القصد إخافتك يا موسى ، خذها ، تروي بعض الكتب أنه خاف منها ، فأمسكها بطرف عباءته ، قال : خذها بيدك ، ولا تخف .. ﴿ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ .. والخوف من طبيعة البشر .

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

[  سورة المعارج  ]

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)﴾

[  سورة النساء  ]

﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولً ا (11)﴾

[ سورة الإسراء ]

فأن يكون الإنسان عجولاً ، وأن يكون ضعيفاً ، وأن يكون هلوعاً ، وأن يكون جزوعاً هذه من طبيعة البشر ، إنها ضعفٌ في بنيتهم ، ولكن هذا الضعف لصالحهم ، لأن الإنسان حينما خُلقَ ضعيفاً من أجل أن يستعين بالله عزَّ وجل ، من أجل أن يلتجئ إليه ، من أجل أن يتوكَّل عليه ، فلو أن الله عزَّ وجل خلقه قوياً لاستغنى بقوَّته ، وشقي باستغنائه ، من حكمة الله عزَّ وجل أن الإنسان خُلِقَ هلوعاً ﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾ آيتان : الآيةُ الأولى : العصا ، وكيف أنه إذا ألقاها تصبح حيَّةً تسعى ، والآية الثانية : يده إذا أدخلها تحت إبطه .. ﴿ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ لا تؤْذَى أنت ، ولا تؤذِي بها ، لكنها تخرج متألِّقَةً منيرةً كالشمس .

 

شرح الصدر مُقَدَّمٌ على التيسير في الأمر :


﴿ آيَةً أُخْرَى* لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى *اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ ..وبيَّنت في الدرس الماضي كيف أن شرح الصدر مُقَدَّمٌ على التيسير في الأمر ، لأن الإنسان ينطلق أول ما ينطلق من حاجةٍ نفسيَّة ، فإذا كان هناك انشراحٌ لإبداء هذا الأمر أقدم عليه ، فإذا كان هناك انشراحٌ لإمضاء هذا الأمر ، ولم تكن وسائلهُ ميسَّرةً لن يحقَّق الهدف ، لذلك لابدَّ من شرح الصدر ، وتيسير الأمر .. ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ .

 

الفصاحة فصاحة الجنان لا فصاحة اللسان :


في بعض الآيات تؤكِّد أن هذا النبي الكريم ؛ في هذه الآية طبعاً ، وفي آياتٍ أخرى أن في لسانه عقدةً ، أي لم يكن طليقاً في الكلام طلاقة أخيه هارون ، حول هذا الموضوع قصَّةٌ طريفة جرت بين واعظٍ وبين نحوي ، فقد جلس نحويّ - أي عالمٌ بالنَّحوِ - في مجلس واعظ ، فَلَحَنَ الواعظ - أي أخطأ في حركة بعض الكلمات - فقال النحوي : " أخطأت " ، هكذا أمام التلاميذ ، فقال له الواعظ : " أيها المُعرض في أقواله ، اللاحن في أفعاله ، أكل هذا لأني رفعتُ ، ونصبت ، وخفضت ، وجزمت ؟ فهلّا رفعت إلى الله يديك بالدعاء ؟ ونصبت بين عينيك ذكر الممات ؟ وخَفَضْتَ نفسك عن الشهوات ؟ وجزمتها عن فعل المحرَّمات ؟ أفلا تعلم أنه لا يُقال للمسيء يوم القيامة : لِمَ لَمْ تكن فصيحاً مُعْرِبَاً ؟ وإنما يقال له : لِمَ كنت عاصياً مذنباً ؟ ولو كان الأمر بالفصاحة لجعل الله الرسالة في هارون ، ولم يجعلها في موسى ، فقال تعالى إخباراً عنه :

﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)﴾

[  سورة القصص ]

فجعل الله تعالى الرسالة فيه - في موسى- لفصاحة جنانه لا لفصاحة لسانه ، فالأمر تابعٌ للجنان - أي للقلب - لا للسان " . أي الفصاحة وحدها لا قيمة لها ، أما إذا أضيفت الفصاحة إلى قلبٍ مُفْعَمٍ بذكر الله عندئذٍ تؤتي ثمارها . 

دخل على سيدنا عمر بن عبد العزيز وفد الحجازيين ، فقام غلامٌ لا تزيد سنُّه عن إحدى عشرة سنة ، فقال الأمير : " اجلس أيها الغلام ، وليقُم من هو أكبر منك سنَّاً " ، فقال : " أصلح الله الأمير ؛ المرء بأصغريه ؛ قلبه ولسانه ، فإذا وهب الله العبدَ لساناً لافظاً ، وقلباً حافظاً فقد استحقَّ الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في أمتي من هو أحق منك بهذا المجلس " ..

فلذلك جعل ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة في أنبيائه مجتمعين أشياء كثيرة ، تكون هذه الأشياءُ دروسًا بليغة ، جعل في لسان نبيٍّ مُرسلٍ من أولي العزم عُقْدَةً ، وجعل لنبيٍّ آخر ابنًا ضالاًّ - سيدنا نوح - وجعل لنبيٍّ آخر زوجةً ليست مؤمنةً برسالته ، وجعل نبياًّ فقيراً ، وجعل نبياً ملكاً ، أي حينما تدور الأمور كلُّها مع الأنبياء هذا من أجل أن يُفْصَل الإيمان عما يلابس بعض الناس من حالاتٍ متفاوتة .

 

الدعاء مخّ العبادة :


﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً﴾ طبعاً التسبيح والذكر المقصود به الكثرة ، لقوله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)  ﴾

[  سورة الأحزاب  ]

فلذلك المطلوب هو الكثرة ، ومن علامة المنافقين أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( من أكثر ذكر الله عزَّ وجل فقد برئ من النفاق . ))

[ الجامع الصغير عن أبي هريرة بسند ضعيف  ]

﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً *قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ .. يا أيُّها الإخوة المؤمنون ؛ المؤمن حينما يدعو الإنسان دعاءً يتعلَّق بصلاح آخرته ، أو صلاح نفسه ، أو تطهيرها ، أو تحليتها بالكمال ، فهذا الدعاء دُعاءٌ طيِّبٌ جداً ، والله سبحانه وتعالى يستجيب له .. ﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ إذا دعوت الله عزَّ وجل أن يهديك سواء السبيل ، إذا دعوته أن يجعلك هادياً مهتدياً ، إذا دعوته أن يحفظك من شرِّ ما خلق ، فلذلك كما قال عليه الصلاة والسلام : عن أنس بن مالك :

(( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ . ))

[  ضعيف الترمذي  ]

 و عن النعمان بن بشير:

(( الدُّعاءُ هو العِبادةُ . ))

[ الشوكاني : فتح القدير : ثابت ]

 و عن أبي هريرة :

(( ومن لا يدعني أغضب عليه . ))

[ ضعيف الجامع : ضعيف ]

 و عن عائشة رضي الله عنها:

(( وإن الله يحبُّ الملحِّين في الدعاء. ))

[ أخرجه البيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عباس وفي سنده انقطاع ]

 وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( لا يزيدُ في العمرِ إلَّا البرُّ ، ولا يردُّ القدرَ إلَّا الدُّعاءُ .  ))

[  صحيح ابن ماجه:  خلاصة حكم المحدث : حسن ]

القضاء الذي نزل يُرَدُّ بالدعاء . ﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ أي هُنا سألتنا فأجبناك ، لكنَّنا في الماضي مَنَنَّا عليك بفضلنا من غير أن تسألنا ، فلأن نُجيبك هذه المرَّة فمن باب أولى ، إذا كنت قد سألتنا فأجبناك ، لكنَّه في الماضي لم تسألنا فأعطيناك . 

 

أنواع الوحي :

 

1 ـ وحي الإلهام :

﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾ .. قال العلماء : " هذا وحي الإلهام " .

2 ـ وحي الغريزة :

هناك وحي الغريزة :

﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)  ﴾

[ سورة النحل ]

 وهناك وحي الإلهام . 

3 ـ وحي الرسالة :

وهناك وحي الرسالة عن طريق سيدنا جبريل ، أغلب العلماء على أن هذا الوحي وحي إلهام .. 

 

الأمر كلّه بيد الله :


﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ﴾ أي في الصندوق ..﴿ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾ ، ﴿ فَلْيُلِقِهِ ﴾ هذه اللام لام الأمر ، والبحر مأمورٌ أن يُلقي هذا الصندوق على شاطئ قصر فرعون ، فإذا كانت أمواج البحر أو ذرَّاتُ مياه البحر مؤتمرةً بأمر الله عزَّ وجل فهل في الحياة شيءٌ أكبر من ذلك يستعصي على الله عزَّ وجل ؟ إذاً الأمر كلُّه بيدِ الله .

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود ]

وهذه الآية جزءٌ أساسيٌ من مغزى القصَّة .. 

 

أوجه تفسيرات قوله تعالى : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي :

 

1 ـ من لوازم محبَّة الله عزَّ وجل أن الخلق كلَّهم يحبُّونك :

﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ .. من أوجه تفسيرات هذه الآية أن الله أحبَّه وحبَّبه إلى خلقه ، لذلك إذا أحبَّك الله ، من لوازم محبَّة الله عزَّ وجل أن الخلق كلَّهم يحبُّونك ، فإذا أحبَّك الخلق فهذه علامة محبَّة الله لك .. ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ والحديث القدسي الذي أتلوه على مسامعكم كثيراً هو قول سيدنا داود :

(( يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحب عبادي إليّ تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني ، وحببني إلى خلقي قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ، ذكرهم بآلائي كي يعظموني ، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني ، وذكرهم ببلائي كي يخافوني . ))

 

[ علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وروايته عنه منقطعة ]

دور العبد الصالح مع ربِّه أنه يحبُّ الله ، ويحبُّ أحبابه ، ويُحَبِّب الخلق إليه ، إذا أحبَّك الله عزَّ وجل حبَّب الناس إليك ، وإذا أحببته أنت يجب أن تحبَّه ، وأن تحبَّ من يحبَّه ، وأن تحبِّب الناس إليه .. فقال : (( أحبُّ الناس إلي تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء ، أحبَّني ، وأحبَّ من أحبَّني ، وحبَّبني إلى خلقي ، فقال داود : يا رب إنك تعلم أني أحبُّك ، وأحبُّ من يحبُّك ، فكيف أحبِّبك إلى خلقك ؟ قال : ذكِّرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي )) إذا ذكَّرت الخلق بآلاء الله ، وبنعمائه ، وببلائه فقد حببت الخلق إليه ، إنك إن ذكَّرتهم بآلائه استعظموه ، وإذا استعظموه طبَّقوا أمره ، وإنك إن ذكَّرتهم بنعمائه أحبُّوه ، وإذا أحبُّوه طبَّقوا أمره ، وإنك إن ذكَّرتهم ببلائه خافوا منه ، وخوفهم منه يحملهم على تطبيق أمره ، فالهدف واحد ، وهو أن يطيعوه ، إما أن يطيعوه عن طريق التعظيم ، وإما أن يطيعوه عن طريق المحبَّة ، وإما أن يطيعوه عن طريق التخويف..

ذكِّرهم بآلائي ونعمائي وبلائي .

2 ـ رَحِمْتُكَ فأحبَّك الناس :

قال بعض المفسِّرين : ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ أيْ رَحِمْتُكَ فأحبَّك الناس ، أي إذا تجلَّى الله على قلب الإنسان بالرحمات انصرفت قلوب الناس إليه ، لأن قلبه يصبح مهبطاً لتجلّي الله عزَّ وجل ، عندئذٍ تهفو القلوب إلى هذا القلب المتصل ، لذلك لو أن الإنسان أُتيح له أن يلتقي بنبيٍّ عظيم لا يوصف مقدار السعادة التي تتأتَّى من مجرَّد اللقاء ، لو لم ينطق بكلمة ، إن هذه النفوس العظيمة التي أقبلت على الله عزَّ وجل ، واستنارت بنوره ، فكانت مهبطاً لتجليَّات الله عزَّ وجل ، إذا كان هناك لقاءٌ ، أو اتصالٌ ، أو محبَّةٌ ، أو محاككةٌ بينك وبين قلب المتصل سَرَت هذه الصلة إلى قلبك ، لذلك: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ من معانيها أنني أحببتك ، وجعلت الخلق كلَّهم يحبونك .

3 ـ تجلَّيت على قلبك فهفت القلوب إليك :

المعنى الثالث : أنني تجلَّيت على قلبك فهفت القلوب إليك ، لذلك يقال : إن النبي عليه الصلاة والسلام كان أصحابه لا يطيقون فراقه أبداً ، كان بعض أصحابه يخدمه ، فلمَّا حان وقت الانصراف بقي على عتبة داره لشدَّة أُنسه ، وسعادته بهذا القُرْب .. ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ أي أحببتك ، وجعلت الخلق يحبُّك .. ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ أي تجليت على قلبك فهفت القلوب إليك .  

4 ـ رعيتك رعايةً تامَّة :

﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ شيءٌ آخر - أي معنى آخر- أحياناً يلقي الله عزَّ وجل على إنسان محبَّته فيحبُّه الناس ، هكذا قال بعض المفسِّرين ، أي ألقى عليه مسحةً من جمالٍ أخَّاذ ، فإذا كلُّ مَن النظر إليه هفا إليه ، كان غلاماً صغيراً ألقى عليه مسحةً من جمال ، فلمَّا رأته امرأة فرعون أحبَّته ، وقالت : لا تقتلوه ، عسى أن ينفعنا ، فلمَّا رآه فرعون قَبِلَ أن ينجوَ هذا الغلام مِن القتلِ ، أي ألقى عليه مسحةً من جمال .

والمرأة التي تُخْطَبُ ، ويتزوَّجها زوجها ، ويكرمها ، ويجعلها في موضع تكريمه ورعايته ، ويسكنها في بيتٍ مريح ، ويأتيها بالطعام ، والشراب ، واللباس ، إيَّاها أن تظنَّ أن هذا ضروريٌّ لها ، لولا أن الله عزَّ وجل ألقى عليها مسحةً لما خطبها أحد ، فالفضل لله عزَّ وجل ، لو تَعْلَم المرأة أن الذي جعل الناس يُقْبِلون على خطبتها هو الله عزَّ وجل ، لأنه جعلها كاملةً ، مرضيَّةً في أعينهم ، ولو لم تكن كذلك لما أقدم أحدٌ على خطبتها ، إذاً هذه محبَّة الله أيضاً .

آتى الله الإنسان عقلاً ، وآتاه حواساً تامَّة فبجَّله الناس ، وعظَّموه ، واحترموه مثلاً ، فهذا فضل الله عزَّ وجل ، لو أن في العقل خللاً لما أقبل أحدٌ عليك ، لو أن في الخَلْقِ عيباً خطيراً لما أقبل أحدٌ عليك ، لنفر الناس منك ، إذاً إذا أقبل الناس عليك فهذا من فضل الله عزَّ وجل ، وعلامة المؤمن أنه يرى فضل الله عليه دائماً .. ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ هذه كنايةٌ أن الله عزَّ وجل رعاه رعايةً تامَّة ، أي حينما يكون الابن في قلب أمِّه تراها تنظر إليه دائماً حيثُما انتقل ، فالآية إشارةٌ إلى أن الله عزَّ وجل هو الذي ألقى عليه مسحةً من جمال ، هو الذي ألقى عليه محبَّته ، هو الذي أوحى إلى أمِّه أن اقذفيه في التابوت ، هو الذي أمر الموج أن يسوق هذا الصندوق إلى شاطئ القصر ، هو الذي جعل الجواري يأخذن هذا الصندوق إلى امرأة فرعون ، هو الذي ألقى في قلب امرأة فرعون محبَّة هذا الغلام ، هو الذي جعل فرعون يرضى أن ينجو هذا الغلام من الذبح ، هو الذي جعله يتربَّى في قصر فرعون ، كل هذه الحوادث إنها.. ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ الله سبحانه وتعالى هو الرب المُمِدّ ، الذي يَهَب الجميل ، ويثيب عليه، والدليل أن هذا الأمر كلَّه بيدِ الله .

 

الله عز وجل يقدّر كل شيء في الوقت المناسب :


﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ﴾ أي دخلت أختك إلى قصر فرعون ، وقد تروي بعض الأخبار أنها وضعت أخاها على ثديها فالتقمه ، بينما لم يرض أن يلتقم ثدي أي امرأةٍ أخرى ، وربنا عزَّ وجل قال :

﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)﴾

[  سورة القصص  ]

فقال العلماء : " هذا تحريمُ منعٍ لا تحريم شرعٍ " ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ﴾ إلى أن جاءت أخته ، وضعته على ثديها فالتقم ثدي أخته ، لكنَّ أخته ليس في ثديها حليب ، قالت : أنا آتيكم بأمِّي ، أمي في ثديها حليب ، فجاءتهم بأمِّه فالتقم ثديها .. ﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ إذاً : ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً﴾ .

وقد جاء في صحيح مسلم أن هذا القتل هو قتل خطأ ، وليس قتل عمدٍ ، وتصوُّر ، إنه قتل خطأ ، وقد ظهر من هذا القتل حِرْصُ هذا النبي الكريم على أن يكون مع الحق ، وليكن الثمن ما يكن .. ﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ﴾ من غمِّ القِصاص ، ومن غمِّ المُلاحقة ، ومن غمِّ السجن .. ﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ جئت في الوقت المناسب ، أو جئت على القدر الذي قدَّرناه نحن لك . 

 

أعلى مرتبةٍ يبلغها إنسان على وجه الأرض أن يكون هادياً إلى الله عزَّ وجل :


﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ .. الاصطناع من الصَنيع ، والصنيع هو المعروف ، أولاً اخترتك ، ثم جعلتك محلَّ إكرامي ، وعطائي ، اخترتك ، وأعطيتك ، وكرَّمتك ، لتكون هادياً إليَّ ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ أي أنت قد هُيِّئت ، وأُعطيت كل الوسائل التي تستطيع بها أن تكون هادياً إليّ ، طبعاً لأن الله عزَّ وجل عَلِمَ منه الصدق ، وعلم منه المحبة ، وعلم منه الفناء في محبَّة الله عزَّ وجل إنها أعلى مرتبةٍ يبلغها إنسان على وجه الأرض ، أن يكون هادياً إلى الله عزَّ وجل ..﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ .

 

أثر القول اللين في نفس من تدعوه :


﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ .. ﴿ لاَ تَنِيَا ﴾ أي لا تتباطآ في ذكري .. ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ تجاوز الحدَّ المعقول ، فخرج عن دائرة القبول ..﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ .

قال عليه الصلاة والسلام : عن عبد الله بن عمرو :

(( منْ أمرَ بمعروفٍ فليكنْ أمرُهُ بمعروفٍ . ))

[  السيوطي : الجامع الصغير : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

وقال تعالى :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾  

[ سورة آل عمران  ]

(( من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف )) قال رجل لأمير : " سأعظك بغِلْظَة " ، فكان هذا الأمير أفقه من الواعظ ، قال له : " لِمَ الغلظة يا أخي ؟ لقد أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌ مني ، أرسل موسى إلى فرعون ، أنت كموسى ؟ لا ، وأنا كفرعون ؟ لا ، لمَ الغلظة يا أخي ؟ " ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ حتى إن بعضهم قال : " يا رب إذا كانت هذه رحمتك بمن قال : ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ فكيف رحمتك بمن قال : سبحان ربي الأعلى ؟! وإذا كانت هذه رحمتك بمن قال : ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ فكيف رحمتك بمن قال : لا إله إلا الله ؟! إذا كان فرعون .. ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ وقال بعض العلماء : " القول الليِّن أن تناديه بلقبه ، أو بكنيته ، أو بالاسم الذي يُحِبُّه ، هذا من القول اللين ، أي إذا كنتَ أنت مع إنسان ، وترجو منه الخير ، فإذا ناديته باسمٍ يحبُّه ، أو لقبٍ علميٍّ يحبُّه ، أو رتبةٍ يحبُّها ، أو كُنِيَةٍ يحبُّها فهذا من القول الليِّن ، إذا ناديته باسمٍ يحبُّه ، أو لقبٍ ، أو مرتبةٍ ، أو شيءٍ من هذا القبيل ، فهذا من القول الليِّن ، وسوف ترون معي بعد قليل كيف كان قول هذا النبي العظيم لفرعون ؟ ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ إذاً الأمل واسعٌ وقائمٌ ، وفرص الهداية متوافرةٌ في فرعون ، وإلا لَمَا كان هناك مِن معنى أن يُرْسِل الله عزَّ وجل موسى إلى فرعون . 

 

الخوف دافع للتوكُّل على الله والالتجاء إليه والثقة بنصره :


﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ .. معنى يفرط علينا أي يسارع بالعقوبة ، أن يسارع في قتلنا ، أو في تعذيبنا ، أو أن يزداد طغياناً ، حينما يعارض فرعون الحق يزداد طغياناً على طغيانه .. ﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ .

ورد في بعض الكتب : " إن الخوف من الأعداء سُنَّة الله في أنبيائه وأوليائه ، مع معرفتهم به ، وثقتهم بنصره " ، الخوف من طبيعة البشر ، يا ترى هل يُعَدُّ خوف هذا النبي الكريم من مواجهة فرعون نقصاً في إيمانه أو نقصاً في توكُّله أو ثغرةً في ثقته بالله عزَّ وجل ؟ قال بعض العلماء : " لا " - فقد روي أن رجلاً اسمه عامر بن عبد الله نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء ، فحال سَبعٌ مفترسٌ بينهم وبين الماء - أي هم يبتغون هذا الماء ، وبينهم وبين الماء سبعٌ مفترس - فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته - هذا عامر بن عبد الله توجَّه إلى الماء ، ولم يبالِ بالسبع ، وأخذ منه حاجته - فقيل له : " لقد خاطرت بنفسك يا عامر ، أنت قد غامرت وخاطرت ، فقال : " لأنْ تختلف الأسنَّة في جوفي أحبُّ إليَّ مِن أن يعلم الله أني أخافُ شيئاً سواه " ، بعضكم أُعْجِب بهذا الموقف ، أما سيدنا الحسن البصري ردَّ عليه فقال : " لقد خاف يا عامر من هو خيرٌ منك" ، وجاء بالآيات ، سيدنا موسى ..

﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) ﴾

[  سورة القصص  ]

نبيٌّ عظيم ، نبيٌّ مُرْسَل ، نبيّ من أولي العزم ، ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ .

آية ثانية :

﴿ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)﴾

[ سورة القصص  ]

آية ثالثة :

﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) ﴾

[ سورة طه  ]

فإذا كان النبي المُرْسَل الذي هو من أولي العزم يخاف فهذا الخوف من طبيعة البشر ، وليس قدحاً في إيمانه ، ولا في توكُّله ، ولا في ثقته بنصر الله عزَّ وجل ، ولكنَّ طبيعة البشر هكذا ، والخوف من طبيعة البشر ليكون الخوف دافعاً لهم إلى التوكُّل على الله ، والالتجاء إلى الله ، والثقة بنصر الله ، ﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا ﴾ أفرط عليهم أي أسرع بعقوبتهم .. ﴿ أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ الطغيان تجاوز الحد .

 

معية الله لكل الناس بشرط أن يكون الإنسان مقيماً للصلاة ومؤتياً للزكاة :


﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا ﴾ .. أين أنا ؟ أنا معكما .. ﴿أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ من هنا قال بعضهم : " إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ " 

إذا كنت في كل حالٍ معي               فعن حمل زادي أنا في غنى

* * *

﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾

[  سورة المائدة  ]

أي معيَّة الله ليست حكراً على أحد ، لكنَّها لكل الناس بهذا الشرط ، معيَّة الله لكل مؤمنٍ بشرط أن يكون مقيماً للصلاة ، مؤتياً للزكاة ، يرعى حقوق الله ، مُعَزِّراً لرسله وأنبيائه ﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ ربنا عزَّ وجل طمأنهما.. ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ﴾ .. يبدو أن هؤلاء القوم كان قد عذَّبهم فرعون كثيراً ؛ ذبَّح أبناءهم ، واستحيا نساءهم ، وجعلهم يعملون عملاً بلا أُجرة ، أرهقهم في الأعمال ، وانتهب منهم الأموال ، وقتَّل أبناءهم ، وهكذا .

 

من يتبع الهدى وحده يستحق السلام :


﴿ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ .. أي السلام على من اتبع الهدى ، لم يقولا : " السلام عليك " ، السلام على من اتبع الهدى ، الذي اتبع الهدى وحده يستحقُّ السلام ، والسلام اسمٌ من أسماء الله عزَّ وجل ، أي من منحه الله السلام لا يستطيع مخلوقٌ على وجه الأرض أن ينال منه .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) ﴾

[ سورة فصلت ]

مُنِحوا السلام ..

﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)  ﴾

[ سورة الأحزاب ]

 

من أساليب الدعوة التوجيه الليّن اللطيف :


﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ .. هذا من التوجيه اللطيف ، وهذا من القول اللين ، لم يقل سيدنا موسى أي يا فرعون سوف يعذِّبك الله عزَّ وجل ، لا .. ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ أي أنت إذا أردت أن تنصح إنساناً غارقاً في المعاصي لا تقل له : أمامك مصائب ، وأمامك عقوبات شديدة ، لا ، لا ، قل : الله عزَّ وجل يعاقب المنحرف ، يعاقب العاصي ، لا تتوجَّه إليه بالذات ، بيِّن له بعض القواعد ، بعض السُنَن ، بعض القوانين في كتاب الله من دون أن تجعله هدفاً لموعظتك ..﴿ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ .

 

الله تعالى أعطى الإنسان فكراً وهداه إلى طريق سعادته :


 ﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ .. من ربكما ؟ .. ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ أي خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم أعطاه فكراً ، قوَّةً إدراكيَّةً يعرف بها الخير من الشر ، والحقَّ من الباطل ، وما ينفعه ، وما يضرُّه ، هداه إلى طريق سعادته ، خلقه خلقاً كاملاً ، وأعطاه قوَّةً إدراكيَّة يهتدي بها إلى طريق سعادته ، أعطاه وهداه .. ﴿ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ ..

 

مِن صورِ هداية الله لمخلوقاته :

 

1 ـ هداية الله للحيوان :

الحيوان خلقه في أبدع تكوين ، ثم هداه إلى طعامه وشرابه ، هداه إلى بناء عشِّه ، هداه إلى رحلةٍ طويلةٍ لا يزال العلم حتى الآن حائراً في طريقة اهتداء الطيور إلى أهدافها البعيدة ، أعطى السمكة الخَلق الأكمل ، ثم هداها لرحلةٍ تقطع بها عشرات الألوف من الأميال ، كل مخلوقٍ هداه الله إلى سُبُلِ العيش ، كيف يعيش ، كيف يأكل ، كيف يأوي إلى عشِّه أو إلى جحره ، هذه هداية الله عزَّ وجل ، عبَّر عنها بعض علماء الغرب "بالغريزة " ، والغريزة كلمة لا معنى لها ، فالحيوان يقوم بأفعال ذكيَّة جداً من دون تعليم . 

2 ـ هداية الله للطفل الرضيع :

هذا الطفل الصغير الذي يولد لتوِّه يلتقم ثدي أمِّه ، التقام الثدي عمليَّةٌ معقَّدة ، فيها إحكام شفتيه على حلمة الثدي ، وفيها سحب الهواء كي يخرج له الحليب ، وفيها أشياء كثيرة ، العلماء قالوا : " هذا منعكس المص يولد مع الإنسان " .. ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ لولا أن هذا الطفل الصغير لا يعرف كيف يلتقم ثدي أمِّه لمات جوعاً ، وليس في الإمكان أن تُعَلِّمه ، هو دون أن يُعَلَّم ، ليس عنده إدراك ، ولا لغة ، ولا قدرة على الاستيعاب ، لذلك لولا منعكس المصِّ الذي خلقه الله عزَّ وجل في الطفل الصغير لما عاش إنسان على وجه الأرض ، هذه الآية يمكن أن تؤلَّفَ حولها مجلَّدات ..﴿ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ أعطى الإنسان خلقه الكامل ، ثم هداه إلى طريق الخير والشر ، وأعطى الحيوان خلقه الكامل ، ثم هداه إلى كسب رزقه ، وإلى عيشه .

 

محاولة فرعون صرف موسى عن هدفه من المناقشة معه :


أما قوله تعالى : ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ .. قال بعض العلماء : " أراد فرعون من هذا السؤال أن يصرف موسى عن هدفه من المناقشة ، أن يحوِّله إلى موضوعٍ آخر ، أو أنه أراد أن يقول له : هؤلاء الأقوام الذين جاؤوا قبلنا لِمَ لمْ يهدهم الله عزَّ وجل كما تقول أنت ؟ أو أنه أراد بهذا أن يسأله عن غيب الماضي لتوَهُّمه أن هذا النبي الكريم يعلم الغيب " .

 

الله عز وجل يؤكِّد لعباده أن علم القرون الأولى لا يخفى عليه منه شيء :


﴿ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى *قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾ .. أنا عبدٌ فقير لا أعلم من الغيب شيئاً ، ﴿ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ .. معنى في كتاب : الله عزَّ وجل لا يحتاج إلى كتابٍ يكتُب فيه الماضي ، ولكنَّ العلماء قالوا : " إن الكتاب هنا بمعنى أن يؤكِّد لعباده أن علم هذه القرون الأولى لا يخفى عليَّ منه شيء " ، أي هو بحسب تصوُّر الخلق ، الله عزَّ وجل غنيٌّ عن أن يكتب ، أو عن أن يثبت هذا في كتاب ، لكن كلمة كتاب هنا جاءت لتبيِّن أن الله عزَّ وجل بحسب تصوُّرِ الناس أنه شيءٌ مكتوب .. ﴿ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ هذه الآيات تحتاج إلى تفصيلٍ ، أرجو الله سبحانه وتعالى في الدرس القادم أن يوفقني إلى توضيح بعض الأمثلة التي تعمِّق فهمنا لهذه الآيات ، ولاسيما الآية التي كما قلت قبل قليل يمكن أن يفصَّل فيها تفصيلاً كافياً ﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور