وضع داكن
07-09-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 008 - السماع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة السماع:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الثامن من دروس مدارج السالكين، منزلة اليوم هي منزلة السماع.
الإنسان أيها الإخوة لـه نشاطات أساسية، فهو يتكلم، فهناكَ أحكامٌ كثيرة جداً ذكرهـا النبي عليـه الصلاة والسلام متعلقـةً بالكلام، الغيبة، والنميمة، والفُحش، والبذاءة، والتغرير، والكِبرُ، وما شاكلَ ذلك، وحسبكم قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. ))

[  صحيح الترغيب: خلاصة حكم المحدث: حسن ]

إذاً الحديث والكلام نشاطٌ أساسي من أنشطة الإنسان، النظر أيضاً نشاط من أنشطة العين، لذلك وردت آياتٌ وأحاديث تتعلق بموضوع النظر، لكن منزلة اليوم هي منزلة السماع.
كلكم جميعاً أيها الإخوة الأكارم؛ أتيتم إلى بيتٍ من بيوت الله، أتيتم لماذا؟ كي تأكلوا؟!! لا والله، كي تتكلموا؟ لا، كلكم يسمع، إذاً السماع نشاط، نشاطٌ أساسي أن تستمع، هناكَ أماكن لهوٍ يأتيها الناس من كلِّ جانب ليستمعوا إلى الموسيقا، هناك أماكن أخرى يأتيها الناس من كلِّ جانب ليستمعوا إلى حِوار بين الممثلين، هناك أماكن يأتيها الناس من كلِّ جانب يستمعون فيها إلى الغناء، إذاً هذه الأذن لها نشاطات عديدة، أما أن تأتي بيتَ الله عزّ وجل لتستمعَ إلى الحق فهذا نشاطٌ أثنى الله على فاعليه.
على كلّ قبلَ أن نَخوضَ في الموضوع أريد أن أضع بين أيديكم هذا المثل، أي أنت إما أن تأتي إلى بيتٍ فيه طبخٌ نفيس، فتأكلَ من الطعام ما لذَّ وطاب، من دون أن تبذلَ جهداً إطلاقاً، تجلس على المائدة، توضع لكَ المقبلات، ألوان الطعام الفاخر، تأكل، تتذوق، تشعر باللذة، تُحسّ بالشبع، وإما أن تذهبَ إلى السوق، وأن تختار ألوان الخضار، وأن تغسلها، وأن تُقطّعها، وأن تطبخها، وأن تنتظر الساعات الطويلة كي تنضج، أي إما أن تصنع طعاماً أنت، وإما أن تأكله جاهزاً، فإذا أردتَ أن تُفكّرَ أنتَ في الكون، أن تستخدمَ عقلكَ في الكون، أردتَ أن تتأمل، أردتَ أن تبحثَ بحثاً ذاتياً، فهذا نشاط العقل، أو أن تستمعَ إلى الحق جاهزاً، إذاً: 

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾

[ سورة ق ]

قلب يعقل به، سنأتي بعدَ قليل على مرتبة السماع أتكفي وحدها أم أنها مفتاح العِلم؟ بعد قليل يتضحُ كلُّ هذا.
 

السماع عبادةٌ من أرقى العبادات:


على كُلٍ السماع اسمُ مصدرٍ كالنبات، الله سبحانه وتعالى أمرَ به، أنتم الآن تُنفّذونَ أمرَ الله عزّ وجل، الله سبحانه وتعالى أمرَ به في كتابه، وأثنى على أهله، وأخبرَ أن البشرى لهم، آيات تتعلق بالسماع من يذكر بعضها؟ نحن اليوم في منزلة السماع، عبادةٌ من أرقى العبادات، أن تأتي إلى بيتٍ من بيوت الله، وتُلقي أذناً صاغية، قال تعالى:

﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)﴾

[ سورة الزمر ]

هذه آية أمر أم خبر؟ خبر، لكنها جاءت في معرضِ الأمر، آية ثالثة الأمر بالسماع:

﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)﴾

[ سورة مريم ]

 صيغة أسمعْ بهم، هذه صيغة تعجب، تقول: ما أعدلَ القاضي! أعدلّ به! ما أجملَ القمرَ! أجملّ به! فصيغة أجمل به! هذه صيغة من صيغ التعجب، أي ما أشدَّ صممهم في الدنيا! وما أشدَّ سمعهم في الآخرة! ﴿أسمع بهم وأبصر﴾ .
الآن ما أشد سمعهم! أما في الدنيا ما أشد صممهم! هذه صيغة تعجب، أنا أذكر لكم بعض الآيات، ربنا سبحانه وتعالى أمرنا أمر.
 

كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب:


أيها الإخوة الأكارم؛ أتمنى عليكم أنك إذا قرأت القرآن ألا تظن أنَّ الأمر أن تصومَ، وأن تصلي، وأن تَحُجّ، وأن تُزكي، أيّةُ صيغة أمرٍ في القرآن تقتضي الوجوب، مرتبتها كمرتبـة الصلاة، إذا قرأتَ القرآن ومرّت بكَ صيغة أمر، فعل أمر، أو فعل مضارع قبله يوجد لام الأمر، أو صيغة خبرية جاءت في معرض الأمر مثلاً: 

﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)﴾

[ سورة البقرة ]

أي أيتها الوالدات أرضعنَ أولادكن، يجب أن تعرفَ معنى الأمر في البلاغة، عندنا أمر وجوب، وأمر ندب، وأمر تهديد، وأمر استحسان، وأمر إنكار، إلى آخره، لكن يجب أن تعرف أنَّ هذا أمر إلهي يقتضي الوجوب، إذا تلوتَ قوله تعالى، قال تعالى: 

﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)﴾

[ سورة المائدة ]

اسْمَعُوا: فعل أمر، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا﴾ وقال تعالى: 

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)﴾

[ سورة التغابن ]

هاتان آيتان، وقال تعالى: 

﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)﴾

[ سورة الزمر  ]

﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)﴾

[ سورة الأعراف ]

السماع هنا غير الإنصات، السماع شيء، والإنصات شيء آخر، قد تُنصت، وعقلكَ يجول في موضوعاتٍ شتى، أما الأمر أن تستمع وأن تُنصت، أي أن تسكت وأن تُعمِلَ فِكركَ في هذا الذي تسمعه، أن تتدبر هذا الذي تسمعه، ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ وقال تعالى: 

﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)﴾

[ سورة المائدة ]

هل رأيتم الآيات؟ أي أنت إذا ارتديت ثيابك، وأتيتَ بيتَ الله عزّ وجل لتمارسَ عبادةً اسمها السماع فأنتَ في عبادة، وأنتَ في ذِمة الله، والملائكة تضعُ أجنحتها لكَ يا طالبَ العلم، وهم في مساجدهم والله في حوائجهم، ست آيات أنتَ مأمورٌ أن تستمع. 
 

الفرق بين الإسماع والسماع:


أما البِشارة التي سأزفها لكم هي أنَّ الإسماعَ من الله والسماعَ من العباد دليلٌ قطعي على أن الله عَلِمَ في الإنسان الخير، ما دام قد أسمعكَ الحق، ما دام قد سمحَ لكَ أن تأتي إلى بيت الله، ما دام قد أنطق المُتكلّم بالحق، وجعلك تستمع الحق، فهذه بِشارةٌ لك، الدليل، من يأتيني بالدليل؟ الإسماع من الله والسماع من الإنسان دليل خيريّة الإنسان، دليل قطعي، أي ما دام الله عزّ وجل ساقكَ إلى بيت الله، وأنطقَ المتكلّم بالحق، وجعلكَ تستمعُ إليه، قبلَ أن تفعلُ شيئاً مادامَ هذا قد حدث فهذا دليلٌ قطعيٌ على أن الله:

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾

[ سورة الأنفال ]

إلا أن هذه الآية فيها دليل قطعي على أن الله عز وجل حينما ساقكَ إلى سماعِ الحق، وحينما أنطقَ المتكلّم بالحق، فهذا دليلٌ قطعي وبِشارةٌ أزفّها إليكم جميعاً، والدليل القرآن الكريم، ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ﴾ .
لو أنه أسمعهم وليسَ فيهم الخير ماذا يحدث؟ أسمعته الحق وليسَ فيه الخير ماذا يحدث؟ ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ من دون أن يعلم فيهم الخير ﴿لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أعرضوا، سخِروا، استهزؤوا، ، سئموا، ملّوا، استكبروا، هذا كلام نعرفه، هذا كلام ليس لهذا الزمان، مشغولون، عندنا أعمال كثيرة جداً، بزنس مان، لا يوجد عنده وقت: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ .
 الله سبحانه وتعالى أخبرَ عن أعدائه أنهم هجروا السماع فقالَ تعالى: 

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)﴾

[ سورة فُصّلت ]

شوشوا، بيّنوا أخطاء، بيّنوا تناقضات، ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ﴾ إذاً هؤلاء الذين ينهون عن السماع هم أعداء الله عزّ وجل، فكلّ إنسان يصرِفكَ عن مجالس العلم، يُثنيكَ عن حضورها، يُزهّدكَ فيها، يُقللُ شأنها في نظرك، يُبعدكَ عنها، يدعوكَ إلى سمر، إلى طرب، إلى نزهة، على حساب هذه المجالس، هذا من أعداء الله عزّ وجل بالآيات القرآنية القطعية.
 

السماع رسول الإيمان إلى القلب:


أيها الإخوة؛ العلماء يقولون: إنَّ السماع رسول الإيمان إلى القلب، السماع رسول وداعيه ومُعلّم، وكم في القرآن من قوله تعالى:

﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)﴾

[ سورة السجدة ]

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾

[ سورة الحج  ]

ربما كانت النجاة في سماع الحق، أنا أقول لكم: هذا رأي شخصي، الإنسان قد يبلغُ صِدْقه درجةً يبحثُ هو عن الحق بدافعٍ ذاتي، يتأمل، يُفكر، يبحث، يناقش، يُحاور، هذا الحق، هذا الصدق في طلب الحق إذا بلغَ مرتبةً عاليةً صارَ صاحبه يبحثُ ذاتياً عن الحق، من مبادرة منه، هناك درجة أقل أنكَ إذا سمعتَ الحق تُسرُّ به، جاءك الحق جاهزاً، كما قلتُ قبل قليل إما أن تأكل طعاماً طيباً لذيذاً نفيساً من دونِ جهدٍ، ولا دفعِ ثمنٍ، ولا طولِ وقتٍ، ولا معاناةٍ، ولا مشقةٍ، وإمّا أن تصنعَ أنتَ الطعام، هل هناك وضعٌ يجمعُ بين الشيئين؟ أنا الذي أراه أنَّ البحثَ الذاتي لا يُقدّرُ بثمن، لأنه من أخذ البلاد بغير حرب هان عليه تسليم البلاد، كلّ شيء يأتيك بلا جُهد تنساه سريعاً، تزهد به كثيراً، يتفلتُ منك، أما الذي يأتيكَ بجهدٍ جهيد لا تنساه أبداً. 

الحل للجمعِ بينَ ميزةِ السماع السهلة البسيطة وبين ميزة التأمل الصعبة:


هل هناكَ حلّ للجمعِ بينَ ميزةِ السماع السهلة البسيطة وبين ميزة التأمل الصعبة؟ قدّر الله عليك أن تستمع إلى الحق، لا أن تصنعه، لا أن تؤلفه، هل هناك من حالة بالإمكان أن أجمع بين ميزات السماع وميزات العقل والتأمل؟ أن أحضر مجالس العلم، وأن أتأمل فيما قيل، وأن أناقش، وأن أدقق، وأن أحقق، وأن أسأل، وأن أستوضح، وأن أُقيّم، وأن أُثمّن، وأن أُحاور، وأن أكتب، وأن أقول، عندئذٍ تتبنى هذه الأفكار، لذلك لابد للأخ الكريم من جلسةٍ في الأسبوع، إما وحده أو مع صديقٍ له، يتذكرُ ما قيل، يناقش فيما قيل، يُرسّخُ ما قيل، هل حولَ هذا التوجيه دليلٌ قرآني؟ أي أنت مأمور بعدما حضرت مجلس علم وتعبت، يكفي يا أخي سمعنا درس علم، مأمور أن تقعد مع أخيك، أو مع زوجتك، أو مع صديقك، أو مع من يلوذ بكَ، وتقول له: تعالَ ندرس ماذا قيلَ في هذا الدرس؟ قيل كذا وكذا، ما الدليل؟ هل هذا الكلام صحيح أم غلط؟ قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)﴾

[ سورة سبأ ]

في هذا الذي سمعتموه من رسول الله، في هذا القرآن، في هذه السنّة، ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ إذاً نحن بحاجةٍ إضافةً إلى سماع مجالس العلم، سماع العلم في مجالس العلم إلى جلسة، إلى تأمل، إلى تحقّق، إلى تبصّر، إلى تدقيق، إلى سؤال، إلى جواب، إلى محاورة، إلى تفحّص، إلى تفنيد، هذه كلها من دواعي أن يرسخَ العلم، الحقيقة المشكلة لو فرضنا أنكَ أنت تحضر مجلس علم منذ عشر سنوات، يوجد عندنا حقيقة مرة، هذه الحقيقة لو كنتَ في سهرةٍ، في ندوةٍ، في احتفالٍ، في نُزهةٍ، وأنت مظنة صلاح، وأنت طالب علم، وأنت من تلاميذ فلان، وأنت من رواد المساجد، وأنت، وأنت، أخي حدِّثنا تفضل، تجد عندنا مشكلة خطيرة جداً، أن شخصاً حضر دروس علم إحدى عشرة سنة، ثمان سنوات، يجد نفسه لا يستطيع أن يقول شيئاً، أين هذه الدروس كلها؟ أين إعجابك بهذه الدروس؟ أين تأثرك؟ أين بُكاؤك؟ هذه مشاعر آنيّة رافقت الدرس، أما إذا جلستَ جلسةً متأنيّة، تأملّتَ فيما قيل، راجعتَ ما قيل، تبصّرت فيما قيل، دققت، تحققت، سألت، أجبت، ذاكرت، هذه الحقائق تملكها، هناك شيء تسمعه ويتفلتُ منك، وهناكَ شيء تملكه، الذي أراه أنكَ إذا تأملتَ فيما سمعت وحدكَ أو معَ أخيك فهذا من أسباب أن تملك الذي سمعته، يصبح الشيء ملكاً لك، أي مثلاً ممكن تقرأ كتاباً ممتعاً جداً، تقرؤه خلال أربعة أيام، وأنتَ في غاية المتعة، قرأته وانتهى الأمر، لو قالَ لكَ إنسان: ماذا فهمتَ من هذا الكتاب؟ تقول له: واللهِ كتاب رائع، كتاب ممتع، كتاب لطيف، استمتعتُ به، ماذا تذكر من أفكاره؟ هنا تقع في حرج، والله يا أخي لا أتذكر شيئاً الآن، لكن أذكر أنه كلام طيب، هذه القراءة بهذا الجهد البسيط لا تُجدي، ولا تُقدّم ولا تؤخّر، أما لو كلما قرأتَ فكرةً، وقفتَ عندها، وتأملتها، ولخصّتها، الآن ملكتَ الكتاب، وأنتَ في الطريق، وأنتَ مع صديق، وأنتَ في نزهة، وأنتَ في سهرة، وأنتَ في جلسة، بإمكانك أن تقول: قال المؤلف كذا وكذا، وجاء بالدليل الفلاني، وبيّن رأيه كذا، لذلك أيّ سماع من دون جهدٍ فإنَّ هذا المسموع سريعاً ما تنساه.
لذلك قالوا: إنَّ ثلاثاً وتسعينَ بالمئة مما تقرؤه تنساه بعدَ سبعة أيام، أبداً، فحتى الإنسان يقول لك: أنا ذهبت يا أخي إلى درس الجمعة، ودرس الأحد، ودرس الاثنين، وخطبة، يا أخي حتى ترى نفسك أصبحت عالماً، أصبحت مليئاً بالعلم، لابد من المذاكرة، لابد من التحقق، لابد من المُدارسة أنتَ ومن تُحب، على مستوى صديقين، على مستوى قريبين، على مستوى جارين، على مستوى بلدة، على مستوى قرية، على مستوى حي، على مستوى مهنة، على مستوى حرفة، لابد من المذاكرة حتى يرسخَ هذا العلم، وإذا رَسَخَ هذا العلم ملكته، فإذا ملكته حدثتَ به، فإذا حدثتَ به العلم يزكو على الإنفاق، قال له: يا بني العلم خير من المال، لأنَّ العِلمَ يحرسكَ، وأنتَ تحرس المال، والمال تُنقِصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، يزداد على الإنفاق. 
 

الكفر ثلاثة أنواع:


قال: السماع أصلُّ العقلِ، أذكر البارحة في درس الأحد تكلمنا عن أن الكفر أنواعٌ ثلاث، كفرٌ جهلي، وكفرٌ جحودي، وكفرٌ حُكمي، إذا الإنسان أمسكَ بمصحف ورماه في الأرض فهذا كافر، كافر لكنه لم يتكلم ولا كلمة، بقي ساكتاً، هذا كافر حُكماً، أما إنسان مصالحه بالكُفر، ذكي، إلا أن مصالحه مرتبطة بالكفر فهو يردُّ الحقَّ جحوداً واستكباراً، هذا اسمه: كفر جحودي أو عِنادي، لكنَّ الكفر الجهلي الإعراض عن التأملُ في خلقِ السماوات والأرض، والإعراض عن سماعِ ما يقوله العلماءُ في الدين. 
إذاً عدم السماعِ طريقٌ إلى الكفرِ الجهلي، يوجد عندنا كفر جحودي، وعندنا كفر حكمي، وعندنا كفر جهلي، عدم السماع، الإعراض عن السماع، الانصراف عن السماع، طريقٌ إلى الكُفرِ الجهلي، إذاً كما قلت البارحة: الإيمان تصديق، قال تعالى:

﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)﴾

[ سورة يوسف ]

أي وما أنتَ بمصدّقٍ لنا، الإنسان يُصدق ماذا؟ شيء يعرفه، كل خِبرة عِشتها، كل تجربة ألمّت بك، إذا قرأتَ عنها تتفاعل معها، لو فرضنا امرأة لا تنجب، عِندها مشاعر مؤلمة، عندها طموحات، عِندها تمزقات، عِندها شعور بالقلق، عِندها اضطراب، عندها.. لو أنَّ هذه المرأة قرأت قِصةً تُعالج مثيلاتها لتفاعلت معها ولبكت، الإنسان متى يبكي؟ إذا قرأ قصته، إذا قرأ مأساته، إذا قرأ مشاعره، لماذا في عقود القِران يقف المنشدون وينشدون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لماذا ترى إنساناً يبكي ويذوب بكاءً وإنسان عينه قاسية؟ هذا الذي يبكي عاشَ هذه المعاني التي قالها المنشدون فحرّكت فيه المشاعر، أما هذا الذي لم يبك فهو بعيدٌ عن هذه المعاني، لهذا قالَ بعضُ الحكماء، قال: الشعر والإنشاد مصباحٌ كمصباح علاء الدين، يكشفُ لكَ عن كنوزكَ أنت المخبوءةِ في أعماقِ نفسك، ولكنه ليس بالكيس المملوء الذي يُفرغُ في خزائنكَ الخاوية، الذي عنده حبّ لله إذا سَمِعَ شعراً يصِفُ الحبَّ لله عزّ وجل ذابَ قلبه شوقاً، فمشاعركَ متعلقة بخبراتك، فأيُّ شيء حرّك لكَ هذه الخبرات نقل لك هذه المشاعر. 
مثلاً رِثاء ولد، هناك شعر عباسي أموي رائع جداً في رِثاء الأولاد، من الذي إذا قرأ القصيدة يبكي ويجهش في البكاء؟ هو إنسان فَقَدَ ابنه، وقرأ هذه القصيدة، إذاً يتجاوب معها، يشعر، إذاً السماع أصلُ العقل، وأساس الإيمان الذي بني عليه، وهو رائدُ الإيمان، وجليسه، ووزيره، أما المشكلة في المسموع، تسمعُ ماذا؟ لا يوجد سهرة على مستوى الأرض إلا فيها كلام، تسمع أحياناً حديثاً فيه غيبة، حديثاً ساقطاً عن النساء، طُرفاً لائقة وغير لائقة، أخباراً معينة، حكايات، قصصاً مسلّية، فالإنسان يسمع دائماً، لكنَّ البطولة تسمع ماذا؟ موضوع السماع هذا المسموع.
 

أنواع أصحاب السماع:

 

1-صنف يسمع بطبعه ونفسه وهواه:

قال: أصحاب السماع هؤلاء الذين يسمعون أصناف ثلاث، قال: صِنفٌ منهم يسمع بطبعه ونفسه وهواه، هذا يحب الغناء، يعشق هذا المغني أو هذه المغنية، يعشق هذه المسرحية،  هذه التمثيلية، هذه القصة، هكذا، يسمع بشهوته، يسمع بطبعه، يسمع بهواه، هذا سماعه متعلقٌ بشهوته، لذلك إذا أدمنَ السماع انتهى كإنسان، وهناك إنسان قال كلمة: بعض المآسي العامة للشعوب سببها انغماس الناسِ في الغناء، يعيشون سكارى في الغناء، أصبحوا يلهون بعد أن كانوا جادين.  

2-صنف يسمع بعقله لا بشهوته:


النوع الثاني قال: هناك من يسمع بحاله وإيمانه ومعرفته وعقله، لا يسمع إلا القرآن، لا يسمع إلا أقوال الصحابة، لا يسمع إلا الحق، لا يسمع إلا العلم، هذا يسمع بعقله لا بشهوته، الشهوة تحتاج لغناء، تحتاج لطُرف، تحتاج لأعمال فنية، تمثيليات، مسرحيات، مسلسلات، هذه شهوة الإنسان، أما بعقله فيسمع الحق، يسمع كتاب الله عزّ وجل، لكن أقول لكم هذه الكلمة وأنا أعني ما أقول: لا يجتمعُ في الإنسانِ قرآنٌ وغِناء، لأنَّ كُلاً منهما يطرد الآخر، القرآن يطرد الغناء، والغناء يُبعد القرآن، فهؤلاء الذين يدمنون سماع الغناء يسأمونَ من القرآن، يملّونَ منه، يضجرونَ منه، لا يجتمع غناءٌ وقرآن، وقد قالَ عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ. ))

[ أبو داود: صحيح ]  

3-صنف يسمع بالله لا يسمع بغيره:

النوع الثالث، منهم من يسمع بالله لا يسمع بغيره، كما في الحديث القدسي:

(( عن أبي هريرة: قولُ اللهُ تعالى: مَن عادَى لي وليًّا فقَد بارَزني بالمحارَبةِ، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افتَرضتُه عليْهِ، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أحبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الَّذي يسمَعُ بِهِ وبصرَهُ الَّذي يبصرُ بِهِ ويدَهُ الَّتي يبطِشُ بها ورجلَهُ الَّتي يمشي بها، فبي يسمَعُ وبي يُبصِرُ وبي يبطِشُ وبي يسعى، ولئن سألني لأعطينَّهُ، ولئنِ استعاذني لأعيذنَّهُ، وما تردَّدتُ عَن شيءٍ أنا فاعلُهُ تردُّدي عن قَبض نفسِ عَبدي المؤمنِ يَكرَهُ الموتَ وأكرَهُ مَساءتَهُ، ولابد لَهُ منْه. ))

[ صحيح البخاري باختلاف يسير ]

أي يُبصر بنور الله، ويسمعُ بالله عزّ وجل، هذا أرقى أنواع السماع، أي عندئذٍ يسمعُ ما لا يسمعه الآخرون، النبي عليه الصلاة والسلام دخلَ بستانَ أنصاري فرأى جملاً، هذا الجمل لمّا رأى النبي عليه الصلاة والسلام حنّ، أي ذرفت عيناه، تقدّمَ منه النبي، ومسحَ ذفريه، وآنسَ الجمل، وقال: من صاحبُ هذه البهيمة؟ ائتوني به، بعد قليل جاء فتى من الأنصار، قالوا: هذا صاحب الجمل، قالَ: يا هذا ألا تتق الله في هذه البهيمة التي ملّككَ الله إياها؟ فإنه شكا إليّ أنكَ تجيعه وتُدئبه، شكا إليّ؛ هذه مرتبة السماع، تسمع بالله، أحياناً تسمع الأصوات العذبة وكأنها تُسبّح الله عزّ وجل، في وقت الفجر تسمع صوتَ العصافير، هناكَ من يسمعُ صوتَ العصافير، وهناكَ من يسمعُ تسبيحاً للهِ من خلال هذه الأصوات، حتى هناك شيء يقوله عامّة العلماء: ثلاثة في الطريق، إنسان يبيع زعتراً برياً كما يقول، شخص سمع: انظر ترى بِرّي، وآخر سمع: الآن ترى بِرّي، وثالث سمع: ما أعظم بِرّي، فأنت سمعت كما أنتَ على الشيء لا كما هو عليه، فكلما ارتقت مرتبة الإنسان قالَ عليه الصلاة والسلام: 

(( عن جابر بن سمرة: إنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ إنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ. ))  

[ صحيح مسلم ]

ولمّا انتقل من جذع النخلة إلى مِنبر، حنَّ إليه الجذعُ، فكان يقفُ على المِنبر، ويضع يده على الجِذعِ إكراماً له، لأنه حنَّ إليه، ينشأ أحياناً بينك وبين الطبيعة مشاركة وجدانية كلما شفّت النفس،

(( قال عليه الصلاة والسلام: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ، قالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذلكَ له، فَقالَ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بالحَديثِ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ، فَقالَ: يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ولو كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ، حتَّى تُسَلِّمَ علَيْكُم في الطُّرُقِ. وفي رواية : كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَديثِهِمَا. ))

[ صحيح مسلم  ]

فنحن نقول أصحاب السماع ثلاثة، منهم من يسمعُ بشهوته، غارق بالغناء، بالأعمال الفنية الساقطة أو غير الساقطة، وبالحديث عن الناس، وبالغيبة، والنميمة، وبالبهتان، والكذب، والزور، والمزاح الرخيص، والمزاح اللاأخلاقي، وبأخبار الناس، وبالأفكار الشائعة بين الناس، هذا يسمع بشهوته، على كيفه، وهناك من يسمع بعقله، من مجلس علم إلى مجلس علم، من قرآن، إلى حديث، إلى سيرة، إلى سير الصحابة، إلى موضوع علمي، يسمع بعقله، هذا ينمو نمواً كبيراً جداً، أما النوع الثالث فهؤلاء يسمعون بالله، هذه كرامات، قال تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)﴾

[ سورة النمل ]

الإنسان أحياناً إذا شفّت نفسه وصفت يتفاعل مع المخلوقات، تعرفون أن أحد الشعراء يركب فرسه كان في أثناء الحرب، وجاءت السهام إلى صدر الفرس، وكان شاعراً فوصف هذه الفرس فقال:

فَازْوَرَّ من وَقْعِ القَنَا بِلَبَانِهِ                  وشَكَا إِلَىَّ بِعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ

[ عنترة بن شداد ]

* * *

ازوّر: تألمَ هذا الفرس.
أحياناً أنت لا سمح الله يضرب إنسان هـرة، تبتعدُ عنـه، وتنظر إليه، وكأنهـا تخاطبـه، ماذا فعلتُ لكَ؟ لماذا ضربتني؟ فكلما ارتقت مشاعر الإنسان يُحسّ على الآخرين ما يدور في خَلَدهم.

فَازْوَرَّ من وَقْعِ القَنَـــــا بِلَبَــــــانِهِ         وشَكَا إِلَىَّ بِعَبْرَةٍ وتَحَمْحُـــمِ     

لو كَانَ يَدْرِي مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى         ولكَانَ لَوْ عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمِي 

[ عنترة بن شداد ]

* * *

يا أخي أُطمئنك المؤمن يرى ما لا يراه الآخرون، ويسمع ما لا يسمعون، ويعقل ما لا يعقلون، ويفكر بما لا يفكرون، ويشتهي ما لا يشتهون، ويخاف ما لا يخافون، هذا مؤمن عرفَ الله، عرفَ الدنيا، عرفَ حقيقتها، عرفَ مهمته فيها، له أفكاره، له مشاعره، له أحاسيسه، له قيمه، له طموحاته.
 

أنواع المسموع:

 

1-مسموع يحبه الله ويرضاه وأمر به:

الآن المسموع، أهل السماع ثلاثة، هناك من يسمع بشهوته، هناك من يسمع بعقله، هناك من يسمع بالله، هذه كرامة، أما المسموع قال: مسموعٌ يحبه الله ويرضاه، وأمرَ به عباده، وأثنى على أهله، ورضيَ عنهم به، كان الشيخ بدر الدين -رحمه الله-هذا كان شيخ الشام من أشهر المشاهير، كان لا يستطيع أحدٌ أن يقول كلمةً عن إنسان في مجلسه، أي أول كلمة: اسكت يابا، اسكت أظلم قلبي، فكلما كان مجلسك مجلس علم ووقار وحلم، مجلس دعوة إلى الله، مجلس بيان عن الله عزّ وجل، مجلس إرشاد، مجلس أمر بالمعروف، نهي عن المُنكر، كلما كنتَ في درجة أرقى. 

2-مسموع يبغضه ويكرهه ونهى عنه:

قال مسموعٌ يحبه الله ويرضاه، وأمرَ به عباده، وأثنى على أهله، ورضيَ عنهم به، ومسموعٌ يبغضه ويكرهه، ونهى عنه، ومدحَ المُعرضين عنه. 

3-مسموع مباح:

مسموعٌ مباحٌ، أخي كم الحرارة اليوم؟ والله ثمان ثلاث، خير إن شاء الله، كم كانت كمية المطر في بلدكم؟ والله كانت ثلاثة وعشرين ميليمتراً، هذا مسموع لا حرام ولا حلال، ما أسعار الخضار اليوم؟ هناك مسموع مباح، مسموع يحبه الله ويرضاه، مسموع يُبغضه ويكرهه، قال: هذا المسموح مباح مأذونٌ فيه، لا يحبه ولا يبغضه، النبي الكريم دخل إلى مسجد رأى رجلاً تحلّقَ الناس حوله، قال: من هذا؟ قالوا: هذا نسّابة، فالنبي بأسلوب تربوي قال: وما نسّابة؟ أي من هو؟ فقالوا: هذا يا رسول الله يعرف أنساب العرب، قالَ: هذا عِلمٌ لا ينفعُ من تعلّمه، ولا يضرُ من جَهِلَ به. 
هناك أشياء لا تُقدّم ولا تؤخّر، والإنسان وقته ثمين، قال: حكمه حُكمُ سائر المباحات من المناظر والمشام والمطعومات والملبوسات، فمن حرم هذا النوع الثالث أي إذا أنت في مجلس، وتكلم أحدهم على موضوع وقع، أخي أنه لنا الحديث، أخي أنت أهنته، لم يتكلم شيئاً حراماً، لم يتكلم غيبة ولا نميمة ولا كذباً، لمّا أنت أسكته فقد أهنته، هذا مباح لا إثم فيه، بالعكس كان النبي يسمع، يسمع من التجار، ويحدثهم بالتجارة أولاً، ثم عن اللهِ ثانياً، فمن أساليب الدعوة إذا أنت بمجلس، هناك موضوع عن المياه، عن الأمطار، عن البركان الفلاني، عن الخبر الفلاني، أنت ليسَ لكَ حق أن تُعرض عنهم، تشمئز من حديثهم، ما دام مُباحاً لا حق لك، مادام مُباحاً استمع معهم، كُن أديباً في استماعك، وتراه يُصغي للحديث بسمعه وبقلبه، ولعله أدرى به، اسمع معهم، ثمَّ دُلّهم على الله عزّ وجل، هناك أشخاص متزمتون، لا يسمح أن تتكلم كلمة إلا هو يتكلم، أو كما يريد هو، هذا موقف، اسمعوا الآية الكريمة: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران ]

من هو؟ الحديث عن من؟ عن رسول الله، هذا سيد الخلق، هذا الذي يُوحى إليه، هذا المعصوم، ومع ذلك: ﴿ولو كنتَ فظاً غليظَ القلبِ لانفضوا من حولك﴾ فمن أنت إذاً؟ أنت لا يُوحى إليك، ولا يوجد معك معجزة، ولست بمعصوم، ولستَ على خُلق عظيم، فإذا كان الذي على خُلقٍ عظيم، ويُوحى إليه، والمعصوم، وسيد الخلق، أمره الله عزّ وجل قال له: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ، ﴿ولو كنتَ فظاً غليظَ القلبِ لانفضوا من حولك﴾ فإذا أنت ما معك شيء، إذا شخص يملك سلطة يعدم إنساناً، أُمِر أن يكون لطيفاً مع الناس، وأنت من أنت؟ ما معك سلطة، الذي معه سُلطة مأمور باللطف والإنسانية والحلم والمغفرة والعفو، فأنتَ لا تملكُ شيئاً.
قال: فمن حرّمَ هذا النوعَ الثالث فقد قالَ على الله ما لا يعلم، الذي يُحرّم كلاماً مُباحاً لا حراماً ولا حلالاً، فمن حرّمَ هذا النوعَ الثالث قال على الله ما لا يعلم، وحرّمَ ما أحلّه الله، ومن جعله ديناً وقربةً، يقول لك: أخي العمل عبادة، يتكلم للساعة الواحدة بالعمل، والأسعار، والبازارات، والصفقة الفلانية، وفلان ربح كذا، وفلان لم يربح، وفلان ضرب فلاناً، للساعة الواحدة، أخي العمل عبادة، ومن جعله ديناً، الذي يحرم المباح قال على الله ما لا يعلم، ومن جعله واجباً الكلام مباح قال: وقربة يُتقرب بها إلى الله فقد كذبَ على الله أيضاً، وشرعَ ديناً لم يأذن به الله، وضاهى بهذا المشركين، إذاً عندنا كلام يحبه الله، كلام لا يحبه الله، وكلام مُباح.
 

السماع الإيماني:


الآن عِندنا السماع الإيماني، نريد السماع المطلوب، أنت جلست جلسة، كنت بحفلة، بنزهة، بسهرة، بجلسة، باجتماع، راكب مركبة عامــة إلى حلب خمس ساعات بجانبك رجل، يهمك أن تعرف السماع ما حُكمه؟ قال: السماع الذي مدحه الله في كتابه، وأمرَ به، وأثنى على أصحابه، وذمَّ عنه المُعرضين، ولعنهم، وجعلهم أضلَّ من الأنعام، قال تعالى: 

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

[ سورة المُلك ]

إذاً السماع طريقٌ للنجاة، طريقٌ للنعيم: ﴿لو كنّا نسمع ما كُنا في أصحاب السعير﴾ إذاً الإعراض عن سماع الحق طريقٌ إلى جهنم، وسماع الحق طريقٌ إلى الجنة، قال: هو سماعُ آياته المتلوة، سماع القرآن الكريم، هذا المنهج، هذا الكتاب المقرر، هذا تعليمات الصانع، هذا الكتاب الذي فيه قوانين الله عزّ وجل، إذا شخص أحبّ أن يفتح شركة تجارية في دولة أجنبية، أول شيء يطلب نظام التجارة في هذا البلد، فأنت في كون الله، أول شيء يجب أن تعرفه قانون الله في أرضه، الحلال، الحرام، المكروه، المندوب، المُباح، الواجب، الشيء المُجدي، غير المُجدي، الحق، الباطل، الخير، الشر.
 

أنواع السماع:

 

1-سماع إدراك:

قال: هذا السماع ثلاثة أنواع؛ دققوا أيها الإخوة؛ السماع ثلاثة أنواع، سماع إدراك، وسماع فهمٍ وعقلٍ، وسماع إجابةٍ وقبول، أنت مثلاً جالس بمحاضرة، وتكلّم المًحاضر عن بعض أمراض القلب، أحياناً أنت جالس تسمع بأدب، وسمعت ما قيل، أو تكلم عن أعراض الدخان، عن مضار الدخان، هذا المحاضر، محاضرة دقيقة بليغة، فيها حقائق علمية، عَرض عليك صوراً، عمليات جراحية بالرئتين، آثارها بالقلب، بالأوردة، بالشرايين، أما محاضرة رائعة، وهذا الإنسان السامع يُدخن، سمعها وفهمها، لكن لم يترك التدخين، ما نقول لهذا السماع؟ نقول: هذا سماع إدراك، أدرك هذه المحاضرة وفهمها لكن لأنه لم يُقلع عن التدخين نقول: أنتَ استمعتَ إليها سماعاً بدائياً من الدرجة الأولى. 

2-سماع فهم وعقل:

يأتي إنسان ثانٍ يسمع المحاضرة، معنى هذا الدخان يرفع لي التوتر الشرياني، والدخان يُرسّب المواد الدهنية بالشرايين، والدخان يُقرّب أجلي، طبعاً عن مفهوم المحاضرة، والدخان يُضيّق الدسامات، والدخان يُسبب احتمال سرطان بالشفتين والرئتين وكذا، إذاً أنا معقول أن أكون عبداً لهذا الدخان؟ معقول أن يكون مسيطراً عليّ؟ هنا سمع وتدبّر وعَقل، لكن قال: يا أخي أنا عندما أتوتر لا أستطيع ألا أدخن، بقي يدخن، هذا سمع المحاضرة بمستوى أرقى، الأول سمع وفهم فقط، هذا سمع وفهم وأجرى محاورة، أجرى مناقشة، أجرى تقييماً، ثمّن الأفكار، وازنها، نظر إلى وضعه، سنه، دخله، أولاده، قيمة صحته، يا ترى صحتي أغلى أم الدخان أغلى؟ لمّا دخل بالتأمل والتدبر هذا سماع من نوع ثانٍ. 

3-سماع إجابة وقبول:

أما عندما أمسك بعلبة الدخان، ومزقها بيده، ووضعها في سلة القمامة، وقال: يا ربي عهداً لك ألا أذوقَ هذه بعدَ اليوم، هذا السماع المطلوب، سمّوا العلماء أول سماع: سماعَ فهمٍ، والثاني: سماع تدبر، والثالث: سماع استجابة، هناك آية قرآنية تؤكد هذا المعنى؟ أنه سمع هذه المحاضرة، لكن لم يسمع، كأنه ما سمعها، إذا مشى رجل بالطريق في بستان، على كتفه عقرب، قال له أحدهم: يا أخي انتبه، على كتفك يوجد عقرب وخطير، قال له: شكراً جزيلاً، أنا شاكر جداً لهذه الملاحظة، الأخ من أين؟ والعقرب هنا على كتفه، يقول لك: أنا شاكر، أنا والله ممنون منك، ما هذا اللطف؟ هذه ملاحظة مهمة جداً، يا ترى سمع ما قاله له؟ لا، هو سمع، لكن إما لم يفهم، أو لغته غير عربية، أو لا يعرف ما العقرب، لو أنه فهم عليه، وتأملَ معنى كلامه، كان لم يتكلم ولا كلمة كان قفز قفزاً، هل يوجد آية قرآنية تؤكد هذا؟ هناك آية أثبتَ الله لهم السماع، ونفى عنهم السماع، مثل سورة الروم: 

﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾

[ سورة الروم  ]

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)﴾

[ سورة الأنفال ]

هذه الآية، هم لا يسمعون، إذاً ماذا أراد الله بالسماع؟ ماذا أراد؟ التطبيق، الإجابة، قال: سماعُ فهمٍ، وسماعُ عقلٍ، وسماع استجابة.
 

الآيات المتعلقة بالسماع: 

 

 1-سماع الفهم:

الآن إلى الآيات؛ سماع الفهم: 

﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)﴾

[ سورة الجن ]

﴿ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)﴾

[ سورة الأحقاف ]  

2-سماع الإدراك:

سماع الإدراك، قال تعالى:

﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)﴾

[ سورة النمل ]

﴿إنكَ لا تُسمع الموتى﴾ الموتى سمعوا، لكن باعتبار لم يتحركوا، لم يتدبروا، لم يتأملوا، فكأنهم لم يسمعوا، قال تعالى: 

﴿ ومَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾

[ سورة فاطر ]

﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ . 

3-سماع الاستجابة:

سماع الاستجابة هذا أرقى أنواع السماع، انظر إلى الناس، يوجد ألف مليون مسلم، سؤال: هل هؤلاء من أمة سيدنا محمد؟ أريد جواباً دقيقاً، قال تعالى:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾

[ سورة آل عمران ]

نحن الحمد لله خير أمة والله جميل، أخي نحن أعظم الأمم، هكذا الآية، هل هناك جواب علمي دقيق جداً يعطيك التفريق الدقيق بينهما؟ الجواب الدقيق العلماء قالوا: هناكَ أمةُ الدعوة وهناكَ أمةُ الاستجابة، كل إنسان مسلم دعاه الله إلى الإسلام، وأنزلَ على النبي القرآن ليكونَ منهجاً له، فكل شخص منتمٍ إلى المسلمين ولو بالهوية، هذا ما سمه؟ هذا أمةُ الدعوة، أما الذي طبّق وهذا ما اسمه؟ هذا اسمه: أمةُ الاستجابة، فأنتَ إذا بُلّغتَ الدعوة دخلتَ في نِطاق أمةِ محمدٍ، لكن أمة التبليغ، أما إذا طبقّتَ أوامر الله عزّ وجل دخلتَ في نِطاق الاستجابة، ﴿فكنتم خيرَ أمةٍ﴾ ليسَ المقصود أيّ انتماء للنبي، هذه أمةُ الاستجابة، والدليل: ما عِلةُ هذه الخيرية؟ ﴿تأمرون بالمعروفِ وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ فلو لم تؤمنوا بالله، ولم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر، أنتم لستم معنيينَ بهذه الآية، الآية ليست لكم، فأنتَ اسأل نفسك: أنا من أمةِ التبليغ أم من أمةِ الاستجابة؟ فرقٌ كبير بينَ أمةِ التبليغ وبينَ أمةِ الاستجابة،  أب غني، ومُقتدر ماديّاً، وعالم، عنده خمسة أولاد، عَرَضَ عليهم جميعاً أن يدرسوا حتى أعلى شهادة في العالم، بورد، العرض للكل والأب غني، إلا أنَّ واحداً من هؤلاء الأبناء قَبِلَ هذا العرض ودرس وتفوق، نقول: أولاده كلهم دُعوُا إلى هذه الشهادة، ولكنَّ بعضهم استجاب، فالبطولة ليسَ أن يُعرض عليكَ الإسلام، ولا أن تكونَ من أمةِ محمدٍ بالشكلِ أو بالإبلاغِ، البطولة أن تكون من أمته المستجيبين لدعوته.
فالإنسان ما لم يكن مُطبّقاً لأوامر الله ليتأكد أنه ليسَ من أُمةِ مُحمد، حيثما وردت الأمةُ المُحمدية في القرآن: 

﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)﴾

[ سورة الجمعة ]

هؤلاء أمة الاستجابة، إذاً: الآيات هنا تُبين أنَّ هناك سماع إدراك، سماع تدبر، سماع استجابة، الآية الأخيرة: 

﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)﴾

[ سورة البقرة  ]

هذه الآية متعلقة بالاستجابة، وكلّ الجوامع بالعالم الإسلامي بعد الخطبة، بعد الصلاة يقولون: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ يذهبون إلى البيوت، مكان ما وضعهم، هم أنفسهم، مخالفاتهم، تقصيراتهم، الغيبة، النميمة، كسب المال الحرام، تسيبهم، ما هذه سمعنا وأطعنا؟ أما اليهود قال ربنا عن لسان حالهم:  

﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)﴾

[ سورة النساء ]

فاليهود سمعوا وعصوا ربهم.
 

المؤمن يسمع الآيات لا يسمع الأبيات:


يوجد فقرتان أخيرتان قال: المؤمن يسمع الآيات، لا يسمع الأبيات، سمّاعٌ للقرآن لا سمّاعٌ لمزامير الشيطان، سمّاعٌ كلام ربِّ الأرضِ والسماء، لا سمّاعٌ قصائدَ الشعراء، سمّاعٌ للمراشد لا للقصائد، سمّاعٌ للأنبياءِ والمرسلين، لا سمّاعٌ للمغنينَ والمطربين، شيء مهم جداً، أنتَ تمارس نشاطاً خطيراً بالحياة السماع، قال: السماع حادٍ يحدو القلوب إلى جِوار علّام الغيوب، أحياناً تسمع حديثاً قدسياً، يقول لك: فعلَ في نفسي فِعلَ السحر، يمكن حديث قدسي يحملكَ على التوبة، وعلى الإقلاع عن ذنبٍ ما، قال: السماع حادٍ يحدو القلوب  إلى جِوار علّام الغيوب، سائقٌ يسوق الأرواح  إلى ديار الأفراح، محركٌ يثير ساكن العزمات  إلى أعلى المقامات، منادٍ ينادي للإيمان:

﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)﴾

[ سورة آل عمران ]

دليلٌ يسير بالركبِ  في طريق الجِنان، داعٍ يدعو القلوبَ  بالمساءِ والصباح من قِبَلِ فالق الإصباح؛ حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح.
أي موضوع السماع موضوع دقيق جداً.
 

السماع المذموم:


 بقي خمس دقائق، ندخل في السماع المذموم، قال: هذا السماع يُبغضه الله تعالى، ويكرهه، ويَمدح المُعرضَ عنه، وهو سماعُ كلُّ ما يضرُّ بالعبدِ في قلبه ودينه، أيُّ شيء تسمعه أضرَّ بدينكَ وقلبكَ فهذا السماع لا يجوز أن يكون، كسماع الباطل، إلا إذا تضمنَ رده وإبطاله، وقصدَ أن يتعلمَ ضدهُ، وكسماعِ اللغوِ الذي مدحَ التاركين لسماعه، قال تعالى: 

﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)﴾

[ سورة القصص  ]

﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)﴾

[ سورة الفرقان ]

ما هو اللغو؟ تعريف اللغو؟ كل ما سوى الله، يوجد تعريف آخر، قال محمد بن الحنفيّة، هذا من أحفاد سيدنا علي: اللغو هنا الغناء، وقالَ الحسن وغيره: أكرَمُوا أنفسهم عن سماعه: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ فإذا أنت كنت مؤمناً فعلاً لا تقبل أن تستمع إلى الباطل، ولا إلى غيبة، ولا إلى نميمة، ولا إلى فُحش، ولا إلى بذاءة، ولا إلى تغرير، ولا إلى قصة ساقطة، ولا تقرأ أيضاً طبعاً، قالَ ابنُ مسعود: الغِناءُ يُنبتُ النِفاقَ في القلب-كلمات دقيقة جداً-كما يُنبتُ الماء البقلَ، وهذا كلام عارفٍ بأثر الغناء وثمرته، فإنه ما اعتاده أحدٌ إلا نافقَ قلبه وهو لا يشعر، قال: فإنه ما اجتمع في قلب عبد قط -هذه كلمات أُعلِّق عليها أهمية كبرى، الدين بالاستقامة، أنتَ تطلب من الله الكرامة، وهو يطلبُ منكَ الاستقامة-قال: فإنه ما اجتمعَ في قلبِ عبدٍ قط محبة الغناء ومحبة القرآن، لا يمكن أن يجتمعا، ماذا نسمي الشيئين اللذينِ لا يجتمعان؟ الضدان، مثالُ ذلك: الظلمةُ والنور، وجود النور ينفي الظلمة، وجود الظلمةِ ينفي النور، الأبيض والأسود ضدان؟ لا، متعاكسان، التعاكس غير الضد، يجوز أن يكون عندك لوحة فيها أبيض وأسود، فهناكَ شيئان متعاكسان وشيئان ضدان متناقضان، معنى متناقضان أي أحدهما ينقض وجود الآخر، أخي فلان عالم جاهل، مستحيل، هذا إما عالم وإما جاهل، إذا كان عالماً ليس جاهلاً، وإن كان جاهلاً ليس عالماً، أخي هذه الغرفة مضيئة مظلمة، هذا كلام غلط، هذا كلام مستحيل عقلاً، الآن احفظوا هذه القاعدة: القرآن والغناء ضِدان متناقضان، أحدهما ينقض وجود الآخر.
سيدنا ابن مسعود قال: الغناء يُنبت النِفاقَ في القلب كما يُنبت الماءُ البقل، لا يليق بمؤمن أن يسمع غناء إطلاقاً، لكن حتى لا أكون قاسياً على الإخوان، الاستماع شيء والسماع شيء، إذا كنت راكباً سيارة عامة، وهناك مذياع، وهناك غِناء، هذا ليس اسمه استماع، هذا اسمه سماع، قيل: من استمعَ إلى صوتِ قينةٍ، أي جلس بإرادته، باختياره، بالبيت، حضّروا لنا القهوة، افتح يا بني لنسمع، هذا الاستماع، لكن يركب سيارة عامة، والسائق له ذوق خاص، تقول: اللهم إنَّ هذا منكرٌ لا أرضى به، أما إذا قدرت أن تُسكته وتقول لك: والله متضايق أخي أغلق هذا الراديو وخذ أجرة مضاعفة لك أجر، قال: فإنه ما اجتمعَ في قلبِ عبدٍ قط محبة الغناء ومحبة القرآن، إلا طردت إحداهما الأُخرى، قال: وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثِقلَ القرآن على أهلِ الغِناء وسماعه، أبداً، أهل الغناء أثقل شيء عليهم القرآن، إذا وضعوا القرآن ربع ساعة، يقول لك: طويلة، ربع ساعة، يكفي خمس دقائق، كانت نصف ساعة، صارت ربع ساعة، عشر دقائق، دقيقتان، يكفي، أهلُ الغِناء يستثقلون القرآن.
لذلك يوجد أشخاص إذا الإمام قرأ آية زائدة لا يتحمل، تجده يُضيّع ساعات طويلة وهو واقف في كلام فارغ، أما آية زيادة لا يتحمل، بعض الشعراء قال:

ثَقُلَ الكتاب عليهم لمّا رأوا                  تقييده بأوامر ونواهي

[ ابن القيم ]

 * * *

 الغناء لا يوجد فيه أوامر ونواه، شيء خفيف، أما هنا يوجد: 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور  ]

 هو ينظر ويأخذ حريته، ثقيلة هذه الآية عليه، القرآن فيه أمر، فيه نهي، أما الغناء لا يوجد فيه أوامر، بالعكس فيه إطلاق للشهوات. 

ثَقُلَ الكتاب عليهــم لمّــــا رأوا              تقييـــــــــده بأوامـر ونـواهي

وعليهم خفَّ الغنـــا لمّـــا رأوا              إطلاقه في اللهوِ دون مناهـي

يا فِرقةً ما ضرَّ دينَ محمــــــدٍ              وجنــى عليه وملــهُ إلا هــي

سمعوا له برقاَ ورعداً إذ حوى             زجراً وتخويفاً بفعلِ مناهـــي

ورأوه أعظمَ قاطعٍ للنفسِ عن              شهواتها يا ويحها المتناهــــي

وأتى السماع موافِقاً أغراضها             فلأجلِ ذاكَ غدا عظيمَ الجــاهِ 

[ ابن القيم ]

 * * *

فيوجد عندنا نحن أهلُ القرآن وأهلُ الغناء وهما يتناقضان.
طبعاً البحث له تتمة لكن نكتفي بهذا القدر، نحن عندنا السماع المذموم، والسماع المشكور، والسماع المشهور ثلاثة أنواع؛ سماعُ فهمٍ، وسماعُ عقلٍ، وسماعُ استجابة.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور