وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 07 - سورة لقمان - تفسير الآيات 7 -13 ، من وصايا سيدنا لقمان في الكتب الأخرى
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

وقفة قصيرة على عتبةِ باب الحكمة:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ لا زلنا في سورة لقمان، وفي الدرس السابع من هذه السورة، والحديث عن سيدنا لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه.

 وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ .. قبل أن نتابع موعظة سيدنا لقمان لابنه نقف وقفةً صغيرةً أو قصيرةً عند الحكمة..﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ ..الحقيقة من بعض التعاريف التي تعرَّف بها الحكمة: أنها تجارب إنسانيَّة مكثَّفة في كلمات، هذه التجارب الإنسان إذا استقى الحكمة من تجاربه قد يدفع ثمنها باهظاً، بعد أن تقع الطامَّة الكبرى يقول: يا ليتني لم أفعل هذا، فعلاً هذه الحقيقة كانت غائبةً عني، أما حينما يؤمن الإنسان بالله عزَّ وجل، ويؤمن بكتابه، ويأتي كتابه، وهو كلام الله عزَّ وجل من عند الخبير، من عند الصانع، يقول له: افعل ولا تفعل، فكأنه أخذ الحكمة المطلقة في الوقت المناسب، وقبل فوات الأوان، ومن دون أن يدفع ثمنها باهظاً، هناك أناسٌ يتقدَّمون في السن، وفي آخر حياتهم يكتشفون حقائق دقيقةً جداً، ولكن لم يبقَ في حياتهم وقتٌ للاستفادة من هذه التجارب.

 

من الحكمة معرفة الحقيقة قبل فوات الأوان:


الفرق بين المؤمن وغير المؤمن هو أن المؤمن حينما آمن بالله عزَّ وجل، وآمن بالحقِّ من عنده، وآمن بهذا القرآن، كان هذا القرآن توجيهات حكيمة، صحيحة، فيها حقّ صِرْف..

﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾

[ سورة فصلت ]

لذلك طبَّقها في وقتٍ مبكِّر، وقطف ثمارها، واستفاد منها، وسَعِدَ في دُنياه وأخراه، أما الذي يبتعد عن كلام الله، يبتعد عن الحق الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، يبتعد عن مجالس العلم، ويتحرَّك في الحياة من دون توجيه خالقه، من دون منهج خالقه، سوف يكتشف بعض الحقائق، ولكن أغلب الظن أنه يكتشفها بعد فوات الأوان، أو بعد أن يدفع ثمنها باهظاً، مثلاً: إنسان رأى في الأرض ما يشبه قُنبلة، يا ترى هل هي قنبلة، أم ليست قنبلة، اقترب منها ليفحصها، فإذا انفجرت بين يديه، في أقلّ من ثانيةٍ واحدة عرف أنها قنبلة، ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن أطاحت به، هذا مثل صارخ جداً، ولكن الحياة الدنيا فيها ما يشبه هذا المثل، أي  يتحرَّك على هواه، يتحرَّك بدافعٍ من شهوته، يتحرك بدافع من مصلحته، بعد فوات الأوان، بعد أن يدفع الثمن باهظاً، بعد أن يدفع سعادته الزوجيَّة ثمناً، وبعد أن يدفع ماله كلَّه ثمناً لأخطائه في البيع والشراء، يكتشف حقيقة، ولكن بعد فوات الأوان، فالبطولة كُل البطولة أن تعرف الحق في الوقت المناسب، أن تستفيد من الحق، أن تستثمر الحق، أن تنتفع به، أن تقطف ثماره في الدنيا، الحقيقة التي لا ريب فيها هو أن كل إنسانٍ كائناً من كان إذا جاءه الموت عرف الحقيقة، والدليل:

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق  ]

هل من إنسانٍ أكثر من فرعون كفراً؟! أكثر منه كبراً‌؟ أكثر منه استعلاءً؟ أكثر منه ادِّعاءً؟ ادَّعى أنه إله، فقال:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[  سورة النازعات  ]

هكذا قال، ومع ذلك حينما أدركه الغرق قال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

إذاً: ماذا نستنبط؟ أن الحقيقة لابدَّ من أن تُعرف في وقتٍ ما، من هو المؤمن؟ من هو السعيد؟ من هو الذكي؟ من هو الموَفَّق؟ من هو الفالح؟ من هو المتفوِّق؟ من هو الفائز؟ الذي عرف الحقيقة في الوقت المناسب، في مُقتبل العمر، لأنه إذا عرف الحقيقة في مقتبل العمر شكَّل حياته وفق الحق، اختار مهنة تتناسب مع مبدئه، اختار حرفةً يوظِّفها في سبيل آخرته، اختار زوجةً تعينه على أمر دينه، اختار كل الخيارات التي هي مُتَاحَةٌ أمامه وفق معرفته بالحق، إذاً شكَّل حياتَهُ إن صحَّ التعبير، في عمله، وفي زواجه، وفي علاقاته، وفي إقامته، وفي تحرُّكاته، وفي تصرُّفاته وفق الحق، سعد وأسعد، سعد بالحق وسعد به من ارتبط به، وسعد به من تعلَّق به، وسعد به من عامله، وسعد به من شاركه، وسعد به من تعامل معه. 

إذاً: أردت من هذه المقدِّمة أن هناك أشخاصاً في خريف عمرهم يكشفون الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان، يقول لك: فلان عاركته الأيَّام، فلان أمضى حياته في هذا المجال فاكتشف هذه الحقيقة، لكنَّك إذا آمنت بالله عزَّ وجل خالق الكون، والخالق هو الصانع، وعنده الحق الصرف، عنده الحقيقة التي لا ريب فيها..

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

هل من خبيرٍ أشدّ خبرةً من الله عزَّ وجل؟ هو الصانع، هو الخالق، يقول لك: افعل ولا تفعل، غضَّ بصرك، اجعل دخلك حلالاً أبارك لك فيه، حَدِّد علاقتك مع الناس وفق الشرع تأمن شرَّهم. 

إذاً: نحن لا نريد حكمةً نستقيها في خريف العمر، لا نريد حكمةً نستقيها بعد فوات الأوان، لا نريد حكمةً نستقيها بعد أن ندفع الثمن باهظاً، بعد أن ندفع كل شيء.

أنا قرأت كتاباً مرَّة لأحد المفكَّرين الغربيين عنوان الكتاب: "الإنسان ذلك المجهول" ، النتيجة محور هذا الكتاب أن الغرب بعد أن ضيَّع الحياة الصحيحة التي ينبغي أن يحياها الإنسان، الغرب يحيا حياةً ماديَّةً عالية المستوى؛ ولكن على حساب قيمه وعلى حساب مبادئه، بعد أن ضيَّع أثمن ما في الحياة عرف الحقيقة، أي حينما أثبت الله عزَّ وجل لأهل الدنيا أنهم يعلمون، قال:

﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾

[ سورة الروم  ]

حينما أثبت الله لهم العلم بالدنيا أثبت لهم العلم بظاهرها، بصورها، بطلائها الخارجي، بزيفها لا بحقيقتها، لذلك قال بعضهم: "مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إليها وخرجوا منها ولم يعرفوا أجمل ما فيها، إنها معرفة الله عزَّ وجل، إنها طاعته، إنها الأُنْسُ به"، فلذلك: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ أنا أتمنَّى حكمةً تأتيني من كتاب الله، أنا أتمنى حكمةً أعرفها في مقتبل العمر، أنا أتمنى حكمةً أعرفها كي أُشَكِّلَ حياتي وَفْقَهَا، لا أتمنى حكمةً تأتيني بعد فوات الأوان، تأتيني وأنا على فراش الموت، تأتيني والنَدَمُ يعتصر قلبي، هذه لا قيمة لها، جاءت متأخِّرةً، أي إذا عرف الطالب هذا البحث قبل أن يدخل الامتحان، وكان هذا البحث سؤال الامتحان شيء، وإذا دخل الامتحان، وما عرف الإجابة، وبعد أن خرج من الامتحان فتح الكتاب، وقرأ البحث وفهمه، ما قيمة فهم هذا البحث؟ بعد فوات الأوان، بعد الرسوب فهمه.

 

بعض حِكَمِ لقمان الحكيم:

 

1 ـ العاقل هو الذي يعمل للآخرة:

إذاً: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ .. الحقيقة من قَبيل أن الله عزَّ وجل حينما وصف لقمان بالحكمة، أو بأنه قد أوتي الحكمة، فلاشكَّ أن هذا الإنسان الحكيم له حِكَمٌ كثيرة، تناقلتها بعض الكتب، لذلك أردت أن أقرأ عليكم بعض الحِكَم التي نُسِبَت إلى سيدنا لقمان الحكيم..

قال: << يا بني! إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها، واستقبلت الآخرة، فدارٌ أنت إليها تسير أقرب إليكَ من دارٍ أنت عنها متباعد >>

هذا الإنسان نزل من بطن أمِّه إلى الدنيا، الآن هو يقترب من الآخرة، ويتباعد عن الدنيا، فالدار التي يتجه إليها أقرب إليه من الدار التي يبتعد عنها، إنك إن ركبت مركبةً، وتوجَّهت بها إلى حلب، لو قطعت عن دمشق كيلو مترا واحداً، ما دامت هذه المركبة متحرِّكة، وما دامت متَّجهة إلى حلب، فحلب مع حركة المركبة الثابتة أقرب إليكَ من دمشق، لأنك تتباعد عن دمشق، مع مُضي الزمن تتباعد، ومع مضي الزمن تقترب، فهذه حكمةٌ بالغة، إذاً: العاقل هو الذي يعمل للآخرة، العاقل هو الذي يعمل لدارٍ هو إليها متَّجه، لا يعمل في دارٍ هو عنها مُنصرف، شتَّان بين هذا وذاك، هذا هو العاقل، قال: << يا بني! إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها، واستقبلت الآخرة، فدارٌ أنت إليها تسير أقرب إليكَ من دارٍ أنت عنها متباعد >>

2 ـ مجالسة العلماء وعدم مجادلتهم:

<< يا بني جالس العلماء>> لماذا؟ هم أشخاص عاديون ولكن الله امتنَّ عليهم بمعرفة الحقيقة، فإذا عرفت الحقيقة وأخذتها عنهم بالدليل، ليس بعد النبي عليه الصلاة والسلام إنسان يحقُّ له أن يقول: خذ الحقَّ مني، من أنت؟ يقول لك: أنقل لك الحق عن رسول الله، أنقل لك ما في كتاب الله، فقيمة العالِم من أنه أمينٌ على شرع الله، ينقل لك ما في الكتاب والسُنَّة بأمانةٍ بالغة، أما أن يعطيك شيئاً من عنده: 

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾

[  سورة المائدة ]

من أجل أن يبقى الإسلام كما بدأ، لا يجوز أن يضاف إليه شيء، ولا أن يُحْذَف منه شيء، ولا أن يؤوَّل إلا وفق ما أراد الله عزَّ وجل، لا إضافة، ولا حذف، ولا تأويل، يبقى الإسلام كما هو ويستمرُّ كما أراد الله عزَّ وجل، فإذا أُضيفت عليه أشياء ليست منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: عن عائشة رضي الله عنها:

(( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ. ))

[ صحيح مسلم ]

كل ما ليس من هذا الشرع مردودٌ عليه، ما ليس من هذا الكتاب، ما ليس من هذه السنَّة.. << يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، ولا تجادلهم فيمنعوك >> .

لا تسألهم سؤال المُتَعَنِّت، لا تسألهم سؤال الفاحص، أحدهم قال: "يا بني! نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك" ، الإنسان بالأدب يبلغ ما يريد، وبغير الأدب يُحْرَم ما يريد، هذا من مواعظ سيدنا لقمان.. 

3 ـ  الابتعاد عن الأعمال التي تضيع الآخرة:

<< وخذ من الدنيا بلاغاً ولا ترفضها فتكون عالةً على الناس >> قيل: "اللهم من أجبني فاجعل رزقه كفافاً" ..ليس معنى الكفاف أن تكون فقيراً، معنى الكفاف أن تكون مكتفياً، النبي دعا لمن يحبُّه أن يرزقه كفافاً. قال: << يا بني! خذ من الدنيا بلاغاً - أي الكفاف- ولا ترفضها فتكون عالةً على الناس، ولا تدخل فيها دخولاً يضرُّ بآخرتك >> .

هناك أعمال إذا أقدمت عليها ضيَّعت آخرتك، هناك شبهات، هناك مزالق، هناك تُرُّهات، هناك انحرافات، إذا دخلت في مداخل الدنيا دفعت الثمن باهظاً من آخرتك.. << يا بني! ولا تدخل فيها دخولاً يضرُّ بآخرتك، وصم صوماً يقطع شهوتك، ولا تصم صياماً يمنعك من الصلاة، فإن الصلاة أحبُّ إلى الله من الصيام، يا بني! إن الدنيا بحرٌ عميق قد هلك فيها عالَمٌ كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان، واجعل شراعها التوكُّل، واجعل زادك فيها تقوى الله، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك >>

هذه من حِكَمِ سيدنا لقمان كما تناقلتها بعض الكتب، وقد يسأل سائل: ما مدى صحَّة هذه الحِكَمْ؟ الجواب: خذ الحكمة ولا يهمٌّك من أي مكانٍ خرجت، حِكَم تتفق مع كتاب الله عزَّ وجل، ومع شرع النبي عليه الصلاة والسلام. 

4 ـ تربية في الصغر ثمرات في الكبَر:

<< يا بني إن تأدَّبت صغيراً انتفعت به كبيراً >>

الذي يرعى نفسه وهو صغير يقطف ثمار تربيته وهو كبير، من لم تكن له بدايةٌ محرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة.. << يا بني إن تأدَّبت صغيراً انتفعت به كبيراً >> .  

5 ـ الاهتمام بالعلم:

<< يا بني من اهتمَّ بالأدب تكلَّف علمه، ومن تكلَّف علمه اشتدَّ له طلبه، ومن اشتدَّ له طلبه أدرك منفعته، فاتخذه عادة >> .  

مثلاً هؤلاء الذين لا يحبُّهم الله عزَّ وجل ماذا أعطاهم؟ 

﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾

[  سورة القصص  ]

فرعون آتاه الله المُلك، الأنبياء ماذا آتاهم الله عزَّ وجل؟ آتاهم العلم والحكمة، فإذا جمعت إلى المال العلم والحكمة فقد حصَّلت من الدنيا طرفيها، أي ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا؛ وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل، كما يقولون.. فإذا آتى الله عزَّ وجل الإنسان مالاً فلا ينبغي أن يقنع به، يجب أن يبحث عن العلم، لأن بالعلم حياة القلب، لأن بالعلم سعادةً إلى الأبد..

6 ـ الجمع بين الخوف والرجاء:

<< يا بني خَفِ الله عزَّ وجل خوفاً لو أتيت القيامة بِبِرِّ الثقلين خفت أن يعذِّبك الله، وارجُ الله رجاء لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر لك الله>> .

هذا كلام دقيق، أي يجب أن يجمع المؤمن بين الرجاء وبين الخوف، الرجاء إذا تفاقم، وإذا نما نمواً غير طبيعي على حساب الخوف، وقع في المعاصي وهو يطمع برحمة الله، قد تلتقي مع إنسان تراه مقيماً على معاصٍ كثيرة ومع ذلك يرجو رحمة الله، هذه سذاجة، وهذا غباء، وهذا تفاؤل أبله.. 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر  ]

وقد تلتقي بإنسان يحرص على طاعة الله عزَّ وجل وهو شبه يائسٍ من رحمة الله، هذه أيضاً حالة مَرَضِيَّة، هناك حالتان مَرَضيتان؛ أن تخاف خوفاً يحملك على اليأس من رحمة الله، وأن ترجو رجاء ساذجاً يجعلك تقع في المعاصي، ولا تبالي بها، هذا رجاءٌ مَرَضي، وذاك خوفٌ مَرَضي، أما الرجاء السَوِيّ والخوف السوي أن تجمع بينهما معاً، أن يأتلف عندك الرجاء والخوف، المؤمنون يعبدون الله خوفاً وطمعاً، رَغَبَاً ورَهَبَاً، ولاسيما أن الله عزَّ وجل إذا رأى العبد يتساهل في طاعته، ويُعَلِّقُ آمالاً كبيرةً على رحمته، يضيِّق عليه، يريه جانب القوَّة، يريه شدَّةً، يريه ضيقاً، يلوح له شبح مصيبةٍ، ليعود العبد عن رجائه الساذج، ويرجع إلى طاعته المُثلى، فإذا بالغ في الطاعة، وجاءته الوساوس، وحملته على اليأس، يريه الله بعض إكرامه، إذاً: الله سبحانه وتعالى إذا نما عندك الخوف على حساب الرجاء طمأنك، وإذا نما عندك الرجاء على حساب الخوف خوَّفك، من أجل أن تكون حالتك السويَّة أن تجمع بين الرجاء والخوف، لابدَّ من أن ترجو الله عزَّ وجل - نرجو رحمتك ونخشى عذابك - هذا الدعاء، هذا ما قاله سيدنا عمر: << لو أن الله أنزل أنه معذِّبٌ واحداً لخفت أن أكون أنا، ولو أنه أنزل أنه راحمٌ واحداً لرجوت أن أكون أنا >> . قال: << يا بني! خفِ الله عزَّ وجل خوفاً لو أتيت يوم القيامة ببرِّ الثقلين خفتَ أن يعذِّبك >> .

لذلك الإنسان إذا عمل الصالحات، واستقام على أمر الله، وأجرى الله على يده الخير، هناك مزلقٌ خطير ربَّما وقع فيه، هذا المَزْلَق هو أن يَغْتَرَّ بطاعته، وأن يستعلي بها، وأن يعلو بها على خلق الله عزَّ وجل، عندئذٍ يقع في ذنبٍ أَشَدَّ من المعصية وهو العُجب، قال عليه الصلاة والسلام: عن أنس بن مالك:

(( لو لم تكونوا تُذْنِبونَ ، لخِفْتُ عليكم ما هو أكبرُ من ذلِكَ ؛ العُجْبُ العُجْبُ. ))

[ صحيح الجامع:  خلاصة حكم المحدث : حسن  التخريج : أخرجه البزار ]

ربَّ معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عِزَّاً واستكباراً، فإذا غلب عندك الرجاء على حساب الخوف خوَّفك الله، وإذا غلب عندك الخوف على حساب الرجاء طمأنك الله، والله هو المُربي، هو ربُّ العالمين، كما أنه يربي جسدك بالطعام والشراب، يربي نفسك بتقليبك بين الخوف والرجاء، فأنت كن حكيماً، لا تطمع على حساب الخوف، ولا تخف على حساب الطمع، كن بين الخوف والرجاء، كن بين الرغَبِ والرهَبِ. 

7 ـ الإيمان بالله يقتضي الإيمان بكلامه والمبادرة إلى طاعته:

قال ابنه له: << يا أبتِ، كيف أطيق هذا وإنما لي قلبٌ واحد؟ >> لي قلبٌ واحد يتَّسع لشيءٍ واحد، رجاءٍ أو خوفٍ، فكيف أجمع بين الخوف والرجاء؟ فقال له: << يا بني! لو استُخْرِجَ قلب المؤمن لوُجِدَ فيه نورَان، نور الخوف ونور الرجاء، ولو وُزِنا لما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرَّة - الآن كلام دقيق جداً - فمن يؤمن بالله يصدِّق ما قال الله عزَّ وجل، ومن يصدِّق ما قال الله عزَّ وجل يفعل ما أمر الله عزَّ وجل، ومن لم يفعل ما أمر الله به لم يصدِّق كلامه، ومن لم يصدِّق كلامه لم يؤمن به >> .  

أي مقدِّمةٌ تفضي إلى نتيجة إفضاءً حتمياً، آمنت بالله، من لوازم إيمانك بالله أن تؤمن بكلامه، وإذا آمنت بكلامه على أنه كلام الحق، من لوازم إيمانك بكلامه أن تبادر إلى طاعته، فلمجرَّد أن تعصي الله عزَّ وجل فهذا مؤشر على أنَّك لم تؤمن بكلامه، وعدم إيمانك بكلامه هو عدم إيمانك به << فمن يؤمن بالله إيماناً صادقاً يعمل لله خالصاً ناصحاً، ومن يعمل لله خالصاً ناصحاً فقد آمن بالله صادقاً، من أطاع الله خافه، ومن خافه فقد أحبَّه، ومن أحبَّه فقد اتبع أمره، ومن اتَّبع أمره استوجب جنَّته ومرضاته، ومن لم يتَّبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه، نعوذ بالله من سخط الله >>

هذه بعض الحِكَمْ المتناثرة التي نُسِبَت إلى سيدنا لقمان الحكيم. 

8 ـ الدنيا زائلة فلا تشتغلوا بها:

من الحكم الأخرى التي نُسِبَت إليه: << يا بني! لا تركن إلى الدنيا، ولو أوتيت فيها مالاً كثيراً وجاهاً عريضاً فإنها زائلة>>

وكما قال سيدنا علي: << يا بني! ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌ بعده الجنَّة بشر، وكل نعيمٍ دون الجنَّة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية >>

قال: << يا بني! لا تركن إلى الدنيا، ولا تشغل قلبك بها، فما خلق الله خلقاً هو أهون عليه منها >> .

والدليل: << ألا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواباً للمطيعين؟ ولم يجعل بلاءها عقوبةً للعاصين؟ >> .

هذا النبي العظيم سيد الخلق وحبيب الحق ماذا أوتي من الدنيا؟ لم يؤتَ منها شيئاً، كان إذا صلَّى قيام الليل رفعت السيِّدة عائشة رجليها، لأن غرفته من الضيق حيث لا تتسع لصلاته ونوم زوجته، هذا بيت النبي، دخل عليه رجل أصابته رعدة، فقال له: عن قيس بن أبي حازم:

(( هَوِّن عليك ، فإني لستُ بملِكٍ، إنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القَديدَ. ))

[ السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح مرسل ]

دخل عليه عمر رآه مضطجعاً على حصير، وقد أثَّر في خدِّه الشريف، فبكى عمر فقال النبي:

سيدنا عمر دخل على النبي، سيد الخلق، وكان مضطجعاً على حصير أثر على جنبه الشريف، فبكى عمر، قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:

((دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبهِ، وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٍ فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ، وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَالِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ ؟ قَالَ: يَا بنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمْ الدُّنْيَا، قُلْتُ: بَلَى))

[ صحيح الترغيب والترهيب ]

يا عمر لمَ تبك؟ قال: رسول الله ينام على الحصير، وكسرى ملِك الفرس ينام على الحرير ؟! قال: يا عمر، إنما هي نبوَّةٌ وليست ملكاً، أنا لست بملك، هذه النبوة هكذا. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام كان أسوةً حسنة. 

قال: << فما خلَق الله خلقاً هو أهون عليه منها، ألا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواب المُطيعين، ولم يجعل بلاءها عقوبةً للعاصين>> .

 قال سيدنا علي: << فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمَّداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا، فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا >> .

الذي أتمنَّى أن يكون واضحاً عند كل إخوتنا هو أن الدنيا ليست مقياساً أبداً، قد يؤتي الله عبداً الدنيا، وهذا فضلٌ كبير، ونعمةٌ كبيرة، ويجب أن يذوب شكراً، ولكن لا ينبغي أن يتَّخذ الدنيا مقياساً لمحبَّة الله عزَّ وجل..﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ أهل الكفر والعصيان..

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]

إذا جاءتك فاشكر الله عليها، قد ترى إنساناً آتاه الله مالاً وفيراً وهو مقيمٌ على المعاصي، فبسذاجةٍ تقول: أخي أعطاه الله، بيته كالجنَّة، إنه فوق الريح، رأى ليلة القدر، هذا كله كلام فارغ، الغنى والفقر كما قال سيدنا علي: << الغنى والفقر بعد العرض على الله >> .

هناك الغنى والفقر، لكن إذا كنت مؤمناً، وآتاك الله الدنيا، وأنفقت من مالها الحلال، واللهِ هناك من يغبطك، سيدنا عبد الرحمن بن عوف سمع أن السيدة عائشة قالت: << أخشى أن يؤخِّره ماله عن دخول الجنَّة، أو أنه يدخل الجنَّة حبواً>> أي زحفاً لكثرة ماله، فبَلَغته هذه المقالة فتبسَّم، وقال: << والله لأدخلنَّها خبباً - أيْ ركضاً- وما ذنبي إذا كنت أنفق مئة في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء؟ >> .

حينما جاء عبد الرحمن بن عوف مهاجراً إلى المدينة لم يكن معه دينارٌ واحد، أحد أصحاب رسول الله كان قد آخاه، قال: << هذا مالي، خذ نصفه، دونك بيتي، دونك بستاني، دونك مالي >> ، أجابه إجابةً لا أروع ولا أجمل منها، تقطر عفَّةً، وتقطر إباءً، وتقطر عزَّةً، قال: << يا أخي بارك الله لك في مالك، ولكن دلَّني على السوق >>

 هذا الموقف موقف نموذجي، الأنصار وقفوا أرقى موقف، قدَّموا كل ما عندهم للمهاجرين، أعطوهم نصف أملاكهم، والمهاجرون وقفوا أكمل موقف، تعفَّفوا عن مالهم، وعملوا بالتجارة، قال: << يا أخي بارك الله لك في مالك، دُلَّني على السوق >> .

 

دعاء عظيمٌ:


بالمناسبة، الدعاء النبوي الشريف: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ، أيْ: يا رب إنِّي أحبُّ المال، فإذا آتيتني المال فاجعله وسيلةً للتقرّب إليك، اجعلني أنفق هذا المال في طاعتك، اجعلني أمسح به بكاء البائسين، اجعلني أرقى عندك إلى أعلى عليين، اجعلني اجعل هذا المال مسخَّراً لخدمة خلقك، اجعله عوناً للضعفاء والمساكين، اجعله شفاءً للمرضى، اجعله مأوىً لمن ليس له مأوى.. وإن زويت عني المال.. هذا الوقت الذي أبذله في كسبه، وفي حسابه، وفي استثماره، اجعل هذا الوقت الفارغ اجعله في طاعتك يا رب، هذا الدعاء رائع جداً: اللَّهُمَّ ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ، تزوج امرأةً، ولم تكن في طموحه، وعُقِدَ العقد، وأنجب منها أولاداً، زوى الله عنك ما تحب، هذا الفراغ الذي نشأ من أن هذا الشيء زوي عنك، اجعله في طاعتك يا رب، جاءتك امرأةٌ كما تُحِب اجعل هذا الزواج عوناً لي على طاعتك، اجعل هذه الزوجة معواناً لي على طاعتك، يا رب اجعلها تذكرني إن نسيت، وتنصحني إن غَفَلت.

اشتريت مركبةً سخِّرها للحق، كن خير من يستغلَّ هذه المركبة في طاعة الله عزَّ وجل، اشتريت بيتاً، اشتريت دُكَّانا، عملت في مصلحةٍ، عملت في حرفةٍ، عملت في الطب، عملت في الهندسة، كنت محامياً، اجعل مهنتك موظَّفةً في طاعة ربِّك.

والله أيها الإخوة الأكارم؛ الله عزَّ وجل حينما خلقنا في الدنيا خلقنا لنعمل صالحاً، لذلك أبواب العمل الصالح لا تعدُّ ولا تحصى، وأنت في بيتك؛ الأبوَّة المثاليَّة عملٌ صالح، الزواج المِثالي عملٌ صالح، وأنت بين جيرانك جيرانك مادَّةٌ لعملٍ صالح، وأنت في دكَّانك زبائنك مادةٌ لعملٍ صالح، وأنت في عيادتك مرضاك مادةٌ لعملٍ صالح، وأنت في مكتبك الموَكِّلون مادةٌ لعملٍ صالح، كيفما تحرَّكت، وأنت في معملك عمالك مادةٌ لعملٍ صالح، كيفما تحركت بإمكانك أن تعمل صالحاً. 

هذا العامِل الذي جعله الله تحت يديك، وجعلك تعطيه أجراً بإمكانك أن تسعده، بإمكانك أن تكرمه، بإمكانك أن تنصحه، بإمكانك أن تأمره بالمعروف وأن تنهاه عن المنكر، ما دام الله عزَّ وجل قد جعل هذا الإنسان تحت يدك، فاستغلَّ هذه الناحية، وخذ بيده إلى الله، أصحاب المعامل، أصحاب المتاجر، أصحاب المزارع، المُعَلِّمون، المدرِّسون، الأطبَّاء،  الصيادلة، كل حرفةٍ هناك من هم دونك، وقد أناطهم الله بك، بإمكانك أن تحسن إليهم، وأن تنصفهم، وأن تنصحهم، وأن تأخذ بيدهم، وأن تفتح قلبهم بإحسانك قبل أن تفتح عقلهم بلسانك. 

9 ـ لا لتكلُّف المضمون ولا لتضييع المأمور به:

هذا الرجل الحكيم سيدنا لقمان سُئل مرَّةً: ما الذي أجمعت عليه في حكمتك؟ فقال: << لا أتكلَّف ما قد كُفِيُته، ولا أضيِّع ما وليِّته >> .  

كلامٌ في منتهى الدقَّة، أي أنت مكلَّفٌ بشيء ومضمونٌ لك شيء، فالذي كُلِّفت به يجب أن تسعى إليه، والذي ضُمِنَ لك يجب أن ترتاح منه، حال الناس اليوم عكس هذه الحقيقة، الذي ضُمِنَ لهم يتناحرون من أجله، يتقاتلون من أجله ، يتنافسون من أجله ، يبيعون دينهم من أجله ، يبيعون كل شيءٍ من أجله، الذي ضُمِنَ لهم، والذي كُلِّفوا به يَدَعونه للأقدار، يَدَعونه للزمان، حتى يشاء الله، حتى يأذن الله، فالآن لا يوجد إذن من الله، الله خلقه ولم يأذن له بالهدى، ولكن بأي شيء أذِنَ لك؟  هذا كلام ليس له معنى، فلذلك لا تتكلف ما ضُمن به، ولا  تنصرف عما كُلفت له، هذه حكمةٌ بالغة من حِكَمِ لقمان الحكيم. 

10 ـ النوم موتةٌ صغرى:

ومن هذه الحِكَم: << يا بني! إن تكُ في شكٍ من الموت فارفع عن نفسك النوم >> .  

الله جعل النوم يشبه الموت والدليل أن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)﴾

[ سورة الزمر ]

حينما ينام الإنسان توقَّف التكليف، توقَّف الاختيار، توقف الوعي، توقف العقل، توقف كل شيء، الله عزَّ وجل استردَّ هذه الأمانة، أعطاك نفسك أمانةً في النهار، واستردَّها في الليل، ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ﴾ ..فأنت في النوم كالميِّت تماماً، فإذا كنت في شكٍ من الموت فارفع عن نفسك النوم، هل بالإمكان أن تُلْغِيَ النوم من حياتك؟ لا تقدر، ولن تستطيع.. << وإن كنت في شكٍ من البعث فارفع عن نفسك الانتباه >> هل تستطيع إذا نمت ألا تستيقظ؟ لا تقدر إلا ما تفتح عينك، ثلاثة أيام ولم تنم، تنام عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة، وتفتِّح عينك، تتمطَّى، استيقظت، إذاً تفضَّل، فالله بعثك بعد الموت، هذا كلامٌ بليغٌ جداً: قال: << يا بني! إن تكن في شكٍ من الموت فارفع عن نفسك النوم، ولن تستطيع، وإن كنت في شكٍ من البعث فارفع عن نفسك الانتباه، ولن تستطيع، فإنك إن فكَّرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك، وإنما النوم بمنزلة الموت، وإنما اليقظة بمنزلة البعثِ بعد الموت >>

11 ـ وضعُ الشيء في موضعه:

<< يا بني! لا تنشر بَزَّكَ إلا عند باغيه >> البَز: الثيابُ، لا تنشرها إلا عند الشاري، أحياناً يحضر شخص، ويسأل سؤالاً للبائع، البائع بالحاسَّة السادسة يشعر أنه لن يشتري، فلا يتكلَّف أن ينزل له بضاعة، يقول له: عندما تريد الشراء فتعال.

 يقول هذا الواعظ الحكيم سيدنا لقمان: << لا تنشر بزَّك إلا عند باغيه >>

أي أنت تحمل الحكمة، هذه الحكمة إذا أعطيتها إلى غير أهلها فقد ظلمتها، وإن منعتها أهلها فقد ظلمتهم..

﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) ﴾

[ سورة الأعلى ]

التكبر على المتكبر صدقة..التكبُّر مرفوض، لكن إذا وجدت إنساناً مستعلياً، مستكبراً، عنيداً، محارباً للحق، قال: التكبُّر على هذا المتكبِّر صدقة، أحد أصحاب النبي - عليه رضوان الله، وعلى النبي الصلاة والسلام- مشى قبيل المعركة بفرسه مشية خُيَلاء، فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموطن..

الإنسان المؤمن إذا ألمَّت به مُلِمَّة، أو نزلت به نازلة، لا ينبغي أن يشكو ملمَّته ومصيبته لغير الله، وإن شكاها، وإن كان لابدَّ من أن يشكو فليشكُ للمؤمن، لأنه من شكا إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، ومن شكا إلى مؤمن فكأنَّما اشتكى إلى الله، المؤمن يدعوك إلى الصبر، يهوِّن عليك هذه المصيبة، يذكِّرك برحمة الله، يذِّكرك بالآخرة، يذِّكرك بأن وراء هذه المصيبة تيسيراً كبيراً.. 

﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)  ﴾

[ سورة الشرح  ]

لا يشمت بك، الدعاء الشهير: اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء.. 

12 ـ لا خير للمؤمن في الكافر:

قال: << وكما ليس بين الكبش والذئب خُلَّة، كذلك ليس بين البارِّ والفاجر خُلَّة >>

إيَّاك أن تظن أن هذا الفاجر الكافر الفاسق فيه خير لك، أو يحبُّك، أو يمكن أن يقدِّم لك شيئاً، يجب أن تقطع أملك من الناس، من الناس عامَّة، ومن أهل الدنيا والفسق والفجور والعصيان خاصَّة، لأن هناك تضاداً قديماً بين أهل الحق وبين أهل الباطل، لا تُعَلِّق عليهم الآمال. 

الإمام الحسن البصري كان من الكبار التابعين، بلغ من المجد ما لم يبلغه أحد، سُئل مرَّةً: "يا إمام بمَ نلت هذا المقام؟ " ، قال: "باستغنائي عن مال الناس، وحاجتهم إلى علمي" . أحياناً تجد بعض من ينتمون إلى هذا العلم الشريف، يقبلون على من يزهد في علمهم طمعاً في دنياهم، هم يطمعون في دنياهم، وهؤلاء الأغنياء والأقوياء يزهدون في علمهم، وقديماً كان العكس، كان هؤلاء الأقوياء والأغنياء يقبلون على علمهم، وهؤلاء العُلماء يزهدون في مالهم، فقال: "باستغنائي عن مال الناس، وحاجتهم إلى علمي"، هذا ما قاله الإمام الحسن البصري.  

 13 ـ لا مشاحنة في الإسلام مع الابتعاد عن مواطن التهمة:

 << من يحبُّ المراء يُشتم >> .

الذي عنده رغبة في المشاحنة.. النبي عليه الصلاة والسلام له كلمة بليغة جداً قبل أن يموت، وقف خطيباً وقال: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ألا ومن كنت قد شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد منه، ولا يخشى الشحناء فإنها ليست من طبيعتي ولا من شأني، الشحناء من صفات الجهلاء، الشحناء، والمِراء، والمماحكة، والجدل، والكلام الطويل. عن المغيرة بن شعبة:

(( إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. ))

[ صحيح مسلم ]

 << من يحبُّ المراء يشتم، ومن يدخل مَدخل السوء يُتَّهم >>

سيدنا رسول الله اللهمَّ صلِّ عليه كان معتكفاً في المسجد، فجاءته زوجته بطعام، فكره أن تعود وحدها إلى البيت فرجع معها، في الطريق فرأى صحابيين، فقال عليه الصلاة والسلام: عن صفية أم المؤمنين:

(( كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُعتَكفًا فأتيتُه أزورُه ليلًا فحدَّثتُه ثمَّ قمتُ فانقلبتُ فقامَ معي ليقلبَني وَكانَ مَسكنُها في دارِ أُسامةَ بنِ زيدٍ فمرَّ رجلانِ منَ الأنصارِ فلمَّا رَأيا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أسرَعا فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ علَى رِسلِكما إنَّها صفيَّةُ بنتُ حييٍّ قالا سبحانَ اللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ قالَ إنَّ الشَّيطانَ يجري منَ الإنسانِ مجرَى الدَّمِ فخشيتُ أن يَقذفَ في قلوبِكما شيئًا أو قالَ شرًّا وفي روايةٍ قالت حتَّى إذا كانَ عندَ بابِ المسجدِ الَّذي عندَ بابِ أمِّ سلمةَ مرَّ بِهما رجلانِ. ))

[ صحيح أبي داود  ]

عَوِّد نفسك أن توضِّح كل شيء، ولو كنت طاهراً لا يكفي، ولو كنت نظيفاً لا يكفي، ولو كنت حَسَن النيَّة لا يكفي، الناس لا يعرفونك، إن عرفت نفسك فهذه معرفةٌ داخليَّةٌ لا قيمة لها، اعمل عملاً له تفسيرٌ واحد، ابتعد عن الشبهات، لا تقف مواقف التهمة، ثم تلوم الناس إذا اتهموك، فرضاً لو كنت في محلٍ تجاري، وجاءت أختك إلى المحل، ورحَّبت بها، يجب أن تعلم إخوانك أن هذه أختي، لأنهم يتساءلون: كيف يرحِّب بها هذا الترحيب؟ لا نعهده بهذه الأخلاق؟ قل: هذه أختي، مثلاً، هذا مثل لأن التعليم حرف، والتقليد ألف، النبي علَّمنا بهذه الطريقة، قال لهما:((علَى رِسلِكما إنَّها صفيَّةُ)) في القبض،  في الدفع، اكتب إيصالاً، وضِّح أن هذا المبلغ لفلان، وهذا لفلان، أنت واثق من نفسك، لا يكفي، بريء، لا يكفي، نيتك حسنة، لا يكفي، نظيف، لا يكفي، يجب أن تعلم الناس بذلك.. رَحِمَ الله امرأً جبَّ المغيبة عن نفسه.. 

14 ـ نتائج العداوة وخيمة على صاحبها:

<< ومن يقارن قرين السوء لا يسلم، ومن لم يملك لسانه يندم، يا بُنَيّ! صاحب مئةً ولا تعاد واحداً>>.

حينما يُعادي الإنسان تهزّ أعصابه، يستهلك حياته استهلاكاً رخيصاً، هناك أشخاص يتحاكمون في المحاكم، تجد أن الفريقين استهلكا حياتهما النفسيَّة وأعصابهما لسنواتٍ طويلة، بحيث أن النصر لأحدهما لا قيمة له، مهما كان الحكم بعد هذه السنوات الثمانية لا قيمة له لأنك استهلكت نفسك، أورثت قلبك الحقد، دخلت في البُغض، دخلت في الكيد. لذلك: << يا بني! صاحب مئة، ولا تعادِ واحداً >> أحد الأشخاص عرض على سيدنا أبي بكر قضيَّةً، فسيدنا أبو بكر أراد أن يأخذ رأي عمر فقال: "اذهبوا إلى عمر وخذوا رأيه" سيدنا عمر رفض هذا الموضوع، ويبدو أنه رفض واتخذ موقفاً في الرفض، فاغتاظ هؤلاء، عادوا إلى الصديق، قالوا: "يا خليفة رسول الله، الخليفة أنتَ أم هو؟" أرادوا أن يوغروا صدره عليه، قال: "هو إذا شاء" مثل بعضها نحن واحد لا تَفْرِق بيننا، هناك مواقف ذكيَّة جداً، أنت عندما تترفَّع عن الدنيا فالله عزَّ وجل يؤتيك الحكمة، كم من مصيبة مدمِّرةٍ أساسها كلمة! أساسها استفزاز واحد، تجد أسرة قد دُمِرَت من كلمة حمقاء قالتها الزوجة، والزوج في غفلةٍ عن الله عزَّ وجل، أخذته العزَّة فطلَّقها، وكم من شراكةٍ فُصِمَت لكلمةٍ قالها أحد الشركاء فاستفزَّ بها شريكه! فالحكمة أن تكون حكيماً، والحكمة أن تكون حليماً، والحكمة أن تكون واسع الأفق، والحكمة أن تكون بعيد النظر، والحكمة أن تكون رحب الصدر، كاد الحليم أن يكون نبياً، دائماً الإنسان في كل قضيَّة وخاصةً إذا كان في القضيَّة استفزاز، وفيها تحطيم لأعصابه، يقول هذه الكلمة وأنا ناصحٌ له: "سوف أتَّخذ قراراً بعد أسبوع"، في اليوم الثاني يخف هذا الغضب، وفي اليوم الثالث يقول: والله فلان معه حق، وأنا أغضبته سابقاً، وفي اليوم الرابع يقول: والله الحق معه، تجد نفسك بعد سبعة أيام أخذت موقفاً في منتهى الحكمة والإنصاف، لذلك ليحذر كل إنسان أن يتَّخذ قراراً في ساعة الغضب، لأن الإنسان إذا غضب هو ليس إنساناً، انتقل إلى صنف آخر من المخلوقات، وإذا أحبّ إنسان أن يراقب نفسه وهو غضبان ليقف أمام المرآة وهو غضبان، يكره نفسه كراهيَّةً لا حدود لها، لذلك كاد الحليم أن يكون نبياً، الحلم سَيِّدُ الأخلاق.   

15 ـ الابتعاد عن الخيانة:

<< يا بني! كن عبداً للأخيار، ولا تكن ولداً للأشرار، يا بني أدِّ الأمانة تسلم، كن أميناً فإن الله لا يحبُّ الخائنين>> . هناك آية قرآنيَّة تقول: 

﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾

[ سورة يوسف ]

أي أية خيانةٍ على وجه الأرض لا يباركها الله عزَّ وجل، ولو خُنْتَ كافراً، الخيانة لمجرَّد الخيانة هي عملٌ قبيح، هناك شخص أعلم منك كن مخلصاً له، أنت مسلم، هكذا المسلم..﴿وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ الإخلاص يرفع قيمة الإنسان، والخيانة تحطُّ من قدره. << يا بني! لا تُرِ الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر >> .   

16 ـ  احفظ الله يحفظك:

من حكمه أيضاً؛ طبعاً الدرس: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ هذه كّلُّها من حكم سيدنا لقمان.. << يا بني! إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم، فلم يبقَ ما جمعوا له، ولم يبقَ من جَمَعوا له >>

 ألم يقل الله عزَّ وجل في حديث قدسي يوم القيامة لعبدين، قال للأول: عبدي آتيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ - ليس في الآخرة كذب أو تدجيل- قال: يا رب! لم أنفق منه شيئاً على أحدٍ مخافة الفقر على أولادي من بعدي- هذا لسان حاله- قال: ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوَّة المتين؟ إنَّ الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم، وسأل آخر قال: أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ قال: يا رب! أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً، وأنت أرحم الراحمين، قال: يا عبدي، أنا الحافظ لأولادك من بعدك.

والله أعرف رجلاً سمعت قصَّته، هي قصَّةٌ واقعيَّةٌ لا تكاد تصدَّق لهولها، إنسان جمع مالاً كثيراً، ومات وترك المال، وكل همِّه في الحياة أن يكون أولاده في بحبوحةٍ من بعد وفاته، هؤلاء الأولاد بقدرة قادر عقدوا صفقةً كبيرةً جداً مع تاجرٍ في اليمن، وكيف أن هذا التاجر استجرَّ منهم بضاعةً بمئات الألوف؛ بل بعشرات الملايين، وكيف أن هذا التاجر لم يدفع لهم شيئاً، وكل شيءٍ وقَّعه لهم كان حبراً على ورق، بعد حين من الزمن لم يطل بيع المعمل، وبيع المحل التجاري، والبيوت بيعت، وعاد أولاده فقراء. وكم من إنسانٍ عاش في طاعة الله، واتكل على الله، وخَلَّف لأولاده إيماناً وسمعةً طيِّبة فأغناهم الله من بعده!.. قال له: "أنا الحافظ لأولادك من بعدك".. أكبر شيء تقدَّمه لأولادك أن تجعلهم مؤمنين، لأنك إذا جعلتهم مؤمنين استحقوا الإكرام من الله عزَّ وجل في حياتك وبعد وفاتك، وإن لم تهدهم إلى سبيل الله عزَّ وجل استحقوا العقاب والدمار في حياتك وبعد وفاتك. 

من أغرب القصص التي تكاد لا تصدَّق أن آخر سلاطين بني عثمان عمل ابنه حمالاً في بيروت، شوهد ابنه يعمل حمالاً في هذه المدينة، إذاً: "أنا الحافظ لأولادك من بعدك".. << يا بني! إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم، فلم يبقَ ما جمعوا له، ولم يبقَ من جُمِعوا له >> ..  لذلك أندم الناس يوم القيامة غنيٌ دخل ورثته بماله الجنَّة، ودخل هو بماله النار، هو جمعه من حرام فاستحق النار، هم ورثوه حلالاً، أنفقوه في طاعة الله فدخلوا به الجنَّة، وأندم الناس عالمٌ يوم القيامة دخل الناس بعلمه الجنَّة، ودخل هو بعلمه النار، هو لم يطبَّق ما قاله، الذين استمعوا له طبَّقوا ما قاله. << وإنما أنت عبدٌ مستأجَر قد أُمرت بعملٍ، ووعدت عليه أجراً، فأوفِ عملك واستوفِ أجرك >> .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور