وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة الإسراء - تفسير الآيات 10 – 20 خلق الإنسان عجولاً وضعيفاً وهلوعاً
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا  وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  الضعف صفةٌ أودعها الله في الإنسان لمصلحته :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثاني من سورة الإسراء .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ .. كان الإنسان عجولاً ، وخلق الإنسان ضعيفاً ، وإن الإنسان خلق هلوعاً ، هكذا خُلِق ، هكذا فطره الله سبحانه وتعالى ، خلقه عجولاً ، وخلقه هلوعاً ، وخلقه ضعيفاً ، ولم يأتِ في كتاب الله من صفات خلق الإنسان إلا هذه الصفات الثلاثة .

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)  ﴾

[  سورة النساء  ]

﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) ﴾

[ سورة المعارج  ]

﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)  ﴾

[ سورة الإسراء ]

لو دققنا في هذه الصفات لوجدنا العجلة والضعف والهلع في مصلحة الإنسان ، فلو أن الله سبحانه وتعالى خَلَق الإنسان قوياً لاستغنى بقوته ، ولشقي باستغنائه ، فهذا الضعف الذي في الإنسان هو الذي يعينه على أن يتصل بالله عز وجل ، وعلى أن يتوب إليه ، وعلى أن يُقْبِلَ عليه ، وعلى أن يخاف منه ، لولا الضعف لما خاف الإنسان ربه ، لولا الضعف لما رجا ما عنده ، لولا الضعف لما تاب إليه ، لولا الضعف لما أقبل عليه ، فالضعف في مصلحته .

إذا عَلَّقْنَا آمالاً كبيرة على أن يربِّي هذا الأب ابنه ، كيف يربي الأب ابنه إن كان الابن مستغنياً عن أبيه ؟ لا ! حاجات الابن كلها متعلقة بأبيه ، يحتاج إلى الطعام والشراب ، وإلى تأمين الحاجات ، حاجات الابن الكثيرة التي أودعها الله عند الأب تتيح للأب أن يربيه ، فالضعف صفةٌ أوجدها الله في الإنسان لمصلحته .

مثل آخر توضيحاً للحقيقة ، لماذا يمرض الإنسان ؟ الله سبحانه وتعالى قدير على أن يخلق الإنسان من دون مرض ، لو أن الله عز وجل خلق الإنسان من دون مرض فلماذا التوبة ؟ لماذا العودة إلى طريق الحق ؟ لماذا الإقلاع عن المعصية ؟ شديد عتيد ، لا يخشى أحداً ، صحة طيبة ، لكن الأمراض أو شبح الأمراض هذه التي تضعف الإنسان ، تجعله يخضع لله عز وجل ، يتوب إليه ، يتضرع إليه ، يُقبل عليه بسبب أن الإنسان ضعيف ، والإنسان أيضاً هلوع .

﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) ﴾

[ سورة المعارج  ]

هلعه يجعله يحتمي بربه ، كيف يعود الابن إلى أمه متشبثاً بأذيالها ؟ لخوفه من الكلب العقور ، لولا خوف الطفل من الكلب لما التجأ إلى أمه ، فهذا الهلع في مصلحة الإنسان ، أما لماذا خلق الإنسان عجولاً ؟ لماذا كان الإنسان عجولاً ؟ لو كان الإنسان بشكل أو بوضعٍ آخر على نقيض العجلة ، لو أنه يبحث عن المستقبل البعيد ، لكان في تعلقه بالآخرة انسجاماً مع طبيعته لما ارتقى بهذا التعلق ، بل لأنه عجول ، فإذا آثر الآخرة على العاجلة فقد خالف هوى نفسه ، وخالف طبيعته ، بهذا يرقى .

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) ﴾

[ سورة الليل  ]

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)  ﴾

[  سورة النازعات  ]

حينما يخالف الإنسان طبيعته يرقى عند ربه ، صلاة الصبح فيها مغالبة لطبيعة الجسم ، طبيعة الجسم تنسجم مع البقاء في الفراش ، لكن صلاة الصبح قبل الشمس هذه الصلاة تحتاج إلى إرادة قوية ، أردت من هذا كله أن أصل إلى أن الإنسان حينما يخالف طبيعته يرقى عند ربه ، فإذا خلق الإنسان عجولاً ، وآثر الآخرة على الدنيا العاجلة بهذا يرقى عند الله عز وجل في الدرجات العلا . 


انطلاق الإنسان وإقباله على الشر بحماس كما لو كان الشر خيراً :


 ربنا عز وجل يقول : ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ .. أيّ إنسان ، هذه المقصود بها جنس الإنسان ، بمعنى أيّ إنسان يدعو للخير دعاءه للشر ، ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ أي ينطلق الإنسان ، ويتحمس ، ويقبل على الشر بحماس ، وصدق ، وجلد ، وتصميم ، وإرادة ، كما لو كان الشر خيراً ، لأن في الشر كما يزعم مغنماً سريعاً ، كسباً عاجلاً ، الناس جميعاً تقريباً إذا رأى بيتاً فخماً تتوق نفسه إليه ، ولو كان تحصيله من حرام ، يؤثر هذا البيت في الدنيا العاجلة على جنة عرضها السماوات والأرض ، إذا عرض عليه مبلغ كبير من طريق غير مشروع يُقبِل عليه ، ويأخذه ، ويؤثره على جنة عرضها السماوات والأرض ، إذاً هو آثر العاجلة على الفانية ، هكذا طبيعته ، لو أنه فكّر ، لو أنه تأمل ، لو أنه تبصر ، لو أنه دقق ، لو أنه حقق ، لو أنه حضر مجالس العلم ، لو أنه عرف القرآن الكريم وعرف ما عند الله لآثر الآخرة على العاجلة .

إذاً : أن تؤثر الآخرة فهذا يحتاج إلى تفكر ، وإلى تدبر ، وإلى تأمل ، وإلى إرادة ، وإلى تصميم ، وإلى علم ، وإلى تقوى ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ ﴾ أي يتمنى الشر بالحماس والرغبة والإرادة والحرارة كما لو كان خيراً .

 

من خالف طبيعة نفسه وآثر آخرته على دنياه ارتقى عند الله عز وجل :


﴿ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ إذاً من خالف طبيعة نفسه ، وآثر آخرته على دنياه ارتقى عند الله عز وجل في جنات عرضها السماوات والأرض ، أي هذه المعاني الثلاث أن الإنسان خلق هلوعاً ، وأن الإنسان كان عجولاً ، وأن الإنسان خُلِق ضعيفاً ، هذه الصفات الأساسية لمصلحة الإنسان .

كيف أن الآلة الثمينة الغالية التي نخشى أن يصيبها العطب نضع فيها ممراً كهربائياً ضعيفاً جداً ، يُعدّ هذا الممر نقطة ضعف في الآلة ، لكن هذا الضعف لمصلحة الآلة ، لو جاء التيار شديداً لساحت هذه النقطة ، ولانقطع التيار عن الآلة ، فصنَّا الآلة من العطب والعطل ، هذا بعض ما في الضعف ، وما في العجلة ، وما في الهلع من حكمة أودعها الله عز وجل في هذه الصفات التي أُوجِدَت في الإنسان لمصلحة إيمانه وسعادته في الدنيا والآخرة ، فالإنسان أحياناً يدعو بالشر ، يريد الدنيا ، وفي الدنيا هلاكه ، يريد المال ، وفي المال هلاكه ، يريد أن يتزوج هذه المرأة ، وقد يكون في زواجه منها شقاؤه ، يريد أن يعمل هذا العمل الذي يدر عليه مبالغ طائلة ، وقد يكون في هذا العمل شقاؤه ، يريد أن يذهب إلى المكان الفلاني حيث المتعة ، والجمال ، والأنس ، والطرب ، والبهجة ، وفي هذا فساد دينه ، ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾ .. أي هذا  الذي يدعونا الله عز وجل إليه التبصر ، التأمل ، التحقق ، التدبر ، التفكر ، لا ينبغي أن نقبل على الشر كما لو كان خيراً ، لا ينبغي أن تفرح بمال عريض يوفر لك سعادة الدنيا ، يأتي الموت فتخسر كل هذا المال ، وأحياناً يستدين الإنسان مبلغاً ضخماً لشراء سيارة مثلاً ، وتحترق السيارة ، ويبقى الدين عليه ، هكذا الدنيا ، يعمل ليلاً ونهاراً من أجل تحصيل دنيا عريضة ، ممتعة ، يأتي الموت تذهب الدنيا وتبقى تبعة العمل ، يبقى المال الحرام الذي حصَّلَه ، فلا تكن أيها الإنسان عجولاً ، في التأني السلامة ، وفي العجلة الندامة ، لا تسرع  وتوافق على هذا المال فقد يكون حراماً ، لا تسرع وتوافق على هذا الزواج فقد يكون مهلكاً ، لا تسرع وتوافق على عقد هذه الشراكة فقد يكون الشريك منحرفاً ، لا تسرع وتأخذ هذا البيت فقد يكون في أخذ هذا البيت اغتصاب ، ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ ينبغي إذا جلسنا هذا المجلس أن نتعظ ، درهم من حلال خير من مئة ألف درهم من حرام ، لا تكن عجولاً ، لا توافق على الشيء قبل البحث عنه ، هل يرضي الله عز وجل ؟ هل هو مطابق للشرع ؟ هل هو وفق السنّة النبوية المطهرة ؟ اسأل ، اسأل أهل الذكر إن كنت لا تعلم ، هذا العمل يدر عليَّ مبالغ طائلة ، ما قولكم فيه ؟ قد يكون هذا العمل مبنياً على إيذاء الناس ، أو على إفساد أخلاقهم ، أو على بيعهم شيئاً يثير الفساد فيهم ، ﴿ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ أرجو الله عز وجل أن أكون قد وفقت إلى توضيح أن الإنسان لا ينبغي أن يكون عجولاً وفق طبيعة خلقه ، الجسم يحتاج إلى الراحة ، أُمِرتَ أن تصلي الصبح قبل شروق الشمس ، لا تستجب لرغبة جسدك ، كذلك في العجول لا تستجب لرغبة نفسك في أن تأخذ الشيء الحاضر ولو كان حراماً ، وأن تدع جنة عرضها السماوات والأرض ، وإن كانت بعيدة المنال . 

بعض علماء التفسير قال في هذه الآية  : ﴿ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ أحياناً حينما تأتي إنذارات الله عز وجل ، يقول الذين لا يعلمون : ائتنا بعذاب الله ، أين عذاب الله ؟ ليكن ؛ نحن لا نخاف .

المعنى الآخر لهذه الآية هكذا ﴿ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ أي يستعجل عذاب الله من دون أن يعرف كُنْهَ هذا العذاب ، وكيف أنه إذا أقبل لات حين مناص ، فالإنسان معرَّض في أمر عمله إلى إغراءات كثيرة ، يقول له أحدهم : دعك من هذه المصلحة ، هذه فاقورة ، أي تسبب الفقر ، لنكن معاً في هذه المصلحة ، ولكن هذه المصلحة فيها فساد ، فيها إفساد لأخلاق الناس ، كل يوم الغلة ثمانية آلاف ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ في بيعك ، في شرائك ، في زواجك ، في شراكتك ، في نزهاتك .. لا تختر شيئاً يغضب الله عز وجل ، لا تؤثر الدنيا الفانية على الآخرة الباقية . 

 

الإنسان خُلِق بالحق من أجل أن يسعد في الدنيا والآخرة :


﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ .. قبل الحديث عن هذه الآية ، ما علاقة قوله تعالى : ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ بقوله تعالى : ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾   هذا هو الهدى الإلهي ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾  هذا هو حال للهدى ، الهدى يهدي للتي هي أقوم ، فما حال المهتدي ؟ هذا المهتدي قد يؤثر الدنيا العاجلة على الآخرة الباقية ، قد يؤثر الدنيا الفانية على الآخرة الباقية ، قد يؤثر الدنيا القليلة على الآخرة الكثيرة ، فما متاع الحياة الدنيا إلا قليل ، أي حينما تحدث الله لنا عن الهدى الذي في هذا القرآن ، وكيف أن هذا الهدى يقود صاحبه إلى التي هي أقوم ، تحدث عن الإنسان المعني بهذا الهدى فقال : ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴾ لو أن الإنسان تفكّر في خلق السماوات والأرض لعرف أن خالق السماوات والأرض خلق السماوات والأرض لهدف كبير ، وليس بمدة يسيرة ، لا يعقل أن تكون السماوات والأرض خُلِقت من أجل أن نعيش على هذه الأرض ستين عاماً ، أو أكثر ، أو أقلّ ، هناك هدف أكبر من أن تعيش سنوات بعضها في الإعداد ، وبعضها في المتاعب ، لو أنك تفكرت في خلق السماوات والأرض لعرفت أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض بالحق ، ومعنى بالحق أي خلقها لهدف كبير ، وخلقها لتبقى ، أنت لم تُخْلَق عبثاً .

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) ﴾

[  سورة المؤمنون  ]

وإنك لم تخلق سُدَىً ، إنما خُلِقْتَ بالحق من أجل أن تسعد في الدنيا والآخرة ، لذلك الله عز وجل يلفت نظر الإنسان إلى أنك إذا عرفت الله لم تكن عجولاً ، ولم تدع للشر دعاءك للخير .

 

معرفة الله عز وجل من خلال آياته الكونية :


كيف تعرف الله عز وجل ؟ ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ .. هذه الأرض ، وهذه الشمس ، لو أن الأرض ثابتة في مكانها لا تدور حول نفسها لما كان ليل ولا نهار ، لكان نصفها الأول نهاراً سرمدياً ، ونصفها الآخر ليلاً سرمدياً ، ولكن دورة الأرض حول نفسها جعلت الليل والنهار ، إذاً الليل والنهار آيتان دالتان على قدرة الله عز وجل ، وعلى عظمته ، وعلى حكمته . 

الآن سرعة الدوران ، ماذا نفعل بنهار لا يزيد عن ساعة واحدة ؟ وماذا نفعل بليل لا يزيد عن ساعة واحدة ؟ ماذا نفعل بنهار يزيد عن مئة ساعة ؟ وماذا نفعل بليل يزيد عن مئة ساعة ؟ كون الأرض تدور حول الشمس هذه آية ، وكونها تدور في سرعة مناسبة لطبيعة الإنسان هذه آية ثانية ، وكون الأرض تدور حول الشمس آية ثالثة ، وكون محور الأرض مائلاً هذه آية رابعة ، دورتها حول نفسها آية ، وحول الشمس آية ، وميل محورها آية ، من خلال هذا كله كان الليل والنهار ، الليل ذو الأمد المعقول ، والنهار ذو الأمد المعقول ، وكان الصيف والشتاء والربيع والخريف ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ﴾ .. هل فكرنا بهما ؟ هل استيقظنا في أحد الأيام على نهار لا شمس فيه ؟ فيه خلل فني ؟ لم تصل الشمس اليوم ؟ هذا الثبات في الليل والنهار منذ مئات ألوف السنين .

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)  ﴾

[  سورة فصلت ]

 

سنة الله في الليل أنه راحة وسكون وهدوء :


﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ﴾ .. الله سبحانه وتعالى جعل الليل مظلماً ، كي ننام ، كي ترتاح عضلاتنا ، وترتاح أعصابنا ، وكي ترتاح أجهزتنا ، وكي ننطلق في اليوم التالي إلى عملنا بنشاط واستعداد كافيين ، فالليل من سماته أنه يعيق الحركة لسيطرة الظلام عليه ، لا حركة ، ولا نشاط ، ولا سعي ، ولا كسب في الليل ، طبيعة الليل طبيعة ساكنة .

﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) ﴾  

[ سورة النبأ  ]

﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ﴾ ألغينا الحركة مع إلغاء الضياء ، ألغينا الحركة مع الحاجة إلى النوم .

 

العلة من خلق الليل والنهار :


﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ .. النهار مضيء ، كل شيء تراه في النهار ، فالفلاح ينطلق إلى عمله في النهار ، والصانع ينطلق إلى معمله في النهار ، والموظف ينطلق إلى دائرته في النهار ، وكل أصحاب الحرف ، وأصحاب المحلات ، وأصحاب النشاطات ، ينطلقون في النهار ﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ لتكسبوا رزقكم ، الفلاح في أرضه ، والعامل في معمله ، والموظف في دائرته ، والتاجر في متجره ، والصانع في مصنعه ، وكل إنسان يعمل في النهار بشكل طبيعي هو مرتاح ، ومستعد للعمل ، والإضاءة تعين على أداء العمل ، هذه العلة الأولى ﴿ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ .. والله الذي لا إله إلا هو في دورة الأرض حول نفسها آية لا يعرفها إلا من عَقَلَهَا ، لو أن طبيعة الأرض لا تدور ، وإذا لم تَدُرْ فليس هناك ليل ولا نهار ، كيف تتم حياتنا ؟ قد تقول لإنسان : كم عمرك ؟ يقول لك : لا أدري والله ، متى سوف تفعل هذا ؟ لا يملك جواباً ، لكن دورة الأرض حول نفسها جعلت ليلاً ونهاراً ، صار عندنا أسبوع ، صار عندنا شهر ، صار عندنا سنة ، ليل ونهار ، وأسبوع وشهر وعام ﴿ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ فلان بلغ من العمر أربعة عشر عاماً ، فلان في الصف الثاني عشر ، لولا دورة الأرض حول نفسها لما كان فلان في الصف الثاني عشر ، كيف يعرف أنه في الصف الثاني عشر ؟ العبادات ، أوقات الصلوات ، الصيام ، الحج ، البيوع ، الآجار ، أخي استأجر هذه الحاجة لعامين ، هل يمكن أن تقول لعامين لولا الشمس والقمر والليل والنهار ؟ ﴿ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ .

 

كل ما نحتاجه مفصَّل في الوحيين :


﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ .. أي كل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم ودينكم فصَّلناه لكم تفصيلاً ، كل شيء أنتم في أمس الحاجة إليه في أمر دنياكم ؛ أحكام الزواج ، أحكام الطلاق ، أحكام البيع ، أحكام الأجار ، أحكام المضاربة ، أحكام المزارعة ، كل شيء تحتاجونه في دنياكم وآخرتكم فصَّلناه تفصيلاً ، وهذا من نعمة الله علينا ، نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الإرشاد ، أي كأن الله عز وجل أراد أن هذا الإنسان الذي يدعو بالشر دعاءه بالخير لو فكر في خلق السماوات والأرض لعرف الله ، ولدعا إلى الخير ، وترك الشر .

من الذي يدعو بالشر دعاءه بالخير ؟ الجاهل ، من الذي يأكل مادة سامة ؟ هو الجاهل ، لو عرفها سامة لما أكلها ، فيا أيها الذي تدعو بالشر دعاءك بالخير تأمل في خلق السماوات والأرض ، إذا تأملت في خلق السماوات والأرض عرفت الله ، عندئذ تبحث عما يرضيه ، عندئذ تعرف لماذا أنت على وجه الأرض ، عندئذ تعرف مهمتك في الدنيا ، عندئذ تدع المعاصي وتفعل الخيرات . 

 

العمل الذي يفعله الإنسان هو ملزم به :


﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ ..الطائر هنا كناية عن العمل ، العمل الذي تفعله اختياراً أنت ملزم به ، يجب أن تتحمل تبعته ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ .. أي عملك الطيب الذي تفعله باختيارك ، وعملك السيئ - لا سمح الله - الذي تفعله باختيارك ، هذا العمل سوف يُطَوِّقُ عُنُقِكَ ، كناية لطيفة ، كيف أن القيد أحياناً يُطَوِّق عنق الإنسان فلا يستطيع منه فكَاكَاً ، إما أنه قلادة من الأحجار الكريمة تزين بها عنقك ، وإما أنها قيد تجر به إلى مصيرك ، على كلٍّ عمل الإنسان الذي يعمله باختياره من خير أو شر سوف يكون قيداً يقيد عنقه ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ هذه الآية تؤكد مبدأ التبعة ، مبدأ المسؤولية .

﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ .. الطائر هنا العرب كانت في الجاهلية إذا طار طائر عن يمينها تفاءلت ، وإذا طار طائر عن شمالها تشاءمت ، فكأن الطير في العرف الجاهلي رمز لما سيصيب الإنسان من خير أو شر ، هنا في الآية الطائر هو العمل ، العمل الذي كان في ملكك فطار منك ، الإنسان قبل أن يعمل له الحرية ؛ يعمل أو لا يعمل ، يعصي أو لا يعصي ، يفعل الصالحات أو لا يفعل ، هذه الأعمال كامنة فإذا فعلها فهو تابع لها ، كأنها طارت منه ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ هذا العمل يلزم الإنسان ، يلزمه ويقيده ، ويصبح الإنسان رهينة لعمله .

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)  ﴾

[  سورة المدثر ]

الآن لو أن الإنسان فعل عملاً يخالف القوانين والأنظمة يتحمل تبعة عمله ، وقد يخسر حريته ، عمله أصبح قيداً له . 

 

كلّ عملك مسجَّلٌ في كتاب تقرؤه بنفسك يوم القيامة :


﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ﴾ .. كل عمل تعمله مسجل ، وأغلب الظن أنه مسجل مع الصورة :

﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)﴾

[ سورة المطففين  ]

ومعنى ( مرقوم ) أي مُرَقَّم ، لها معنيان  :  مرقم الصفحات ، لا يمكن أن تُنزع منه صفحة . ومرقوم بمعنى أن فيه صوراً ، من الرقم ، أي العمل مع صورته ، فما قولكم لو جئنا يوم القيامة ، فإذا حياتنا منذ أن أدركنا سن البلوغ وسن المسؤولية إلى ساعة الوفاة ، كل صغيرة وكبيرة ، كل عمل صالح ، كل عمل سيئ ، كل مخالفة ، كل طاعة ، مسجلة مع صورة له ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ .. أحياناً يدخل الموظف إلى مديره العام ، شاكياً له ، يستدعي هذا المدير موظف الذاتية ، يقول له : ائتني بإضبارة فلان ، تأتي الإضبارة ، يفتحها له ، باليوم الفلاني تأخرت ، في صحيفتك توبيخ مسجل ، في صحيفتك تقرير طبي خلّبي ، غير صحيح ، يُلزمه بأعماله كلها ، فإذا هذا الموظف ينكمش ، ويخجل ، ويُسقَط في يده ، هذا مثل .

﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ أنت حاسب نفسك ، هذه الأعمال قال لي شخص : ارتكب رجل جريمة ، فقال له القاضي : أنت احكم على نفسك ، قال : الإعدام ، ارتكب جريمة بشعة ، قتل فيها أماً وأطفالها ، من أجل أن يسرق البيت ، فلما وقع في قبضة العدالة ، وبدأ قاضي التحقيق يفور ويهمد ، قال له : أنت احكم على نفسك ، قال : أستحق الإعدام ، ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ عندما يعود الإنسان إلى فطرته السليمة ، ويطَّلِع على عمله المؤذي كأن الله عز وجل يقول له : ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ لذلك إن العار ليلزم المرء يوم القيامة ، العار والخزي عندئذ يستحق دخول النار.

﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)﴾

[  سورة المؤمنون ]


من اهتدى نفع نفسه ومن ضلّ ألحق بنفسه الهلاك في الدنيا والآخرة :


﴿ مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ .. إذا كان مع رجل ثمن بيت ، وضعه في برميل ، وصبّ عليه الزيت ، وأحرقه ، ستمئة ألف ، من الذي يغتاظ ؟ جاره ؟ صديقه ؟ هو هو نفسه ﴿ مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ الهدى عائد عليك ، والضلال عائد عليك ، فإذا اهتديت فما زدت عن أن نفعت نفسك ، وإذا ضللت فما زدت عن أن ألحقت بنفسك الهلاك في الدنيا والآخرة ، ﴿ مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ ألم يقل الله عز وجل : ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ وأن الإنسان الجاهل يدعو بالشر دعاءه بالخير ؟ وأن طريق معرفة الله ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ﴾ ؟ وأن الإنسان محاسبٌ عن عمله حساباً دقيقاً  ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ ؟  وأن الإنسان حينما يعود إلى فطرته السليمة سوف يحكم هو نفسه على نفسه بالنار ؟ والآن ربنا عز وجل يقول : ﴿ مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ اعملوا ما شئتم ، كل الذي تعمله تجده ، كل الذي تفعله من معاصٍ تحاسب عليه ، إن لكل حسنة ثواباً ، ولكل سيئة عقاباً . 

 

كل إنسان محاسب على عمله :


﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ .. هذه الآية أصل في أن إنساناً لن يؤخذ بجريرة إنسان آخر ، كل إنسان يحاسب عن عمله ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ أي ولا تحمل نفس حمل نفس أخرى ، كل إنسان يحمل حمله ، لو أن الأب كان مهتدياً ، وجاء الابن ضالاً ، إذا بذل الأب جهده في هداية ابنه ، وأبى الابن الهداية لن يتحمل الأب من تبعة ابنه شيئاً ، ولو كان الابن مهتدياً ، وكان الأب ضالاً لن يتحمل الابن من ضلال الأب شيئاً ، وكذلك الأخ ، وكذلك الزوجة .

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)  ﴾

[  سورة التحريم  ]

 لا امرأة فرعون تتحمل من أوزار فرعون شيئاً ، ولا سيدنا نوح وسيدنا لوط يتحملان من أوزار نسائهما شيئاً ، كل إنسان يحاسب عن عمله ، هذا أصل في العدالة .  


رحمة الله أبت أن يعذب مخلوقاً قبل أن يبلِّغَه رسالة السماء :


﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ .. أي الكون وما فيه من آيات دالات على عظمة الله عز وجل ، الكون كافٍ ليضعك أمام المسؤولية ، والفطرة السليمة التي فُطِرت عليها كافية لتعرفك بربك وبمسؤوليتك ، ولكن رحمة الله عز وجل أبت أن يحاسب إنساناً ، أو أن يعذب إنساناً بعد أن يُبَلغه رسالته ، معنى ذلك أن الله عز وجل لا يدع أهل الأرض من دون هداة ودعاة ، ومن يعلم الناس أمر دينهم .

﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)  ﴾

[ سورة الملك ]

الله عز وجل في آيات كثيرة .

﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)  ﴾

[ سورة فاطر ]

لا بد من النذير ، النذير كما قال القرطبي في تفسيره هم الرسل ، والنذير هم العلماء ، والنذير هي المصائب ، وسن الأربعين ، والشيب ، وموت الأقارب ، لا يمكن أن يعذب الله إنساناً قبل أن يبلغه رسالته ، مع أن الكون يكفي لما فيه من آيات دالات على عظمة الله ، مع أن فطرة الإنسان تكفي ، ولكن رحمته أبت أن يعذب مخلوقاً قبل أن يبلِّغَه رسالة السماء ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ :

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾

[ سورة الأنفال ]

إذاً لا بد من أن يسمعهم مادام فيهم الخير .

 

تدمير الله عز وجل لشدته يصيب العباد والبلاد ولكن بعد إنذارهم وتحذيرهم :


﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ .. القرية هنا كناية عن سكان القرية ، وقد ذكر الله القرية مكان أهلها إشارة إلى أن تدمير الله عز وجل لشدته يصيب العباد والبلاد ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ﴾ .. أردنا إهلاكها  لأنها فعلت موجبات الإهلاك ، القرية أو أهل القرية أو المجتمع الذي يَفسد ، ويُعصى الله فيه ، ويأكل القوي حق الضعيف ، وتُفعل الفاحشة ، ويَنعدم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، في مثل هذا المجتمع الظالم يستحق الهلاك ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ﴾ لأنها فعلت المعاصي والموبقات بأن ضاع فيها الحق ، وأكل القوي الضعيف ، بأن انعدم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بأن كُذِّب الصادق ، وصُدِّق الكاذب ، واؤتمن الخائن ، وخُوِّن الأمين ، إذا فعل مجتمع ما من المعاصي والموبقات والانحرافات ما يكفي لهلاكه أو ما يستحق إهلاكه في هذه الحالة ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ﴾ لا بد من أن نبعث فيها رسولاً ليحذرها ، وينذرها ، ويبين لها عاقبة عملها ، ومغبة معصيتها ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ .. أمرناهم بالطاعة ، أمرناهم بالتوبة ، أمرناهم بالعودة ، أمرناهم بالإنابة ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ أن يستقيموا ، لأنهم إذا استقاموا استقام الناس لأنهم تَبَعٌ لهم ، ألم يقل الإمام علي كرم الله وجهه  عن كميل بن زياد  :

(( أخَذَ بيدي أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ بالكوفةِ ، فخرَجْنا حتى انتَهَيْنا إلى الجبانِ ، فلمَّا أصحَرَ تنفَّسَ صُعَداءَ ، ثمَّ قال لي : يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ ، إنَّ هذه القلوبَ أَوْعيةٌ ، وخيرَها أَوْعاها للعلمِ ، احفَظْ عنِّي ما أقولُ لكَ ، الناسُ ثلاثةٌ : عالمٌ رَبَّانيٌّ ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ ، وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ ، يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ ، العلمُ خيرٌ مِن المالِ ، العلمُ يحرُسُكَ ، وأنتَ تحرُسُ المالَ ، المالُ يُنقِصُه النفقةُ ، والعلمُ يزكو على الإنفاقِ ، يا كُمَيلُ بنَ زيادٍ ، محبةُ العالمِ دِينٌ يُدانُ ، تُكسِبُه الطاعةَ في حياتِه ، وجميلَ الأُحْدوثةِ بعدَ وفاتِه ، ومنفعةُ المالِ تزولُ بزوالِه ، العلمُ حاكمٌ ، والمالُ محكومٌ عليه ، يا كُمَيلُ ، مات خُزَّانُ المالِ وهم أحياءٌ ، والعلماءُ باقونَ ما بقِيَ الدهرُ ، أَعْيانُهم مفقودةٌ ، وأمثالُهم في القلوبِ موجودةٌ ، وإنَّ ههنا -وأشارَ إلى صَدرِه- لعلمًا جَمًّا لو أصَبتُ حَمَلةً ، بلى أصَبتُ لَقِنًا غيرَ مأمونٍ ، يَستعمِلُ آلةَ الدِّينِ بالدُّنْيا... وذكَرَ الحديثَ. ))

[  ابن عساكر  : تاريخ دمشق : خلاصة حكم المحدث  : طريق غريب   ]

هؤلاء الناس تبع للمترفين ، تبع لأهل الدنيا ، تبع لأكابر ، أكابر القوم ، تبع للأغنياء ، فالله سبحانه وتعالى توجه بالأمر إلى المترفين بخاصة ، وإلى الناس بعامة ، لأن الناس في الأصل تَبَعٌ لهم ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ أمرناهم بالطاعة ، أمرناهم بالتوبة ، أمرناهم بالإنابة ، أمرناهم بالهدى ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ ، لم يستجيبوا ، لم يرعووا ، لم يأبهوا ﴿ فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ هذه الآية تصديق وتأكيد للآية السابقة ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا(15)وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ .. معنى ﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ﴾ أي استحقت الهلاك وفق السنن الإلهية ، أن الله عز وجل لا يهلك قرية حتى يبعث فيها رسولاً ، أي مع كل الإنذارات ، مع كل الدعوات ، مع كل التحذيرات ، مع الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، استمر هؤلاء في ضلالهم وغيهم وفسقهم وفجورهم فحق عليها القول ، والقول هو الأمر بهلاكها بعد استحقاق الهلاك ، فدمرناها تدميراً كاملاً ، هذه الآية أيضاً تشبه القاعدة الثابتة . 

 

الله تعالى وحده يعرف ذنوب عباده ونواياهم ومكنونات صدورهم :


﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ ..  أي الله وحده يعلم حجم الذنوب التي يقترفها الناس ، البيوت مُغلّقة الأبواب ، لا نعلم نحن كم من هذه البيوت فيها المعاصي ، ولا ما فيها من طاعات ، الله سبحانه وتعالى هو الخالق العليم ، السميع ، البصير ، هو الذي يعرف ذنوب عباده ، ويعرف نواياهم ، يعرف مكنونات صدورهم ، يعرف طموحاتهم ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ إذا كنت أنت لا تعلم ، وفي قلبك ألم لا يحتمل لتقصير الناس فكيف لو علمت كل المعاصي التي يقترفها الناس ؟ 

هذه الآية تشير إلى حلم الله سبحانه وتعالى ، يعلم كل شيء ، يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور ، ومع ذلك يحلم علينا . 

 

مَن أراد الدنيا العاجلة الفانية أخذ منها بقدر ما كُتِب له :


﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ .. الإنسان مخير ، والدليل هذه الآية : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ﴾ .. إذا أردت الدنيا أعطيناك إياها ، أنت مخير ، اختر ما شئت ، لو أنك اخترت الدنيا العاجلة على الآخرة الباقية لأعطيناك الدنيا ، من كان يريد العاجلة ، سماها الله العاجلة ، وهذا انسجام مع قوله تعالى : ﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾ أي يختار الدنيا الفانية على الآخرة الباقية ، يختار عاجل الدنيا على آجل الآخرة ، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ﴾ إذا أردتها بصدق وتصميم وإلحاح ، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ﴾ يريد الدنيا ، ولا شيء غير الدنيا ، ليس معنياً بطاعة الله ، ولا برضوان الله ، ولا بالآخرة ، ولا بفهم كتاب الله ، يريد الدرهم والدينار ، يريد البيت المريح ليزينه ، ويختال فيه ، ويفتخر على أقرانه به ، يريد المرأة التي تروق له ، لا التي ترضي الله عز وجل ، يريد المال الوفير ، لأنه مادة الشهوات ، يريد المكانة العلية التي يستعلي بها على الناس ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا ﴾ نعطيه الدنيا ، خذها ، وفي الحديث عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ  : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  :

(( لو كانتِ الدُّنيا تعدلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ . ))

[ صحيح الترمذي :  خلاصة حكم المحدث  : صحيح   ]

 خذها ، لا قيمة للدنيا عند الله ، عن عبد الله بن عباس :

(( مرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بشاةٍ ميتةٍ قد ألقاها أهلُها فقال : والذي نفسي بيدِه للدُّنيا أهونُ على اللهِ من هذهِ على أهلِها . ))

[ أحمد شاكر  :المسند لشاكر : خلاصة حكم المحدث  : إسناده صحيح  : أخرجه أحمد  ، وأبو يعلى واللفظ لهما ، والبزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (3691) باختلاف يسير  ]

لا قيمة لها ، فلينظر ناظر بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ؟ فإن قال : أهانه فقد كذب ، وإن قال: أكرمه فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا .

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]

من الدنيا ، من مالها ، من نسائها ، من بيوتها ، من مزارعها ، من مركباتها ، خذوا ما شئتم منها ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ .

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ عجلنا له فيها ما نشاء أي بالقدر الذي نشاء ، قد نعطيه المال ، ونسلبه راحة البال ، قد نعطيه راحة البال ، ونسلبه المال ، قد نجعل زواجه سعيداً ، لكنه لا ينجب الأولاد ، قد نجعل أولاده أبراراً ، ونسلبه شيئاً آخر﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ﴾ بالقدر الذي نشاء ، وفق حكمة بالغة وعلم وخبرة . 

﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ .. أما أن تؤتى من الدنيا كل شيء فهذا مستحيل ، قد تصيب شيئاً ، ويفوتك أشياء ، قد تصيب المال ، لكنك لا تسعد بهذا المال ، قد تحرم المال ، ويعطيك الله راحة البال ﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ﴾ بالقدر المناسب الحكيم :

عن رافع بن خديج :

(( إذا أحبَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عبدًا حماه الدُّنيا كما يَظلُّ أحدُكم يحمي سقيمَه الماءَ . ))

[ الترغيب والترهيب : خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن | التخريج : أخرجه الطبراني ]

عن حذيفة بن اليمان : 

(( إِنَّ اللهَ تعالى يَحْمِي عبدَهُ المؤمِنَ كما يَحْمِي الراعِي الشفيقُ غنمَهُ عَنْ مراتِعِ الهلَكَةِ . ))

[ ضعيف الجامع: خلاصة حكم المحدث : ضعيف  ]

﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ نعطي ما نشاء لمن نشاء ، الدنيا بيد الله عز وجل ، يعطيها لمن يشاء ، إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه .  


من لوازم الدنيا أنها تنتهي بصاحبها إلى الهلاك :


﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ خذ الدنيا ، ولكن هذه الدنيا إذا أخذتها بعد إلحاح وإصرار ، وعصيت الله فيها ، ولم تنفق هذا المال في وجهه ، ولم ترع في المال حق المسكين والجائع والفقير ، وعصيت الله فيها ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ .. مذموماً من قِبَل نفسه ، ومن قِبَل الناس ، ومن قِبَل الحق جلّ وعلا ، ﴿ مَدْحُورًا ﴾ ..  يُدخل فيها قسراً ، ليس له اختيار ، ومن لوازم الدنيا أنها تنتهي بصاحبها إلى الهلاك .

 

من أراد الآخرة وسعى لها أعطاه الله الدنيا والآخرة معاً :


﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ ﴾   ، أوضح آية في الاختيار هي هذه الآية : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18)وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ ﴾ أراد الآخرة وآثرها على الدنيا فأعطاه الله الدنيا والآخرة ، من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً ، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن أراد الآخرة ، أرادها بصدق ، وإخلاص ، وإصرار ، وإلحاح ، أرادها بكل ذرة في جسمه ، بكل خلية في جسده ، بكل قطرة من دمه ، أراد الآخرة ، والدليل : ﴿ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ .. مجلس العلم أغلى عليه من كل شيء ، طاعة الله عز وجل أغلى من الدنيا وما فيها ، الدنيا وما فيها ليست بشيء أمام طاعة لله عز وجل :

(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ : لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ  ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه  ، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ  ، قالَ  : فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ  : أيُّهُمْ يُعْطَاهَا  ؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا  ، فَقالَ  : أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ  ؟ فقِيلَ  : هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ  ، قالَ  : فأرْسَلُوا إلَيْهِ . فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له  ، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ  ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ  ، فَقالَ عَلِيٌّ  : يا رَسولَ اللَّهِ  ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا  ؟ فَقالَ  : انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ  ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ  ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا  ، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ . ))

[ صحيح البخاري ]

و: خير له مما طلعت عليه الشمس ، و: خير لك من الدنيا وما فيها ، ومن أراد الآخرة ، ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ ﴾   إذا أردت الآخرة فعليك بطلب العلم ، يجب أن تكون طالباً للعلم ، العلم بالله ، العلم بأسمائه ، بآياته ، بكتابه ، بحلاله ، بحرامه ، بشرعه ، بمحكمه ، بمتشابهه ، من أراد الآخرة يستقيم على أمر الله ، ويطلب العلم ، ويستقيم على أمر الله  ، ويعمل الصالحات ، ويكثر من ذكر الله ، والدليل : ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا ﴾ دليل أنك تريدها سعيك لها ، أنت أردت النجاح ، الدليل تدرس ، أردت أن تكون تاجراً تبحث عن محل ، أردت أن تكون طبيباً تدخل كلية الطب ، علامة الإرادة السعي ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا ﴾ لو أن الله عز وجل قال : وسعى لها ، أي سعي مقبول ، لكن وسعى لها سعيها ، لها سعي خاص ، من أراد الطب وسعى له فجمّع العلامات المطلوبة ، للطب علامات خاصة ، إذا أردت أن تكون طبيباً فله علامات خاصة ، وإذا أردت الآخرة فلها سعيها الخاص ، لها نمط خاص ﴿ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ .. وهو مؤمن بها ، إيمانه بها كإيمانه بالله عز وجل ، إيمانه بها كأن يرى الشمس في رابعة النهار . 


معالم على طريق الآخرة : 


﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ .. بارك الله لكم في سعيكم لهذا المسجد ، هذا سعي مشكور ، من الذي يشكره ؟ الله سبحانه وتعالى ، لماذا تأتي إلى هنا ؟ ليس عندنا دنيا ، ليس هناك أي مزيَّة لمجيئك إلا أنك تسعى للآخرة ، ليس في المساجد دنيا ، لكن فيها الآخرة ، مجيئك إلى المسجد لطلب العلم بند من بنود السعي للآخرة ، غضك البصر عن محارم الله بند من بنود السعي للآخرة ، أداؤك الصلوات بإتقان بند من بنود السعي للآخرة ، إنفاقك من المال ، أداؤك الزكاة ، صوم رمضان ، حج البيت ، تحري الحلال ، الإحسان للخلق ، فهذه كلها معالم على طريق الآخرة ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ قراءة كتاب الله ، إتقان لفظ كتاب الله ، تعلّم أحكام التجويد ، إتقان فهم كتاب الله ، العمل بكتاب الله ، هذا كله من السعي للآخرة . 

 

كلما ارتقت مرتبة الإنسان في شكرك كان هذا باعثاً على الطمأنينة :


﴿ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ من الذي يشكر سعيك ؟ الله سبحانه وتعالى ، فإذا شكرك إنسان فإن قلبك يفرح ، كلما ارتقت مرتبة الإنسان في شكرك كان هذا باعثاً على الطمأنينة ، فكيف لو كان الله سبحانه وتعالى في عليائه هو الذي يشكرك على هذا السعي ؟ لو تلقى الإنسان كلمة شكر من رئيسه ، موظف في دائرة له رئيس ، رئيس دائرة ، شكره بكتاب خطي يقرؤه مرة أولى وثانية وثالثة ورابعة ، كلما صادف إنساناً يبرز له الكتاب ، جاءني كتاب شكر ، فإذا كان هذا إنساناً عادياً أعلى منك بمرتبة شكرك خطياً قد لا يسعك عقلك ، فكيف لو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يشكرك ؟ ﴿ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ من قِبل الحق ، ومن قِبل الخلق ، ومن قِبل نفسك ، حينما توصل هذه النفس إلى الجنة تشكرك على أن أوصلتها إليه ، ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ .. الدنيا عطاء والآخرة عطاء اختر ما تشاء .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور